الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالْمَقْضِيِّ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ اعْلَمْ أَنَّ السَّخَطَ بِالْقَضَاءِ حَرَامٌ إجْمَاعًا وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ وَالْقَدَرِ وَالْمَقْدُورِ أَنَّ الطَّبِيبَ إذَا وَصَفَ لِلْعَلِيلِ دَوَاءً مُرًّا، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْمُتَآكِلَةَ، فَإِنْ قَالَ: بِئْسَ تَرْتِيبُ الطَّبِيبِ، وَمُعَالَجَتُهُ، وَكَانَ غَيْرُ هَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا هُوَ أَيْسَرُ مِنْهُ فَهُوَ تَسَخُّطٌ بِقَضَاءِ الطَّبِيبِ وَأَذِيَّةٌ لَهُ، وَجِنَايَةٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ سَمِعَهُ الطَّبِيبُ كَرِهَ ذَلِكَ وَشَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: هَذَا دَوَاءٌ مُرٌّ قَاسَيْت مِنْهُ شَدَائِدَ، وَقَطْعُ الْيَدِ حَصَلَ لِي مِنْهَا آلَامٌ عَظِيمَةٌ مُبَرِّحَةٌ فَهَذَا تَسَخُّطٌ بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ الدَّوَاءُ وَالْقَطْعُ لَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ تَرْتِيبُ الطَّبِيبِ، وَمُعَالَجَتُهُ فَهَذَا لَيْسَ قَدْحًا فِي الطَّبِيبِ، وَلَا يُؤْلِمُهُ إذَا سَمِعَ ذَلِكَ بَلْ يَقُولُ لَهُ: صَدَقْت الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعَلَى هَذَا إذَا اُبْتُلِيَ الْإِنْسَانُ بِمَرَضٍ فَتَأَلَّمَ مِنْ الْمَرَضِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ فَهَذَا لَيْسَ عَدَمَ رِضًا بِالْقَضَاءِ بَلْ عَدَمُ رِضًا بِالْمَقْضِيِّ، وَإِنْ قَالَ: أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت حَتَّى أَصَابَنِي مِثْلُ هَذَا، وَمَا ذَنْبِي وَمَا كُنْت أَسْتَأْهِلُ هَذَا فَهَذَا عَدَمُ رِضًا بِالْقَضَاءِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَلَا نَتَعَرَّضُ لِجِهَةِ رَبِّنَا إلَّا بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِي مُلْكِهِ وَأَمَّا أَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ الْكُفْرِ عِنَادًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبَعِيدِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا كُفْرَ عِنَادًا إلَّا لِحَامِلٍ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ وَيُرَجِّحُهُ عُنُدَهُ فَكَرَاهِيَتُهُ إيَّاهُ مَعَ رُجْحَانِهِ عِنْدَهُ كَالْمُتَنَاقَضِينَ، وَأَمَّا كَرَاهِيَتُهُ الْمَعْصِيَةَ فَهِيَ مُمْكِنَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَاصٍ عَالِمٌ بِعِصْيَانِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَا يَتَحَقَّقُ صِغَرُهَا إلَّا بِالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَكِنْ تَحَقُّقُ الشُّرُوطِ فِي صَغَائِرِهَا بَعِيدٌ جِدًّا وَمَكْرُوهُهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّنْزِيهَ وَعَدَمَ الْعِقَابِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ عِقَابَهُ أَقَلُّ مِنْ عِقَابِ الصَّغِيرَةِ فَافْهَمْ، وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ أَنَّ طَرِيقَةَ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْأَصْلِ، وَاخْتَارَهَا الشَّاطِبِيُّ وَبَنَى عَلَيْهَا كِتَابَهُ الِاعْتِصَامَ مِنْ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَكُونُ إلَّا قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا مَبْنِيَّةً عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْبِدْعَةَ حَقِيقَةٌ فِيمَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، وَمَجَازٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ إلَّا فِي الْعَادِيَّاتِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَبُّدِ، وَأَنَّ طَرِيقَةَ انْقِسَامِ الْبِدَعِ إلَى قَبِيحَةٍ وَحَسَنَةٍ وَالْقَبِيحَةِ إلَى حَرَامٍ وَاصِلٍ إلَى حَدِّ الْكُفْرِ أَوْ إلَى حَدِّ الْكَبِيرَةِ أَوَّلًا وَإِلَى مَكْرُوهٍ تَنْزِيهًا وَالْحَسَنَةِ إلَى وَاجِبَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمُبَاحَةٍ الَّتِي اخْتَارَهُ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ وَمُحَمَّدٌ الزَّرْقَانِيُّ بَلْ جَرَى عَلَيْهَا عَمَلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالزَّقَّاقِ وَغَيْرِهِ وَبَنَى عَلَيْهَا الْأَصْلُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَإِلَيْهَا ذَهَبَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَيْخُ الشَّيْخِ الْقَرَافِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَبْنِيَّةً عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَيْضًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبِدْعَةَ حَقِيقَةٌ فِيمَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَمْ لَا
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْبِدَعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» عَامٌّ مَخْصُوصٌ
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُخْتَرَعَاتِ مِنْ الْعَادِيَّاتِ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْهَا شَائِبَةُ تَعَبُّدٍ تَلْحَقُ بِالْبِدَعِ وَتَصِيرُ كَالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ]
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ)
وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغِيبَةِ الْحُرْمَةُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] أَيْ لَا يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ فَفِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» كَمَا فِي الزَّوَاجِرِ وَفِي الْأَصْلِ أَنْ تَذْكُرَ فِي الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ إنْ سَمِعَ قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ قَالَ الْأَصْلُ فَدَلَّ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم إنْ سَمِعَ نَصًّا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ إذَا سَمِعَهُ غِيبَةً إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا، وَلَيْسَ بِحَاضِرٍ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، قَالَ: وَلَفْظُ مَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يَكْرَهُ. اهـ. أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ كَأَحْوَلَ أَوْ قَصِيرٍ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ ضِدِّهَا أَوْ فِي نَسَبِهِ كَأَبُوهُ هِنْدِيٌّ أَوْ إسْكَافٌ أَوْ نَحْوُهُمَا مِمَّا يَكْرَهُهُ كَيْفَ كَانَ أَوْ فِي خَلْقِهِ كَسَيِّئِ الْخَلْقِ عَاجِزٍ ضَعِيفٍ أَوْ فِي فِعْلِهِ الدِّينِيِّ كَكَذَّابٍ أَوْ مُتَهَاوِنٍ بِالصَّلَاةِ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا أَوْ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ أَوْ لَا يُعْطِي الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا أَوْ فِي فِعْلِهِ الدُّنْيَوِيِّ كَقَلِيلِ الْأَدَبِ، أَوْ لَا يَرَى لِأَحَدٍ حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَثِيرِ الْأَكْلِ أَوْ النَّوْمِ أَوْ فِي ثَوْبِهِ كَطَوِيلِ الذَّيْلِ أَوْ قَصِيرِهِ وَسِخِهِ أَوْ فِي دَارِهِ كَقَلِيلَةِ الْمَرَافِقِ أَوْ فِي دَابَّتِهِ كَجَمُوحٍ أَوْ فِي وَلَدِهِ كَقَلِيلِ التَّرْبِيَةِ، أَوْ فِي زَوْجَتِهِ كَكَثِيرَةِ الْخُرُوجِ أَوْ عَجُوزٍ أَوْ تَحْكُمُ عَلَيْهِ، أَوْ قَلِيلَةِ النَّظَافَةِ، أَوْ فِي خَادِمِهِ كَآبِقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا مَعَ أَنَّهَا صِدْقٌ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ، وَالْإِشَارَةُ إلَى عَظِيمِ تَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ وَحُقُوقِهِ.
وَزَادَ - تَعَالَى - ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بِتَشْبِيهِ عِرْضِهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِالْأَحَبِّ
وَمُؤْلِمَاتُ الْحَوَادِثِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِتَكْلِيفِ أَحَدٍ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ الْأَرْمَدُ بِاسْتِطَابَةِ الرَّمَدِ الْمُؤْلِمِ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَرَضِ بَلْ ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ، وَلَا يَجِدُونَ لِلْبَأْسَاءِ وَقْعًا فَذَمَّهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فَمَنْ لَمْ يَسْكُنْ وَلَمْ يَذِلَّ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ مِنْهَا وَيَسْأَلْ رَبَّهُ إقَالَةَ الْعَثْرَةِ مِنْهَا فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عَنْ طُرُقِ الْخَيْرِ فَالْمَقْضِيُّ وَالْمَقْدُورُ أَثَرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَقَطْ أَمَّا الْمَقْضِيُّ فَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَالْوَاجِبَاتِ إذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - لِلْإِنْسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَحَرَامًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَمُبَاحًا فِي الْمُبَاحَاتِ، وَأَمَّا بِالْقَضَاءِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ تَفْصِيلٍ فَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْكُفْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ فَيُكْرِهُهُمَا وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ فِيهِمَا فَالرِّضَا بِهِ لَيْسَ إلَّا وَمَتَى سَخِطَهُ وَسَفَّهَ الرُّبُوبِيَّةَ فِي ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أَوْ كُفْرًا مُنْضَمًّا إلَى مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ، وَإِذَا وَضَحَتْ لَك فَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَخَاصَّةِ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَزِيزِ الْوُجُودِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَكْثَرُ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا يَتَأَلَّمُونَ مِنْ الْمَقْضِيِّ فَقَطْ، وَأَمَّا التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّجْوِيرِ وَالْقَضَاءِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا مِنْ الْفُجَّارِ وَالْمَرَدَةِ وَإِنَّمَا يَبْعَثُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ كَمَا يَتَأَلَّمُ بَدَنُهُ مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لِأَكْلِهِ بَلْ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ عِرْضَ الْعَاقِلِ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنْ عَاقِلٍ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ، وَوَجْهُ الْآكَدِيَّةِ فِي لَحْمِ أَخِيهِ أَنَّ الْأَخَ لَا يُمْكِنُهُ مَضْغُ لَحْمِ أَخِيهِ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ لَحْمَ عَدُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، وَانْدَفَعَ بِمَيْتًا - الْوَاقِعِ حَالًا إمَّا مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ أَوْ أَخِيهِ - مَا قَدْ يُقَالُ: إنَّمَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ فِي الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُؤْلِمُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِهَا فِي الْغِيبَةِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُغْتَابِ عَلَيْهَا، وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْأَخِ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُؤْلِمُ أَيْضًا، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ الِاطِّلَاعُ لَتَأَلَّمَ بِهِ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ بِأَكْلِ لَحْمِهِ لَآلَمَهُ فَكَذَا الْغِيبَةُ تَحْرُمُ فِي الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَابَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَتَأَلَّمَ، وَأَيْضًا فَفِي الْعِرْضِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَابَ الْعِلْمُ بِهَا حَرُمَتْ أَيْضًا رِعَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفَطْمًا لِلنَّاسِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْضِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اللَّهُمَّ إلَّا لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَتُبَاحُ حِينَئِذٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا أَشَارَتْ الْآيَةُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِذِكْرِ " مَيْتًا " إذْ لَحْمُ الْمَيِّتِ إنَّمَا يَحِلُّ لِلضَّرُورَةِ الْحَاقَّةِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً أُخْرَى مَعَ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَرْضُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْغِيبَةِ خَرَجَتْ عَنْ أَصْلِهَا مِنْ الْحُرْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَتَجِبُ أَوْ تُبَاحُ.
وَتَنْحَصِرُ الَّتِي لَا تَحْرُمُ لِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ الشَّرْعِيِّ فِي سِتَّةِ أَبْوَابٍ نَظَمَهَا الْكَمَالُ بِقَوْلِهِ
الْقَدْحُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ
…
مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرِ
وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ
…
طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إزَالَةِ مُنْكَرِ
كَمَا فِي حَاشِيَةَ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَبَيَانُهَا كَمَا فِي الزَّوَاجِرِ
(الْأَوَّلُ) الْمُتَظَلِّمُ فَلِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَشْكُوَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إزَالَةِ ظُلْمِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ كَأَنْ يَقُولَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ: إنَّ فُلَانًا أَخَذَ مَالِي وَغَصَبَنِي أَوْ ثَلَمَ عِرْضِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَادِحِ الْمَكْرُوهَةِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ
الثَّانِي الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِذِكْرِهِ لِمَنْ يَظُنُّ قُدْرَتَهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِنَحْوِ فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ بِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَإِلَّا كَانَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً مَا لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ مُجَاهِرًا لِمَا يَأْتِي
(الثَّالِثُ) الِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ لِمُفْتٍ ظَلَمَنِي بِكَذَا فُلَانٌ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَمَا طَرِيقِي فِي خَلَاصِي مِنْهُ أَوْ تَحْصِيلِ حَقِّي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُبْهِمَهُ فَيَقُولُ: مَا تَقُولُ فِي شَخْصٍ أَوْ زَوْجٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ وَإِنَّمَا جَازَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مِنْ تَعْيِينِهِ مَعْنًى لَا يُدْرِكُهُ مَعَ إبْهَامِهِ فَكَانَ فِي التَّعْيِينِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ؛ لِأَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما لَمَّا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلَّا مَا أَخَذْت مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(الرَّابِعُ) تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ وَنَصِيحَتِهِمْ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنَّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لِإِفْتَاءٍ أَوْ إقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، وَهُمْ دُعَاةٌ إلَيْهَا وَلَوْ سِرًّا فَيَجُوزُ إجْمَاعًا بَلْ يَجِبُ وَكَانَ يُذْكَرُ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى عَزْلِ ذِي الْوِلَايَةِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نُصْحِهِ وَحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ قَادِحًا فِيهَا كَفِسْقٍ أَوْ تَغَفُّلٍ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُشِيرُ وَلَوْ إنْ لَمْ يَسْتَشِرْ عَلَى مُرِيدِ تَزْوِيجٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ لِغَيْرِهِ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَقَدْ عَلِمَ فِي ذَلِكَ الْغَيْرُ قَبِيحًا مُنَفِّرًا كَفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ طَمَعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَفَقْرٍ فِي الزَّوْجِ «لِقَوْلِهِ عليه السلام لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ
هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ خَاصَّةً أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ هُوَ عَزِيزُ الْوُجُودِ بَلْ هُوَ كَالْمُتَعَذِّرِ فَإِنَّا نَجْزِمُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَأَلَّمَ لِقَتْلِ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَمَوْتِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَرَمْيِ عَائِشَةَ بِمَا رُمِيَتْ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ وَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام طِبَاعُهُمْ تَتَأَلَّمُ وَتَتَوَجَّعُ مِنْ الْمُؤْلِمَاتِ وَتُسَرُّ بِالْمَسَرَّاتِ وَإِذَا كَانَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيَّاتِ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي طَبَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَالرِّضَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا طَمَعَ فِيهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ غَلَطٌ بَلْ الْحَقُّ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُتَيَسِّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَاعْلَمْ ذَلِكَ
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ)
اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَثُوبَاتِ لَهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ فَمَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَثُوبَاتِ لَهَا شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ فَمَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
حِينَ شَاوَرَتْهُ عليه السلام لَمَّا خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْمٍ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ وَبِهِ يُرَدُّ تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ فَذَكَرَ صلى الله عليه وسلم فِيهِمَا مَا يَكْرَهَانِهِ لَوْ سَمِعَاهُ وَأُبِيحَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ النَّصِيحَةِ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِذَلِكَ وَأَنْ يَقْتَصِرَ النَّاصِحُ مِنْ الْعُيُوبِ عَلَى مَا يُخِلُّ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ خَاصَّةً الَّتِي حَصَلَتْ الْمُشَاوَرَةُ فِيهَا أَوْ الَّتِي يَعْتَقِدُ النَّاصِحُ أَنَّ الْمَنْصُوحَ شَرَعَ فِيهَا أَوْ هُوَ عَلَى عَزْمِ ذَلِكَ فَيَنْصَحُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ فَإِنَّ حِفْظَ مَالَ الْإِنْسَانِ وَعِرْضَهُ وَدَمَهُ عَلَيْك وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ لَك بِذَلِكَ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ احْتِرَازٌ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُخَالَطَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبِيحَتْ الْغِيبَةُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ قَائِمٌ فِي الْكُلِّ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ أَنْ يُسْتَشَارَ فِي أَمْرِ الزَّوْجِ فَيَذْكُرَ الْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِمَصْلَحَةِ الزَّوَاجِ، وَالْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِالشَّرِكَةِ وَالْمُسَاقَاةِ أَوْ يُسْتَشَارَ فِي السَّفَرِ مَعَهُ فَيَذْكُرَ الْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِمَصْلَحَةِ السَّفَرِ وَالْعُيُوبَ الْمُخِلَّةَ بِالزَّوَاجِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْعُيُوبِ الْمُخِلَّةِ بِمَا اُسْتُشِيرَ فِيهِ حَرَامٌ مَثَلًا إنْ كَفَى نَحْوُ لَا يَصْلُحُ لَك لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ذِكْرِ عَيْبٍ ذَكَرَهُ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَيْبَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَذْلَ النَّصِيحَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - دُونَ حَظٍّ آخَرَ وَكَثِيرًا مَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهِ حِينَئِذٍ لَا نُصْحًا وَيُزَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ نُصْحٌ وَخَيْرٌ
(الْخَامِسُ) أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمَكَّاسِينَ وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ظَاهِرًا وَذَوِي الْوِلَايَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ
(فَمِثْلُك حُبْلَى قَدْ طَرَقْت وَمُرْضِعٍ
…
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ)
فَذِكْرُ مِثْلِ هَذَا عَنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَا يَحْرُمُ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ بَلْ يُسَرُّونَ؛ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ فِي الَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ وَرَوَى خَبَرًا مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا مُنَافِقَيْنِ هُمَا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ لَكِنْ بِشَرْطِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا تُجَاهِرُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِعَيْبٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ آخَرَ مِمَّا مَرَّ فَمِنْ هُنَا قَالَ الْأَصْلُ: سَأَلْت جَمَاعَةً مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ عَمَّنْ يَرْوِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ» فَقَالُوا لِي: لَمْ يَصِحَّ، وَلَا يَجُوزُ التَّفَكُّهُ بِعِرْضِ الْفَاسِقِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ، وَنُقِلَ فِي الزَّوَاجِرِ عَنْ الْخَادِمِ أَنَّهُ وُجِدَ بِخَطِّ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ الْقَفَّالَ فِي فَتَاوِيهِ خَصَّصَ الْغِيبَةَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُذَمُّ شَرْعًا بِخِلَافِ نَحْوِ الزِّنَا فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اُذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ تَحْذَرْهُ النَّاسُ» غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ السِّتْرُ حَيْثُ لَا غَرَضَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَرَضٌ كَتَجْرِيحِهِ أَوْ إخْبَارِ مُخَالَطَةٍ فَيَلْزَمُ بَيَانُهُ. اهـ. قَالَ الْخَادِمُ: وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الْأَوَّلِ لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكَرٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى فَاجِرٍ مُعْلِنٍ بِفُجُورِهِ أَوْ يَأْتِي بِشَهَادَةٍ أَوْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حَالِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ، وَنُقِلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ لَيْسَ لِلْفَاسِقِ غِيبَةٌ، وَيُقْتَضَى عَلَيْهِ عُمُومُ خَبَرِ مُسْلِمٍ الَّذِي فِيهِ
لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَمَا لَا فِي قُدْرَتِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِمَقْدُورِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا مَثُوبَةَ فِيهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَحَصَرَ مَالَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ مُكْتَسَبَةٌ مُرَادَةٌ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا، وَلَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ، وَلَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَنْهِيِّينَ فَلَا إثْمَ، وَلَا ثَوَابَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَمَا لَا فِي قُدْرَتِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِمَقْدُورِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا مَثُوبَةَ فِيهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَحَصَرَ مَا لَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ، وَثَانِيهمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ مُكْتَسَبَةٌ مُرَادَةٌ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا، وَلَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ، وَلَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَنْهِيِّينَ فَلَا إثْمَ، وَلَا ثَوَابَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
حَدَّا الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ وَعَلَيْهِ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ. اهـ. الْمُرَادُ
(السَّادِسُ) : التَّعْرِيفُ بِنَحْوِ لَقَبٍ كَالْأَعْوَرِ وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصَمِّ وَالْأَقْرَعِ فَيَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِهِ نَعَمْ إنْ سَهُلَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ نَحْوِ الْأَعْوَرِ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لَا التَّنْقِيصِ، وَإِلَّا حَرُمَ فَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لَهَا مِنْ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ. اهـ. أَيْ كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال بِهَا، وَزَادَ الْأَصْلُ
(سَابِعًا) : وَهُوَ مَا إذَا كُنْت وَالْمُغْتَابَ عِنْدَهُ قَدْ سَبَقَ لَكُمَا الْعِلْمُ بِالْمُغْتَابِ بِهِ، قَالَ: فَإِنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحُطُّ قَدْرَ الْمُغْتَابِ عِنْدَهُ لِتَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا يَعْرَى هَذَا الْقِسْمُ عَنْ نَهْيٍ؛ لِأَنَّكُمَا إذَا تَرَكْتُمَا الْحَدِيثَ فِيهِ رُبَّمَا نُسِيَ فَاسْتَرَاحَ الرَّجُلُ الْمَغِيبُ بِذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ وَإِذَا تَعَاهَدْتُمَاهُ أَدَّى ذَلِكَ إلَى عَدَمِ نِسْيَانِهِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ فِي تَلْخِيصِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْغِيبَةِ، وَمَا لَا يَحْرُمُ مِنْهَا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ كِتَابِ الزَّوَاجِرِ لِابْنِ حَجَرٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ وَقَاعِدَةِ النَّمِيمَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ)، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ إنْ سَمِعَهُ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا إنَّمَا حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إفْسَادِ الْعِرْضِ وَعَرَّفُوا النَّمِيمَةَ بِأَنَّهَا نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ فَحَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إلْقَاءِ الْبِغْضَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا كَانَ النَّقْلُ فِيهَا عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: إنَّ فُلَانًا يَقْصِدُ قَتْلَك وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغِيبَةِ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: وَمَا ذُكِرَ فِي تَعْرِيفِ النَّمِيمَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَلْ هِيَ كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ أَكَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَشْفُهُ بِقَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رَمْزٍ أَوْ إيمَاءٍ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْقُولِ كَوْنُهُ فِعْلًا، أَوْ قَوْلًا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ، أَوْ غَيْرِهِ فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ، وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَنْ حِكَايَةِ كُلِّ شَيْءٍ شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ إلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ نَفْعٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ كَمَا لَوْ رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى مَنْ يُخْفِي مَالَ نَفْسِهِ فَذَكَرَهُ فَهُوَ نَمِيمَةٌ وَإِفْشَاءٌ لِلسِّرِّ.
فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا أَوْ عَيْبًا فِي الْمَحْكِيِّ عَنْهُ فَهُوَ غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ. اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الزَّوَاجِرِ: وَمَا ذَكَرَهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ نَمِيمَةً أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَفِيهِ بِإِطْلَاقِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ النَّمِيمَةَ لَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ كَوْنِهِ كَبِيرَةً مَا فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ بَلْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَمَّنْ يَكْرَهُ كَشْفُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَا هُوَ عَيْبٌ، وَلَا نَقْصٌ فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ فِي هَذَا أَنَّهُ، وَإِنْ سُلِّمَ لِلْغَزَالِيِّ تَسْمِيَتُهُ نَمِيمَةً لَا يَكُونُ كَبِيرَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ نَفْسَهُ شَرَطَ فِي كَوْنِهِ غِيبَةً كَوْنَهُ عَيْبًا وَنَقْصًا حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا إلَخْ فَإِذَنْ لَمْ تُوجَدْ الْغِيبَةُ إلَّا مَعَ كَوْنِهِ نَقْصًا فَالنَّمِيمَةُ الْأَقْبَحُ مِنْ الْغِيبَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُوجَدَ بِوَصْفِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً إلَّا إذَا كَانَ فِيمَا يَنُمُّ بِهِ مَفْسَدَةٌ تُقَارِبُ مَفْسَدَةَ الْإِفْسَادِ الَّتِي صَرَّحُوا بِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِمَا فِيهِ مِمَّا نَبَّهْت عَلَيْهِ نَعَمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّمِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ كَمَفْسَدَةِ الْغِيبَةِ، وَإِنْ لَمْ
لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ.
وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ، وَتَمْحُو آثَارَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَلِقَوْلِهِ عليه السلام «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ)
قُلْت هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِهَا كَوْنُهَا مُكْتَسَبَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا فَمِنْهَا مَا يَكُونُ سَبَبُهُ كَذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ الْآلَامُ وَجَمِيعُ الْمَصَائِبِ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ وَظَوَاهِرُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ يُعَضِّدُهَا قَاعِدَةُ رُجْحَانِ جَانِبِ الْحَسَنَاتِ الْمَقْطُوعِ بِهَا وَمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَزِيَادَةِ النَّعِيمِ فَلَا يُسَمَّى ثَوَابًا وَلَا أَجْرًا، وَلَا جَزَاءً فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِالْإِعْطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَالْأَمْرُ فِيمَا يَقُولُهُ قَرِيبٌ؛ إذْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ الْآيَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ كُلِّهَا مَعَ الْخِلَافِ فِي الْبَدَنِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ مَا عَدَا الصَّلَاةَ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَالَ (وَأَمَّا الْمُكَفِّرَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ قَدْ تَكُونُ كَذَلِكَ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا تُكَفِّرُ التَّوْبَةُ وَالْعُقُوبَاتُ السَّيِّئَاتِ وَتَمْحُو آثَارَهَا وَمِنْ ذَلِكَ الْمَصَائِبُ الْمُؤْلِمَاتُ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ: وَتَمْحُو آثَارَهَا فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَحْوَهَا مِنْ الصَّحَائِفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْإِحْبَاطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] قُلْتُ لَا دَلِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْمَصَائِبَ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ، وَأَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُقَابَلُ بِمُصِيبَةٍ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا بَلْ يُسَامَحُ فِيهِ وَيُعْفَى عَنْهُ.
قَالَ (وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
تَصِلْ إلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: وَالْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ مِنْهُ إرَادَةُ السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَلَيْهِ أَوْ الْحُبِّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ أَوْ الْفَرَحِ بِالْخَوْضِ فِي الْفُضُولِ، وَعِلَاجُ النَّمِيمَةِ هُوَ نَحْوُ مَا قَالُوهُ فِي عِلَاجِ الْغِيبَةِ.
وَهُوَ إمَّا إجْمَالِيٌّ بِأَنْ تَعْلَمَ أَنَّك قَدْ تَعَرَّضْت بِهَا لِسَخَطِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَعُقُوبَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهَا تُحْبِطُ حَسَنَاتِك لِمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْمُفْلِسِ مِنْ أَنَّهُ تُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ إلَى أَنْ تَفْنَى فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ سَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ سَبَبًا لِفَنَاءِ حَسَنَاتِك وَزِيَادَةِ سَيِّئَاتِك فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ تَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يُعَضِّدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ وَمِمَّا يَنْفَعُك أَيْضًا أَنَّك تَتَدَبَّرُ فِي عُيُوبِك، وَتَجْتَهِدُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا وَتَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَذُمَّ غَيْرَك بِمَا أَنْتَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، أَوْ بِنَظِيرِهِ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ إذْ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً ذَمَّ صَانِعَهَا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَك عَيْبًا، وَهُوَ بَعِيدٌ فَاشْكُرْ اللَّهَ؛ إذْ تَفَضَّلَ عَلَيْك بِالنَّزَاهَةِ عَنْ الْعُيُوبِ وَيَنْفَعُك أَيْضًا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ تَأَذِّي غَيْرِك بِالْغِيبَةِ كَتَأَذِّيك بِهَا فَكَيْفَ تَرْضَى لِغَيْرِك مَا تَتَأَذَّى بِهِ، وَإِمَّا تَفْصِيلِيٌّ بِأَنْ تَنْظُرَ فِي بَاعِثِهَا فَتَقْطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ؛ إذْ عِلَاجُ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا، وَإِذَا اسْتَحْضَرْت الْبَوَاعِثَ عَلَيْهَا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْغَضَبُ وَالْحِقْدُ وَتَشَفِّي الْغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِئِ مَنْ أَغْضَبَك، وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ وَمُجَامَلَتُهُمْ بِالِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، أَوْ إبْدَاءُ نَظِيرِ مَا أَبْدَوْهُ خَشْيَةَ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ اسْتَثْقَلُوهُ.
وَمِنْهَا الْحَسَد لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَمِنْهَا قَصْدُ الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَمِنْهَا السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ تَحْقِيرًا لَهُ ظَهَرَ لَك السَّعْيُ فِي قَطْعِهَا كَأَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي الْغَضَبِ أَنَّك إنْ أَمْضَيْت غَضَبَك فِيهِ بِغِيبَةٍ أَمْضَى اللَّهُ غَضَبَهُ فِيك لِاسْتِخْفَافِك بِنَهْيِهِ وَجَرَاءَتِك عَلَى وَعِيدِهِ، وَفِي حَدِيثٍ أَنَّ «لِجَهَنَّمَ بَابًا لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -» وَفِي الْمُوَافَقَةِ أَنَّك إذَا أَرْضَيْت الْمَخَالِيقَ بِغَضَبِ اللَّهِ عَاجَلَك بِعُقُوبَتِهِ؛ إذْ لَا أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفِي الْحَسَدِ أَنَّك جَمَعْت بَيْنَ خَسَارِ الدُّنْيَا بِحَسَدِك لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ وَكَوْنِهِ مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ وَخَسَارَةِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّك نَصَرْته بِإِهْدَاءِ حَسَنَاتِك إلَيْهِ أَوْ طَرْحِ سَيِّئَاتِهِ عَلَيْك فَصِرْت صَدِيقَهُ وَعَدُوَّ نَفْسِك فَجَمَعْت إلَى خُبْثِ حَسَدِك جَهْلَ حَمَاقَتِك، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْك سَبَبَ انْتِشَارِ فَضْلِهِ كَمَا قِيلَ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ
…
طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ