الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعْدَ الَّذِي يَفِي بِهِ لَمَا احْتَاجَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ، وَلَمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالْكَذِبِ، وَلَكِنْ قَصْدُهُ إصْلَاحُ حَالِ امْرَأَتِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ فَتَخَيَّلَ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَفِي أَبِي دَاوُد قَالَ عليه السلام «إذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَالْكَذِبُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ الْوَعْدُ يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ عَكْسُ الْأَدِلَّةِ الْأُوَلِ، وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا الْكَذِبَ بِالْخَبَرِ الَّذِي لَا يُطَابِقُ لَزِمَ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ، وَكَذَلِكَ التَّأْثِيمُ فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ الْكَذِبُ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرَ، وَالْوَعْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعْدَ الَّذِي يَفِي بِهِ لَمَّا احْتَاجَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ، وَلَمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالْكَذِبِ) قُلْت لَمْ يَقْصِدْ الْوَعْدَ الَّذِي يَفِي فِيهِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْوَعْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَأَلَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ اضْطِرَارًا أَوْ اخْتِيَارًا قَائِمٌ، وَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ الْجُنَاحَ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ ثُمَّ إنَّهُ إنْ وَفَّى فَلَا جُنَاحَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُخْتَارًا فَالظَّوَاهِرُ الْمُتَظَاهِرَةُ قَاضِيَةٌ بِالْحَرَجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَلَكِنْ قَصْدُهُ إصْلَاحُ حَالِ امْرَأَتِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ فَتَخَيَّلَ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ فِي ذَلِكَ) .
قُلْت مَا قَالَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْوَعْدِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ فَسَوَّغَ لَهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَوْ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ.
قَالَ (وَفِي أَبِي دَاوُد قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» إلَى قَوْلِهِ عَكْسُ الْأَدِلَّةِ الْأُوَلُ) قُلْت تُحْمَلُ هَذِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مَعَ بُعْدِ تَأْوِيلِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَقُرْبِ تَأْوِيلِ هَذِهِ قَالَ (وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا الْكَذِبَ بِالْخَبْرِ الَّذِي لَا يُطَابِقُ لَزِمَ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ (مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ التَّأْثِيمِ) قُلْت يَلْزَمُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ قَالَ (فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ الْكَذِبُ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَالْوَعْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ، وَنَحْوِهَا) قُلْت قَوْلُهُمْ ذَلِكَ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا دُخُولُ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْوَعْدِ وَفِي كُلِّ مُسْتَقْبَلٍ سِوَاهُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَخْذُهُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ]
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَخْذُهُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِجَارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ) وَهُوَ أَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ بَعْدَ الْقَلْعِ، وَمِنْ الْبِنَاءِ بَعْدَ الْهَدْمِ، وَإِنْ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ قَبْلَ الْقَلْعِ وَالْهَدْمِ لَا يُقْبَلُ فِي قَلْعِهِ أَوْ هَدْمِهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إبْقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ، وَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِهِ تِلْكَ الْمَالِيَّةُ الْعَظِيمَةُ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُ وَالْغَاصِبُ، وَنَحْوُهُمَا لِأَنَّ قَلْعَهُ أَوْ هَدْمَهُ بِمُجَرَّدِ الْفَسَادِ لَا لِحُصُولِ مَصْلَحَةٍ تَسْتَحْصِلُ لِلْقَالِعِ وَالْهَادِمِ، وَلَا لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ عَنْهُ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَعْتَبِرُ مِنْ الْمَقَاصِدِ إلَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ مُحَصِّلٌ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الدَّعْوَى فِي الْأَشْيَاءِ التَّافِهَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا يَتَشَاحُّ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَادَةً كَالسِّمْسِمَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِذَا أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُ أَوْ الْغَاصِبُ وَنَحْوُهُمْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَا ذُكِرَ مِنْ الزَّرْعِ أَوْ الْبِنَاءِ اللَّذَيْنِ لَا قِيمَةَ لَهُمَا بَعْدَ الْإِزَالَةِ بِالْقَلْعِ أَوْ الْهَدْمِ فَهُوَ يُعْطِيهِ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْإِزَالَةِ شَرْعًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِزَالَةِ تَبْطُلُ تِلْكَ الْمَالِيَّةُ فَهِيَ مَالِيَّةٌ مُسْتَهْلَكَةٌ عَلَى وَاضِعِهَا شَرْعًا، وَالْمُسْتَهْلَكُ شَرْعًا لَا يَجِبُ فِيهِ قِيمَةٌ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ «نَهْيُهُ عليه السلام عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» وَهَدْمُ مِثْلِ هَذَا الْبِنَاءِ وَقَلْعُ مِثْلِ هَذَا الشَّجَرِ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ فَوَجَبَ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ الزَّرْعِ بَعْدَ الْقَلْعِ، وَمِنْ الْبِنَاءِ بَعْدَ الْهَدْمِ فَيُقْبَلُ فِي قَلْعِهِ أَوْ هَدْمِهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ، وَالْغَاصِبُ وَنَحْوُهُمَا لِأَنَّ قَلْعَهُ أَوْ هَدْمَهُ لِحُصُولِ مَصْلَحَةٍ تَحْصُلُ لِلْقَالِعِ وَالْهَادِمِ لَا لِمُجَرَّدِ الْفَسَادِ كَذَا قَالَ الْأَصْلُ، وَفِي فَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ مَعَ شَرْحِ عبق وَإِنْ زَرَعَ غَاصِبُ أَرْضٍ أَوْ مَنْفَعَتِهَا فَاسْتُحِقَّتْ الْأَرْضُ أَيْ أَقَامَ مَالِكُهَا فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالزَّرْعِ قَبْلَ ظُهُورِهِ أَوْ بَعْدَهُ أَخَذَ بِلَا شَيْءٍ فِي مُقَابَلَةِ بَذْرِهِ أَوْ أُجْرَةِ حَرْثِهِ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ قُضِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ بِأَخْذِهِ إنْ شَاءَ مَجَّانًا، وَنَصُّ التَّوْضِيحِ إنْ أَقَامَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ الْحَرْثِ، وَقَبْلَ الزِّرَاعَةِ فَفِي اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ قِيَامُهُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ، وَقَبْلَ ظُهُورِ الزَّرْعِ أَوْ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ أَوْ يَأْخُذَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَلَا ذَرِيعَةٍ اهـ.
وَلَيْسَ لَهُ إبْقَاؤُهُ وَأَخْذُ كِرَاءِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَمَا يَأْتِي نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ يُونُسَ وَإِلَّا بِأَنْ بَلَغَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلَوْ لِرَعْيِ الْبَهَائِمِ فَلَهُ أَيْ لِلْمُسْتَحِقِّ بِهِ قَلْعُهُ أَيْ أَمْرُهُ بِذَلِكَ، وَبِتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ، وَذَكَرَ شَرْطًا فِي قَوْلِهِ أَخَذَ بِلَا شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ فَلَهُ قَلْعُهُ فَقَالَ إنْ لَمْ يَفُتْ أَيْ إبَّانَ مَا أَيْ زَرْعٍ تُرَادُ لَهُ مِمَّا زُرِعَ فِيهَا كَمَا حَمَلَ عَبْدُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ الْمُدَوَّنَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ
تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ زَمَانٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ بُعْدُ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ فَلَا يُوصَفُ الْخَبَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ مَا يَقْتَضِي أَحَدَهُمَا، وَحَيْثُ قُلْنَا الصِّدْقُ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ، وَالْكَذِبُ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ وَصْفِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ عَدَمِهَا بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي.
وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَبُولُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمِهَا، وَنَحْنُ مَتَى حَدَّدْنَا بِوَصْفٍ نَحْوِ قَوْلِنَا فِي الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ أَوْ نَحْوُهُ إنَّمَا نُرِيدُ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ، وَالنُّطْقِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ زَمَانٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ بَعْدُ وُجُودٌ، وَلَا عَدَمٌ فَلَا يُوصَفُ الْخَبَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدَمَا يَقْتَضِي أَحَدَهُمَا، وَحَيْثُ قُلْنَا الصِّدْقُ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ، وَالْكَذِبُ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ وَصْفِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ عَدَمِهَا بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ، وَالْمَاضِي، وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَبُولُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمُهَا)
قُلْت هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يُخَالِفُوا الْأَوَّلَ فِي كَوْنِ الْكَذِبِ لَا يُدْخِلُ الْوَعْدَ، وَلَكِنَّهُمْ عَيَّنُوا السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، وَبَسَّطُوهُ، وَمَسَاقُ الْمُؤَلِّفِ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ مَفْصُولًا عَنْ قَوْلِ أُولَئِكَ يُشْعِرُ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ قَالَ (وَنَحْنُ مَتَى حَدَّدْنَا بِوَصْفٍ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ أَوْ نَحْوُهُ إنَّمَا نُرِيدُ الْحَيَاةَ، وَالنُّطْقَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ) قُلْت مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ مُشْعِرٌ بِجَهْلِهِ بِالْحُدُودِ وَقَصْدِ أَرْبَابِهَا فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ حُصُولَ الْوَصْفِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّ الطِّفْلَ الرَّضِيعَ عِنْدَهُمْ إنْسَانٌ مَعَ أَنَّ النُّطْقَ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ فِيهِ مَفْقُودٌ فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ حَيْثُ قَالَ وَإِلَّا لَكَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ مُشْعِرٌ بِجَهْلِهِ بِمَذْهَبِ أَرْبَابِ الْحُدُودِ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْحَقَائِقِ، وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتِهَا الذَّاتِيَّةِ فَلَا تَقْبَلُ حَقِيقَةٌ مِنْهَا صِفَةَ الْأُخْرَى فَالْحَيَوَانُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا، وَالْجَمَادُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ (هَذَا التَّعْلِيلَ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يُشْعِرُ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُمَا قَوْلَانِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ) قُلْت، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْحُدُودِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ التَّوْضِيحِ وَابْنِ عَرَفَةَ، وَنَصُّ الْعُتْبِيَّةِ، وَمَنْ تَعَدَّى فَزَرَعَ أَرْضَ رَجُلٍ فَقَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ إبَّانَ الزَّرْعِ، وَقَدْ كَبِرَ الزَّرْعُ وَاشْتَدَّ فَأَرَادَ قَلْعَ الزَّرْعِ، وَقَالَ أُرِيدُ أُكْرِيهَا مَقْثَأَةً أَوْ أَزْرَعُهَا بَقْلًا، وَهِيَ أَرْضُ سَقْيٍ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ إبَّانِ الزَّرْعِ إلَّا كِرَاؤُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَرْضَ سَقْيٍ يُنْتَفَعُ بِهَا لِمَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَفُتْ إبَّانُ الزَّرْعِ الَّذِي فِيهَا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَلَبَهَا، وَالْكِرَاءُ لَهُ عِوَضٌ مِنْ ذَلِكَ اهـ.
وَأَشَارَ لِقَسِيمِ قَوْلِهِ فَلَهُ قَلْعُهُ، وَهُوَ الشِّقُّ الثَّانِي مِنْ التَّخْيِيرِ بِقَوْلِهِ، وَلَهُ أَيْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْمُخْتَارِ مَقْلُوعًا تَقْدِيرًا، وَيُبْقِيهِ فِي الْأَرْضِ، وَيَسْقُطُ مِنْ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا عَنْهُ كُلْفَةُ قَلْعِهِ أَنْ لَوْ قُلِعَ حَيْثُ كَانَ الْغَاصِبُ شَأْنُهُ أَنْ لَا يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ خَدَمِهِ عَلَى مَا لِابْنِ الْمَوَّازِ فِي بِنَاءِ الْغَاصِبِ وَغَرْسَةِ، وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُنَاكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ هُنَا أَيْضًا فَإِذَا كَانَ شَأْنُهُ تَوَلِّيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ خَدَمِهِ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِ كُلْفَةِ قَلْعِهِ لَوْ قُلِعَ، وَكَمَا لَهُ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا لَهُ إبْقَاؤُهُ لِزَارِعِهِ، وَأَخْذُ كِرَاءِ السَّنَةِ مِنْهُ فِي الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ أَيْ بَلَغَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ، وَلَمْ يَفُتْ وَقْتُ مَا تُرَدُّ لَهُ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ إبْقَاؤُهُ وَأَخْذُ كِرَائِهَا مِنْهُ، وَفَرَّقَ ابْنُ يُونُسَ أَيْ وَابْنُ الْمَوَّازِ بِأَنَّهُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ لِأَنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ لَمَّا مَكَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ بِلَا شَيْءٍ وَإِبْقَاءٍ لِزَارِعِهِ بِكِرَاءٍ فَكَانَ ذَلِكَ الْكِرَاءُ عِوَضًا عَنْهُ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ بَيْعٌ لَهُ عَلَى التَّبْقِيَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ عُدَّ مُنْتَقِلًا كَمَا قَالَ الْمَازِرِيُّ، وَإِلَّا بِأَنْ فَاتَ وَقْتُ مَا تُرَدُّ لَهُ فَكِرَاءُ مِثْلِهَا فِي السَّنَةِ لَازِمٌ لِلْغَاصِبِ، وَاعْتَمَدَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا عَلَى مَا نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ اللَّخْمِيِّ، وَنَصُّهُ وَإِنْ كَانَ قِيَامُهُ بَعْدَ الْإِبَّانِ فَقَالَ مَالِكُ الزَّرْعِ لِلْغَاصِبِ، وَعَلَيْهِ كِرَاءُ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لِرَبِّهِ قَلْعُهُ اللَّخْمِيُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِهِ وَذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَقْلَعَهُ، وَيَأْخُذَ أَرْضَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّ الزَّرْعَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَإِنْ طَابَ وَحُصِدَ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الثَّالِثَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ زَرْعٍ أَرْضًا لِقَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَالزَّرْعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ اهـ.
وَذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا أَصَحُّ كَمَا فِي الْمَوَّاقِ فَظَهَرَ تَرْجِيحُ كُلٍّ مِنْ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ لَكِنْ الثَّالِثَةُ شَاذَّةٌ عَنْ الْإِمَامِ، وَقَدْ بَحَثَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي الْفَتْوَى بِهَا بِذَلِكَ، وَأُجِيبَ كَمَا فِي الْمِعْيَارِ بِأَنَّ التَّشْدِيدَ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُحْدِثِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ مَأْلُوفٌ مِنْ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ، وَهَلْ فَوَاتُ الْإِبَّانِ بِالنَّظَرِ إلَى زَمَنِ الْخِصَامِ أَوْ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا