الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَغِيرَةً لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، وَلَا تُوجِبُ فُسُوقًا إلَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَبِيرَةً إنْ وَصَلَ بِالْإِصْرَارِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ. وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ
كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ، وَيَعْنُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا لَا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ كِبَرَ الْكَبِيرَةِ أَلْبَتَّةَ فَفِي الْكِتَابِ فِيهِ ذِكْرُ الْكِبَرِ أَوْ الْعِظَمِ عَقِبَ ذِكْرِ جَرِيمَةٍ، وَفِي السُّنَّةِ فِي مُسْلِمٍ «قَالُوا مَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا وَقَدْ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَوْفًا أَنْ يَأْكُلَ مَعَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ، وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ» وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِحْلَالُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْقُبْلَةَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ صَغِيرَةً» فَيَلْحَقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
مَا حَقِيقَةُ الْإِصْرَارِ الَّذِي يُصَيِّرُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً وَقَعَ الْبَحْثُ فِيهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ أَنْ يَتَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ يَعْزِمُ عَلَى الْعَوْدِ أَمْ لَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ تَكَرَّرَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ لَمْ يَكُنْ إصْرَارًا بِأَنْ يَفْعَلَ الذَّنْبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ لَا يَخْطُرُ لَهُ مُعَاوَدَتُهُ لِدَاعِيَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ فَيَفْعَلُهُ كَذَلِكَ مِرَارًا فَهَذَا لَيْسَ إصْرَارًا، وَتَارَةً يَفْعَلُ الذَّنْبَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ فَيُعَاوِدُهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْعَزْمِ السَّابِقِ فَهَذَا هُوَ الْإِصْرَارُ النَّاقِلُ لِلصَّغِيرَةِ لِدَرَجَةِ الْكَبِيرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران: 135] وَيُقَالُ فُلَانٌ مُصِرٌّ عَلَى الْعَدَاوَةِ أَيْ مُصَمِّمٌ بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مُصَاحَبَتِهَا، وَمُدَاوَمَتِهَا، وَلَا يُفْهَمُ فِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَا حَقِيقَةُ الْإِصْرَارِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ)
قُلْت الْإِصْرَارُ لُغَةً الْمُقَامُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُعَاوَدَةُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا أَوْ غَيْرَهُ، لَا مَا قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ، مِنْ أَنَّهُ الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ عَلَى الشَّيْءِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْإِصْرَارُ الْمُصَيِّرُ لِلصَّغِيرَةِ كَبِيرَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ الْمُعَاوَدَةُ لَهَا مُعَاوَدَةً تُشْعِرُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لَا الْمُعَاوَدَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَزْمِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ. فَإِنْ قِيلَ الْجُرْأَةُ أَمْرٌ بَاطِنٌ قُلْت لِمَ اشْتَرَطَ الْجُرْأَةَ بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا اشْتَرَطَتْ الْإِشْعَارَ بِهَا وَهُوَ مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْمَوَاقِعِ لِلْمُخَالَفَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَمَا قَالَ بِهِمَا مَالِكٌ قِيَاسًا عَلَى الْوَدِيعَةِ بِجَامِعِ حِفْظِ الْمَالِ فَيَلْزَمُ النَّدْبُ أَوْ قِيَاسًا عَلَى إنْقَاذِ الْمَالِ الْهَالِكِ فَيَلْزَمُ الْوُجُوبُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَخْذُهَا مَنْدُوبٌ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الضِّيَاعِ فَيَجِبُ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنه الْكَرَاهَةُ لِمَا فِي الِالْتِقَاطِ مِنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ وَتَضْيِيعِ الْوَاجِبِ مِنْ التَّعْرِيفِ فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى كَتَوَلِّي مَالِ الْيَتِيمِ، وَتَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الدُّخُولَ فِي التَّكَالِيفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] أَيْ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ بِتَوْرِيطِهَا وَتَعْرِيضِهَا لِلْعِقَابِ، وَجَهُولًا بِالْعَوَاقِبِ وَالْحَزْمِ فِيهَا، وَالْأَمَانَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هِيَ هَا هُنَا التَّكَالِيفُ اهـ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي) قَالَ الْأَصْلُ أَيْضًا وُجُوبُ حِفْظِ اللُّقَطَةِ عَنْ الضَّيَاعِ لِقَاعِدَةِ أَنَّ خَمْسًا أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ مَعَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ وُجُوبُ حِفْظِ النُّفُوسِ فَيَحْرُمُ الْقَتْلُ بِإِجْمَاعِ الشَّرَائِعِ، وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْعُقُولِ فَتَحْرُمُ الْمُسْكِرَاتُ بِإِجْمَاعِ الشَّرَائِعِ، وَيَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ فِي شُرْبِ الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فَحُرِّمَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ بِتَنَاوُلِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ، وَأُبِيحَ فِي غَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْأَعْرَاضِ فَيَحْرُمُ الْقَذْفُ، وَسَائِرُ السِّبَابِ، وَيَجِبُ فِي ذَلِكَ الْحَدُّ أَوْ التَّعْذِيرُ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْأَنْسَابِ فَيَحْرُمُ الزِّنَا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَيَجِبُ فِيهِ إمَّا الرَّجْمُ أَوْ الْحَدُّ، وَوُجُوبُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ فَتَحْرُمُ السَّرِقَةُ، وَيَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ أَوْ التَّعْزِيرُ، وَكَذَا نَحْوُهَا اهـ بِزِيَادَةٍ مِنْ مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَزَادَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ سَادِسًا، وَهُوَ وُجُوبُ حِفْظِ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ لَهُ قَتْلُ الْكُفَّارِ، وَعُقُوبَةُ الدَّاعِينَ إلَى الْبِدَعِ اهـ.
مَعَ شَرْحِ الْمُحَلَّى فَافْهَمْ.
(التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ) قَالَ الْأَصْلُ أَيْضًا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْعَيْنِ بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مَا لَا يَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَإِنَّ تَكْرِيرَ فِعْلِ النُّزُولِ بَعْدَ شَيْلِ الْغَرِيقِ لَا يُحَصِّلُ مَصْلَحَةً بَعْدَ ذَلِكَ، وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ مَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْإِجْلَالُ، وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَتَكَرَّرُ حُصُولُهُ بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ أَخْذَ اللُّقَطَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ اهـ.
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ]
(الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي مِنْهَا اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ لِحُصُولِ الضَّبْطِ بِهَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا انْضِبَاطَ
عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ الْإِصْرَارِ إلَّا الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ مَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرْعًا هَذَا هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مَا ضَابِطُ التَّكَرُّرِ فِي الْإِصْرَارِ الَّذِي يُصَيِّرُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ مُلَابَسَةِ أَدْنَى الْكَبَائِرِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ بِمُلَابَسَتِهَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يُنْظَرُ لِذَلِكَ التَّكَرُّرِ فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنْ حَصَلَ فِي النَّفْسِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ مَا حَصَلَ مِنْ أَدْنَى الْكَبَائِرِ كَانَ هَذَا الْإِصْرَارُ كَبِيرَةً تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَزْمِ فَإِنَّ الْفَلَتَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَمِرَّ لَا تَكَادُ تُخِلُّ بِالْوُثُوقِ نَعَمْ قَدْ تَدُلُّ كَثْرَةُ التَّكْرَارِ عَلَى فِرَارِ الْعَزْمِ فِي النَّفْسِ، وَبِهَذَا الضَّابِطُ أَيْضًا يُعْلَمُ الْمُبَاحُ الْمُخِلُّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْأَكْلِ فِي الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ يَصْدُرُ مِنْهُ صُدُورًا يُوجِبُ عَدَمَ الْوُثُوقِ بِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مُخِلًّا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إلَى قَوْلِهِ كَانَ هَذَا الْإِصْرَارُ كَبِيرَةً تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ) قُلْت مَا قَالَهُ هَذَا الْعَالِمُ هُوَ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِالْجُرْأَةِ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ قَالَ (وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَزْمِ فَإِنَّ الْفَلَتَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَمِرَّ لَا تَكَادُ تُخِلُّ بِالْوُثُوقِ) قُلْت إنْ أَرَادَ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِنَا بِعَزْمِهِ فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُشْعِرَةَ بِالْجُرْأَةِ لَا تَخْلُو عَنْ الْإِشْعَارِ بِالْعَزْمِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَاوَدَ الْمُخَالَفَةَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى الْمُعَاوَدَةِ تَكُونُ حَالُهُ هَذِهِ مُشْعِرَةً بِجُرْأَتِهِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْعَزْمُ لَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ بِوَجْهٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ (وَبِهَذَا الضَّبْطِ أَيْضًا يُعْلَمُ الْمُبَاحُ الْمُخِلُّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْأَكْلِ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنْ يَصْدُرُ مِنْهُ صُدُورًا يُوجِبُ عَدَمَ الْوُثُوقِ بِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ بُخْلًا) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَنَّ الْمُبَاحَ الْمُخِلَّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ رُبَّمَا لَا يُخِلُّ بِهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي تُخِلُّ بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَإِنَّ إخْلَالَ الْمُخَالَفَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَدَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ رُكْنَيْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَإِخْلَالِ الْمُبَاحِ إنَّمَا هُوَ بِالْوُثُوقِ بِالضَّبْطِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ ضَابِطُ الْأَمْرَيْنِ ضَابِطًا وَاحِدًا هَذَا لَا يَصِحُّ بَلْ الضَّابِطُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الشَّاهِدِ فِي أُمُورِهِ الْمُبَاحَةِ رُبَّمَا أَشْعَرَتْ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى ضَبْطِهِ وَرُبَّمَا لَمْ تُشْعِرْ وَذَلِكَ بِحَسَبِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ أَوْ احْتَمَلَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي قَبُولِهَا أَوْ تَوَقَّفَ وَإِلَّا فَلَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَعَ الْفَسَقَةِ، وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورِيَّاتِ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ اشْتِرَاطُهَا فِيهِ، وَلِهَذَا هُنَا نَظَائِرُ (مِنْهَا) الشَّهَادَاتُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو لِحِفْظِ دِمَاءِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَبْضَاعِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ عَنْ الضَّيَاعِ فَلَوْ قُبِلَ فِيهَا قَوْلُ الْفَسَقَةِ وَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَضَاعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِمَّا أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ مَعَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِهِ (وَمِنْهَا) الْوِلَايَاتُ كَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَأَمَانَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ وَغَيْرَهَا مِمَّا فِي مَعْنَى هَذِهِ لَوْ فُوِّضَتْ لِمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ لَحُكِمَ بِالْجَوْرِ، وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ، وَضَاعَتْ الْمَصَالِحُ، وَكَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ، نَعَمْ لَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى الْعَدَالَةَ لِغَلَبَةِ الْفُسُوقِ عَلَى وُلَاتِهَا فَلَوْ اُشْتُرِطَتْ لَتَعَطَّلَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَافِقَةُ لِلْحَقِّ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ الْقُضَاةِ وَالسُّعَاةِ، وَأَخْذِ مَا يَأْخُذُونَهُ، وَبَذْلِ مَا يَبْذُلُونَهُ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلِذَا أُفْسِحَ مِنْ فَوَاتِ عَدَالَةِ السُّلْطَانِ، وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْقُضَاةِ أَعَمُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَوْصِيَاءِ، وَأَخَصُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ اُخْتُلِفَ فِي إلْحَاقِهِمْ بِالْأَئِمَّةِ أَوْ بِالْأَوْصِيَاءِ فَيَجْرِي فِيهِمْ الْخِلَافُ فِي عَدَالَةِ الْوَصِيِّ، وَإِذَا نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُ الْقُضَاةِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ فَأَوْلَى نُفُوذُ تَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ مَعَ غَلَبَةِ الْفُجُورِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ قُدْرَةِ الْبُغَاةِ وَعُمُومِ الضَّرُورَةِ لِلْوُلَاةِ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الْحَاجِيَّاتِ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِهَا نَظَرًا لِدَاعِيَةِ الْحَاجَةِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا نَظَرًا لِمَا يُعَارِضُ دَاعِيَتَهَا إنْ كَانَ، وَلِهَذَا هُنَا نَظَائِرُ مِنْهَا إمَامَةُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ شُفَعَاءُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ لِإِصْلَاحِ حَالِ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ، وَإِلَّا لَا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ فَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ لَكِنْ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ نَظَرًا لِمَا ذُكِرَ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُرْتَبِطَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَأَنَّ فِسْقَهُ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الرَّبْطِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله نَظَرًا إلَى أَنَّ الْفَاسِقَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ إجْمَاعًا، وَكُلُّ مُصَلٍّ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ فَلَمْ تَدْعُهُ حَاجَةٌ لِصَلَاحِ حَالِ الْإِمَامِ.
(وَمِنْهَا) الْمُؤَذِّنُونَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي دُخُولِ الْأَوْقَاتِ وَإِيقَاعِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ حَاجَةَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ فَقَطْ تَدْعُو إلَى اشْتِرَاطِ عَدَالَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِهِ حَتَّى يُؤَذِّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَتَعَدَّى خَلَلُهُ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا بَاطِلَةٌ فَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَذَانِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ مَقْصِدٌ، وَالْعِنَايَةُ بِالْمَقَاصِدِ أَوْلَى مِنْ الْوَسَائِلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِمَامُ الْفَاسِقُ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ، وَأَخَلَّ بِشَرْطٍ بَاطِنٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ لَمْ يَقْدَحْ عِنْدَهُ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ حَصَّلَ ذَلِكَ الشَّرْطَ فَلَا
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَرِنَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُصَاحِبَةِ وَصُورَةِ الْفَاعِلِ وَهَيْئَةِ الْفِعْلِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا يُؤَدِّي إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ السَّلِيمِ عَنْ الْهَوَاءِ الْمُعْتَدِلِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَالدِّيَانَةِ الْعَارِفِ بِالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِوَزْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّسَاهُلُ فِي طَبْعِهِ لَا يَعُدُّ الْكَبِيرَةَ شَيْئًا، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّشْدِيدُ فِي طَبْعِهِ يَجْعَلُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعَقْلِ الْوَازِنِ لِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَمَتَى تَخَلَّلَتْ التَّوْبَةُ الصَّغَائِرَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إذَا كَانَتْ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشَّبَهُ وَاللَّبْسُ إذَا تَقَرَّرَتْ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ النَّظَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا قَبُولُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ قَبْلَ جَلْدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً اتِّفَاقًا، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَرَدَّهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَمُطَرِّفٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم لَنَا أَنَّهُ قَبْلَ الْجَلْدِ غَيْرُ فَاسِقٍ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ جَلْدِهِ يَجُوزُ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ إلَّا بَعْدَ الْجَلْدِ، وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ الْعَدَالَةِ وَالْحَالَةِ السَّابِقَةِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ:(الْأَوَّلُ) أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ تَرْتِيبَ الْفِسْقِ عَلَى الْقَذْفِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَذْفُ فَيَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ سَوَاءٌ جُلِدَ أَمْ لَا.
(الثَّانِي) أَنَّ الْجَلْدَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ فَلَوْ تَوَقَّفَ الْفِسْقُ عَلَى الْجَلْدِ لَزِمَ الدَّوْرُ.
(الثَّالِثُ) أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَّا حَيْثُ تَيَقُّنِ الْعَدَالَةِ، وَلَمْ تُتَيَقَّنْ هُنَا فَتُرَدُّ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبُطْلَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَرَتَّبَ رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقِ عَلَى الْجَلْدِ وَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْجَلْدُ هُوَ السَّبَبَ الْمُفَسِّقَ فَحَيْثُ لَا جَلْدَ لَا فُسُوقَ.
وَهُوَ مَطْلُوبُنَا أَوْ عَكْسُ مَطْلُوبِكُمْ، وَعَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ الْجَلْدَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ ظَاهِرًا ظُهُورًا ضَعِيفًا لِجَوَازِ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ فَإِذَا أُقِيمَ الْجَلْدُ قَوِيَ الظُّهُورُ بِإِقْدَامِ الْبَيِّنَةِ وَتَصْمِيمِهَا عَلَى أَذِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْذُوفُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَرِنَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُصَاحِبَةِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْدَهَا نَقْلٌ وَتَوْجِيهٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي الْفُرُوقِ السِّتَّةِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَقْدَحُ عِنْدَهُ تَضْيِيعُ غَيْرِهِ لَهُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِرُكْنٍ ظَاهِرٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَنَحْوِهِمَا فَالِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَدَالَةِ فِيهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ نَابَ عَنْ الْعَدَالَةِ فِي ضَبْطِ الْمَصْلَحَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ، وَأَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَالَةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ التَّتِمَّاتِ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِهَا وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا لِتَعَارُضِ شَائِبَتَيْنِ فِيهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ هُنَا أَيْضًا مِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهَا تَتِمَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِحَاجِيَّةٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ فِي الشَّفَقَةِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْعَارِ، وَمِنْ السَّعْيِ فِي الْإِضْرَارِ فَقَرَّبَ ذَلِكَ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا كَالْإِقْرَارَاتِ لِقِيَامِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فِيهَا إلَّا أَنَّ الْفَاسِقَ لَمَّا كَانَ قَدْ يُوَالِي أَهْلَ شِيعَتِهِ فَيُؤْثِرُهُمْ بِتَوْلِيَتِهِ كَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهَا الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ فَاشْتُرِطَتْ الْعَدَالَةُ تَتِمَّةً لِأَجْلِ تَعَارُضِ هَاتَيْنِ الشَّائِبَتَيْنِ، وَلِهَذَا التَّعَارُضِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَهَلْ تَصِحُّ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ أَمْ لَا، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ، وَمِنْهَا الْأَوْصِيَاءُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنَّهُ لَا يُوصِي عَلَى ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ يَثِقُ بِشَفَقَتِهِ فَوَازِعُهُ الطَّبِيعِيُّ يُحَصِّلُ مَصْلَحَةَ الْوَصِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ يُوَلِّي أَهْلَ شِيعَتِهِ مِنْ الْفَسَقَةِ فَتَحْصُلُ الْمَفَاسِدُ مِنْ وِلَايَتِهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّزْوِيجِ تَعَارَضَتْ هَاتَانِ الشَّائِبَتَانِ فَكَانَ تَعَارُضُهُمَا سَبَبًا فِي كَوْنِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَوْصِيَاءِ تَتِمَّةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَفِي الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْأَوْصِيَاءِ
(الْقِسْمُ الرَّابِعُ) أَنْ تَكُونَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الضَّرُورَةُ، وَالْحَاجَةُ وَالتَّتِمَّةُ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ هُنَا (مِنْهَا) الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ أَعْضَائِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالطَّبْعُ يَمْنَعُ مِنْ الْمُسَامَحَةِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ بَلْ هُوَ مَعَ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ شَأْنُ الطِّبَاعِ جَحْدُهُ فَلَا يُعَارِضُ الطَّبْعَ هُنَا مُوَالَاتُهُ لِأَهْلِ شِيعَتِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى تَقْدِيمِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ شِيعَتِهِ وَأَصْدِقَائِهِ أَمْ لَا فَلِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِيهِ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْوَصِيَّةِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ وَالْوَصِيَّ يَتَصَرَّفَانِ لِغَيْرِهِمَا فَيُمْكِنُ فِيهِمَا مُرَاعَاةُ الْأَصْدِقَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْغَيْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
(وَمِنْهَا) الدَّعَاوَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَدَعْوَاهُ عَلَى، وَفْقِ طَبْعِهِ عَكْسُ الْأَقَارِيرِ إلَّا أَنَّ إلْزَامَهُ الْبَيِّنَةَ