الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْفِيرَ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ، فَإِنْ كَثُرَ كَثُرَ التَّكْفِيرُ، وَإِنْ قَلَّ قَلَّ التَّكْفِيرُ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ عَلَى قَدْرِ نَفَاسَةِ الْوَلَدِ فِي صِفَاتِهِ وَنَفَاسَتِهِ فِي بِرِّهِ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يُسَرُّ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عليه السلام التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ فَظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ بِهَذِهِ التَّقَادِيرِ وَالْمَبَاحِثِ، وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمُصَابٍ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ: اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ)
قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِتَعَيُّنِ حَمْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَبِالظَّوَاهِرِ الْمُظَاهَرَةِ بِثُبُوتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْآلَامِ وَشِبْهِهَا قَالَ (وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْفِيرَ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يَسَّرَ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ) .
قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ تَحَكُّمٌ بِتَقْيِيدِ كَلَامِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَتَضْيِيقٌ لِبَابِ الرَّحْمَةِ الثَّابِتِ سِعَتُهُ قَالَ (فَظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ بِهَذِهِ التَّقَارِيرِ وَالْمَبَاحِثِ) قُلْت: لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ قَالَ (وَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: الْمُصَابُ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا، وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ: اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
زُهْدًا وَزَهَادَةً بِالْفَتْحِ لُغَةٌ فِيهِ، وَالتَّزَهُّدُ التَّعَبُّدُ وَالتَّزْهِيدُ ضِدُّ التَّرْغِيبِ، وَالْمُزْهِدُ بِوَزْنِ الْمُرْشِدِ الْقَلِيلُ الْمُحَالُ، وَفِي الْحَدِيثِ:«أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُزْهِدٌ» وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الزُّهْدُ لُغَةً تَرْكُ الْمَيْلِ إلَى الشَّيْءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَقِّ هُوَ بُغْضُ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ رَاحَةِ الدُّنْيَا طَلَبًا لِرَاحَةِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَخْلُوَ قَلْبُك مِمَّا خَلَتْ مِنْهُ يَدُك. اهـ. وَقَالَ الْأَصْلُ: هُوَ عَدَمُ الِاحْتِفَالِ بِالدُّنْيَا وَالْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ لَا عَدَمُ الْمَالِ. اهـ. قُلْت: وَتَعْرِيفُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَدَمِيًّا عَيْنُ التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ لَهُ فِي كَلَامِ الْجُرْجَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا، وَقَرِيبٌ مِنْهُمَا التَّعْرِيفُ الثَّانِي فِي كَلَامِ الْجُرْجَانِيِّ وَذَاتُ الْيَدِ الْغَنِيُّ وَلَوْ لَمْ يَزْهَدْ عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ وَبَيْنَ ذَاتِ الْيَدِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الزَّاهِدُ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَهُوَ زَاهِدٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَفِلٍ بِمَا فِي يَدِهِ، وَبَذْلُهُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ بَذْلِ الْفَلْسِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فَقِيرًا كَمَا أَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ زَاهِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا وَكَذَا بَيْنَ الزُّهْدِ وَبَيْنَ الْفَقْرِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ؛ لِأَنَّ الشَّدِيدَ الْفَقْرِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ زَاهِدٍ بَلْ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ لِأَجْلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ الزُّهْدِ بِالتَّعْرِيفِ الثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ وَبَيْنَ ذَاتِ الْيَدِ التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقْرِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ كَمَا لَا يَخْفَى فَافْهَمْ قَالَ الْأَصْلُ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ: وَالزُّهْدُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَاجِبٌ وَفِي الْوَاجِبَاتِ حَرَامٌ، وَفِي الْمَنْدُوبَاتِ مَكْرُوهٌ وَفِي الْمُبَاحَاتِ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ إلَيْهَا يُفْضِي إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَتَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ الْمَنْدُوبَةِ. اهـ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ]
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ) وَهُوَ أَنَّ الزُّهْدَ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَأَمَّا الْوَرَعُ فَفِي الْأَصْلِ هُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ، وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ هُوَ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَقِيلَ: هِيَ مُلَازَمَةُ الْأَعْمَالِ الْجَمِيلَةِ. اهـ. قُلْت: وَمَآلُ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَرَعَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» أَيْ سَلِمَ دِينُهُ وَعِرْضُهُ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ
ذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ، وَقَدْ تَجِبُ)
اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْمُدَاهَنَةِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُحِبُّونَ مِنْ الْقَوْلِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ أَثْنَيْت عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، وَيَقُولُونَ لَك مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَشْكُرُ ظَالِمًا عَلَى ظُلْمِهِ أَوْ مُبْتَدِعًا عَلَى بِدْعَتِهِ أَوْ مُبْطِلًا عَلَى إبْطَالِهِ وَبَاطِلِهِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِتَكْثِيرِ ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَشْكُرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ يُرِيدُ الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ الَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ، وَيُتَبَسَّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيُشْكَرُونَ بِالْكَلِمَاتِ الْحَقَّةِ فَإِنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ صِفَةٌ تُشْكَرُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْحَسِ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْفَاءً لِشَرِّهِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ الْقَائِلُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمَاتٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَيَكُونُ الْحَالُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إنْ كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْدُوبٍ أَوْ مَنْدُوبَاتٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إنْ كَانَ عَنْ ضَعْفٍ لَا ضَرُورَةَ تَتَقَاضَاهُ بَلْ خَوْرٌ فِي الطَّبْعِ أَوْ يَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُقُوعِ فِي مَكْرُوهٍ فَانْقَسَمَتْ الْمُدَاهَنَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَظَهَرَ - حِينَئِذٍ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ كُلَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
ذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَيْ الْمَعْلُومِ الْحُصُولِ؛ إذْ ذَلِكَ مُرَادُهُ هُنَا، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ» مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَهُ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحُصُولِ شَرْطِ التَّكْفِيرِ وَالْغُفْرَانِ، وَهُوَ الْوَفَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ.
وَجَمِيعُ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ الْحَادِي وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ وَالزُّهْدُ هُوَ الْأَعَمُّ فَلْيُتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَفِي الْعَزِيزِيِّ بَعْدَ مَا رَوَاهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَمَّا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إذَا أُعْطِيت شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إرْشَادٌ يَعْنِي انْتَفِعْ بِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْمَبْذُولِ عِلْمُ حِلِّهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْعَلْقَمِيِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ حِلَّهُ اُسْتُحِبَّ الْقَبُولُ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ حَرُمَ الْقَبُولُ، وَإِنْ شَكَّ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ، وَهُوَ الْوَرَعُ. اهـ. قَالَ الْحِفْنِيُّ: أَوْ مِنْ الشُّبْهَةِ لَكِنْ مَحِلُّهُ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ حُبُّ الثَّنَاءِ كَأَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ زَاهِدٌ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ حِينَئِذٍ أَخَّرَ مِنْ قَبُولِهِ اهـ وَفِي الْعَزِيزِيِّ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ طَبَقًا فَلَا يَقْبَلُهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ فَلَا يَرْكَبُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» الْمُرَادُ أَهْدَى إلَيْهِ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْكِبَهُ دَابَّتَهُ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا لَهُ فَلَا يَرْكَبُهَا أَيْ لَا يَسْتَعْمِلُهَا بِرُكُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ الْعَلْقَمِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنَزُّهِ وَالْوَرَعِ أَيْ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (وَصْلٌ) فِي ثَلَاثِ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
اخْتَلَفَ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هَلْ يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ أَوْ لَا يُعَدُّ مِنْهُ فَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْهُ، وَقَالَ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ: لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ: هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُحَرَّمِ وَقَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي لَا يَحْرُمُ) وَرَدَ قَوْله تَعَالَى {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [التوبة: 18] وقَوْله تَعَالَى {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150] وقَوْله تَعَالَى {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْمَانِعَةِ مِنْ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْجُمْهُورِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَانِعِ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ أَوْ خَوْفٍ مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخَوْفِ كَمَنْ يَتَطَيَّرُ بِمَا لَا يَخَافُ مِنْهُ عَادَةً كَالْعُبُورِ بَيْنَ الْغَنَمِ يُخَافُ لِذَلِكَ أَنْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ بِهَذَا السَّبَبِ فَهَذَا كُلُّهُ خَوْفٌ حَرَامٌ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ قَلِيلٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] فَمَعْنَى هَذَا التَّشْبِيهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ قَلَّ مَنْ يُحَقِّقُهُ، وَهُوَ قَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّ فِتْنَةَ النَّاسِ مُؤْلِمَةٌ، وَعَذَابُ اللَّهِ مُؤْلِمٌ، وَمَنْ شَبَّهَ مُؤْلِمًا بِمُؤْلِمٍ كَيْفَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ هَذَا التَّشْبِيهَ وَمُدْرَكُ الْإِنْكَارِ بَيِّنٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَضَعَ عَذَابَهُ حَاثًّا عَلَى طَاعَتِهِ وَزَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَمَنْ جَعَلَ أَذِيَّةَ النَّاسِ حَاثَّةً عَلَى طَاعَتِهِمْ فِي ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَزَاجِرَةً لَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ وَفِتْنَةِ النَّاسِ فِي الْحَثِّ وَالزَّجْرِ وَشَبَّهَ الْفِتْنَةَ بِعَذَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالتَّشْبِيهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ قَطْعًا مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ فَأُنْكِرَ عَلَى فَاعِلِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ سِرُّ التَّشْبِيهِ هَا هُنَا، وَقَدْ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَ مُحَرَّمًا كَالْخَوْفِ مِنْ الْأُسُودِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالظُّلْمَةِ، وَقَدْ يَجِبُ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا أَمَرَنَا بِالْفِرَارِ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهَا عَلَى أَجْسَامِنَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ» فَصَوْنُ النَّفْسِ وَالْأَجْسَامِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ وَاجِبٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَقِسْ يَظْهَرْ لَك مَا يَحْرُمُ مِنْ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا لَا يَحْرُمُ وَحَيْثُ تَكُونُ الْخَشْيَةُ مِنْ الْخَلْقِ مُحَرَّمَةً وَحَيْثُ لَا تَكُونُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَرَعَ إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ، وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ، وَهَذَا مَعَ تَقَارُبُ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً. اهـ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ الشِّهَابُ لِوُجُوهٍ
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَرَعَ فِي ذَلِكَ تَوَقُّعُ الْعِقَابِ، وَأَيُّ عِقَابٍ يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي خِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : كَيْفَ يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَلَا تَفْصِيلٍ، وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْخِلَافِ لَا يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مَثَّلَ بِهِ الشِّهَابُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ، فَإِنْ أَقْدَمَ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ، وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ، فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ، وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ: وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا لَنَا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الثَّانِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دَيْنًا وَقَالَتْ الْأُخْرَى: لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ.
وَلَيْسَ نَفْيُهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ
(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّطَيُّرِ وَقَاعِدَةِ الطِّيَرَةِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُمَا وَمَا لَا يَحْرُمُ)
فَالتَّطَيُّرُ هُوَ الظَّنُّ السَّيِّئُ الْكَائِنُ فِي الْقَلْبِ، وَالطِّيَرَةُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُرَتَّبُ عَلَى هَذَا الظَّنِّ مِنْ فِرَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ» وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - تَعَالَى، وَلَا يَكَادُ الْمُتَطَيِّرُ يَسْلَمُ مِمَّا تَطَيَّرَ مِنْهُ إذَا فَعَلَهُ، وَغَيْرُهُ لَا يُصِيبُهُ مِنْهُ بَأْسٌ، وَسَأَلَ بَعْضُ الْمُتَطَيِّرِينَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ: إنَّنِي لَا أَتَطَيَّرُ فَلَا يَنْخَرِمُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَقَعُ الضَّرَرُ بِي وَغَيْرِي يَقَعُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ ضَرَرًا، وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَهَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى -:«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُؤْذِيَك عِنْدَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت مِنْهُ فَتُسِيءُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عز وجل فَيُقَابِلُك اللَّهُ عَلَى سُوءِ ظَنِّك بِهِ بِإِذَايَتِكَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي تَطَيَّرْت بِهِ، وَغَيْرُك لَا يُسِيءُ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَلَا يَتَضَرَّرُ ثُمَّ هَذَا الْمَقَامُ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ خَافَ الْهَلَاكَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ السَّبُعِ لَمْ يَحْرُمْ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الْغَالِبِ قِسْمَانِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ مُؤْذٍ كَالسَّمُومِ وَالسِّبَاعِ وَالْوَبَاءِ وَمُعَادَاةِ النَّاسِ وَالتُّخْمِ وَأَكْلِ الْأَغْذِيَةِ الثَّقِيلَةِ الْمُنَفِّخَةِ عِنْدَ ضُعَفَاءِ الْمَعِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْخَوْفُ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَيْسَ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ خَوْفٌ عَنْ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ فِي مَجَارِي الْعَادَةِ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْقَبَسِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا عَدْوَى» مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرَاضِ بِدَلِيلِ تَحْذِيرِهِ عليه السلام مِنْ الْوَبَاءِ وَالْقُدُومِ عَلَى بَلَدٍ هُوَ فِيهِ.
وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ عَوَائِدَ اللَّهِ إذَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ كَمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَاءَ مُرْوٍ وَالْخُبْزَ مُشْبِعٌ وَالنَّارَ مُحْرِقَةٌ وَقَطْعَ الرَّأْسِ مُمِيتٌ وَمَنْعَ النَّفَسِ مُمِيتٌ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ كَانَ خَارِجًا عَنْ نَمَطِ الْعُقَلَاءِ، وَمَا سَبَبُهُ إلَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي الْعَادَةِ أَكْثَرِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا نَحْوُ كَوْنِ الْمَحْمُودَةِ مُسَهِّلَةً وَالْآسِ قَابِضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فَإِنَّ اعْتِقَادَهَا حَسَنٌ مُتَعَيِّنٌ مَعَ عَدَمِ اطِّرَادِهَا بَلْ لِكَوْنِهَا أَكْثَرِيَّةً فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ التَّطَيُّرُ فِيهِ هُوَ الْقِسْمُ الْخَارِجُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَهُوَ مَا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِ فِي حُصُولِ الضَّرَرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ عَادَةً، وَإِنْ عَنَى كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَأَيْنَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ سَبْعِمِائَةٍ بِمَكَّةَ وَقَالَتْ الْأُخْرَى: رَأَيْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا تَعَارُضٌ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا بِالتَّرْجِيحِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الصُّورَةُ الْأُولَى، فَإِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ ثَبَتَ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ، وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَا وَرَعَ بِاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ حُكْمُهُ التَّقْلِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِالتَّقْلِيدِ، فَإِذَا قَلَّدَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَتَمَكَّنُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ، وَلَا أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ، وَالْمُقَلِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِاَلَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ مَذْهَبِ مُقَلِّدِهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّهِ وَخِلَافَ مَذْهَبِ الْمُقَلِّدِ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْوَرَعِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَالِثَ يَصِحُّ ذَلِكَ الْوَرَعُ فِي حَقِّهِ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلُزُومُ عَمَلِ الْمُجْتَهِدِ، وَمُقَلِّدِهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا يَمْنَعُ حُصُولُ الْوَرَعِ فِي اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ؛ إذْ يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ فِي الْأَوَّلِ.
وَالتَّرْكُ فِي الثَّانِي كَذَلِكَ يَمْنَعُ حُصُولُهُ فِي اخْتِلَافِهَا بِالْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالتَّحْلِيلِ أَوْ بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مُشْتَرَكَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ وَالِاثْنَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي رُجْحَانِ التَّرْكِ وَأَنَّ تَوَهُّمَ صِحَّةِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ اللُّزُومَ الْمَذْكُورَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي الْمُقَلِّدِ: إنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا لَا بِعَيْنِهِ، وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا قَالَ: وَمَا وَجَّهَ بِهِ الشِّهَابُ تَسْوِيغَ تَقْلِيدِ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا مِنْ أَنَّ مُقَلِّدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَقِدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبَ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبَ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ النَّدْبُ وَالْوُجُوبُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أَضْدَادًا لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلَّقُ، وَالْإِضَافَةُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ مَعَ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ كَمَا هُنَا فَإِنَّهُ كَمَا عَلِمْت اعْتَقَدَ مَسْحَ الرَّأْسِ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ وَالْإِضَافَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ زَيْدًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبٌ لِعَمْرٍو، وَلَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ