الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَلْحَقَ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكُفْرِ إرَادَةَ الْكُفْرِ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ، وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْك فَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ الْكُفْرِ.
وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا مَا نَقَضَهُ مِنْ شَرْطِ عِلْمِ هَذَا الشَّخْصِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَهَرِ. قَالَ: (وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِالْكُفْرِ إرَادَةَ الْكُفْرَ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا) قُلْتُ: إنْ كَانَ بَنَاهَا الشَّخْصُ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا شَكَّ، وَإِنْ كَانَ بَنَاهَا الْكَافِرُ إرَادَةَ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَالتَّوَدُّدِ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ. قَالَ:(أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ) قُلْتُ: ذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مِنْ يُجَوِّزُ الْكُفْرَ عِنَادًا. قَالَ:(وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ فَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ الْكُفْرِ) قُلْتُ: ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا إنْ كَانَ إنَّمَا أَشَارَ بِالتَّأْخِيرِ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كُفْرًا إنْ كَانَ إنَّمَا أَرَادَ بِالتَّأْخِيرِ لِكَوْنِهِ لَا يُرِيدُ لِهَذَا الْإِسْلَامِ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُشِيرُ رُجْحَانَ الْكُفْرِ. قَالَ: (وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يَحُدَّهُ مَالِكٌ بِالْعَشِيرَةِ بَلْ قَالَ مَنْ أَقَامَتْ بِيَدِهِ دَارٌ سِنِينَ يَكْرِي وَيَهْدِمُ وَيَبْنِي فَأَقَمْت بِبَيِّنَةِ أَنَّهَا لَك أَوْ لِأَبِيك أَوْ لِجَدِّك، وَثَبَتَتْ الْمَوَارِيثُ، وَأَنْتَ حَاضِرٌ تَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ لَك فَإِنْ كُنْت غَائِبًا أَفَادَك إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْحَيَوَانُ وَالرَّقِيقُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إذَا ادَّعَى بِأُجْرَةٍ مِنْ سِنِينَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَلَا مَانِعَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى بِثَمَنِ سِلْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ طَلَبِهِ، وَعَادَتُهَا تُبَاعُ بِالنَّقْدِ، وَشَهِدَتْ الْعَادَةُ أَنَّ هَذَا الثَّمَنَ لَا يَتَأَخَّرُ، وَقَالَ رَبِيعَةُ عَشْرُ سِنِينَ تَقْطَعُ الدَّعْوَى لِلْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ أَكْرَى أَوْ أَسْكَنَ أَوْ أَعَارَ، وَلَا حِيَازَةَ عَلَى غَائِبٍ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ» ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] فَكُلُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِالْمِلْكِ لِحَائِزِهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْحِيَازَةُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَأَمَّا فِي الْأَقَارِبِ فَقَالَ مَالِكٌ الْحِيَازَةُ الْمُكَذِّبَةُ لِلدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ نَحْوُ الْخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ الْأَقَارِبَ يَتَسَامَحُونَ لِبِرِّ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجَانِبِ إمَّا لِدُونِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الطُّولِ فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى كَاذِبَةً، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه، وَسَمِعَ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَنَا النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهَذَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الدَّعْوَى الثَّلَاثَةِ، وَيَبْقَى قِسْمَانِ دَاخِلَانِ تَحْتَ قَاعِدَةِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ:(الْأَوَّلُ) مَا تُصَدِّقُهَا الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْقَرِيبِ الْوَدِيعَةَ. (وَالثَّانِي) مَا لَمْ تَقْضِ الْعَادَةُ بِصِدْقِهَا، وَلَا بِكَذِبِهَا كَدَعْوَى الْمُعَامَلَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْخُلْطَةُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ قَاعِدَتَيْ مَنْ يَحْلِفُ وَمَنْ لَا اهـ كَلَامُ الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ.
(تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ) قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كُلَّهَا مَبْحُوثٌ فِيهَا مَا عَدَا الشَّرْطَ الرَّابِعَ اهـ فَافْهَمْ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي) قَالَ التَّاوَدِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ هَذِهِ شُرُوطُ الدَّعْوَى، وَأَمَّا الدَّعْوَى نَفْسُهَا فَقَالَ الْقَرَافِيُّ هِيَ طَلَبٌ مُعَيَّنٌ كَهَذَا الثَّوْبِ، وَمَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٌ كَالدَّيْنِ وَالسَّلَمِ، وَادِّعَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقَ أَوْ الرِّدَّةَ لِتُحَرِّرَ نَفْسَهَا، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٍ كَدَعْوَى الْمَسِيسِ أَوْ الْقَتْلِ لِيَتَرَتَّبَ الصَّدَاقُ وَالدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّوْعِ اهـ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تُسْمَعُ الدَّعَاوَى فِي النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ) :
وَفِيهِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْعُلَمَاءِ تَحْقِيقًا لِمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَلِمَنْ هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي يَحْلِفُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» لِأَنَّ بَيْنَهُمَا الْتِبَاسًا، وَعِلْمُ الْقَضَاءِ يَدُورُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه مَنْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ عَرَفَ وَجْهَ الْقَضَاءِ كَمَا فِي تُسُولِيِّ الْعَاصِمِيَّةِ فَقِيلَ كُلُّ طَالِبٍ فَهُوَ مَدْفُوعٌ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه كُلُّ مَنْ قَالَ قَدْ كَانَ فَهُوَ مُدَّعٍ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ اهـ.
وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ عِبَارَتَانِ تُوَضِّحُ ثَانِيَهُمَا الْأُولَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَبْعَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَقْرَبُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ أَيْ مُجَرَّدًا عَنْهُمَا مَعًا فَأَوْ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ
مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَفِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ إرَادَةُ اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ فَهُوَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ إذَا بَقُوا أَحْيَاءَ وَفِي تَعْجِيلِ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ سَدُّ بَابِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ فَالْمَقْصُودُ تَوَقُّعُ الْإِيمَانِ وَحُصُولُ الْكُفْرِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعْيِينِ مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَالْفَاعِلُ لَهُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةَ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ) قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ هُنَا مُوَافِقٌ لِمَا قُلْتُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِشَارَةِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُشِرْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا بِقَصْدِ إذَايَتِهِ لَا لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَفِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ إرَادَةُ اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ فَهُوَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ إذَا بَقُوا أَحْيَاءَ وَفِي تَعْجِيلِ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ سَدُّ بَابِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ فَالْمَقْصُودُ تَوَقُّعُ الْإِيمَانِ، وَحُصُولُ الْكُفْرِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ) قُلْتُ: مَا حَامَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلُّهُ صَحِيحٌ وَهُوَ أَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْأُسَارَى وَضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إيثَارٌ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا. قَالَ: (فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعْيِينِ مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْفَاعِلُ لَهُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَبِمَعْنَى الْعُرْفِ الْعَادَةُ، وَالشَّبَهُ، وَالْغَالِبُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ الْأَمْثِلَةِ، وَأَوْ هُنَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَقَطْ فَتَجُوزُ الْجَمْعُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْأَصْلَ وَحْدَهُ، وَخَالَفَهُ الْمُدَّعِي مَنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ دَيْنًا أَوْ غَصْبًا أَوْ جِنَايَةً، وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُعَضِّدُهُ، وَيُخَالِفُ الطَّالِبَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْيَتِيمِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ مَعَ وَصِيَّةٍ فِي الدَّفْعِ فَإِنَّ الْيَتِيمَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الدَّفْعِ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَالْوَصِيُّ مُدَّعٍ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِأَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ فِي الدَّفْعِ عِنْدَ التَّنَازُعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْعُرْفَ وَحْدَهُ مَنْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوْ الْهِبَةَ مِنْ حَائِزٍ لِلْمُدَّعِي فِيهِ مُدَّةَ الْحِيَازَةِ فَالْحَائِزُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَوَّى جَانِبُهُ بِالْحِيَازَةِ، وَالْقَائِمُ مُدَّعٍ، وَمِنْهَا جَزَّارٌ وَدَبَّاغٌ تَدَاعَيَا جِلْدًا تَحْتَ يَدِهِمَا، وَلَا يَدَ عَلَيْهِ فَالْجَزَّارُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالدَّبَّاغُ مُدَّعٍ فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْحَائِزُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِنْهَا قَاضٍ وَجُنْدِيٌّ تَدَاعَيَا رُمْحًا تَحْتَ يَدِهِمَا أَوْ لَا يَدَ عَلَيْهِ فَالْجُنْدِيُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالْقَاضِي مُدَّعٍ، وَمِنْهَا عَطَّارٌ وَصَبَّاغٌ تَدَاعَيَا مِسْكًا وَصِبْغًا فَالْعَطَّارُ مُدَّعٍ فِي الصِّبْغِ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الْمِسْكِ وَالصَّبَّاغُ بِالْعَكْسِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَلِلْمَرْأَةِ الْمُعْتَادُ لِلنِّسَاءِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى نَقْدِ صَدَاقِهَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِالْفَقْرِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ، وَدَعْوَى الشَّبَهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّدَاقِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمِنْهَا دَعْوَى الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَوْ الْمُودَعِ عِنْدَهُ الرَّدُّ حَيْثُ قُبِضَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ هُوَ مِنْ تَقْوَى جَانِبُهُ بِسَبَبٍ مِنْ حِيَازَةٍ أَوْ شَبَهٍ أَوْ نُكُولِ صَاحِبِهِ أَوْ أَمَانَةٍ أَوْ كَوْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ، وَالْمُدَّعِي مَنْ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا فِي التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْأَصْلَ وَالْعُرْفَ مَعًا طَالِبُ الْوَدِيعَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا لِلْمُودِعِ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ ائْتَمَنَ
الْمُودِعُ عِنْدَهُ لَمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ بِيَمِينِهِ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا وَالْمُودِعُ عِنْدَهُ مُدَّعٍ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ لَمَّا قَبَضَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ لَا يُعْطِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ الدَّفْعِ فَالْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ مَعًا يُعَضِّدَانِ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ وَيُخَالِفَانِ الْمُودَعَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ إذَا قُبِضَ بِبَيِّنَةٍ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ، وَإِذَا تَمَسَّكَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْعُرْفِ كَمَا إذَا أَشْبَهَا مَعًا فِيمَا يَرْجِعُ فِيهِ لِلشَّبَهِ كَتَنَازُعِ جَزَّارٍ مَعَ جَزَّارٍ فِي جِلْدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا حَلَفَا وَقُسِمَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا تَمَسَّكَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْأَصْلِ كَدَعْوَى الْمُكْتَرِي لِلرَّحَى أَوْ الدَّارِ أَنَّهُ انْهَدَمَتْ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ الْمُكْتَرِي شَهْرَانِ فَقَطْ اخْتَلَفَ فِيمَنْ يَكُونُ مُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَقِيلَ الْمُكْتَرِي لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْغَرَامَةِ فَيُسْتَصْحَبُ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمُكْرِي لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ أَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكْتَرِي، وَهُوَ يَدَّعِي إسْقَاطَ بَعْضِهِ فَلَا يَصْدُقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ فَلَمَّا طَلَبَهُ بِهَا الدَّافِعُ زَعَمَ أَنَّهُ قَبَضَهَا مِنْ مِثْلِهَا الْمُرَتَّبِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا كَوْنَ الدَّافِعِ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفِ هَذَا الْقَابِضِ كَانَ الدَّافِعُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا لِابْنِ رُشْدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْقَابِضِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَيْضًا بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ جَعَلْنَاهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَافْهَمْ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ صَعُبَ عِلْمُ الْقَضَاءِ قَالَ وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّعَارُضِ.
وَقَدَّمَ الْمَالِكِيَّةَ الْغَالِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] فَكُلُّ أَصْلٍ كَذَّبَهُ الْعُرْفُ كَمَا إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ
بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ كُفْرٌ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ السَّاجِدُ فِي الْحَالَتَيْنِ مُعْتَقِدًا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَسْتَحِيلُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَعْتَقِدُهُ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ كَذَلِكَ يَكُونُ لَوْ تَعَيَّنَ الْمُقْتَضِي، وَمَتَى يَتَعَيَّنُ الْمُقْتَضِي عِنْدَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِ الْأَسِيرِ (وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ: فِي الْأَوَّلِ كُفْرٌ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ السَّاجِدُ فِي الْحَالَتَيْنِ مُعْتَقِدًا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَا يَسْتَحِيلُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَعْتَقِدُهُ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
قُلْتُ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ وَالسَّاجِدُ لِلْوَالِدِ إنْ سَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ شَرِيكُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ سَجَدَ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ، وَإِنْ سَجَدَ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَجَدَ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ إلَّا أَنْ نَقُولَ أَنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
صِدْقُهَا، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا ادَّعَى الصَّالِحُ التَّقِيُّ الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ وَالشَّأْنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ الْفَارُوقُ ابْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَيُقَدَّمُ الْأَصْلُ عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اهـ بِتَصَرُّفٍ وَتَوْضِيحٍ.
لَكِنْ قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ إلْغَاءَ الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ كَمَا أَنَّ إلْغَاءَ الْغَالِبِ فِي مُجَرَّدِ دَعْوَى الدَّيْنِ، وَنَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَصْلَحَ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَلَيْسَ فِي كَوْنِ الْمُلْغَى الْأَصْلَ أَوْ الْغَالِبَ عِنْدَ تَعَرُّضِهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ احْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْنَا فِي تَقْدِيمِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ وَعَدَمَ الْإِنْفَاقِ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا شَهِدَ الْعُرْفُ فِيهِ لِلْمُدَّعِي كَمَا مَرَّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ زَكَرِيَّا، وَفِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ تَعَارَضَ الْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَلِجَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ
(أَحَدُهَا) أَنْ لَا تَطَّرِدَ الْعَادَةُ بِمُخَالَفَةِ الْأَصْلِ، وَإِلَّا قُدِّمَتْ قَطْعًا، وَلِذَا حَكَمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْهَارِبِ فِي الْحَمَّامِ لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِالْبَوْلِ فِيهِ الثَّانِي أَنْ تَكْثُرَ أَسْبَابُ الظَّاهِرِ فَإِنْ نَدَرَتْ لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهِ قَطْعًا، وَلِذَا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ بِالْأَخْذِ بِالْوُضُوءِ فِيمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْحَدَثُ مَعَ إجْزَائِهِمْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَتُهُ هَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ، وَفَرَّقَ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا النَّجَاسَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ فِي الْأَحْدَاثِ قَلِيلَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِلنَّادِرِ، وَالتَّمَسُّكُ بِاسْتِصْحَابِ الْيَقِينِ أَوْلَى.
(الثَّالِثُ) أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا مَا يَعْتَضِدُ بِهِ، وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ مُتَعَيَّنٌ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا كَالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَصْلِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ سَنَدُهُ، الْعُرْفُ أَوْ الْقَرَائِنُ أَوْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَهَذِهِ يَتَفَاوَتُ أَمْرُهَا فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَتَارَةً يُخَرَّجُ خِلَافٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالظَّاهِرِ كَالْبَيِّنَةِ الثَّانِي مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ تَقَدُّمُ الظَّاهِرِ كَمَا فِي اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ
لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهَا الثَّالِثُ مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ مُحْرِمَةٌ بِنِسْوَةِ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فَإِنَّ لَهُ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ.
الرَّابِعُ مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْأَصْلِ كَمَا فِي ثِيَابِ مُدْمِنِي النَّجَاسَةِ وَطِينِ الشَّارِعِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ اخْتِلَاطُهُ بِالنَّجَاسَةِ، وَالْمَقَابِرِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَبْشُهَا فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِيهَا الطَّهَارَةُ اهـ الْمُرَادُ بِتَلْخِيصٍ فَافْهَمْ.
هَذَا، وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ بَيَانِ مَا لِلْأَصْحَابِ مِنْ الْفَرْقَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا مُطَّرِدَانِ، وَأَنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِنَقْضِهِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَدِيعَةِ مَعَ الْإِشْهَادِ وَالْيَتِيمِ مَعَ وَصِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ عَلَى زَوْجِهَا فِي خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ، وَادَّعَى هُوَ عَدَمُهُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ طَالِبٌ مَعَ أَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَلِذَا قَالَ الْأَصْلُ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ مُدَّعِيًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنْهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ اهـ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ.
وَأَمَّا فَرْقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَكَذَلِكَ قِيلَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِنَقْضِهِ بِدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَقَالَ هُوَ أَنْفَقْت، وَبِدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ عَلَى زَوْجِهَا فِي خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ، وَادَّعَى عَدَمَهُ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي
مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا.
وَلَوْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُمَا سَبَبَا الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
كُفْرٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ مُدَّةً، وَمُجَرَّدُ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ مُدَّةً فَيَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى تَوْقِيفٍ. قَالَ: (مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا لَوْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُمَا سَبَبَا الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْأُولَى لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ لَهُ، وَهِيَ مُدَّعِيَةٌ، وَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْعَكْسِ، وَفَرْقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي الْأُولَى مُدَّعًى عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَقُولُ لَمْ يَكُنْ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُدَّعِيَةٌ لِأَنَّهَا تَقُولُ قَدْ كَانَ كَمَا فِي التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ قَالَ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الرَّدَّ الْمَذْكُورَ لِلتَّعْرِيفَيْنِ أَيْ لِلْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ أَيْ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ.
وَفَرَقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا يَتِمُّ وَلَوْ كَانَ الْقَائِلُ بِهِمَا يُسَلِّمُ أَنَّ الطَّالِبَ، وَمَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ أَيْ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْضِي بِهَا الرَّادُّ كُلًّا مِنْ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَقُولُ إنَّهُ مُدَّعٍ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ عُرْفٍ أَوْ أَصْلٍ، وَلَا يُحْتَجُّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَذْهَبٍ مِثْلِهِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْجَوَابَ ابْنُ رَحَّالٍ
وَالْحَاصِلُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُهُ النَّظَرُ أَنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنْ يَتَمَسَّكَ أَحَدُهُمَا بِالْعُرْفِ فَقَطْ كَالِاخْتِلَافِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَدَعْوَى الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ الْقَاضِي وَالْجُنْدِيِّ فِي الرُّمْحِ، وَالْجَزَّارِ وَالدَّبَّاغِ فِي الْجِلْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَعَارَضْ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْأَصْلُ، وَأَمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ فَقَطْ كَالِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ وَفِي قَضَائِهِ، وَفِي دَعْوَى الْحَائِزِ نَفْسَهُ الْحُرِّيَّةَ، وَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَالْمُودِعِ عَدَمَ الرَّدِّ مَعَ دَفْعِهِمَا بِإِشْهَادٍ، وَدَعْوَى الْيَتِيمِ عَدَمَ الْقَبْضِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ أَيْ أَمْثِلَةُ شَهَادَةِ الْعُرْفِ فَقَطْ أَوْ الْأَصْلِ فَقَطْ، هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِذَلِكَ الْعُرْفِ أَوْ الْأَصْلِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمَنْ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ أَحَدُهُمَا بِالْأَصْلِ، وَالْآخَرُ بِالْعُرْفِ فَيَأْتِي الْخِلَافُ كَدَعْوَى الزَّوْجِ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ أَنَّهُ غَرَّهُ بِتَزْوِيجِهَا فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْغُرُورِ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ رِضَا الْحُرِّ بِتَزْوِيجِ الْأَمَةِ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَمَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ شَاهِدٌ عُرْفِيٌّ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَكَمَسْأَلَةِ الْحِيَازَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَدَعْوَى عَامِلِ الْقِرَاضِ وَالْمُودِعِ عِنْدَهُ الرَّدَّ مَعَ عَدَمِ الْإِشْهَادِ لِأَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُ الْأَمِينِ، وَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ، وَعَدَمَ الْإِنْفَاقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْحَابِ هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ أَوْ عُرْفٌ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَارَضَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا، وَعَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمَنْ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَكِنْ لَمَّا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فِيهَا بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ لِأَنَّهُ أَقْوَى صَارَ الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ مَا نَصُّهُ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ تُجَرَّدُ دَعْوَاهُ مِنْ سَبَبٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ أَوْ الرَّهْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ إرْخَاءِ السِّتْرِ وَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَمِينِ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اهـ.
وَنَقَلَهُ الْقَلْشَانِيُّ، وَغَيْرُهُ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ سَمَّاهُ مُدَّعِيًا، وَجَعَلَ الرَّهْنَ وَإِرْخَاءَ السُّتُورِ وَالشَّاهِدَ الْحَقِيقِيَّ سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ خَصْمِهِ الْمُتَمَسِّكِ بِالْأَصْلِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْعُرْفِ هَلْ هُوَ شَاهِدٌ أَوْ كَشَاهِدٍ أَنَّ الْبُرْزُلِيَّ الْقَاعِدَةُ إحْلَافُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْعُرْفُ فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ الشَّاهِدِ، وَقِيلَ هُوَ كَالشَّاهِدَيْنِ اهـ. وَقَدْ دَرَجَ خَلِيلٌ فِي مَوَاضِعَ عَلَى أَنَّهُ كَالشَّاهِدِ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي الرَّهْنِ، وَهُوَ كَالشَّاهِدِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ، وَقَدْ عَقَدَ فِي التَّبْصِرَةِ بَابًا فِي رُجْحَانِ قَوْلِ الْمُدَّعِي بِالْعَوَائِدِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَإِلْغَاءِ الْأَصْلِ فِي الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ اهـ فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ لَك الْجَوَابَ الْمُتَقَدِّمَ عَمَّا وَرَدَ عَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
وَيَدُلُّك عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعَارِيفِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَنْقَلِبُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِقِيَامِ سَبَبٍ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ خَصْمِهِ كَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ حَقِيقِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا
فَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمْ الدَّوْرَ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَتْلِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الزِّنَا مَفْسَدَةُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ فَلَا جَرَمَ لَمَّا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ذَهَبَ عَنْهُ النَّهْيُ وَلَمَّا كَانَ عَصِيرًا لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالثَّوَابَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَتْلِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الزِّنَا مَفْسَدَةُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ فَلَا جَرَمَ لَمَّا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ذَهَبَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ عَصِيرًا لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالثَّوَابُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إلَّا أَنَّ الْعُرْفِيَّ لَا يَقْوَى عِنْدَهُمْ قُوَّةَ الْحَقِيقِيِّ فَلَيْسَتْ الْيَمِينُ مَعَهُ تَكْمِلَةً لِلنِّصَابِ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ لِنَفْيِ يَمِينِ الْإِنْكَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ شَاهِدٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ بِدُونِ الْيَمِينِ كَمَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْمُتَيْطِيِّ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَهُوَ كَالشَّاهِدِ إلَخْ فَاعْتِرَاضُ التَّاوَدِيِّ عَلَى الْجَوَابِ السَّابِقِ بِكَوْنِهِ يُؤَدِّي لِنَفْيِ يَمِينِ الْإِنْكَارِ إلَخْ سَاقِطٌ اهـ بِتَوْضِيحِ الْمُرَادِ فَانْهَمْ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْأَصْلُ خُولِفَتْ قَاعِدَةُ الدَّعَاوَى أَيْ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ فِي خَمْسِ مَوَاطِنَ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ:
(أَحَدُهَا) اللِّعَانُ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْفِي عَنْ زَوْجِهِ الْفَوَاحِش فَحَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى رَمْيِهَا بِالْفَاحِشَةِ مَعَ أَيْمَانِهِ أَيْضًا قَدَّمَهُ الشَّرْعُ.
(وَثَانِيهَا) فِي الْقَسَامَةِ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ لِتَرَجُّحِهِ بِاللَّوْثِ.
(وَثَالِثُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْأُمَنَاءِ فِي التَّلَفِ لِئَلَّا يَزْهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِ الْأَمَانَاتِ فَتَفُوتَ مَصَالِحُهَا الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَاتِ، وَالْأَمِينُ قَدْ يَكُونُ أَمِينًا مِنْ جِهَةِ مُسْتَحِقِّ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ وَالْمُتَلَقِّطِ، وَمَنْ أَلْقَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي بَيْتِهِ.
(وَرَابِعُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْحَاكِمِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ لِئَلَّا تَفُوتُ الْمَصَالِحُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى الْوِلَايَةِ لِلْأَحْكَامِ.
(وَخَامِسُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْغَاصِبِ فِي التَّلَفِ مَعَ يَمِينِهِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا يَخْلُدَ فِي الْحَبْسِ اهـ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ لَكِنْ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ فَتَأَمَّلْ عَدَّهُ اللِّعَانَ وَالْقَسَامَةَ وَالْأَمَانَةَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا قُدِّمَ فِيهِ الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا مَرَّ فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ، وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنْ الْأَمِينِ أَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ أَيْ فِي الرَّدِّ وَالتَّلَفِ، وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا الْمِكْنَاسِيُّ فِي مَجَالِسِهِ قَالَ، وَمِنْهَا اللُّصُوصُ إذَا قَدِمُوا بِمَتَاعٍ، وَادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ لَهُ، وَأَنَّهُمْ نَزَعُوهُ مِنْهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَأْخُذُهُ، وَمِنْهَا السِّمْسَارُ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيَّبَ مَا أَعْطَى لَهُ لِلْبَيْعِ، وَكَانَ مَعْلُومًا بِالْعَدَاءِ، وَبِإِنْكَارِ النَّاسِ فَيَصْدُقُ الْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ، وَيَغْرَمُ السِّمْسَارُ، وَمِنْهَا السَّارِقُ إذَا سَرَقَ مَتَاعَ رَجُلٍ، وَانْتَهَبَ مَالَهُ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، وَقَالَ الْمَسْرُوقُ أَنَا أَعْرِفُهُ فَيُصَدَّقُ الْمَسْرُوقُ بِيَمِينِهِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي زَادَهَا لَا تَحْمِلُهَا الْأُصُولُ كَمَا لِأَبِي الْحَسَنِ، وَلَا يُخَالِفُ مَا لِلْمِكْنَاسِيِّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى عَلَى اللُّصُوصِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا قَدِمُوا بِهِ مِنْهُ، وَيَأْخُذُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ الْآتِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُقَدَّمُ فِيهِ النَّادِرُ عَلَى الْغَالِبِ، وَمَا لَا مَا نَصُّهُ: أَخْذُ السُّرَّاقِ الْمَنْهُومِينَ بِالتُّهَمِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ الْيَوْمَ دُونَ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ، وَالْبَيِّنَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهُ لِلصَّوَابِ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ هَذَا الْغَالِبَ صَوْنًا لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ عَنْ الْقَطْعِ اهـ.
فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَلْغَى الشَّارِعُ هَذَا الْغَالِبَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ لَا بِالنِّسْبَةِ لِلْغَرَامَةِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ فَيُوَافِقُ مَا لِلْمِكْنَاسِيِّ، وَلِهَذَا دَرَجَ نَاظِمُ الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ:
لِوَالِدِ الْقَتِيلِ مَعَ يَمِينِ
…
الْقَوْلُ فِي الدَّعْوَى بِلَا تَبْيِينِ
إذَا ادَّعَى دَرَاهِمًا وَأَنْكَرَا
…
الْقَاتِلُونَ مَا ادَّعَاهُ وَطَرَا
فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ الْقَتِيلِ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى كَوْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْرُوفًا بِالْغَصْبِ وَالْعَدَاءِ اُنْظُرْ شَرْحُهُ، وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي الْغَصْبِ وَلَا بُدَّ اهـ.
وَفِي الْغَصْبِ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَ نَاظِمٍ الْعَمَلُ فِي شَرْحِهِ لِلْبَيْتَيْنِ، وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ النَّعِيمِ مَا نَصُّهُ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ
وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ فَيُعَلِّلُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ غَلَطٌ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْعِقَابُ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ نَهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَفْسَدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ فَيُعَلِّلُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ غَلَطٌ) .
قُلْتُ: تَبَعِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْوَاجِبِ مَثَلًا لِمَصْلَحَتِهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مَا شُرِعَ وَتَبَعِيَّةُ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَمْرِ إنَّمَا مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا شَرْعِيَّةُ الْأَمْرِ الْبَاعِثِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا حَصَلَتْ فَالْمَأْمُورُ بِهِ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا وَالْمَصْلَحَةُ تَابِعَةٌ لَهُ وُجُودًا، وَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلثَّانِي مِنْ وَجْهٍ وَيَكُونَ الثَّانِي تَابِعًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَالشَّجَرَةِ وَالثَّمَرَةِ، الشَّجَرَةُ تَابِعَةٌ لِلثَّمَرَةِ أَيْ لَوْلَا الْمَقْصِدُ إلَى تَحْصِيلِ الثَّمَرَةِ مَا زُرِعَتْ الشَّجَرَةُ وَالثَّمَرَةُ تَابِعَةٌ لِلشَّجَرَةِ أَيْ لَوْلَا زَرْعُ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ الثَّمَرَةُ وَعَلَى هَذَيْنِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
النَّازِلَةِ، وَمِثْلُهَا أَنَّ الْقَوْلَ لِوَالِدِ الْقَتِيلِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْ إذَا ادَّعَى دَرَاهِمَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْهُوبِ، وَأَنْكَرَهَا الْقَاتِلُونَ، وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ خِلَافَهُ أَيْ مِنْ الْقَوْلِ لِلْغَاصِبِ فِي الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ كَمَا فِي خَلِيلٍ، وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ جَرَى الْحُكْمُ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَشْهُورِ، وَرَجَّحَهَا الْعُلَمَاءُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ اهـ، وَعَنْ الْعَرَبِيِّ الْفَاسِيِّ فِي تَأْيِيدِهِ سَاقَ بَعْدَهُ كَلَامًا طَوِيلًا فَرَاجِعْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا)
وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى، وَيَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إلَى الْحَاكِمِ هُوَ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ خَمْسَةُ قُيُودٍ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى ثُبُوتِهِ. الْقَيْدُ الثَّانِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ لِلِاجْتِهَادِ وَالتَّحْرِيرِ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ وَمِقْدَارِ مُسَبِّبِهِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ أَخْذُهُ لِفِتْنَةٍ وَشَحْنَاءَ. الْقَيْدُ الرَّابِعُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْأَصْلُ بِمَنْ وَجَدَ عَيْنَ سِلْعَتِهِ الَّتِي اشْتَرَاهَا أَوْ وَرِثَهَا فَأَخَذَهَا أَوْ أَخَذَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَخَافُ مِنْ الْأَخْذِ ضَرَرًا تُسُولِيُّ الْعَاصِمِيَّةِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ فَرْحُونٍ بِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ قَالَ وَمِنْهُ الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا فِي عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَكْمُلُ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ اهـ، وَمَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ إلَّا بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ هُوَ مَا خَلَا عَنْ قَيْدٍ مِنْ الْقُيُودِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) مَا اخْتَلَفَ فِي كَوْنِهِ ثَابِتًا أَمْ لَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ بِثُبُوتِهِ لَعَمَّ افْتِقَارُ هَذَا النَّوْعِ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَالْكَثِيرُ مِنْ مَسَائِلِهِ لَا يَفْتَقِرُ لِلْحَاكِمِ مِنْهَا مَنْ وُهِبَ لَهُ مُشَاعٌ فِي عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ اشْتَرَى مَبِيعًا عَلَى الصِّفَةِ أَوْ أَسْلَمَ فِي حَيَوَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ الْمُعْتَقِدَ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ، وَالْمُفْتَقِرُ مِنْ مَسَائِلِهِ لِلْحَاكِمِ قَلِيلٌ مِنْهَا اسْتِحْقَاقُ الْغُرَمَاءِ لِرَدِّ عِتْقِ الْمِدْيَانِ، وَتَبَرُّعَاتِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه لَا يُثْبِتُ لَهُمْ حَقًا فِي ذَلِكَ وَمَالِكٌ رضي الله عنه يُثْبِتُ فَيَحْتَاجُ لِقَضَاءِ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَفْتَقِرُ مِنْ مَسَائِلِهِ لِلْحَاكِمِ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ مِنْهَا لَهُ عُسْرٌ
(النَّوْعُ الثَّانِي) مَا يَحْتَاجُ لِلِاجْتِهَادِ وَالتَّحْرِيرِ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ وَمِقْدَارِ مُسَبِّبِهِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الطَّلَاقُ بِالْإِعْسَارِ، وَالطَّلَاقُ بِالْإِضْرَارِ، وَالطَّلَاقُ عَلَى الْمُولِي، وَعَلَى نَحْوِ الْغَالِبِ وَالْمُعْتَرِضِ قَالَ الْأَصْلُ فَإِنَّ فِي الطَّلَاقِ عَلَى الْمُولِي تَحْرِيرَ عَدَمِ فَيْئَتِهِ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ مَعَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَنْعِهِ تَحْرِيرَ إعْسَارِهِ، وَتَقْدِيرَهُ، وَمَا مِقْدَارُ الْإِعْسَارِ الَّذِي يُطْلَقُ بِهِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَعِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله لَا يُطْلَقُ بِالْعَجْزِ عَنْ أَصْلِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ اللَّتَيْنِ تُفْرَضَانِ بَلْ بِالْعَجْزِ عَنْ الضَّرُورِيِّ الْمُقِيمِ لِلْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَفْرِضُهُ ابْتِدَاءً اهـ.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقِ الْإِعْسَارِ، وَهَلْ هُوَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ أَمْ لَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ فَقِيرًا عَلِمَتْ بِفَقْرِهِ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْقِيقُ حَالِهِ، وَهَلْ هُوَ مِمَّا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ تَحْقِيقُ صُورَةِ الْإِضْرَارِ، وَكَذَلِكَ يَمِينُ الْمُولِي يُنْظَرُ هَلْ هِيَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَهِيَ مُرْضِعٌ خَوْفًا عَلَى، وَلَدِهِ فَيُنْظَرُ فِيمَا ادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِضْرَارَ طَلُقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْغَائِبِ، وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْمُفْتَرِضِ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ مَا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الْحَقَّ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ خَالِصًا فَإِنْقَاذُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا مَعَ إبَاحَةِ الْحَاكِمِ لَهَا ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لِلْقَائِمَةِ عِنْدَهُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ بَعْدَ كَمَالِ نَظَرِهِ بِمَا يَجِبُ إنْ شِئْت أَنْ تُطَلِّقِي نَفْسَك
وَأَمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَشَرَةُ أَقْسَامٍ (أَحَدُهَا) مَا لَمْ نُؤْمَرْ بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
التَّقْرِيرَيْنِ يَبْطُلُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الدَّوْرِ وَيَصِحُّ مَا قَالَهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ تَابِعَةٌ وُجُودَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ تَابِعٌ وُجُوبًا لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمُوجِبُ لِتَوَهُّمِهِ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ إنَّمَا هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ تَغَايُرِ جِهَتَيْ التَّبَعِيَّةِ، وَقَدْ انْزَاحَ الْإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ وَالْإِفْضَالِ.
قَالَ (وَأَمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ نُؤْمَرُ بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ) .
قُلْتُ كَلَامُهُ هَذَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِأَنَّ هُنَاكَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّنْعَةُ لَكِنَّا لَا نَعْلَمُهَا فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا نَعْلَمُهَا لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ إذْ مَسَاقُهُ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِثُبُوتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّا لَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَإِنْ شِئْت التَّرَبُّصَ عَلَيْهِ فَإِنْ طَلُقَتْ أَشْهَدَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَحُجَّةُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ حَدِيثُ بَرِيرَةَ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنْتِ أَمْلَكُ بِنَفْسِك إنْ شِئْت أَقَمْت مَعَ زَوْجِك، وَإِنْ شِئْت فَارَقْتِيهِ» ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي امْرَأَةِ الْمُعْتَرِضِ تَقُولُ لَا تُطَلِّقُونِي، وَأَنَا أَصْبِرُ إلَى أَجَلٍ آخَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهَا ثُمَّ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَحْلِفُ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ أَنَّهُ يُوقَفُ عَنْ امْرَأَتِهِ فَإِذَا جَاءَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قِيلَ لَهُ فَيْءٌ، وَإِلَّا طَلَّقْنَا عَلَيْك فَتَقُولُ امْرَأَتُهُ أَنَا أُنْظِرُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَذَلِكَ لَهَا ثُمَّ تَطْلُقُ مَتَى شَاءَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ سُلْطَانٍ اهـ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا، وَلَا اعْتِرَاضَ بِمَا فِي السُّؤَالِ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ لَا تُطَلِّقُونِي لِأَنَّهَا جَهِلَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا، وَلِأَنَّهُ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُطَلِّقَةُ بَعْدَ التَّأْخِيرِ فَكَذَلِكَ تَكُونُ هِيَ الْمُطَلِّقَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إنْ أَحَبَّتْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا اعْتِرَاضَ بِقَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُولِي، وَإِلَّا طَلَّقْنَا عَلَيْك لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّا نَجْعَلُ ذَلِكَ إلَى الْمَرْأَةِ فَتُنَفِّذُ هِيَ طَلَاقَهَا إنْ شَاءَتْ، وَطَلَاقُ الْمُولِي عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ تُوقِعُهُ الْمَرْأَةُ، وَهُوَ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقِسْمٌ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ.
وَهُوَ إذَا قَالَ لَهَا إنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفِيهَا أَقْوَالٌ (أَحَدُهَا) أَنَّهُ مُولٍ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ وَطْئِهَا لِأَنَّ بَاقِيَ وَطْئِهِ بَعْدَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ حَرَامٌ فَإِذَا رَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنَجِّزُ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ وَرَضِيَتْ بِالْمَقَامِ بِلَا وَطْءٍ فَلَهَا ذَلِكَ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ سَمِعْت أَبَا مَرْوَانَ بْنَ مَالِكٍ الْقُرْطُبِيَّ يَسْتَحْسِنُ إيرَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الشَّيْخِ ابْنِ عَتَّابٍ وَيَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ لَعُدَّتْ مِنْ فَضَائِلِهِ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ، وَفِي سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ قَالَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ فَمَا طَلَّقَتْ بِهِ نَفْسَهَا جَازَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَجْزُومُ فَلَا خِيَارَ لَهَا حَتَّى تَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ ثُمَّ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهَا أَمْرَهَا تَطْلُقُ مَتَى شَاءَتْ، وَلَكِنْ عَلَى السُّلْطَانِ إذَا كَرِهَتْهُ، وَأَرَادَتْ فِرَاقَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِوَاحِدَةٍ إذَا يَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ إلَّا أَنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلَ سَنَةٍ كَانَ مُوَسْوِسًا أَوْ يَغِيبُ مَرَّةً، وَيُفِيقُ أُخْرَى، وَهَذَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ مِنْ تَقْسِيمِ الطَّلَاقِ الْمَحْكُومِ بِهِ إلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ تُوَقِّعُ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً دُونَ الْحَاكِمِ، وَقِسْمٌ يُنَفِّذُهُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَرِهَتْ إيقَاعَهُ كَزَوَاجِهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَتَزْوِيجِهَا مِمَّنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ، وَنِكَاحِهَا لِلْفَاسِقِ، وَمَنْ تَزَوَّجَتْ مَعَ وُجُودِ وَلَدِهَا، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ وَلِيُّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ وَأَنْوَاعِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ بَابٌ يَطُولُ تَعَدُّدُهُ اهـ كَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا تَفْلِيسُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، وَكَذَا بَيْعٌ أَعْتَقَهُ الْمِدْيَانُ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ، وَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَالِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ، وَكَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَفُتْ الْمَقْصُودُ فَإِذَا رَفَعَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ نَظَرَ فِي ذَلِكَ فَيَفْسَخُهُ عَنْهُ إنْ كَانَ فِي الصَّبْرِ مَضَرَّةٌ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِغَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ كِتَابِ قَيْدِ الْمُشْكِلِ وَحَلِّ الْمُعْضَلِ لِابْنِ يَاسِين، وَمِنْهَا مَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَّا بِالْحُكْمِ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِتْقِ، وَحَقِّ السَّيِّدِ فِي الْمِلْكِ، وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي تَخْلِيصِ الْكَسْبِ، وَأَيْضًا لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِي التَّكْمِيلِ عَلَيْهِ (وَمِنْهَا) تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحُكْمِ فَلَوْ رَضِيَ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ، هُوَ وَسَيِّدُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ (وَمِنْهَا) مَا إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا
وَقِسْمٌ) أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ، وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
نَعْلَمَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا صِفَةَ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ هُنَاكَ صِفَاتٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَكْلِيفَ بِإِزَالَةِ هَذَا الْجَهْلِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِبَقَائِهِ كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ لَا أَسْتَطِيعُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْكَ لِلْقَوَاطِعِ عَنْ ذَلِكَ كَالنَّوْمِ وَشَبَهِهِ، وَلَا فِي كَلَامِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ: الْعَجْزُ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اطِّلَاعٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ وَالْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، وَصَحِيحُ الْإِيقَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَقِسْمٌ أَجْمَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ، وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَعِتْقُهُ عَلَيْهِ يَفْتَقِرُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ ثَمَّ جِنَايَةٌ تَقْتَضِي مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ أَمْ لَا، وَيَحْتَاجُ بَعْدَ وُقُوعِ الضَّرْبِ مِنْ السَّيِّدِ إلَى تَحْقِيقِ كَوْنِ ذَلِكَ الضَّرْبِ مُبَرِّحًا بِذَلِكَ الْعَبْدِ، وَهَلْ السَّيِّدُ عَاصٍ بِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَلِفَ
عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعِتْقِ أَوْ لَيْسَ عَاصِيًا فَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ اهـ (وَمِنْهَا) كَمَا فِي الْأَصْلِ تَقْدِيرُ النَّفَقَاتِ لِلزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ) مَا يُؤَدِّي أَخْذُهُ لِلْفِتْنَةِ وَالشَّحْنَاءِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَقَادِيرُهَا مَعْلُومَةً لِأَنَّ تَفْوِيضَهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْقَتْلِ وَفَسَادِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ قَالَ وَمِنْهَا قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمَقَادِيرِ وَأَسْبَابِ الِاسْتِحْقَاقَاتِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْحَاكِمِ إذْ لَوْ فُوِّضَتْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَدَخَلَهُمْ الطَّمَعُ، وَأَحَبَّ كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مَا يَطْلُبُهُ غَيْرُهُ فَيُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ، وَمِنْهَا جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ، وَأَخْذُ الْخُرَاجَاتِ مِنْ أَرَاضِي الْعَنْوَةِ، وَلَوْ جُعِلَتْ لِلْعَامَّةِ لَفَسَدَ الْحَالُ اهـ، وَمِنْهَا كَمَا فِي الْأَصْلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ إذْ لَوْ لَمْ يُرْفَعْ لِلْأَئِمَّةِ لَأَدَّى بِسَبَبِ تَنَاوُلِهِ تَمَانُعٌ وَقَتْلٌ وَفِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ التَّعْزِيرُ، وَفِيهِ أَيْضًا الْحَاجَةُ لِلِاجْتِهَادِ فِي تَحْرِيرِ مِقْدَارِ الْجِنَايَةِ، وَحَالُ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ) مَا يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ كَمَنْ ظَفِرَ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ الْمُشْتَرَاةِ أَوْ الْمَوْرُوثَةِ، وَخَافَ مِنْ أَخْذِهَا بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى السَّرِقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا إلَّا بَعْدَ رَفْعِهَا لِلْحَاكِمِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ.
(النَّوْعُ الْخَامِسُ) مَا يُؤَدِّي إلَى خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا إذَا أَوْدَعَ عِنْدَك مَنْ لَك عَلَيْهِ حَقٌّ، وَعَجَزْتَ عَنْ أَخْذِهِ مِنْهُ لِعَدَمِ اعْتِرَافِهِ أَوْ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَفِي مَنْعِ جَحْدِ وَدِيعَتِهِ إذَا كَانَتْ قَدْرَ حَقِّك مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ عليه السلام «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» ، وَهُوَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِجَازَتِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدَ ابْنَةِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا شَكَتْ إلَيْهِ أَنَّهُ بَخِيلٌ لَا يُعْطِيهَا وَوَلَدَهَا مَا يَكْفِيهِمَا فَقَالَ لَهَا عليه السلام «خُذِي لَك، وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ» بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فُتْيَا، وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ مِنْهُ عليه السلام فَيَصِحُّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ قَوْلَانِ ثَالِثُهَا لِبَعْضِهِمْ الْجِوَازُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّك.
وَالْمَنْعُ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ هَذَا تَوْضِيحُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ بِزِيَادَةٍ مِنْ تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ (وَبَقِيَ مَا اُخْتُلِفَ) فِي كَوْنِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْحَاكِمِ أَوْ لَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ (وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ) قَبْضُ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَائِبًا أَيْ فِي افْتِقَارِهِ إلَى الْحَاكِمِ، وَعَدَمِ افْتِقَارِهِ خِلَافٌ (وَمِنْهَا) مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قَالَ ابْنُ يُونُسَ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ بَاقِيَهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ التَّقْوِيمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَفْتَقِرُ عِتْقُ بَاقِيهِ إلَى الْحَاكِمِ (وَمِنْهَا) عِتْقُ الْقَرِيبِ إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ الْمَلِيءُ الْمَشْهُورُ عَدَمُ افْتِقَارِهِ لِلْحُكْمِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ (وَمِنْهَا) الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه لَا يُعْتَقُ إلَّا بِالْحُكْمِ، وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَفْتَقِرُ (وَمِنْهَا) فَسْخُ الْبَيْعِ بَعْدَ تَخَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ (وَمِنْهَا) فَسْخُ النِّكَاحِ بَعْدَ التَّخَالُفِ فِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا.
(وَمِنْهَا) الْيَتِيمُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِوَصِيٍّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ هَلْ يَكْفِي إطْلَاقُهُ لِلْيَتِيمِ مِنْ الْحَجْرِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ إطْلَاقُ الْوَصِيِّ لَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِيهِ خِلَافٌ (وَمِنْهَا) وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ