الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا عَدَمَهُ كَمَا لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - حُكْمًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ فَلَمْ يُوجَدْ اللِّوَاطُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَوُجِدَ فِي زَمَنِنَا اللِّوَاطُ فَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ لَمْ نَكُنْ مُجَدِّدِينَ لِشَرْعٍ بَلْ مُتَّبِعِينَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ نَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ أَوْ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَا فِي زَمَانِنَا مِنْ الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَإِحْنَاءِ الرَّأْسِ لَهُ إنْ عَظُمَ قَدْرُهُ جِدًّا وَالْمُخَاطَبَةُ بِجَمَالِ الدِّينِ وَنُورِ الدِّينِ وَعِزِّ الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّعُوتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُكَاتَبَاتِ بِالنُّعُوتِ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِهِ وَتَسْطِيرِ اسْمِ الْإِنْسَانِ بِالْمَمْلُوكِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِالْمَجْلِسِ الْعَالِي وَالسَّامِي وَالْجَنَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْمُكَاتَبَاتِ الْعَادِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ تَرْتِيبُ النَّاسِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي ذَلِكَ، وَأَنْوَاعُ الْمُخَاطَبَاتِ لِلْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَأُولِي الرِّفْعَةِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعُظَمَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَمْ تَكُنْ فِي السَّلَفِ.
وَنَحْنُ الْيَوْمَ نَفْعَلُهُ فِي الْمُكَارَمَاتِ وَالْمُوَلَّاةِ، وَهُوَ جَائِزٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِدْعَةً وَلَقَدْ حَضَرْت يَوْمًا عِنْدَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَأُولِي الْجِدِّ فِي الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالثَّبَاتِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالْمُلُوكِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَقَدِمَتْ إلَيْهِ فُتْيَا فِيهَا: مَا تَقُولُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ - فِي الْقِيَامِ الَّذِي أَحْدَثَهُ أَهْلُ زَمَانِنَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا يَجُوزُ وَيَحْرُمُ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْفُتْيَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَتَرْكُ الْقِيَامِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يُفْضِي لِلْمُقَاطَعَةِ وَالْمُدَابَرَةِ فَلَوْ قِيلَ: بِوُجُوبِهِ مَا كَانَ بَعِيدًا هَذَا نَصُّ مَا كُتِبَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ فَقَرَأْتهَا بَعْدَ كِتَابَتِهَا فَوَجَدْتهَا هَكَذَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقَضِيَّةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ أَيْ يُحْدِثُوا أَسْبَابًا يَقْتَضِي الشَّرْعُ فِيهَا أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ عَدَمِ سَبَبِهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا؛ لِأَنَّهَا شَرْعٌ مُتَجَدِّدٌ كَذَلِكَ هَا هُنَا فَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ يَجْرِي هَذَا الْقِسْمُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبِيحَ مُحَرَّمًا، وَلَا يَتْرُكَ وَاجِبًا فَلَوْ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَرْضَى مِنْهُ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي لَمْ يَحِلَّ لَنَا أَنْ نُوَادَّهُ بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ، وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْمُتَجَدِّدَةُ كَانَتْ مَكْرُوهَةً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ فَلَمَّا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
تَأْتِ لَائِمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ، وَلَا مَحْمَدَةٌ لِمُحْسِنٍ وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْ الْمُسِيءِ، وَلَا الْمُسِيءُ أَوْلَى بِالذَّمِّ مِنْ الْمُحْسِنِ تِلْكَ مَقَالَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَجُنُودِ الشَّيْطَانِ وَشُهُودِ الزُّورِ وَأَهْلِ الْعَمَى عَنْ الصَّوَابِ وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا إنَّ اللَّهَ أَمَرَ تَخْيِيرًا وَنَهَى تَحْذِيرًا وَكَلَّفَ يَسِيرًا لَمْ يُعْصَ مَغْلُوبًا وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِهًا. وَلَمْ يُرْسِلْ الرُّسُلَ إلَى خَلْقِهِ عَبَثًا، وَلَمْ يَخْلُقْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] فَقَالَ الشَّيْخُ: وَمَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ اللَّذَانِ مَا سِرْنَا إلَّا بِهِمَا قَالَ هُوَ الْأَمْرُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُكْمُ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] اهـ أَفَادَهُ الْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ قُلْت: وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا لِلْأَصْلِ مِنْ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ غَيْرُ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ لِلْمَقْضِيِّ، وَأَنَّ اعْتِقَادَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى لِلْمَقْضِيِّ نَعَمْ لَا يَظْهَرُ قَوْلُهُمْ: إنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلِيَاءِ إلَخْ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا تَنْظُرْ لِمَنْ قَالَ، بَلْ لِمَا قَالَ كَمَا هُوَ دَأْبُ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي الْكَمَالِ
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ]
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ وَقَاعِدَةِ الْمَثُوبَاتِ) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ أَنَّ لِلْمَثُوبَاتِ شَرْطَيْنِ:(الْأَوَّلُ) أَنْ تَكُونَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَمَقْدُورِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: - {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَحَصَرَ مَالَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ وقَوْله تَعَالَى: - {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] فَحَصَرَ الْجَزَاءَ فِيمَا هُوَ مَعْمُولٌ لَنَا وَمَقْدُورٌ
(وَالشَّرْطُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكْتَسَبُ مَأْمُورًا بِهِ فَلَا ثَوَابَ فِيمَا لَا أَمْرَ فِيهِ كَالْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَكَأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ فَإِنَّهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ بِهَا لَا ثَوَابَ لَهَا فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُكْتَسَبَةً مُرَادُهُ لَهَا وَاقِعَةٌ بِاخْتِيَارِهَا، وَكَالْمَوْتَى يَسْمَعُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمَوَاعِظَ وَالْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ؛ إذْ لَا ثَوَابَ لَهُمْ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَأْمُورِينَ، وَلَا مَنْهِيِّينَ، وَأَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ لِأَنَّهَا إمَّا مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ فَتَكُونُ مُكْتَسَبَةً مَقْدُورَةً قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: - {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ التَّوْبَةِ وَالْعُقُوبَاتِ فَتُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ وَتَمْحُو آثَارَهَا، وَإِمَّا مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الْمُؤْلِمَاتِ فَتُكَفِّرُ الذُّنُوبَ جَزْمًا سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِهَا السَّخَطُ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَا التَّأَلُّمِ مِنْ الْمَقْضِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوْ اقْتَرَنَ بِهَا الصَّبْرُ وَالرِّضَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولِ الْمَثُوبَاتِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَقَالَ - تَعَالَى - {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُصِيبُ
تَجَدَّدَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ صَارَ تَرْكُهَا يُوجِبُ الْمُقَاطَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمَكْرُوهُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ وَالْتُزِمَ دَفْعُهُ وَحَسْمُ مَادَّتِهِ، وَإِنْ وَقَعَ الْمُكْرَهُ هَذَا هُوَ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا التَّعَارُضُ مَا وَقَعَ إلَّا فِي زَمَانِنَا فَاخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ إمَّا مُحَرَّمٌ فَلَا تَجُوزُ الْمُوَادَّةُ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَعَارُضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَرَّمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ قُلْت: فَيَنْقَسِمُ الْقِيَامُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مُحَرَّمٌ إنْ فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّهُ تَجَبُّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَمَكْرُوهٌ إذَا فُعِلَ تَعْظِيمًا لِمَنْ لَا يُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْجَبَابِرَةِ وَيُوقِعُ فَسَادَ قَلْبِ الَّذِي يُقَامُ لَهُ، وَمُبَاحٌ إذَا فُعِلَ إجْلَالًا لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ، وَمَنْدُوبٌ لِلْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَوْ يَشْكُرَ إحْسَانَهُ أَوْ الْقَادِمِ الْمُصَابِ لِيُعَزِّيَهُ بِمُصِيبَتِهِ؛ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ عليه السلام «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ أَوْ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَبَيَّنَ قِيَامَهُ عليه السلام لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، وَقِيَامِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ لِيُهَنِّئَهُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ بِحُضُورِهِ عليه السلام وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ عليه السلام عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: لَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ «وَكَانَ عليه السلام يَكْرَهُ أَنْ يُقَامَ لَهُ» فَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إجْلَالًا لِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ وَإِذَا قَامَ إلَى بَيْتِهِ لَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَعْظِيمِهِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَقَالَ عليه السلام لِلْأَنْصَارِ «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» قِيلَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَهُوَ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: لِيُعِينُوهُ عَلَى النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ قُلْت: وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ مَحَبَّةِ الْقِيَامِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَمَّا مَنْ أَرَادَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقِيصَةِ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَحَبَّةَ دَفْعِ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ مَأْذُونٌ فِيهَا بِخِلَافِ التَّكَبُّرِ، وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ تَجَبُّرًا أَيْضًا لَا يُنْهَى عَنْ الْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ لِذَلِكَ الطَّبِيعِيِّ بَلْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَقُومُوا وَمُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الْجِبِلِّيَّةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْمُوَادَّةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوعِ
وَهَا هُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
الْمُصَافَحَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إذَا تَلَاقَى الرَّجُلَانِ فَتَصَافَحَا تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا، وَكَانَ أَقْرَبُهُمَا إلَى اللَّهِ أَكْثَرَهُمَا بِشْرًا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الزَّمَانِ مِنْ الْمُصَافَحَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَنْهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُهُ عَلَى فَاعِلِهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا ذُنُوبَهُ» خِلَافًا لِمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ وَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا صَبَرَ لَيْسَ إلَّا فَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ اجْتَمَعَ لَهُ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ.
وَإِنْ تَسَخَّطَ فَقَدْ يَعُودُ الَّذِي تَكَفَّرَ بِالْمُصِيبَةِ بِمَا جَنَاهُ مِنْ السَّخَطِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَقَوْلُهُ: عليه السلام فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «لَا يَمُوتُ لِأَحَدِكُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ إلَّا كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ وَخِلْته لَوْ قُلْت لَهُ: وَوَاحِدٌ لَقَالَ: وَوَاحِدٌ» مَعْنَاهُ أَنَّ مُصِيبَةَ فَقْدِ الْوَلَدِ تُكَفِّرُ ذُنُوبًا كَانَ شَأْنَهَا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا النَّارَ فَلَمَّا كَفَّرَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ بَطَلَ دُخُولُ النَّارِ بِسَبَبِهَا فَصَارَتْ الْمُصِيبَةُ كَالْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ إنَّ تَكْفِيرَ مَوْتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْآلَامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ فَإِنْ كَثُرَ كَثُرَ التَّكْفِيرُ، وَإِنْ قَلَّ قَلَّ التَّكْفِيرُ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ التَّكْفِيرُ عَلَى قَدْرِ نَفَاسَةِ الْوَلَدِ فِي صِفَاتِهِ أَوْ نَفَاسَتِهِ فِي بِرِّهِ وَأَحْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَكْرُوهًا يُسَرُّ بِفَقْدِهِ فَلَا كَفَّارَةَ بِفَقْدِهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عليه السلام التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ، قَالَ: فَظَهَرَ بِهَذِهِ التَّقَارِيرِ وَالْمَبَاحِثِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَأَسْبَابِ الْمَثُوبَاتِ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمُصَابٍ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: جَعَلَ اللَّهُ لَك هَذِهِ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ قَطْعًا، وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي الْأَدْعِيَةِ بَلْ يُقَالُ: اللَّهُمَّ عَظِّمْ لَهُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ طَلَبُهُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الطَّرِيقَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَحُصُولَ الْمَثُوبَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِهَا كَوْنُهَا مُكْتَسَبَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُكَفِّرَاتِ بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنْهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ سَبَبُهُ غَيْرَ مُكْتَسَبٍ، وَلَا مَقْدُورٍ، وَمِنْ ذَلِكَ الْآلَامُ وَجَمِيعُ الْمَصَائِبِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ دَلَائِلُ.
وَظَوَاهِرُ الشَّرْعِ مُتَظَاهِرَةٌ يُعَضِّدُهَا قَاعِدَةُ رُجْحَانِ جَانِبِ الْحَسَنَاتِ الْمَقْطُوعِ بِهَا اهـ وَقَدْ نَقَلَ الْعَلَّامَةُ الْجَمَلُ عَلَى الْجَلَالَيْنِ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْكَرْخِيِّ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِعَمَلِ آبَائِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21]
وَيَقُولُ: إنَّمَا شُرِعَتْ الْمُصَافَحَةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَمَّا مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَ الْإِنْسَانِ فَلَا يُصَافِحُهُ وَرَأَيْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: رُوِيَ فِي مُصَافَحَةِ مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَك فِي حَدِيثٍ.
وَلَا أَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ، وَلَا صِحَّةَ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ حُجَّةُ الْكَرَاهَةِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إبْرَاهِيمَ عليه السلام {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [الذاريات: 25] قَالَ مَالِكٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَافَحَةَ وَلِأَنَّ السَّلَامَ يُنْتَهَى فِيهِ لِلْبَرَكَاتِ، وَلَا يُزَادُ فِيهِ قَوْلٌ، وَلَا فِعْلٌ حُجَّةُ الْمَشْهُورِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ عليه السلام «تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ»
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : الْمُعَانَقَةُ كَرِهَهَا مَالِكٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَعَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِهِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: وَلِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْفِرُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِوَدَاعٍ مِنْ فَرْطِ أَلَمِ الشَّوْقِ أَوْ مَعَ الْأَهْلِ وَدَخَلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى مَالِكٍ فَصَافَحَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ الْمُعَانَقَةَ بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُك فَقَالَ سُفْيَانُ: عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْك، النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ بِجَعْفَرٍ، قَالَ سُفْيَانُ: بَلْ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِك، قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِنَا خَلْقًا وَخُلُقًا يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت، وَأَنَا أَمْشِي فِي بَعْضِ أَزِقَّتِهَا إذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بُرُّهَا فَأَقْبَلَتْ تَجْمَعُهُ مِنْ التُّرَابِ، وَهِيَ تَقُولُ: وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ إذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ عليه السلام لَا يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا تَأْخُذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ» ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ قَدْ قَدِمْت لِأُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَشِّرَك بِرُؤْيَا رَأَيْتهَا فَقَالَ مَالِكٌ: رَأَتْ عَيْنَاك خَيْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فَقَالَ سُفْيَانُ: رَأَيْت كَأَنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْشَقَّ فَأَقْبَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالنَّبِيُّ عليه السلام يَرُدُّ بِأَحْسَنَ رَدٍّ قَالَ سُفْيَانُ فَإِنَّنِي بِك - وَاَللَّهِ أَعْرِفُك فِي مَنَامِي كَمَا أَعْرِفُك فِي يَقَظَتِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إلَخْ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْغُلَامَيْنِ الْيَتِيمَيْنِ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] فَانْتَفَعَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَيْسَ مِنْ سَعْيِهِمَا وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وَقَالَ - تَعَالَى - {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] وَقَالَ - تَعَالَى - {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة: 251] فَقَدْ رَفَعَ - تَعَالَى - الْعَذَابَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ بِسَبَبِ بَعْضٍ وَذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي الْحِسَابِ ثُمَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي دُخُولِهَا ثُمَّ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ» وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِسَعْيِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ.
وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ بِمَحْضِ رَحْمَتِهِ، وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِغَيْرِ عَمَلِهِمْ.
وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدِينِ حَتَّى قَضَى دَيْنَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَقَضَى دَيْنَ الْآخَرِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَانْتَفَعَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» فَقَدْ حَصَلَ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ تَأَمَّلَ الْعِلْمَ وَجَدَ مِنْ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَمْ يَعْمَلْهُ مَا لَا يَكَادُ يُحْصَى فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِعَمَلِهِ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا اهـ وَمِثْلُهُ لِلْكَرْخِيِّ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَالْخُصُوصِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَزِيَادَةِ النَّعِيمِ فَلَا يُسَمَّى ثَوَابًا، وَلَا أَجْرًا وَلَا جَزَاءً فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِالْإِعْطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَالْأَمْرُ فِيمَا يَقُولُهُ قَرِيبٌ؛ إذْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْ الشِّهَابِ الْقَرَافِيِّ الْآيَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ كُلِّهَا مَعَ الْخِلَافِ فِي الْبَدَنِيَّةِ كُلِّهَا، أَوْ مَا عَدَا الصَّلَاةَ مِنْهَا. اهـ.
فَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ عَلَى عَبْدِ الْبَاقِي عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ نَقَلَ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَمَا تَطَوَّعَ وَلِيُّهُ عَنْهُ مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ إهْدَاءِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ قَالَ: وَجُلُّهُمْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ، وَلَا شَيْءٌ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ اُنْظُرْهُ.
وَقَدْ اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ ابْنُ زِكْرِيٍّ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهَا «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي قَالَ مَا شِئْت قُلْت: الرُّبْعَ قَالَ مَا شِئْت، وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك
فَسَلَّمْتَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْك السَّلَامَ ثُمَّ رَمَى فِي حِجْرِك بِخَاتَمٍ نَزَعَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَعْطَاك رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَكَى مَالِكٌ بُكَاءً شَدِيدًا قَالَ سُفْيَانُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالُوا لَهُ أَخَارِجٌ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ فَوَدَّعَهُ مَالِكٌ وَخَرَجَ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ الْمُعَانَقَةَ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَأَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يَعْتَقِدُ عُمُومَ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَأَنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُهَا
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
تَقْبِيلُ الْيَدِ قَالَ مَالِكٌ: إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُقَبِّلَهُ ابْنَتُهُ وَأُخْتُهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ خَدَّ ابْنَتِهِ وَكُرِهَ أَنْ تُقَبِّلَهُ خَتَنَتُهُ وَمُعْتَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ أَبِيهِ، وَلَا يُقَبِّلُ خَدَّ أَبِيهِ أَوْ عَمَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ الْمَاضِينَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ «سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ التِّسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَى السُّلْطَانِ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلَا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ الْيَهُودُ أَنْ لَا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ فَقَامُوا فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتْبَعُونِي قَالُوا: إنَّ دَاوُد عليه السلام دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إنْ اتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَتَقْبِيلُ الْيَهُودِ لِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ عليه السلام وَلَمْ يُنْكِرْهُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبَّلَ سَالِمًا وَقَالَ شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخًا إنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ «وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ «وَقَبَّلَ عليه السلام جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ» .
قَالَ وَأَمَّا الْقُبْلَةُ فِي الْفَمِ مِنْ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ فَلَا رُخْصَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ قُلْت: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَاشَوْنَ تَقْبِيلَ أَوْلَادِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَيُقَبِّلُونَهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَرَّمَ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْمَحَارِمِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ أَنْ يَجِدَ لَذَّةً بِالْقُبْلَةِ فَمَنْ كَانَ يَجِدُ لَذَّةً بِهَا امْتَنَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَمَنْ كَانَ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْخَدُّ وَالْفَمُ وَالرَّأْسُ وَالْعُنُقُ وَجَمِيعُ الْجَسَدِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْجَبْرِ وَالْحَنَانِ فَهَذَا هُوَ الْمُبَاحُ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا قُلْت: وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَقَدْ رَأَيْت
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قُلْت النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْت، وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قَالَ: أَجْعَلُ صَلَاتِي كُلَّهَا لَك قَالَ قَالَ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك» اهـ بِلَفْظِهِ، وَفِي حَاشِيَةِ كَنُونٍ أَنَّ الشَّيْخَ الطَّيِّبَ بْنَ كَيْرَانِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ قَوْلُهُ: أُكْثِرُ الصَّلَاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي مَعْنَاهُ أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي صَلَاةً عَلَيْك اهـ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ لَقِيلَ: فَكَمْ أَصْرِفُ لَك مِنْ وَقْتِ دُعَائِي مَثَلًا، وَيُؤَيِّدُ إرَادَةَ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ مَا فِي الْمَعْهُودِ لِلشُّهُودِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَتَفْسِيرُ الْمُنْذِرِيِّ الْمُتَقَدِّمُ ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْمَوَاهِبِ الشَّاذِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ فَذَكَرَ رُؤْيَاهُ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَقَالَ عَقِبَهَا: انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ قَالَ أَبُو الْمَوَاهِبِ التُّونُسِيُّ قَالَ لِي الْمُصْطَفَى فِي مَبْشَرَةٍ: أَنْتَ تَشْفَعُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ قُلْت: بِمَ نِلْت هَذَا قَالَ بِإِعْطَائِك لِي ثَوَابَ صَلَاتِك عَلَيَّ وَحَجَّ ابْنُ الْمُوَفَّقِ حِجَجًا فَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمُصْطَفَى فَرَآهُ يَقُولُ لَهُ: هَذِهِ يَدٌ لَك عِنْدِي أُكَافِئُك بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخُذُ بِيَدِك فَأُدْخِلُك الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ سُوءَ الْأَدَبِ كَمَا زَعَمُوا.
وَمِنْهُمْ سَيِّدِي زَرُّوقٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِهْدَاءِ لِلْعُظَمَاءِ إجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ لَا أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ لِمَا يُهْدَى لَهُمْ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى قَدْرِ مُهْدِيهَا لَا الْمُهْدَى إلَيْهِ، وَالْأَعْمَالُ أَنْفَسُ مَا عِنْدَ الْمُهْدِي، وَهِيَ جَهْدُ مُقِلٍّ فَلَا مَحْذُورَ فِي إهْدَائِهَا مَعَ رُؤْيَةِ قُصُورِهَا وَعَدَمِ أَهْلِيَّتِهَا نَعَمْ إنْ اسْتَعْظَمَ مَا أَهْدَى فَسُوءُ أَدَبٍ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ سَيِّدِي زَرُّوقٍ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ وَأَصْلُهُ لِجَسُّوسٍ وَزَادَ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ أَعْمَالَهُ هَدِيَّةً لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ يَجْعَلُ وِرْدًا لِجَمِيعِهِمْ أَوْ لِلْجِهَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَآبٌ حَسَنُ النِّيَّةِ وَالتَّقَرُّبِ لِجَانِبِهِ الْكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ فِي عُدَّةِ الْمُرِيدِ بَعْدَ نَقْلِ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ إلَّا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَإِكْرَامِ قَرَابَتِهِ وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ أَعْمَالِنَا وَإِنِّي لَأَرَى ذَلِكَ إسَاءَةَ أَدَبٍ مَعَهُ لِمُقَابَلَتِهِ بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَقْبُولًا فَكَيْفَ الِاعْتِدَادُ بِثَوَابِهِ اهـ فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِهْدَاءِ لِلْعُظَمَاءِ إجْلَالُهُمْ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِكْرِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِهِ لِصَلَاةِ الْقُطْبِ مَوْلَانَا عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ مُشَيْشٍ نَفَعَنَا اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ آمِينَ. اهـ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ زِكْرِيٍّ رحمه الله جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: صَلَاةٌ تَلِيقُ بِك مِنْك إلَيْهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ إلَّا أَنَّ عِبَارَتَهُ كَلَامُ الْعُهُودِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ
بَعْضَ النَّاسِ يَجِدُ اللَّذَّةَ مِنْ تَقْبِيلِ وَلَدِهِ فِي خَدِّهِ أَوْ فَمِهِ كَمَا يَجِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِتَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ بِرًّا بِوَلَدِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَلَذَّتِهِ وَيَنْشَرِحُ لِذَلِكَ وَيَفْرَحُ قَلْبُهُ وَيَجِدُ مِنْ اللَّذَّةِ أَمْرًا كَبِيرًا وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَنْ يَعْمِدَ الْإِنْسَانُ لِأُخْتِهِ الْجَمِيلَةِ أَوْ ابْنَتِهِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ مِثْلُهَا فِي مِثْلِ خَدِّهَا وَثَغْرِهَا فَيُقَبِّلَ خَدَّهَا أَوْ ثَغْرَهَا، وَهُوَ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ قُبْلَةَ الْأَجَانِبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الِاجْتِمَاعُ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا كَالزِّنَا بِهِنَّ أَقْبَحُ مِنْ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّاتِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ، وَيَرَى جَمَالًا فَائِقًا لَا يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ، وَقَدْ يَزَعُهُ عَقْلُهُ وَشَرْعُهُ رَأَيْت النَّاسَ عِنْدَهُمْ مُسَامَحَةٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله: إنَّهُ يُقَبِّلُ خَدَّ ابْنَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ هَذَا، وَغَيْرُهُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، أَمَّا مَتَى حَصَلَ الْفَرْقُ فِي النَّفْسِ صَارَ اسْتِمْتَاعًا حَرَامًا وَالْإِنْسَانُ يُطَالِعُ قَلْبَهُ وَيُحَكِّمُهُ فِي ذَلِكَ
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ قِيلَ: إنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَقِيلَ: لِلتَّخْيِيرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَرُدَّ أَحْسَنَ أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى لَفْظِ الْمُبْتَدِئِ إنْ كَانَ قَدْ وَقَفَ دُونَ الْبَرَكَاتِ، وَإِلَّا لَبَطَلَ التَّخْيِيرُ لِتَعَيُّنِ الْمُسَاوَاةِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الِانْتِهَاءِ إلَى لَفْظِ الْبَرَكَاتِ مُطْلَقًا، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ تَنْوِيعُ الرَّدِّ إلَى الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ انْتَهَى لِلْبَرَكَاتِ، وَإِلَى الْأَحْسَنِ إنْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ اقْتَصَرَ دُونَ الْبَرَكَاتِ، فَهَذَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالتَّنْوِيعِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا هَلْ الِانْتِهَاءُ إلَى الْبَرَكَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ إذَا انْتَهَى الْمُبْتَدِئُ إلَى الْبَرَكَاتِ فَقَطْ
(الْفَرْقُ السَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يُنْدَبُ)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَتَأْمُرُنَّ وَلَتَنْهَوُنَّ أَوْ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ فَلِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
(الشَّرْطُ الْأَوَّلُ) أَنْ يَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فَالْجَاهِلُ بِالْحُكْمِ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّهْيُ عَمَّا يَرَاهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ (الشَّرْطُ الثَّانِي) : أَنْ يَأْمَنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ يُؤَدِّي إنْكَارُهُ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيُؤَدِّيَ نَهْيُهُ عَنْهُ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ أَوْ نَحْوِهِ
(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْصِيلِهِ فَعَدَمُ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَفْظَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ لَهُ؛ إذْ لَوْ أُرِيدَ بَيَانُ كَمْ يَجْعَلُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِهِ لَقَالَ فَكَمْ أَصْرِفُ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِي فِي الصَّلَاةِ عَلَيْك، وَيُؤَيِّدُهُ رُؤْيَا أَبِي الْمَوَاهِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُصَلِّي كَوْنَ ثَوَابِهَا لَهُ فَمَعْنَى الْإِهْدَاءِ حَاصِلٌ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِهْدَاءِ لِلْعُظَمَاءِ إجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ لَا أَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى هَدِيَّةِ الْمُهْدِي؛ وَلِذَلِكَ يُجْزِلُونَ الْمَثُوبَاتِ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ، وَأَيْضًا فَيَنْوِي الْمُصَلِّي بِذَلِكَ تَحْصِينَ عَمَلِهِ مِنْ الرَّدِّ لِيَقْوَى بِذَلِكَ رَجَاؤُهُ احْتِرَامًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْهَدَايَا لِلْمُلُوكِ إذَا كَانَتْ لَا تُنَاسِبُ جَلَالَةَ مَقَادِيرِهِمْ، وَيُخْشَى رَدُّهُمْ لَهَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ هَدَايَا وَاسِطَةِ عَظِيمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ فَتُقْبَلُ حِينَئِذٍ مِنْ جُمْلَةِ هَدَايَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا احْتَقَرَ الْعَامِلُ نَفْسَهُ، وَاعْتَقَدَ قُصُورَهُ وَعَدَمَ أَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا رَأَى عَمَلَهُ شَيْئًا مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ مُعْتَدًّا بِهِ فَسُوءُ الْأَدَبِ لَازِمٌ لَهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ مَا لِسَيِّدِي زَرُّوقٍ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا هِيَ فَحَدِيثُ أَبِي ظَاهِرٍ فِي خِلَافِهِ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ اهـ فَأَنْتَ تَرَاهُ إنَّمَا ذَكَرَ رُؤْيَا أَبِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْيِيدِ وَالِاسْتِئْنَاسِ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ تِلْمِيذُهُ جَسُّوسُ وَغَيْرُهُ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ كَنُونٍ وَمُرَادُهُ دَفْعُ تَنْظِيرِ الرُّهُونِ فِي مُسْتَنَدِ ابْنِ زِكْرِيٍّ أَوَّلًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالرُّؤْيَا، وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا لَا سِيَّمَا مِنْ مِثْلِ أَبِي الْمَوَاهِبِ وَثَانِيًا بِأَنَّ مَا فُهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ مُعَارَضٌ بِمَا فَهِمَ مِنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فِيهِ فَانْظُرْهُ إنْ شِئْت، قُلْت: وَقَدْ وَجَّهَ عَدَمَ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالرُّؤْيَا الْعَلَّامَةُ الْعَطَّارُ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَقَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا رَآهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ يَقُولُ لَهُ إنَّ فِي الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ، وَلَا خُمُسَ عَلَيْك فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ فَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَخْرِجْ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِك الْآحَادُ اهـ فَافْهَمْ، وَفِي الْخَازِنِ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَنْ الْمَيِّتِ تَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَيَصِلُهُ ثَوَابُهَا وَعَلَى وُصُولِ الدُّعَاءِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَيَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِحَجٍّ تَطَوُّعٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّوْمِ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ فَالرَّاجِحُ جَوَازُهُ عَنْهُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا يَصِلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَصِلُهُ ثَوَابُهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ وَسَائِرُ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا تَصِلُهُ
وَعَدَمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ يُسْقِطُ الْوُجُوبَ وَيُبْقِي الْجَوَازَ وَالنَّدْبَ ثُمَّ مَرَاتِبُ الْإِنْكَارِ ثَلَاثَةٌ أَقْوَاهَا أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَيْنًا مَعَ الْقُدْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْتَقَلَ لِلتَّغْيِيرِ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَلْيَكُنْ الْقَوْلُ بِرِفْقٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام «مَنْ أَمَرَ مُسْلِمًا بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ كَذَلِكَ» قَالَ اللَّهُ عز وجل {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وَقَالَ عز وجل {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَوْلِ انْتَقَلَ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ، وَهِيَ أَضْعَفُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ» وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ، وَيُرْوَى «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي الصَّحِيحِ نَحْوُهُ
(سُؤَالٌ) قَدْ نَجِدُ أَعْظَمَ النَّاسِ إيمَانًا يَعْجِزُ عَنْ الْإِنْكَارِ، وَعَجْزُهُ لَا يُنَافِي تَعْظِيمَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنْ الْإِنْكَارِ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ أَوْ نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْقُرْبَةِ نَقْصُ الْإِيمَانِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» جَوَابُهُ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَا هُنَا الْإِيمَانُ الْفِعْلِيُّ الْوَارِدُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةُ فِعْلٌ، وَقَالَ عليه السلام «الْإِيمَانُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ شُعْبَةً وَقِيلَ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ» وَهَذِهِ التَّجْزِئَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ وَقَدْ سَمَّاهَا إيمَانًا وَأَقْوَى الْإِيمَانِ الْفِعْلِيِّ إزَالَةُ الْيَدِ لِاسْتِلْزَامِهِ إزَالَةَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْفَوْرِ ثُمَّ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَقَعُ مَعَهُ الْإِزَالَةُ، وَقَدْ تَقَعُ، وَالْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ لَا يُورِثُ إزَالَةً أَلْبَتَّةَ، أَوْ يُلَاحَظُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْإِزَالَةِ فَيَبْقَى الْإِيمَانُ مُطْلَقًا، وَهَا هُنَا سِتُّ مَسَائِلَ يَكْمُلُ بِهَا الْفَرْقُ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَأْمُرَانِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَيَانِ عَنْ الْمُنْكَرِ، قَالَ مَالِكٌ: وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسُهُ عَاصِيًا بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ أَوْ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ الْحُصُولِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ وَنَهْيَهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا، وَثَانِيهَا: قِتَالُ الْبُغَاةِ وَهُمْ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَثَالِثُهَا ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ، وَرَابِعُهَا قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَصِلُهُ ثَوَابُ الْجَمِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ. اهـ.
وَفِي الْخَازِنِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ} [النجم: 39] الْآيَةَ الْكَافِرُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ إلَّا مَا عَمِلَ هُوَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ وَيُعَافَى فِي بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] هُوَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فَجَائِزٌ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ اهـ وَفِي الْخَطِيبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَيْ: وَإِنَّمَا هُوَ فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فَأَدْخَلَ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إنَّ ذَلِكَ لِقَوْمِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلَهُمْ مَا سَعَوْا وَمَا سَعَى لَهُمْ غَيْرُهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا لَهَا، وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» «وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ أُمِّي قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ» اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: وَقَوْلُ الْقَرَافِيِّ بِأَنَّ التَّوْبَةَ وَالْعُقُوبَاتِ تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ، وَتَمْحُو آثَارَهَا إنْ أَرَادَ بِهِ مَحْوَهَا مِنْ الصَّحَائِفِ فَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْإِحْبَاطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ: وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] عَلَى كَوْنِ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْمَصَائِبُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ، وَأَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُقَابَلُ بِمُصِيبَةٍ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا بَلْ يُسَامَحُ فِيهِ وَيُعْفَى عَنْهُ قَالَ: وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِتَعَيُّنِ حَمْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَبِالظَّوَاهِرِ الْمُتَظَاهِرَةِ بِثُبُوتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْآلَامِ وَشِبْهِهَا، قَالَ: فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ أَيْ: وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُسَبِّبًا إلَخْ قَالَ: وَمَا قَالَهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ فَهُوَ تَحْكِيمٌ بِتَقْيِيدِ كَلَامِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَتَضْيِيقٌ لِبَابِ الرَّحْمَةِ الثَّابِتِ سِعَتُهُ قَالَ: وَلَا مَانِعَ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَيْ الْمَعْلُومِ الْحُصُولِ؛ إذْ ذَلِكَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إلَخْ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ» مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا