الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَمَّا عَدَمُ تَعْيِينِهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ فِي اللِّعَانِ كَوْنَهُ لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ حَيْضَتِهَا مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَحِيضُ أَوْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ مِثْلُ كَوْنِهِ رَأَى رَجُلًا بَيْنَ فَخِذَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ يُولِجْ أَوْ أَوْلَجَ، وَمَا أَنْزَلَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَرَائِنُ قَدْ تَكْذِبُ.
وَأَمَّا عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِاللِّعَانِ فَلِأَنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَاجِرًا يَطْلُبُ مَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ يَقُومُ مَقَامَ الْفَسْخِ وَالْعَقْدِ بَلْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّلَاعُنَ يَمْنَعُ الزَّوْجِيَّةَ.
(وَعَنْ الرَّابِعِ) أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إنَّمَا جَعَلَ لِلْحَاكِمِ الْعَقْدَ لِلْغَائِبِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ لِتَعَذُّرِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْهُمْ، وَهَا هُنَا لَا ضَرُورَةَ لِذَلِكَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ.
(وَعَنْ الْخَامِسِ) أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ مَشَاقَّةِ الْحُكَّامِ وَانْخِرَامِ النِّظَامِ وَتَشْوِيشِ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ، وَإِمَّا مُخَالَفَةٌ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ حَاكِمٌ، وَلَا غَيْرُهُ فَجَائِزَةٌ
(الْقِسْمُ الرَّابِعُ) مَا تَتَنَاوَلُهُ الْوِلَايَةُ، وَصَادَفَ فِيهِ الْحُجَّةُ، وَالدَّلِيلُ وَالسَّبَبُ غَيْرَ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ التُّهْمَةَ تَقْدَحُ فِي التَّصَرُّفَاتِ إجْمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ فَأَعْلَى رُتَبِ التُّهْمَةِ مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَدْنَى رُتَبِ التُّهَمِ مَرْدُودٌ إجْمَاعًا كَقَضَائِهِ لِجِيرَانِهِ وَأَهْلِ صَقْعِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ التُّهَمِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي وَأَصْلِهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» أَيْ مُتَّهَمٍ قَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ.
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَازِمٌ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ فَوْقَ الشَّاهِدِ مَنْ يَنْظُرُ عَلَيْهِ فَيَضْعُفُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَاطِلِ فَتَضْعُفُ التُّهْمَةُ قَالَ وَلَا يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرِّزًا وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَحْكُمُ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يَتِيمِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ امْتَنَعَتْ الشَّهَادَةُ فَإِنَّ مُنَصَّبَ الْقَضَاءِ أَبْعَدُ عَنْ التُّهَمِ لِوُفُورِ جَلَالَةِ الْقَاضِي دُونَ الشَّاهِدِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ فَإِنْ قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي، وَلَا نَعْلَمُ أَثَبَتَ أَمْ لَا، وَلَمْ يَحْضُرْهُ الشُّهُودُ، لَمْ يَنْفُذْ فَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ، وَكَانَتْ شَهَادَةً ظَاهِرَةً بِحَقٍّ بَيِّنٍ جَازَ فِيمَا عَدَا الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْأُمُورِ تُضْعِفُ التُّهْمَةَ، وَهُوَ الْفَرْقُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَإِنَّ الْمِلْكَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشِّرَاءِ أَوْ عَلَى الْإِرْثِ أَوْ عَلَى الْهِبَةِ لَمْ تَسْتَمِرَّ أَسْبَابُهُ فَكَانَ يَلْزَمُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَتَى غَفَلَ الْإِنْسَانُ عَنْ تَجْدِيدِ شِرَاءِ مُشْتَرَاهُ أَنْ يَبْطُلَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ بِوَصْفِ الدَّوَامِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ هُنَا قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ يَدُومُ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ إلَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا يُنَاقِضُهُ اهـ.
فَتَأَمَّلْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ وَمَا لَا يَجِبُ]
الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ، وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ، وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ وَمَا لَا يَجِبُ)
اعْلَمْ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) مَا ظَاهِرُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ كَحَدِيثِ الْمُوَطَّإِ «قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَا جُنَاحَ عَلَيْك» ، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُد قَالَ عليه الصلاة والسلام «إذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، وَالْكَذِبُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَلَا يَدْخُلُ الْكَذِبُ فِي الْوَعْدِ (وَالْقِسْمُ الثَّانِي) مَا ظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] فَإِنَّ الْوَعْدَ إذَا أُخْلِفَ قَوْلٌ لَمْ يُفْعَلْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا مُحَرَّمًا، وَأَنْ يَحْرُمَ إخْلَافُ الْوَعْدِ مُطْلَقًا.
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَذِكْرُهُ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «وَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ أَيْ وَعْدُهُ» وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مُعَارِضًا لِظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ بِحَيْثُ لَوْ أُخِذَ بِهِ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لَزِمَ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي بَلْ.
وقَوْله تَعَالَى {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74]{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ الصِّدْقِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ، وَكَانَ ظَاهِرُ الثَّانِي كَذَلِكَ مُعَارِضًا لِظَاهِرِ الْأَوَّلِ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَوْ أُخِذَ بِهِ، وَقِيلَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْوَعْدَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، وَعَنْ أَصْبَغَ الْجَوَازُ فِي الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْأَخِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمِدْيَانِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَصَحَّ الْحُكْمُ، وَقَدْ يَحْكُمُ لِلْخَلِيفَةِ، وَهُوَ فَوْقَهُ، وَتُهْمَتُهُ أَقْوَى، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ الْقَضَاءُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَخَصْمِهِ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِخِلَافِ رَجُلَيْنِ رَضِيَا بِحُكْمِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَقْضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَيُشْهِدُ عَلَى رِضَاهُ، وَيَجْتَهِدُ فِي الْحَقِّ فَإِنْ قَضَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يَمْتَنِعُ قَضَاؤُهُ فَلْيَذْكُرْ الْقِصَّةَ كُلَّهَا، وَرِضَى خَصْمِهِ، وَشَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ بِرِضَى الْخَصْمِ. وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِنِ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَرَأَى أَفْضَلَ مِنْهُ فَالْأَحْسَنُ فَسْخُهُ فَإِنْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَلَا يَفْسَخُهُ غَيْرُهُ إلَّا فِي الْخَطَأِ الْبَيِّنِ فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي الْقَضِيَّةِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل كَالسَّرِقَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ يَقْطَعُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَرْفَعُهُ لِمَنْ فَوْقَهُ، وَأَمَّا مَا لَهُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ
(الْقِسْمُ الْخَامِسُ) مَا اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ تَنَاوَلَتْهُ الْوِلَايَةُ، وَصَادَفَ السَّبَبَ وَالدَّلِيلَ وَالْحُجَّةَ، وَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْحُجَّةِ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ أَمْ لَا، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) الْقَضَاءُ بِعِلْمِ الْحَاكِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ يَمْتَنِعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْكُمُ فِي الْحُدُودِ بِمَا شَاهَدَهُ مِنْ أَسْبَابِهَا إلَّا فِي الْقَذْفِ، وَلَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه جَوَازُ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَوَازِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لَنَا وُجُوهٌ:
(الْأَوَّلُ) قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَسْمُوعِ لَا بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ.
(الثَّانِي) قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ» فَحَصَرَ الْحُجَّةَ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينَ دُونَ عِلْمِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
(الثَّالِثُ) رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ ثُمَّ قَالَ أَفَأَخْطُبُ النَّاسَ فَأُعْلِمَهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ فَأَعْلَمَ فَقَالُوا مَا رَضِينَا فَأَرَادَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا وَنَزَلَ فَجَلَسُوا إلَيْهِ فَأَرْضَاهُمْ فَقَالَ أَأَخْطُبُ النَّاسَ فَأُعْلِمُهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ فَأَعْلَمَ النَّاسَ فَقَالُوا رَضِينَا» ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عَدَمِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لَزِمَ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْأَوَّلِ، وَتَعَيَّنَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَقْرُبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْهُمَا، وَمَا يُؤَوَّلُ عَلَى قَوْلَيْنِ (الْقَوْلُ الْأَوَّلُ) تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَتَأْوِيلِ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ وَبَيْنَ وَعْدِ غَيْرِهِ تَعَالَى، قَالَ الْكَذِبُ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَالْوَعْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا الصِّدْقُ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وَالْكَذِبُ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ وَصْفِ الْمُطَابَقَةِ، وَعَدَمِهَا بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالِ وَالْمَاضِي.
وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا قَبُولُ الْمُطَابَقَةِ، وَعَدَمُهَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا إذَا حَدَّدْنَا بِوَصْفٍ بِأَنْ قُلْنَا فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ إنَّمَا نُرِيدُ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ، وَإِلَّا كَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حَدِيثَ الْمُوَطَّإِ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يُسَمَّى كَذِبًا لِجَعْلِهِ قَسِيمَ الْكَذِبِ (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا حَرَجَ فِيهِ إذْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعْدُ الَّذِي يَفِي بِهِ لَمَا احْتَاجَ لِلسُّؤَالِ عَنْهُ، وَلَمَا ذَكَرَهُ مَقْرُونًا بِالْكَذِبِ، وَلَكِنْ قَصْدُهُ إصْلَاحُ حَالِ امْرَأَتِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ فَتَخَيَّلَ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد يَقْتَضِي أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مُبَاحٌ عَكْسُ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَوَّلًا بِاخْتِصَاصِ الْوَعْدِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَالْكَذِبِ بِالْمَاضِي وَالْحَالِ.
وَثَانِيًا بِعَدَمِ التَّأْثِيمِ فِي الْأَوَّلِ وَالتَّأْثِيمِ فِي الثَّانِي كَمَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثَيْ الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد السَّابِقَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ مَحْمُولٌ إمَّا عَلَى أَنَّ الْمُوعِدَ أَدْخَلَ الْمَوْعُودَ فِي سَبَبٍ يُلْزِمُهُ بِوَعْدِهِ كَمَا لِمَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ أَمَّا مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَا إذَا سَأَلَك أَنْ تَهَبَ لَهُ دِينَارًا فَقُلْت نَعَمْ ثُمَّ بَدَا لَك لَا يَلْزَمُك، وَلَوْ كَانَ افْتِرَاقُ الْغُرَمَاءِ عَنْ وَعْدٍ وَإِشْهَادٍ لِأَجْلِهِ لَزِمَك لِإِبْطَالِهِ مَغْرَمًا بِالتَّأْخِيرِ.
وَأَمَّا سَحْنُونٌ فَقَالَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْوَعْدِ قَوْلُهُ اهْدِمْ دَارَك، وَأَنَا أُسَلِّفُك مَا يُبْنَى بِهِ أَوْ اُخْرُجْ إلَى الْحَجِّ، وَأَنَا أُسَلِّفُك أَوْ اشْتَرِ سِلْعَةً أَوْ تَزَوَّجْ امْرَأَةً، وَأَنَا أُسَلِّفُك لِأَنَّك أَدْخَلْته بِوَعْدِك فِي ذَلِكَ أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَعْدِ فَلَا يَلْزَمُك الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ اهـ.
وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ السَّبَبِ كَمَا لِأَصْبَغَ حَيْثُ قَالَ يُقْضَى عَلَيْك بِهِ تَزَوَّجَ الْمَوْعُودُ أَمْ لَا، وَكَذَا أَسْلِفْنِي لِأَشْتَرِيَ سِلْعَةَ كَذَا لَزِمَك تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَعِدَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ فَيَقُولَ لَك أَسْلِفْنِي كَذَا فَتَقُولَ نَعَمْ بِذَلِكَ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ.
(الرَّابِعُ) جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ وَشَرِيكٍ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِهِلَالٍ يَعْنِيَ الزَّوْجَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ يَعْنِي الْمَقْذُوفَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَ فَيَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلًا لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا رَجَمَ، وَعَلَّلَ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ.
(الْخَامِسُ) قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُمْ.
(السَّادِسُ) أَنَّ الْحَاكِمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَيُتَّهَمُ بِالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ فَلَعَلَّ الْمَحْكُومَ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ صَدِيقٌ، وَلَا نَعْلَمُ نَحْنُ ذَلِكَ فَحَسَمْنَا الْمَادَّةَ صَوْنًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ عَنْ التُّهَمِ.
(السَّابِعُ) قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَتَلَ أَخَاهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَاتِلٌ أَنَّهُ كَالْقَتْلِ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّهْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَنَقِيسُ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الصُّوَرِ بِجَامِعِ التُّهْمَةِ، احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ
(أَحَدُهَا) مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ لِهِنْدَ خُذِي لَك، وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ» ، وَلَمْ يُكَلِّفْهَا الْبَيِّنَةَ
(وَثَانِيهَا) مَا رَوَاهُ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ادَّعَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ ظَلَمَهُ حَدًّا فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ انْهَضْ إلَى الْمَوْضِعِ فَنَظَرَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى الْمَوْضِعِ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ خُذْ هَذَا الْحَجَرَ مِنْ هَا هُنَا فَضَعْهُ هَا هُنَا فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَةِ، وَقَالَ خُذْهُ لَا أُمَّ لَك وَضَعْهُ هُنَا فَإِنَّك مَا عَلِمْت قَدِيمَ الظُّلْمِ فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ حَيْثُ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ عُمَرُ رضي الله عنه الْقِبْلَةَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى غَلَبْتُ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى رَأْيِهِ، وَأَذْلَلْتَهُ لِي بِالْإِسْلَامِ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى جَعَلْت فِي قَلْبِي مَا ذَلَلْتُ لِعُمَرَ
(وَثَالِثُهَا) قَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] وَقَدْ عَلِمَ الْقِسْطُ فَيُقَوِّمُ بِهِ
(وَرَابِعُهَا) أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْبَيِّنَةِ فَالْعِلْمُ أَوْلَى، وَمِنْ الْعَجَبِ جَعْلُ الظَّنِّ خَيْرًا مِنْ الْعِلْمِ.
(وَخَامِسُهَا) أَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْبَيِّنَةِ فَيَقْبَلُ قَوْلَ مَنْ لَا يُقْبَلُ
(سَادِسُهَا) أَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ بِمَا نَقَلَتْهُ الرُّوَاةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
رحمه الله، وَإِنْ وَعَدْت غَرِيمَك بِتَأْخِيرِ الدَّيْنِ لَزِمَك لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَازِمٌ لِلْحَقِّ سَوَاءٌ قُلْت لَهُ أُؤَخِّرُك أَوْ أَخَّرْتُك، وَإِذَا أَسْلَفْته فَعَلَيْك تَأْخِيرُهُ مُدَّةً تَصْلُحُ لِذَلِكَ اهـ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَمَا جَاهَدُوا، وَفَعَلْنَا أَنْوَاعًا مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَمَا فَعَلُوهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَتَسْمِيعٌ بِطَاعَةٍ، وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ وَمَعْصِيَةٌ اتِّفَاقًا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْإِخْلَافِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُ، وَمُقْتَضَى حَالِهِ الْإِخْلَافُ، وَمِثْلُ هَذِهِ السَّجِيَّةِ يَحْسُنُ الذَّمُّ بِهَا كَمَا يُقَالُ سَجِيَّةٌ تَقْتَضِي الْبُخْلَ وَالْمَنْعَ فَمَنْ كَانَ صِفَتُهُ تَحُثُّ عَلَى الْخَيْرِ مُدِحَ أَوْ تَحُثُّ عَلَى الشَّرِّ ذُمَّ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ وَبَيْنَ وَعْدِ غَيْرِهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ مَعْلُومٍ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ تَجِبُ مُطَابَقَتُهُ بِخِلَافِ وَاحِدٍ مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَقَعَ فَلَا تَكُونُ الْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا مَعْلُومَيْنِ، وَلَا وَاقِعَيْنِ فَانْتَفَيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَصْلُ فَقَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لِي لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَتَأْوِيلُ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَالَ يُفَسَّرُ الْكَذِبُ بِالْخَبَرِ الَّذِي لَا يُطَاقُ الْوَاقِعُ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي وَالْحَالِ يَدْخُلُهُ وَصْفُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمُهَا، وَلَيْسَ الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ شَرْطًا فَيَدْخُلُ الْكَذِبُ فِي الْكُلِّ، وَيَلْزَمُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي الْوَعْدِ تَكْثِيرًا لِلْعِدَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَذِبِ، وَالْوَعْدِ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّاطِّ مَا خُلَاصَتُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُوهٍ:(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُدُودَ تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ عَنْ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةَ أَنَّ النُّطْقَ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ مَفْقُودٌ فِيهِ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحُدُودِ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ إنْسَانٌ، وَدَعْوَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ كَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ جَهْلٌ بِمَذْهَبِ أَرْبَابِ الْحُدُودِ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْحَقَائِقِ، وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتِهَا الذَّاتِيَّةِ فَلَا تَقْبَلُ حَقِيقَةٌ مِنْهَا صِفَةَ الْأُخْرَى فَالْحَيَوَانُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا، وَالْجَمَادُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ بَطَلَ كُلُّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ، وَصَحَّ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَدْخُلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عِنْدِي إلَّا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ السَّائِلَ
فَمَا سَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَيَحْكُمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْفُتْيَا تُثْبِتُ شَرْعًا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْقَضَاءُ فِي فَرْدٍ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ فَخَطَرُهُ أَقَلُّ.
(وَسَابِعُهَا) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِعِلْمِهِ لَفَسَقَ فِي صُوَرٍ مِنْهَا أَنْ يَعْلَمَ وِلَادَةَ امْرَأَةٍ عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَيَشْهَدَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَهِيَ ابْنَتُهُ، وَهُوَ فِسْقٌ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْلَمَ قَتْلَ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلَ الْبَرِيءَ، وَهُوَ فِسْقٌ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمِنْهَا لَوْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ ثَلَاثًا فَأَنْكَرَ فَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِوَاحِدَةٍ إنْ قَبِلَ الْبَيِّنَةَ مَكَّنَ مِنْ الْحَرَامِ، وَإِلَّا حَكَمَ بِعِلْمِهِ
(وَثَامِنُهَا)«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَقَالَ عليه السلام مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَشْهَدُ لَك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَشْهَدُ، وَلَا حَضَرْت فَقَالَ خُزَيْمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَنُصَدِّقُك أَفَلَا نُصَدِّقُك فِي هَذَا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَا الشَّهَادَتَيْنِ» فَهَذَا، وَإِنْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ يَدُلُّ لَنَا مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ عليه السلام لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِهِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ فِي التُّهْمَةِ مِنْ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ
(وَتَاسِعُهَا) الْقِيَاسُ عَلَى التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ قِصَّةَ هِنْدَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ عليه السلام لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّبْلِيغُ فُتْيَا لَا حُكْمٌ وَالتَّصَرُّفُ بِغَيْرِهَا قَلِيلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى حَاضِرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَحْسُنُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ غَيْرَ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَتَكُونُ مُجْمَلَةً فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا، وَعَنْ الثَّالِثِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقِسْطِ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا مُحَرَّمٌ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الظَّنِّ إلَّا أَنَّ اسْتِلْزَامَهُ لِلتُّهْمَةِ وَفَسَادِ مَنْصِبِ الْقَضَاءِ أَوْجَبَ مَرْجُوحِيَّتَهُ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الْقَضَاءِ يَخْرِقُ الْأُبَّهَةَ، وَيَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الْمَصَالِحِ، وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّ التُّهْمَةَ مَعَ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ أَضْعَفُ بِخِلَافِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التُّهَمَ كُلَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً بَلْ بَعْضُهَا، وَعَنْ السَّادِسِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالسَّمَاعَ وَالرُّؤْيَةَ اسْتَوَى الْجَمِيعُ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ، وَعَنْ السَّابِعِ أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا بِعِلْمِهِ بَلْ تَرَكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَهُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَ زَوْجَتَهُ بِخَبَرٍ يَقْتَضِي تَغَيُّظَهَا بِهِ كَأَنْ يُخْبِرَهَا عَنْ فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَغَيُّظًا بِزَوْجَتِهِ، وَسُوِّغَ لَهُ الْوَعْدُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِخْلَافُ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَازِمًا عِنْدَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ عَلَى الْإِخْلَافِ أَوْ مُضْرِبًا عَنْهُمَا، وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَافِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ الْمُتَصَوَّرِ عِنْدِي مِنْ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ إذْ مُعْظَمُ دَلَائِلِ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْإِخْلَافِ، وَأَنَّ السَّائِلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَصَدَ الْوَعْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَأَلَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ إضْرَارًا أَوْ اخْتِيَارًا قَائِمٌ، وَرَفَعَ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ الْجُنَاحَ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ ثُمَّ إنَّهُ إنْ وَفَى فَلَا جُنَاحَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مُخْتَارًا فَالظَّوَاهِرُ الْمُتَضَافِرَةُ قَاضِيَةٌ بِالْحَرَجِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ الْوَعْدَ قَسِيمًا لِلْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْخَبَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ فَكَانَ قَسِيمَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَالْوَعْدُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ كَذِبٌ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ السَّائِلَ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا قَالَهُ كَيْفَ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُهَا عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا، وَمَا قِيلَ إنَّ السَّائِلَ لَمْ يَقْصِدْ الْوَعْدَ الَّذِي نَفَى بِهِ بَلْ قَصَدَ الْوَعْدَ الَّذِي لَا نَفْيَ فِيهِ عَلَى التَّعْيِينِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى كَذَلِكَ إذْ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الْوَعْدِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِمَّا وَعَدَ بِهِ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ فَسُوِّغَ لَهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَأَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَوْ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ فِي حَمْلِ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَحَمْلِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفِ مُضْطَرًّا قُرْبًا، وَفِي حَمْلِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا قَالَهُ الشِّهَابُ بُعْدًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى دُخُولِ الصِّدْقِ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَارِدٌ لَازِمٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشِّهَابُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ سَاقِطٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهَا، وَلَا بِحَسَبِ حَالٍ دُونَ حَالٍ فَالْخَبَرُ الْقَابِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ قَابِلٌ لَهُمَا، وَالْخَبَرُ الْقَابِلُ
الْحُكْمَ، وَتَرْكُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ لَيْسَ فِسْقًا، وَتَرْكُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَعَنْ الثَّامِنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا حَكَمَ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخَذَ الْفَرَسَ قَهْرًا مِنْ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ حَكَمَ أَمْ لَا، وَهَلْ جَعْلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَتَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ مُبَالَغَةً فَمَا تَعَيَّنَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا سُمِّيَ خُزَيْمَةُ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ مُبَالَغَةً لَا حَقِيقَةً، وَعَنْ التَّاسِعِ أَنَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ بِالْعِلْمِ نَفْيًا لِلتَّسَلْسُلِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِالْجَرْحِ أَوْ التَّعْدِيلِ، وَتَحْتَاجُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةً أُخْرَى إلَّا أَنْ يُقْبَلَ بِعِلْمِهِ بِخِلَافِ صُورَةِ النِّزَاعِ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْمَعُونَةِ قَدْ قِيلَ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا، وَإِلَّا يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنْ نَقْضِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ تَرَكَ شَهَادَتَهُ وَتَفْسِيقَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمًا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ إذَا حَكَمَ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ أَوْ بَعْدَهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ أَوْ فِيهِ فَلِلْقَاضِي الثَّانِي نَقْضُهُ فَإِنْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بَعْدَ جُلُوسِهِمَا لِلْحُكُومَةِ ثُمَّ أَنْكَرَ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُحْكَمُ بِهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يُحْكَمُ بِهِ فَلَوْ جَحَدَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَوْضِعٍ يَقْبَلُ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَلَا أَرَى أَنْ يُبَاحَ هَذَا الْيَوْمُ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ، وَاخْتَلَفَ إذَا حَكَمَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ أَرَى أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ هُوَ نَفْسُهُ مَا كَانَ قَاضِيًا لَمْ يُعْزَلْ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْقُضَاةِ فَلَا أُحِبُّ لَهُ نَقْضَهُ قَالَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقُضُهُ هُوَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ رَأْيِهِ، وَقِيلَ لَا يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ رَأْيٍ إلَى رَأْيٍ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ الْأَوَّلُ شَيْئًا، وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ يُقَلِّدُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِمِثْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْقُضْهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي مَعَ فَسَادِ حَالِ الْقَضَاءِ الْيَوْمَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ كُلَّهُمْ حِينَئِذٍ يَدَّعِي الْعَدَالَةَ فَيَنْقُضُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّرِيعَةِ فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ قُلْت فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ يُنْقَضُ.
وَإِنْ كَانَ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ فِي النَّقْضِ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاَلَّذِي يُنْقَضُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُهُ فَالْحُكْمُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ يُنْقَضُ فَيَنْقُضُهُ لِذَلِكَ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا نَقْضُ الْحُكْمِ إذَا وَقَعَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَقْضِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه.
وَقَالَ هُوَ بِدْعَةٌ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه وَلَيْسَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي الْقَوْلُ بِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مُطْلَقًا أَيْ، وَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي سَبَبٍ يَلْزَمُ بِوَعْدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِذِكْرِ السَّبَبِ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ الشِّهَابُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ اهـ.
قُلْت وَفِي قَوْلِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الشَّاطِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ ذَلِكَ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ عَنْ حَدِّ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةً إلَخْ نَظَرٌ إذْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النُّطْقِ هُوَ الْعَقْلُ دُخُولُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ لِقَوْلِهِمْ الْعُقَلَاءُ ثَلَاثَةٌ الْإِنْسَانُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَيَكُونُ غَيْرَ مَانِعٍ، وَالْحَقُّ كَمَا فِي شَرْحِ الزُّلْفَى وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاطِقِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ مَبْدَأُ النُّطْقِ، وَالتَّكَلُّمِ أَوْ الْإِدْرَاكُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي هُوَ الصُّورَةُ النَّوْعِيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ اهـ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَوْهَرٌ عِنْدَ الْمَشَّائِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي مَرْتَبَةٍ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ عَلَى مَا حُقِّقَ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي رِسَالَتِي السَّوَانِحِ الْجَازِمَةِ فِي التَّعَارِيفِ اللَّازِمَةِ، وَحِينَئِذٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ النُّطْقُ بِمَعْنَى الصُّورَةِ النَّوْعِيَّةِ بِالْفِعْلِ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ مَعَ أَنَّ مَنْ شَرَطَ عِنْدَ أَرْبَابِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ، وَهُمْ الْحُكَمَاءُ لِأَنَّهُ إمَّا جُزْءٌ مِنْ الْحِكْمَةِ أَوْ مُقَدِّمَةٌ لَهَا كَمَا قَالُوا أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ مَا تَحَقَّقَ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ، وَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَمَنْ تَرَاهُمْ بَعْدَ تَعْرِيفِهِمْ الْكُلِّيِّ بِمَا يَمْنَعُ نَفْسَ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَصَوَّرُ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بِحَيْثُ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ يَقُولُونَ سَوَاءٌ وُجِدَتْ أَفْرَادُهُ فِي الْخَارِجِ، وَتَنَاهَتْ كَالْكَوْكَبِ فَإِنَّ أَفْرَادَهُ السَّيَّارَةُ وَالثَّوَابِتُ وَالسَّيَّارَةُ سَبْعَةٌ مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ:
زُحَلُ شَرُّ مِرِّيخِهِ مِنْ شَمْسِهِ
…
فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدٍ الْأَقْمَارُ
وَعَدَدُ الْمَرْصُودِ مِنْ الثَّوَابِتِ ذُكِرَ فِي الْهَيْئَةِ، وَالسَّيَّارَةُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي تِلْكَ، وَالثَّوَابِتُ كُلُّهَا فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ كَمَا حُقِّقَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَمْ وُجِدَتْ فِيهِ، وَلَمْ تَتَنَاهَ كَكَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَفْرَادَهُ مَوْجُودَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَتَنَاهَى، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ عَدَمِ التَّنَاهِي فِي الْقَدِيمِ أَمْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ أَمَّا مَعَ امْتِنَاعِهَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.
وَأَمَّا مَعَ إمْكَانِهَا كَجَبَلٍ مِنْ يَاقُوتٍ وَبَحْرٍ مِنْ زِئْبَقٍ أَمْ وُجِدَ مِنْهَا فَرْدٌ وَاحِدٌ فَقَطْ أَمَّا مَعَ امْتِنَاعِ وُجُودِ غَيْرِهِ كَالْإِلَهِ عِنْدَ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعِلْمِيَّةُ إذْ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ قَطَعَ عَنْهُ عِرْقَ الشَّرِيكِ لَكِنَّهُ عِنْدَ الْعَقْلِ لَمْ يَمْتَنِعْ صِدْقُهُ عَلَى كَثِيرِينَ، وَإِلَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَمَّا