الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ها هنا (1) إضافية.
[باب في فضل المدينة]
قوله [مثلي ما باركت الخ] لما كان المحتمل أن يراد منه كون كل شيء ثلاثة، وكونه أربعة، راد قوله مع البركة بركتين لتعيين ثاني محتمليه، وذلك بأن الرمان مثلًا إذا كان واحدًا كان ببركة واحدة قدر اثنين، فلو سأل البركة مثلما بورك لأهل مكة لكان كل شيء اثنين، لكنه أربى في المسألة، فجعله مثليه، فصار كل شيء أربعة، ثم إني لم أحصله بعد، ووجهه أن الظاهر من الجملة الأولى طلب المزيد بحيث يصير شيء ثلاثة أشياء، فإن الأصل لما كان واحدًا والبركة الواحدة ثنتها كانت البركة الثانية المطلوبة بقوله: مثلي ما باركت، جاعلة للأصل (2) ثلاثة
(1) أي باعتبار من بعدهم كما تقدم الترتيب في الروايات السابقة، فلا ينافي الحديث لما تقدم من تفضيل بني النجار على بني عبد الأشهل، وهذا التوجيه يمشي في رواية الباب بلا تردد؛ لأنه لا ذكر فيها لبني النجار، لكن يتمشى في روايات وردت فيها: ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى، قال: بنو عبد الأشهل. قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: ثم بنو النجار، ورجح الحافظ بعد ذكر الاختلاف في ذلك روايات ترجيح بني النجار؛ لأنهم أخوال جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل لما قدم المدينة، فلهم مزية على غيرهم.
(2)
ويؤيده ما في المشكاة برواية مسلم عن أبي هريرة بلفظ: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه، هكذا في الشمائل برواية أنس وأبي هريرة، والحديث من مستدلات الإمام مالك في أفضلية المدينة، قال القاري في شرح النقاية: علماؤنا والشافعي فضلوا مكة على المدينة ومالك عكس القضية لهذا الحديث، ورواه مسلم، ولنا حديت عبد الله ابن عدي الحمراء، وحديث ابن عباس الآتيان قريبًا في (باب فضل مكة) وأما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بمثل دعاء إبراهيم عليه السلام، فإنما كان في لرزق من الثمرات، ولا ريب في أكثرية ثمر المدينة، وليس هذا بسبب لأفضليتها، انتهى مختصرًا بتغير. قلت: والمسألة خلافية شهيرة، قال القاضي في الشفاء: تفضيل المدينة على مكة هو قول عمر بن الخطاب ومالك وأكثر المدنيين، وذهب أهل مكة والكوفة إلى تفضيل مكة، وهو قول عطاء وابن حبيب من أصحاب مالك، وحكاه الساجي عن الشافعي، انتهى. قال القاري في شرحه: وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل والثوري وأصحاب الشافعي، انتهى.
فحسب، وأما جعله أربعة فلا يقتضيه (1) اللفظ، بخلاف ما هو مقتضى قوله: مع البركة بركتين، فإنه نص في جعل كل شيء أربعة (2)؛ لأنه لما كانت
(1) ويمكن أن يؤخذ هذا المعنى بما حكى العيني عن الفقهاء إذ قال في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة، قال الجوهري: ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه، وقال الفقهاء: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثلاثة أمثاله، انتهى.
(2)
فلو ثبت هذا المعنى يجمع بما تقدم من حديث أبي هريرة باختلاف الأوقات، كما يجمع بحديث البخاري عن عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة، =انتهى. فيقال: إنه صلى الله عليه وسلم دعا أولًا بمثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لهذا الحديث، ثم دعا بمثلي ما دعا على حديث أبي هريرة، ثم دعا بثلاثة أمثال ما دعا على حديث علي في الترمذي، وللتوجيه مجال لا يخفى على المتأمل.
البركات ثلاثًا كما هو مقتضى اللفظ صار الكل أربعة. قوله [إن أعرابيًا (1) بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام] ولم يكن للمسلمين (2) رخصة في إقامة دار الكفر إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فكان الذي بايع على الإسلام بايع على الهجرة. قوله [أقلني بيعتي] إنما كان ظنًا منه أن البيعة كما كانت انعقدت به صلى الله عليه وسلم فكذلك انفساخها منوط بمشيئته وإرادته، ولم يكن الأمر كذلك، بل المدار في ذلك على عقيدة (3) المسترشد وإرادته، إن ثبت على عهده الذي عقد فذاك،
(1) قال الحافظ: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل؛ لأنه تابعي كبير مشهور، صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه، وفي الذيل لأبي موسى في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري، فيحتمل أن يكون هو هذا، انتهى.
(2)
وبذلك جزم الحافظ إذ قال: وكانت الهجرة في ذلك الوقت واجبة، ووقع الوعيد على من رجع أعرابيًا بعد هجرته، انتهى. وقال السيوطي في الجلالين: نزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا فقتلوا مع الكفار يوم بدر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية، قال الصاوي: وهل ماتوا عصاة أو كفارًا خلاف؛ لأن الهجرة كانت ركنًا أو شرطًا في صحة الإسلام، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم} الآية، وهذا كان قبل الفتح، ثم نسخ بعده، انتهى. وحكى صاحب الجمل عن الخازن لم يقبل الله الإسلام من أحد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يهاجر إليه ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة، انتهى.
(3)
كما هو معروف عند أهل التصوف، حتى قال الأستاذ أبو علي الدقاق: يقول بدء كل فرقة المخالفة، يعني به أن من خالف شيخه لم يبق على طريقته وإن جمعتها البقعة، فمن صحب شيخًا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عقد الصحبة؛ لأنه بذلك ترك تقليد من لزمه تقليده، ووجبت عليه التوبة من ذلك، وقال الشيخ أبو سهل الصعلوكي: من قال لأستاذه: لم، لا يفلح أبدًا، هكذا في القشيرية.
وإلا انفسخ، وإنما أبى النبي صلى الله عليه وسلم إقالته ذلك الذي عهد لأنه كان ارتدادًا من الإسلام (1)، فكيف لا ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. قوله [وتنصع طيبها] من التفعيل (2) والطيب مفعوله، أو من المجرد وهو فاعله، وليس المراد أنه
(1) قال الحافظ: ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقالة من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة، انتهى.
(2)
قال العيني: ينصع بفتح ياء المضارعة وسكون النون وفتح الصاد المهملة في آخره عين مهملة من النصوع، وهو الخلوص، والناصع الخالص، وطيبها بكسر الطاء وسكون الياء مرفوع على أنه فاعل؛ لأن النصوع لازم، وفي رواية الأكثرين بضم الباء وفتح النون وتشديد الصاد من التنصيع، وقوله: طيبها بتشديد الياء مفعوله بالنصب، هكذا قال الكرماني من التنصيع، لكن الظاهر أنه من الإنصاع، وسواء كان من التنصيع أو الإنصاع فهو متعد، فلذلك نصب طيبها، فافهم، وقال القزاز: قوله ينصع لم أجد له في الطيب وجهًا، وإنما الكلام يتضوع طيبها أي يفوح، قال: ويروى ينضخ بضاد وخاء معجمتين، ويرى بحاء مهملة وهو أقل، وقال الزمخشري: يبضع بضم الياء وسكون الموحدة، ورد عليه الصاغاني بأن الزمخشري خالف بهذا القول جميع الرواة، وقال ابن الأثير: المشهور بالنون والصاد المهملة، انتهى. ثم قال ابن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة، وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء، والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهية فيها ورغبة عنها كما فعل الأعراب المذكور، وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم وفتح بلاد الشرك، والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة، هكذا في الفتح، وفيه أيضًا في موضع آخر: قوله تنفي الناس، قال عياض: هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام بها معه إلا من ثبت إيمانه، وقال النووي: ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم: لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذا - والله أعلم - زمن الدجال، قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمانين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك لقصة الأعرابي، فانه صلى الله عليه وسلم ذكره معللًا به خروج الأعرابي، ثم يكون هذا في آخر الزمان أيضًا عندما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها، فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج، ثم قال مجيبًا عن الإيراد: إن ذلك إنما هو في خاص من الزمان ومن الناس، بدليل قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} ، والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير، وعمار وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت، انتهى. قال العيني: فإن قلت: إن المنافقين سكنوا المدينة وماتوا بها ولم تنفهم، قلت: كانت المدينة داره أصلًا ولم يسكنوها بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يرد صلى الله عليه وسلم بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه، انتهى.
لا يبقى فيه خبيث، بل انتفاء الخبث منها (1) قدر ما كان.
قوله [لو رأيت الظباء الخ] هذا ليس (2) نصًا في وجوب الجزاء، وهو الذي فيه النزاع، والرواية التي استدل بها أبو هريرة كذلك، فإن الحرمة ليست من لو لزمها وجوب الجزء، بل المراد بذلك تعظيمه وبيان شرفه وغايته.
(1) وهذا إشارة إلى جواب إشكال تقدم في كلام العيني من وجود المنافقين في المدينة.
(2)
أشار الشيخ بذلك إلى جواب الحديث عن مسلك الحنفية، وكذا عن الجمهور في مسألة فقهية مختلفة بين العلماء، وتوضيح ذلك كما في البذل: اختلف العلماء في تحريم المدينة وعدم تحريمها، فقال الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق: المدينة لها حرم، فلا يجوز قطع شجرها، ولا أخذ صيدها، ولكنه لا يجب الجزاء فيه عندهم، خلافًا لابن أبي ذئب فإنه قال: يجب الجزاء، وكذا لا يحل سلب من يفعل ذلك عندهم إلا عند الشافعي في القديم، وقال في الجديد بخلافه، وقال ابن نافع: سئل مالك عن قطع سدر المدينة وما جاء فيه من النهي. فقال: إنما نهى عنه لئلا توحش، وليبقى فيها شجرها، ويستأنس بذلك ويستظل به من هاجر إليها، وقال ابن حزم: من احتطب في حرم المدينة فحلال سلبه وكل ما معه في حاله تلك وتجربده إلا ما يستر عورته، وقال الثوري وابن المبارك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: ليس للمدينة حرم كما كان لمكة، وأجابوا عن الحديث بأنه إنما قال ذلك لا لما ذكروه من التحريم، بل إنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها كما ذكرنا عن قريب من مالك، وذلك كمنعه صلى الله عليه وسلم من هدم آطام المدينة، وقال: إنها زينة المدينة على ما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عمر، وهو إسناد صحيح، ثم ذكر الطحاوي دليلًا على ذلك من حديث النغير، إلى آخر ما بسط من الدلائل.