المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - الكوكب الدري على جامع الترمذي - جـ ٤

[رشيد الكنكوهي]

فهرس الكتاب

- ‌[باب في فضل فاتحة الكتاب]

- ‌[باب في آخر سورة البقرة]

- ‌[باب في سورة الكهف]

- ‌[باب ما جاء في يس]

- ‌[باب ما جاء في سورة الملك]

- ‌[باب في إذا زلزلت]

- ‌[باب في سورة الإخلاص]

- ‌[باب في المعوذتين]

- ‌[باب في فضل قارئ القرآن]

- ‌[باب في تعليم القرآن]

- ‌[باب من قرأ حرفاً من القرآن]

- ‌أبواب القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[من سورة آل عمران]

- ‌[سورة النساء]

- ‌[سورة المائدة]

- ‌[ومن سورة الأنعام]

- ‌[سورة الأنفال]

- ‌[سورة التوبة]

- ‌[من سورة يونس]

- ‌[من سورة هود]

- ‌[من سورة يوسف]

- ‌[من سورة الرعد]

- ‌[من سورة إبراهيم]

- ‌[من سورة الحجر]

- ‌[من سورة النحل]

- ‌[من سورة بني إسرائيل]

- ‌[سورة الكهف]

- ‌[من سورة مري

- ‌[من سورة طه]

- ‌[من سورة الأنبياء]

- ‌[من سورة الحج]

- ‌[من سورة المؤمني

- ‌[سورة النور]

- ‌[من سورة الفرقان]

- ‌[سورة الشعراء]

- ‌[سورة النمل]

- ‌[من سورة الروم]

- ‌[سورة السجدة]

- ‌[سورة الأحزاب]

- ‌[سورة سبأ]

- ‌[سورة الملائكة]

- ‌[سورة يس]

- ‌[سورة الصافات]

- ‌[سورة ص]

- ‌[سورة الزمر]

- ‌[سورة السجدة]

- ‌[سورة الشورى]

- ‌[سورة الزخرف]

- ‌[سورة الدخان]

- ‌[سورة الأحقاف]

- ‌[سورة محمد صلى الله عليه وسلم]

- ‌[سورة الفتح]

- ‌[سورة الحجرات]

- ‌[سورة ق]

- ‌[سورة الذاريات]

- ‌[سورة النجم]

- ‌[سورة القمر]

- ‌[سورة الواقعة]

- ‌[سورة الحديد]

- ‌[سورة المجادلة]

- ‌[سورة الحشر]

- ‌[سورة المممتحنة]

- ‌[سورة الصف]

- ‌[سورة الجمعة]

- ‌[سورة المنافقين]

- ‌[سورة التغابن]

- ‌[سورة التحريم]

- ‌[سورة ن والقلم

- ‌[سورة الحاقة]

- ‌[سورة سأل سائل

- ‌[سورة الجن]

- ‌[سورة المدثر]

- ‌[سورة القيامة]

- ‌[سورة عبس]

- ‌[سورة المطففي

- ‌[سورة إذا السماء انشقت]

- ‌[سورة البروج]

- ‌[سورة الضحى]

- ‌[سورة ألم نشرح]

- ‌[سورة القدر]

- ‌[سورة لم يكن]

- ‌[سورة ألهاكم التكاثر

- ‌[سورة الكوثر]

- ‌[سورة الفتح

- ‌[سورة المعوذتين]

- ‌[باب]

- ‌أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[باب الداعي يبدأ بنفسه]

- ‌[باب ما يقول إذا رأى الباكورة]

- ‌[باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌[باب في مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إل

- ‌مناقب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه

- ‌باب الصدقة مشتمل على أبواب شتى

- ‌[مناقب عمر]

- ‌[مناقب عثمان]

- ‌[مناقب علي]

- ‌[مناقب الحسن والحسي

- ‌[مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[باب في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه

- ‌[باب في فضل فاطمة]

- ‌[فضل عائشة]

- ‌[باب في فضل المدينة]

- ‌[باب فضل مكة]

الفصل: ‌أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

‌أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ويعنون (1) بذلك ما فيه بيان لغة، أو استنباط حكم، أو توجيه إعراب، أو بيان لشأن النزول، إلى غير ذلك.

قوله [من قال في القرآن إلخ] يعني (2) أن المتصدى للكلام في فن

(1)

قال الحافظ: التفسير تفعيل من الفسر وهو البيان، تقول: فسرت الشيء -بالتخفيف- أفسره فسراً، وفسرته -بالتشديد- أفسره تفسيراً إذا بينته، وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء ليعرف العلة، وقيل: هو مقلو من سفر كجذب وجبذ، تقول: سفر إذا كشف وجهه، ومنه أسفر الصبح إذا أضاء، واختلف في أن التفسير والتأويل واحد أو مختلفان، وعلى الثاني ما الفرق بينهما على أقوال كثيرة في الإتقان.

(2)

قال القاري: أي من تكلم في معناه أو قراءته من تلقاء نفسه من غير تتبع أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد الشرعية، بل بحسب ما يقتضيه عقله، وهو مما يتوقف على النقل كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وما يتعلق بالقصص والأحكام، أو بحسب ما يقتضيه ظاهر النقل وهو مما يتوقف على العقل، كالمتشابهات التي أخذ المجسمة بظواهرها وأعرضوا عن استحالة ذلك في العقول، أو بحسب ما يقتضيه بعض العلوم الإلهية مع عدم معرفته ببقيتها، وقال ابن حجر: أي أخطأ طريق الاستقامة يخوضه في كتاب الله بالتخمين والحدس مع عدم استجماعه بشروطه، فكان آثمًا به مطلقًا، ولم يعتد بموافقته للصواب. بخلاف من كملت فيه آلات التفسير وهي خمسة عشر علمًا: اللغة، والنحو، والصرف، والاشتقاق، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين اختلف المعنى كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءات، والأصلين، وأسباب النزول، والقصص، والناسخ والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم، = =وعلم الموهبة، وهو علم يورثه الله عز وجل لمن عمل بما علم، انتهى. قلت: والمراد بالأصلين أصول الدين وأصول الفقه، كما ذكرهما السيوطي في الإتقان.

ص: 54

من فنون القرآن، كالإعراب أو استنباط الأحكام، يجب أن لا يكون عريًا من هذا الفن، فلو تصدى لذلك وهو جاهل به كان مستحقًا للوعيد وإن كان مصيبًا في مقاله. قوله [برأيه] محمله (1) ما قلناه من قبل، فمن استنبط (2) من

(1) فقد قال البيهقي: المراد رأي غلب من غير دليل قام عليه، أما ما يشده برهان فلا محذور فيه، قال الماوردي: حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، وإن صحبها شواهد سالمة عن المعارض، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن، واستنباط الأحكام منه، كما قال تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وفي حديث أبي نعيم وغيره: القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه، ومعنى ذلول سهل حفظه وفهمه حتى لا يقصر عنه أفهام المجتهدين، كذا في المرقاة.

(2)

قال في المجمع: لا يجوز أن يراد أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة قد فسروه، واختلفوا فيه على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، ولأنه لا يفيد حينئذ دعاؤه الله فقهه في الدين، وعلمه= =التأويل، فالنهي لوجهين: أحدهما أن يكون له رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول على وفقه ليحتج على تصحيح غرضه، وهذا قد يكون مع علمه أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يلبس على خصمه، وقد يكون مع جهله بأن يكون الآية محتملة له، لكن رجحه لرأيه، ولولاه لما يترجح ذلك الوجه له، وقد يكون له غرض صحيح كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي، ويستدل بقوله {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} ويشير إلى قلبه، والثاني أن يتسارع إلى التفسير لظاهر العربية من غير استظهار بالسماع في غرائبه ومبهماته، وفيما فيه من الحذف والتقديم وما عداهما، فلا وجه للمنع فيه، انتهى.

ص: 55

الكتاب حكمًا بعد ملاحظة الأصول مطابقًا للقواعد الشرعية لا يكون ممن قال فيه برأيه، فإنما استناده إلى ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا وجب حمل قوله بعد ذلك: وهكذا روى عن بعض أهل العلم إلى آخر ما قال، لأن إثبات النقل في عين ما فسروه به عسير جداً، فيحمل على أنهم سمعوا تلك الأصول والقواعد التي فسروا الكتاب على طبقها، وقول قتادة:(إلا وقد سمعت فيها شيئًا) لا ينافي ما قلنا، فإنه لم يثبت أنه لم يتكلم في كل آية إلا بقدر ما سمعه منه، بل الثابت أنني سمعت في كل آية شيئًا، وإن كان يجوز أن يذكر في بعض الآيات زيادة على الذي سمعه، وبالجملة فالحمل على ما ذهبنا إليه أسلم من التكلفات، وأجمع بين الروايات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي خاطب به الأعور (1): إنه لا تنقضي عجائبه، فلو كان المدار هو النقل لم يكن لهذا معنى،

(1) كما تقدم قريبًا عند المصنف بلفظ: لا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، الحديث، وفي الترغيب برواية الحاكم عن ابن مسعود مرفوعًا: إن هذا القرآن مأدبة الله، فاقبلوا مأدبته، الحديث. وفيه: ولا تنقضي عجائبه، وتقدم في كلام القاري وغيره أيضًا ما يستدل به على ذلك.

ص: 56

وكذلك قوله عليه السلام: لا يشبع منه العلماء.

قوله [لم أحتج أن أسأل ابن عباس إلخ] يعني أن تأليف ابن مسعود كان (1) على حسب النزول، فما كان ناسخًا كان في الترتيب بعد المنسوخ، فكان يعلم من غير المسألة أيها ناسخ وأيها منسوخ، وكذلك بعض الكلمات كانت في قراءة ابن مسعود بحيث يفسر ما أبهم كما في قوله في الصوم:[فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات]، وقوله في القطع:[والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيمانهما] ووجه ذكر المؤلف هذا القول من مجاهد هاهنا لإثبات النقل عن ابن عباس كما قال في كثير مما سألت،

(1) ويؤيد ذلك ما أخرجه الحاكم بعدة طرق مرفوعًا: من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، وفي لفظ: من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، وأخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد، قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبرئيل عليه السلام، فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين، فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن، هذا حديث صحيح الإسناد. ورجح الحافظ في الفتح أن عرضة جبرئيل كانت على ترتيب النزول لكن مع هذا كله فقد جزم الحافظ بنفسه أن ترتيب مصحف ابن مسعود لم يكن على ترتيب النزول، بل كان أوله= =الفاتحة، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وهكذا جزم السيوطي في الإتقان، وحكى ترتيب سوره مفصلاً، وقالا: إن مصحف علي كان على ترتيب النزول، فالظاهر أن معنى قول مجاهد ما ذكره الشيخ ثانيًا من أنها كانت مفسرة، انتهى.

ص: 57

فعلم أنه كان يسأله (1) كثيراً.

[من سورة فاتحة الكتاب] قوله [فاقرأها في نفسك] وأنت تعلم أنه استنباط (2) من أبي هريرة من الحديث الذي سرده ولا يتم، فإنه ليس نصًا على أن كل مصل يجب له القراءة بنفسه، بل أعم من أن يكون بنفسه أو بوكيله، كيف وقد ورد: من (3) كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، فأنى يبطل بهذا

(1) ففي الإتقان: قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وعنه أيضًا: قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية منه واسأله عنها فيما نزلت، وكيف كانت؟ انتهى.

(2)

أي على سبيل التسليم، وإلا فقد تقدم في الجزء الأول أن المراد بها التدبر، وكونه استنباطًا من الحديث ظاهر من السياق، فإنه ذكر الحديث المرفوع الآتي بقوله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا كالنص على أن قوله: اقرأها في نفسك، لم يكن مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لذكره، وعلم أيضًا أن قوله هذا لم يبق في حكم المرفوع، لكونه غير مدرك بالقياس لما ذكر مستدله واجتهاده.

(3)

وهو حديث مشهور روى بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، منهم جابر ابن عبد الله، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، كما في الأوجز، ولأجل ذلك أجمعت الأئمة الأربعة وغيرهم من أكثر فقهاء الأمصار على سقوط وجوب القراءة عن المقتدى إلا في أحد القولين عن الإمام الشافعي، فقد قال فيه بوجوب الفاتحة على المقتدى، ومع ذلك قد أسقطها في عدة مواضع، كمدرك الركوع، ومن تخلف عن الإمام لعذر، كزحمة ونسيان وبطوء حركة، بأن لم يقم من السجود إلا والإمام راكع، كما بسط في الأوجز، فلا يسع الإنكار من أنهم أطبقوا على العمل بهذه الرواية، وحملوا= =عموم الروايات المتضمنة لإيجاب القراءة على تعميم القراءة بالإصالة والوكالة، كما أفاده الشيخ.

ص: 58

الاحتمال عموم قوله تعالى (1): {وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .

قوله [قسمت الصلاة بيني وبين عبدي] المراد بالصلاة هاهنا هي الفاتحة باتفاق من العلماء، فيمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلق عليها الصلاة كانت الفاتحة أكمل فرائضها، وأولى أركان منها، فلا صلاة لمن لا فاتحة له، ولعل أبا هريرة أورد الحديث هاهنا لذلك، فكان مناط استدلاله على وجوب قراءتها هو هذا الإطلاق، والجواب أنا لا نسلم أن المقتدى ليس له قراءة، غاية الأمر أنه قار لا بلسانه، وكثيراً ما ينسب فعل الوكيل إلى موكله.

قوله [وبيني وبين عبدي إياك نعبد إلخ] وإنما قال باشتراك هذه الآية مع أن الظاهر هو الاشتراك في الآية الأخيرة، فإنه سبحانه وتعالى كما أنه هاد والعبد طالب هداية منه تعالى كذلك إنه سبحانه وتعالى معبود والعبد عابد، والله سبحانه مستعان والعبد مستعين، لأن فعل العبد إنما هو السؤال البحت وأصل الفعل إنما هو له سبحانه بخلاف الآية الوسطى، فإن فيها شركة في الأفعال إذا العابدية إليه والمعبودية له تعالى، وكذلك الاستعانة، بخلاف الأخيرة، فإن الفعل فيه كله لله تبارك وتعالى من قضاء حاجات العبد، فكان خالصًا للعبد، وحاصل التقسيم أن القسم الأولى مختص به تعالى بمعنى أن العناية فيه إلى إظهار صفاته والإقرار بجلال

(1) وقد ورد في الروايات الكثيرة أن نزولها في القراءة خلف الإمام، وقال الإمام أحمد: أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة، وقال ابن عبد البر: هذا عند أهل العلم عند سماع القرآن في الصلاة لا يختلفون أن هذا الخطاب نزل في هذا المعنى دون غيره، كذا في الأوجز.

ص: 59

ذاته وادعاء كونه منعمًا على الحقيقة بجلائل النعم، والتي (1) هي دوني إلى غير ذلك، وإن كان المثنى والممجد والحامد هو العبد، وفي الصنف الثاني مطمح النظر هو إطاعته وانقياد له، ولما كان ذلك لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه أردف الإقرار بالطاعة اعترافًا بعجزه، ومنه الإعانة منه سبحانه، فكان العبد والمعبود إلى الآية منتسبي سواء بخلاف الصنف الثالث، فإنه لا ذكر فيه لغير حوائجه حتى يقضيها المجيب الكريم، ويظفر العبد بجنات عدن بالنعيم المقيم، ويجيره من نار الجحيم. قوله [كلا الحديثين صحيح] يعني أن نسبة (2) الرواية إلى أبي العلاء وأبي السائب تصح معًا، فإن ابن أبي أويس أوثق (3) من روى، فلما أسنده إليهما معًا كانا صحيحين.

(1) عطف على الجلائل، أي منعم بأكبر النعم، وبالتي هي أدون بالنسبة إلى الأولى، وهلم جرا.

(2)

لما كان ظاهر الحديث الاضطراب لمكان الاختلاف فيه على العلاء بن عبد الرحمن، فروى عنه عن أبيه، وعنه عن أبي السائب، دفعه المصنف برواية إسماعيل بن أبي أويس إذ رواه عنهما معًا، وبذلك يدفع الاضطراب عند المحدثين.

(3)

هذا مبني على كلام الترمذي، فإنه لما استدل بروايته على دفع الاضطراب فكأنه هو من جملة الثقات المعتبرين عنده، لا سيما وقد احتج أبو زرعة بروايته على تصحيح الروايتين معًا، فحكم أبي زرعة بالصحة محتجًا بروايته نداء بتوثيقه، كيف وقد أخرج له الشيخان معًا، لكن مع هذا كله يتحير من له نظرة على كتب الرجال من أن الإمام الترمذي ذكر قول أبي زرعة في تصحيح الحديث، ولم يذكر قول أحد من أئمة الرجال في إسماعيل بن أبي أويس، وفي تهذيب الحافظ عن ابن معين: صدوق ضعيف العقل ليس= =بذاك، يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يؤديه أو يقرأه من غير كتابه، وعن ابن معين أيضًا: هو وأبوه ضعيفان ويسرقان الحديث، وعن النصر بن سلمة: ابن أبي أويس كذاب، وعن سيف بن محمد: كان يضع الحديث، وروى عن إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، قال الحافظ: ولعل هذا كان من إسماعيل في شيبته ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح، انتهى. قلت: هذا هو الظن بالإمام الترمذي وأبي زرعة، فإنهما ذكرا حديثه تمثيلاً واعتماداً على متابعته أو اختياراً لقول من وثقه، ونعوذ بالله من إساءة الظن بأحد من أئمة الحديث، فإنهم قدوة الفن وسبقة الميادين.

ص: 60

قوله [وإني لأرجو (1) أن يجعل الله يده في يدي] أراد بذلك مبايعته،

(1) فإنه صلى الله عليه وسلم كان يحب إسلام رؤساء الأقوام، ليكون سببًا لإسلام أتباعهم، وكان عدي هذا ابن حاتم الطائي الجواد المشهور الذي يضرب به المثل في الجود والكرم، كما في أسد الغابة، وحكى من قصة إسلامه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث فكرهته أشد ما كرهت شيئًا قط، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فكرهت مكاني ذلك أشد مما كرهته، فقلت: لو أتيت هذا الرجل، فإن كان كاذبًا لم يخف علي، وإن كان صادقًا اتبعته، فأقبلت، فلما قدمت المدينة استشرفني الناس، وقالوا: عدي بن حاتم عدي بن حاتم، فقال لي: يا عدي أسلم تسلم، قلت: إن لي دينًا، قال: أنا أعلم بدينك منك، قلت: أنت أعلم بديني مني، قال: نعم، مرتين أو ثلاثًا، قال: ألست تأكل المرباع؟ قلت: بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك، ثم قال: يا عدي أسلم تسلم، قال: قد أظن أو قد أرى أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ما يمنعك أن تسلم إلا غضاضة تراها ممن حولي، وإنك ترى الناس علينا ألبًا واحداً، قال: = =هل أتيت الحيرة؟ قلت: لم آتها، وقد علمت مكانها، قال: يوشك الضعينة أن ترتحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، مرتين أو ثلاثًا، إلى آخر ما في الإصابة وأسد الغابة، وفد سنة تسع في شعبان، وقيل: سنة عشر، فأسلم وثبت على إسلامه في الردة، قال: ما داخل علي وقت صلاة قط إلا وأنا مشتاق عليها، وعنه قال: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، رزقنا الله من اتباع هؤلاء الأسلاف. والغضاضة: الذلة والنقيصة، وقيل: إنما هي خصاصة بالخاء وهي الفقر، وفي رواية لأحمد: فخرجت حتى وقعت ناحية الزوم يعني ببغداد حتى قدمت على قيصر، قال: فكرهت مكان ذلك أشد من كراهيتي لخروجه، الحديث.

ص: 61

إلا أن اللفظ لما كان صدق هاهنا أيضًا ذكره.

قوله [وسادة (1)] هي المخذة أو الفرش، ومعنى (عليها) على الأولى متكئًا عليها، وعلى الثاني على ظاهرها.

قوله [فحمد الله وأثنى عليه إلخ] ووجه إتيانه في البيت وترك التبليغ في مجلسه الذي لقيه فيه مع أنه لا ينبغي التأخير في التبليغ -والله أعلم- أنه لعله

(1) قال المجد: الوساد المتكأ، والمخدة كالوسادة، ولفظ الطيالسي: فألقت لنا الجارية وسادة أو قال بساطًا.

ص: 62

يأخذه حمية (1) أو أنفة لكونه من سرواتهم فيهلك فيمن هلك، ويعد ترك مقالته (2) ثم عاراً عليه، فلذلك لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم مقالته إلا خاليًا.

قوله [ثم تكلم ساعة إلخ] والظاهر كون هذا الكلام في إثبات التوحيد، وإبطال التثليث، وكان عدى (3) من النصارى أو المتنصرة.

قوله [فإن اليهود مغضوب عليهم الخ] وهذا هو موضوع التفسير الذي أورد له المؤلف هذا الحديث هاهنا. قوله [فأني لا أخاف عليكم الفاقة] إما أنه لا يضركم لما رسخت في قلوبكم أمور الطاعات والصبر وثواب المصيبة، ومعنى فأن الله ناصركم ومعطيكم أي الأجر، والمعنى أني لا أخاف عليكم الفاقة أن تصيبكم لما سيفتح الله عليكم، وتعلق قوله فإن الله معطيكم وناصركم بالثاني أظهر.

قوله [أكثر] ليس مضافًا (4) إلى ما بعده بل هو حال أي لا يكون

(1) فقد تقدم في الحاشية قريبًا قوله صلى الله عليه وسلم: أظن ما يمنعك أن تسلم إلا غضاضة تراها ممن حولي، وفي رواية لأحمد: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما أتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب. الحديث.

(2)

الظاهر أن المعنى: لو ترك النبي صلى الله عليه وسلم المقالة مع عدي لعارض كمجيء أحد في المجلس أو غير ذلك لعده عاراً عليه.

(3)

وفي أسد الغابة: كان نصرانيًا، قيل: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى طي أخذ عدي أهله وانتقل إلى الجزيرة، وقيل: إلى الشام، وترك أخته سغاتة بنت حاتم، فأخذها المسلمون فأسلمت وعادت إليه فأخبرته، ودعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضر معها عنده، انتهى.

(4)

وعلى ما أفاده الشيخ يكون لفظ (ما) نافية، ويؤيده ما سيأتي من قوله: فأين لصوص طي، وفي المجمع ولفظه: وفيه ما تخاف على مطيتها السرق هو بالحركة السرقة، انتهى. وفي رواية البخاري في حديث عدي: لتزين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طي، الحديث. قال الحافظ: زاد أحمد من طريق أخرى عن عدي: في غير جوار أحد، قلت: وقد أخرج البخاري من حديث خباب، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولفظ الطيالسي في حديث عدي: حتى تسير الظعينة فيما بين مكة والمدينة لا يأخذ أحد بخطامها، وما أفاده الشيخ من توجيه قوله أكثر= =ظاهر بل متعين في لفظ الترمذي، إلا أن الظاهر عندي أنه وقع سهو في لفظ الترمذي، ولفظ أحمد: إني لا أخشى عليكم الفاقة لينصرنكم الله تعالى وليعطينكم أو ليفتحن لكم حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، أو أكثر ما تخاف السرق على ظعينتها، الحديث.

ص: 63

ذلك على سبيل الندرة.

[من سورة البقرة] قوله [من قبضة] بالضم (1) لا بالفتح.

قوله [فجاء بنو آدم] يعني أن أصل كل صفة حسنة ورديئة موجود في كلهم، وإنما ظهرت الخاصة من الصفات لغلبة مادتها فيه، فالمؤمن وإن كان كاملاً ففيه أصل الكفر كامن وإن لم يظهر، وكذلك الكافر وإن كان أشد ما يكون ففيه شائبة من الأصل الداعي إلى الإسلام، وإلا لما صح تكليفهم بالإسلام لما يلزم من التكليف بما لا يطاق.

قوله [قال: دخلوا متزحفين إلخ] يعني أن اليهود كانوا أمروا بحكمين فعكسوهما، ولم يبين الآية، وهي قوله تعالى:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية إلا مخالفتهم للأمر القولي، وأما مخالفتهم للأمر الفعلي فغير متعرض به في الآية، فبينه النبي صلى الله عليه وسلم

(1) لأنه بالضم اسم وبالفتح للمرة، والمناسب للمقام الأول، لكن ضبطه القاري بكليهما، فقال: بالضم ويفتح.

ص: 64

بقوله: دخلوا متزحفين، ثم الذي عكسوه من الأمر القولي وبدلوه به اختلف فيه الروايات (1)، ففي بعضها حبة في شعيرة، وفي بعضها حنطة، وفي بعضها حبة في شعرة، فهذه الألفاظ مهمل (2) أو قريب منه، وتعدد الألفاظ لكون بعضهم قال هذا وبعضهم ذلك.

قوله [فصلى كل رجل من اعلى حياله] هذه الواقعة كانت (3) في تهجدهم

(1) ذكر صاحب البحر المحيط فيه أكثر من عشرة أقوال، ثم قال: والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا: حبة في شعرة، فوجب المصير إلى هذا القول، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، فيكون بعضهم قال كذا، وبعضهم كذا، فلا يكون فيه تضاد، انتهى. قلت: واكتفى الشيخ على ثلاثة أقوال تمثيلاً وبيانًا لوجه الجمع، أما الأول فهو في حديث الباب، وأما الثاني فهو في الدر المنثور، أخرج الآثار في ذلك بطرق عن ابن مسعود ومجاهد وابن عباس، وفي البحر المحيط: قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد حنطة، وأما الثالث فتقدم قريبًا.

(2)

التذكير باعتبار كل واحد منها.

(3)

ويؤيد ذلك ما في الدر للسيوطي من رواية مفصلة بلفظ: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، الحديث. قلت: ولا يبعد عندي -والله أعلم- أن يحمل على الفرائض أيضًا ويؤول قوله فيعمل مسجداً على العلامة بالحجارة، فأطلق عليه المسجد مجازاً، ولفظ ابن ماجه فتغيمت السماء، وأشكلت علينا القبلة فصلينا وأعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، الحديث.

ص: 65

لا في جماعة، فإنهم لو كانوا مصلى فرائض العشاء لأقامهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث شاء، ولم يحتاجوا إلى ذكر القصة لديه صلى الله عليه وسلم، ولا يتصور صلاتهم بغيرهم صلى الله عليه وسلم فرضهم وهو فيهم، فلا يورد على الأحناف بأنهم كيف خصصوا (1) منه من صلى وظهره إلى وجه إمامه، فإنهم قالوا بفساد صلاته مع أن الرواية لا تفرق بين أحد منهم.

قوله [وقال ابن عمر رضي الله عنه في هذا أنزلت] اعلم أن الرواية كثيراً ما تنسب نزول آية إلى وقعة، والأخرى إلى غيرها، ووجه ذلك كثيراً ما يكون أن الآية نزلت بعد وقوعهما كلتيهما فصح أن يقال في كل منهما أنها نزلت فيها (2)

(1) ففي الهداية: من أم قومًا في ليلة مظلمة فتحرى القبلة، وصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة وكلهم خلفه ولا يعلمون ما صنع الإمام اجزأهم لوجود التوجه إلى جهة التحرى، وهذه المخالفة غير مانعة كما في جوف الكعبة، ومن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته، وكذا لو كان متقدمًا على الإمام، انتهى. قلت: ولو حمل الحديث على الفريضة كما ذكرته احتمالاً فلا يشكل عندي على الحنفية لأن صلاتهم على جهات مختلفة لا تستلزم التقدم على الإمام، بل يجوز أن يكونوا كلهم خلفه، ومع ذلك صلوا إلى جهات مختلفة، وأكثر ما يلزم حينئذ أن يكون ظهر بعضهم إلى ظهر الإمام، ولا خلاف فيه للحنفية، إنما خلافهم فيما إذا صار ظهر المأموم إلى وجه الإمام المستلزم لتقدمه عليه، فتأمل.

(2)

هذا هو المعروف عند المفسرين، قال السيوطي في الإتقان: الحال الخامس أن يمكن نزولها عقيب السببين أو الأسباب المذكورة بأن لا تكون معلومة التباعد فيحمل على ذلك، مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن عباس نزول آية اللعان في هلال بن أمية، وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد نزولها في قصة عويمر، وجمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادق مجيء عويمر أيضًا، فنزلت في شأنهما معًا، وإلى هذا جنح النووي وسبقه الخطيب فقال: لعله اتفق لهما ذلك في وقت واحد، وقال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب، انتهى مختصراً.

ص: 66

أو يكون المعنى استخراج (1) حكم هذه الواقعة من هذه الآية، لا أنها نزلت فيها حقيقة. فمعنى فيها أنزلت على هذا التقدير انطباق الآية عليها، أو المعنى فيها وفي أمثالها.

قوله [هي منسوخة نسختها قوله إلخ] أي أبطلت عمومها الذي يوهم (2)

(1) وبذلك جزم جماعة من السلف، قال ابن تيمية: قولهم نزلت في كذا يراد به تارة سبب النزول، وتارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت في كذا، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب= =الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند، وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها، كذا في الإتقان.

(2)

لعل الشيخ رحمه الله تعالى احتاج إلى لفظ يوهم لما أن ظاهر كلام قتادة لو حمل على العموم يدل على عدم تعيين القبلة في أول الزمان، بل يصلي من شاء إلى أي جهة شاء ولم يعرف زمان فيما مضى تكون القبلة فيها بهذا العموم فلذا أوله الشيخ بهذا الكلام، واختار هذا التوجيه لبقاء حكمه في بعض= =الصور كالمعذور ومن اشتبهت عليه القبلة، وحمل أهل التفسير قول قتادة على ظاهره فنسبوا إليه هذا، ففي البحر المحيط: قال الحسن وقتادة: أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاءوا فنسخ ذلك، انتهى. والظاهر عندي أن من نسب إلى قتادة ذلك أخذه بقوله: إنها منسوخة، ولم يكن غرضه العموم. بل كان غرضه ما في الدر برواية ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخا لكم قد مات -يعني النجاشي- فصلوا عليه، قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم، فأنزل الله {وإنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية. قالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله {ولِلَّهِ المَشْرِقُ والْمَغْرِبُ} الآية، فالظاهر عندي أن غرض قتادة أنه كان في أول الإسلام من كان يصلي إلى غير القبلة لعدم العلم بالمسألة أو لعارض آخر كانت صلاته معتبرة، فتأمل فإني لم أجده في كلام أحد.

ص: 67

أن يصلي كل رجل قادراً أو غيره إلى أي جهة شاء، وليس المعنى أنه كان قبل ذلك كذا ثم نسخ، وهذا المقام واجب المراجعة بعد.

قوله [فثم وجه الله إلخ] ليس المعنى تفسير لفظ الوجه بالقبلة فإن القدماء كانوا متحاشين عن التأويل في أمثال تلك الأقاويل، بل كانوا يقولون: له وجه، ويد، واستواء، إلى غير ذلك، ولا ندري كيف هو، بل المراد بذلك أن القبلة في هذا الوقت إنما هي جهة التوجه بهذه الآية، يعني أن الآية حاكمة بجواز الصلاة ولا يعلم حكمه إلا بهذه. قوله [فيقال من شهودك] علم أن (1) القاضي لا يحكم بعلمه

(1) وبذلك قالت الحنفية في الحدود المتعلقة بحقوق الله خاصة بلا خلاف بين أصحابنا، وفي غيرها خلاف بين الإمام وصاحبيه، والمعتمد عند المتأخرين المنع مطلقًا، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو المرجح عند المالكية، وعند الشافعية فيه أقوال، والمرجح أنه لا يجوز في الحدود ويجوز في غيرها، وبسط الخلاف في ذلك في شروح البخاري حتى ذكر الحافظ في المسألة سبعة أقوال للعلماء.

ص: 68

بل يقضي بالشهادة. قوله [ويكون الرسول إلخ] فكان النبي صلى الله عليه وسلم مزكيًا، وهذا (1) على أحد التفاسير.

قوله [كيف بإخواننا إلخ] منشأ السؤال مع أن صلاتهم إلى بيت المقدس كان بأمره سبحانه أن كثيراً من الأمور يعتد بها إذا كان تمامها على وجه المشروعية، فلعل الصلاة إلى الكعبة يكون مما يتوقف عليه الصلاة إلى البيت المقدس، كما أن من فاتته صلاة الفجر فلم يؤدها إلى أن صلى الظهر والعصر وهكذا تبقى هذه الصلوات فاسدة بفساد موقوف، إن أتم الست جازت كلها وإلا لا.

قوله [وما كان الله ليضيع إيمانكم الخ] فيه إشارة إلى أن العمدة هو الانقياد والتسليم، فكل طاعة هي ائتمار فإنها غير ضائعة بفضل الله.

قوله [فقالت: بئس ما قلت إلخ] أثبتت أولاً أن الدوام على مباح لم يكن من شأنه صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما فعله جميع المسلمين فهو واجب، ثم أجابت عن استدلاله

(1) ففي البحر المحيط: لا خلاف أن الرسول هاهنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي شهادته أقوال: أحدها شهادته عليهم انه بلغهم رسالة ربه، الثاني شهادته عليهم بإيمانهم، الثالث يكون حجة عليهم، الرابع تزكيته لهم وتعديله إياهم، قاله عطاء، قال: هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين، والرسول شهيد معدل مزك لهم، وروى في ذلك حديث، انتهى. وفي الخازن: قوله عليكم شهيداً يعني عدلاً= =مزكيًا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين، ثم ذكر قصة إنكار الأمم عن تبليغ أنبيائهم، وشهادة هذه الأمة، ثم قال: ثم يؤتي بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأله عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم، انتهى.

ص: 69

بأن نفى (1) الحرج هاهنا لما كانت الأنصار والمهاجرون تحرجوا من السعي بينهما لما زعموا ذلك من أمر الجاهلية، وأما إثبات أن السعي في أي مرتبة من مراتب الأحكام المشروعة فهذا النص القرآني ساكت عنه، وبين الناس صلى الله عليه وسلم والنص الآخر وجوبه، ومعنى الآية أن السعي ليس من أمر الجاهلية كما زعمتم، وإنما هو شريعة قديمة ملة أبيكم إبراهيم، وقال:{إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} وانتفت شبهة كونه من أمر الجاهلية، وكان واجبًا كما كان من قبل، والفرق بين قول عائشة رضي الله عنها (2) وابن عبد الرحمن رضي الله عنه أنها

(1) قال الحافظ: محصله أن عروة احتج للإباحة باقتصار الآية على رفع الجناح، فلو كان واجبًا لما اكتفى بذلك لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المستحب بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك، ومحصل جواب عائشة رضي الله عنها أن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه مصرحة برفع الإثم عن الفاعل، وأما المباح فيحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة في التعبير بذلك مطابقة جواب السائلين، لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه لا يستمر في الإسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم، وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر، إلى آخر ما بسطه.

(2)

هكذا قال العيني تحت رواية البخاري، ولفظها من طريق شعيب عن الزهري عن عروة: ثم أخبرت أبا بكر، فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجلاً من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا ما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله الطواف ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، الحديث. فقال العيني: إن قلت: ما وجه هذا الاستثناء؟ قلت: وجهه أنه أشار به إلى أن الرجال= =من أهل العلم الذين أخبروا أبا بكر بن عبد الرحمن أطلقوا ولم يخصوا بطائفة، وأن عائشة رضي الله تعالى عنها خصت الأنصار بذلك إلخ، وهذا هو الظاهر من كلام الحافظ في الفتح، وبسط في توجيه الروايات الدالة على أنهم تحرجوا في الإسلام، لما أنهم كانوا تحرجوا في الجاهلية أيضًا، وليت شعري ما اضطرهم على ذلك، وما المانع عن التحرج في الإسلام بشيء كانوا تحرجوا به في الجاهلية، فالظاهر عندي أن الفرق بين قول عائشة رضي الله عنها وبين ما سمعه ابن عبد الرحمن هو التغاير، ذكرت عائشة رضي الله عنها نزولها فيمن تحرجوا في الإسلام لتحرجهم في الجاهلية، وكان تحرجهم في الجاهلية لحبهم صنمهم وبغضهم هذين، وكان تحرجهم في الإسلام للبغض الطبعي المركوز فيهم من زمان الجاهلية، وعدم الذكر في القرآن، وسمع أبو بكر نزولها في من تحرجوا في الإسلام لكونه من شعائر الجاهلية أو عدم الذكر في القرآن، ثم لما سمع أبو بكر قول عائشة فرح بذلك لزيادة العلم، وعموم الآية فريقًا لم يسمع حالهم قبل ذلك، ويظهر هذا المعنى من كلام البيهقي، كما ذكره الحافظ احتمالاً، إذ قال: ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين، منهم من كان يطوف بينهما، ومنهم من كان لا يقربهما، واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف وأشار إلى نحو هذا الجمع البيهقي، انتهى. ثم قال العيني: اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال: أحدها أنه نكن لا يصح الحج إلا به، وهو قول الشافعي ومالك في المشهور عنه، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وإسحاق وأبي ثور لقوله صلى الله عليه وسلم: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي، رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من رواية صفية بنت أبي شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة بإسناد حسن، والثاني أنه واجب يجبر بالدم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومالك في العتبية كما حكاه ابن العربي، والثالث أنه سنة ومستحب، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء وأحمد في رواية، انتهى.

ص: 70

خصت التحرج بطائفة، وابن عبد الرحمن عم التحرج بالفرقتين كلتيهما من كان يسعى في الجاهلية وغيره.

قوله [هما تطوع] التطوع (1) هاهنا بمعنى ما زاد على الفرض فيشمل الواجب أيضًا. قوله [نبدأ بما بدأ الله] والترتيب لم يفهم بالواو، وإلا لما احتيج إلى قوله ذلك بل كانت (2) الأصحاب فهموا الترتيب، ولما لم يفهموا علم منه أن الواو ليست للترتيب، وإنما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه وجوب تقديمه على المروة بفعل هاجر على الأنبياء وعليها السلام، أو بوحي غير متلو، والوجوب نسبة إلينا ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: نبدأ بما بدأ الله به، وفي رواية (3) ابدأوا بما بدأ الله به، وأما الآية فغاية ما يفهم منها في ذلك اهتمام بشأن الصفا نسبة إلى مروة، وشرف له عليه، وأما وجوب تقديمه فلا.

(1) لو سلم كونه بمعناه المعروف فأثر صحابي يخالف ما تقدم من المرفوع، والظاهر أنه رضي الله عنه استنبطه من قوله تعالى:{ومَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} كما يدل عليه ظاهر السياق، والمراد به عند الجمهور التطوع بالحج أو العمرة، فإن التطوع بالسعي لم يشرع.

(2)

عطف على (لما) يعني لم يحتاجوا إلى قوله صلى الله عليه وسلم، بل فهموا الترتيب من لفظ الواو.

(3)

ففي الدر للسيوطي: أخرج مسلم، والترمذي، وابن جرير، والبيهقي في سننه، عن جابر رضي الله عنه: قال: لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجته قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ابدأوا بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، الحديث.

ص: 72

قوله [ولكن أنطلق فأطلب لك] الظاهر أنها أرادت الاستدانة عليه، ولذلك انتظرت قدومه لما أن الاستدانة عليه لم يكن لها بدون إذنه، ولو أخذت كان الأداء عليها لا عليه، فلعله كان يصوم بدونه، ولو كان عندها شيء من طعام غير مهيأ للأكل لما انتظرت في إعداده إلى أن هجمت الليل، وما يتوهم من أنها لعلها أرادت المهيأ للأكل، وقد كان عندها من الطعام ما ليس كذلك، فيخدشه أنها مع علمها بصوم زوجها كيف تراخت في ذلك حتى كان من الأمر ما كان، وإن كان التفصى عنه يمكن بأنها لم تبدر إلى ذلك لرجائها أن يأتي زوجها من التمرات (1) أو الثمار إلى غير ذلك مما يكفي كليهما.

قوله {الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} أطلق (2) لفظ الرفث من بين المفطرات الثلاثة

(1) قال الحافظ تحت رواية البخاري بلفظ: قال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا! ولكن أنطلق إلخ: ظاهره أنه لم يجئ معه بشيء، لكن في مرسل السدى أنه أتاها بتمر، فقال: استبدلي به طحينًا واجعليه سخينًا، فإن التمر أحرق جوفي، وفيه: لعلي آكله سخنًا، وأنها استبدلته وصنعته.

(2)

هذا على سياق الترمذي، وهكذا سياق رواية البخاري، قال الحافظ: كذا في هذه الرواية، وشرح الكرماني على ظاهرها، فقال: لما صار الرفث، وهو الجماع هاهنا حلالاً بعد أن كان حرامًا كان الأكل والشرب بطريق الأولى، فلذلك فزحوا بنزولها، وفهموا منها الرخصة، هذا وجه مطابقة ذلك لقصة أبي قيس، قال: ثم لما كان حلهما بطريق المفهوم نزل بعد ذلك {كُلُوا واشْرَبُوا} ليعلم بالمنطوق تسهيل الأمر عليهم صريحًا، ثم قال: أو المراد من الآية هي بتمامها، قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، وبه جزم السهيلي، وقال: إن الآية بتمامها نزلت في الأمرين معًا، وقدم ما يتعلق بعمر لفضله، قال الحافظ: وقد وقع في رواية أبي داؤد: فنزلت {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله {مِنَ الفَجْرِ} ففرح المسلمون بذلك، انتهى. قلت: ولا يبعد أن الراوي قدم قوله: ففرح المسلمون إشارة إلى أن الفرح بنزول أول الآية كان أكثر لما أن= =الاحتياج إليه أشد، فإن الرجل طالمًا لا يسهل عليه الجماع قبل العشاء أو قبل النوم لعدم القدرة على التخلية، بخلاف الأكل والشرب، كما لا يخفى.

ص: 73

ليعلم حكم الباقين، وهو الأكل والشرب بطريق الأولى، بخلاف ما لو كانوا رخصوا بلفظ الأكل أو الشرب لم يكن تناوله الرفث بهذه المثابة.

قوله [شيئًا لم يحفظه] وفي الحاشية: إنك لعريض القفا، وإن وسادك لعريض، ليس (1) المراد بذلك التعريض بحمقه، فإن شأن خلقه صلى الله عليه وسلم كان أرفع

(1) قال الخطابي في المعالم: في قوله: إن وسادك لعريض قولان: أحدهما يريد أن نومك لكثير، وكنى بالوسادة عن النوم لأن النائم يتوسد، أو أراد أن ليلك لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل حتى يتبين لك العقال، والقول الآخر أنه كنى بالوسادة عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه عن الوسادة إذا نام، والعرب تقول: فلان عريض القفا إذا كان فيه غباوة وغفلة، وقد روى في هذا الحديث: إنك عريض القفا، وجزم الزمخشري بالتأول الثاني، فقال: إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم قفا عدي لأنه غفل عن البيان، وعرض القفا مما يستدل به على قلة الفطنة، وقد أنكر ذلك كثير منهم القرطبي، فقال: حمله بعضهم على الذم له على ذلك الفهم، وكأنهم فهموا أنه نسبة إلى الجهل والجفا وعدم الفقه، وليس الأمر على ما قالوه، لأن من حمل اللفظ على حقيقته اللسانية التي هي الأصل إن لم يتبين له دليل التجوز لم يستحق ذمًا، ولا ينسب إلى جهل، وإنما عنى -والله أعلم- أن وسادك إن كان يغطى الخيطين اللذين أراد الله فهو إذاً عريض واسع، ولذا قال في أثر ذلك: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار، فكيف يدخلان تحت وسادتك، وقوله: إنك لعريض القفا، أي أن الوساد الذي يغطى الليل والنهار لا يرقد عليه إلا قفا عريض للمناسبة، وقال ابن المنير: في حديث عدي جواز التوبيخ بالكلام النادر الذي يسير، فيصير مثلاً بشرط صحة القصد ووجود الشرط عند أمن الغلو في ذلك، فإنه مزلة القدم إلا لمن عصمه الله عز وجل، كذا في الفتح.

ص: 74

من ذلك، بل المراد بهما أن الوساد الذي وسع أن يجعل تحته بياض النهار وسواد الليل ما أعظمه، وكذلك قفا من يجعله تحت رأسه يكون عريضًا لا محالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مطائبة وليس القصد رمية بالخرق (1).

قوله [وعلى الجماعة إلخ] أي على إحدى (2) الجماعات من المسلمين فضالة،

(1) الخرق بالضم وبالتحريك ضد الرفق، وألا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور، والحمق كالخرقة، والأخرق الأحمق.

(2)

وهي أهل الشام، كما في رواية الحاكم ولفظها: عن أسلم أبي عمران مولى بني نجيب قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد الأنصاري، فخرج صف عظيم من الروم، فصففنا لهم صفًا عظيمًا، الحديث. ولفظ رواية أبي داؤد: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، الحديث. قال الشيخ في البذل: وفي رواية بهذا السند عند الطبري: على أهل مصر عقبة عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وفي أخرى له: وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة= =ابن عبيد، فظهر بهذه الروايات المذكورة وغيرها أن عبد الرحمن بن خالد كان أميراً على الجميع، وأما عقبة وفضالة فكانا أميرين تحت ولاية عبد الرحمن على الجماعة الخاصة، انتهى. وظاهر الحديث أن المراد بالإلقاء في التهلكة ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة، وإصلاح الأموال، وهو أحد الأقوال التسعة التي ذكرها صاحب البحر المحيط في تفسير الآية.

ص: 75

أو على جماعة غير المصريين فضالة، وليس المراد جماعة الروم كما يوهمه المقابلة.

قوله [فقال يا أيها الناس إنكم إلخ] لما زعم هؤلاء القائلون قوله تعالى: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} عامًا في كل من جر على نفسه حتفًا سواء كان بعد منفعة دينية أو غيرها، رد عليهم مقالتهم تلك، وقال ما حاصله: إن إقامتنا في أموالنا بحيث نترك الغزو والجهاد كان إلقاء الأنفس في التهلكة، فكلما كان هذا شأنه كان مصداقًا للآية ومنهيًا عنه بها، وأما من أهلك نفسه ليعلى كلمة الله، أو ليهلك عدوه، أو يصيب فيهم نكاية، فليس مما زعمتم، وهذا الرجل كان كذلك، فإنه لما دخل فيهم، ووطن نفسه على الموت، فأي بلاء لا يصيبها عليهم، وإذا كان موته بعد إنكائهم أو قتل أحد منهم أو جرح بعضهم لم يكن من هذا القبيل، لأن ذلك أهيب لهم، فإنهم يستدلون بذلك على شدة رغبة أهل الإسلام على الموت فيلقاهم الخور والجبن، فاندفع بذلك ما كانوا يزعمون أنه يموت ميتة حرمة، وهذا الذي اختاره أهل العلم (1) من أن الرجل إذا ألقى نفسه بحيث يستيقن فيه قتله يساغ له ذلك إذا كان ذلك يجلب منفعة دينية معتدة بها.

(1) ففي الشامي عن شرح السير: لا بأس أن يحمل الرجل وحده وغن ظن أنه يقتل إذا كان يصنع شيئًا بقتل أو بجرح أو بهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك، فأما إذا علم أنه لا ينكى فيهم فلا يحل له أن يحمل عليهم، لأنه لا يحصل= =بحملته شيء من إعزاز الدين، بخلاف نهى فسقة المسلمين عن منكر إذا علم أنهم لا يمتنعون بل يقتلونه، فإنه لا بأس بالإقدام، وإن رخص له السكوت، لأن المسلمين يعتقدون ما يأمرهم به، فلابد أن يكون فعله مؤثراً في باطنهم بخلاف الكفار، انتهى.

ص: 76

قوله [فاحلق ونزلت هذه الآية] ولما كانت الواو للجمع المطلق صح قوله: نزلت بعد قوله: فاحلق مع أن نزول الآية قبل قوله صلى الله عليه وسلم (1) له: احلق.

قوله [فاحلق راسك وانسك نسيكة] ولما كان الحكم له ذلك وهو معذور ولم يكن الناسي (2) والجاهل فوقه عذراً كان الحكم فيهما أيضًا هو التكفير،

(1) كما هو ظاهر قوله: لفي أنزلت ولأياى عني كما في حديث الباب، وفي حديث عبد الله بن معقل عند البخاري: نزلت في خاصة وهي لكم عامة، لكن في رواية للبخاري قال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق. فأنزل الله الفدية، قال عياض: ظاهره أن النزول بعد الحكم، = =وفي رواية عبد الله ابن معقل أن النزول قبل الحكم، قال: فيحتمل أن يكون حكم عليه بالكفارة بوحي لا يتلى، ثم نزل القرآن بذلك، انتهى. هكذا في الفتح.

(2)

قال ابن نجيم في البحر تحت جماع الناسي: حاصل ما ذكره الأصوليون أن النسيان لا ينافي الوجوب لكمال العقل، وليس عذراً في حقوق العباد، وفي حقوق الله عذر في سقوط الإثم، أما الحكم فإن كان مع مذكر ولا داعي إليه، كأكل المصلى وجناية المحرم، لم يسقط بتقصيره، بخلاف سلامه في القعدة، وإن كان ليس مع مذكر مع داع إليه سقط كأكل الصائم، وإن لم يكن معهما فكذلك بالأولى، كترك الذابح التسمية، قال: وقدمنا أن الجاهل والعالم والمختار والمكره والنائم والمستيقظ سواء لحصول الارتفاق. انتهى.

ص: 77

وأما العامد فوجوب الكفارة عليه ظاهر، وغاية الفرق (1) بينهما أن المعذور مختار في أي هذه الثلاثة شاءه بخلاف غيره.

قوله [وهذا أجود إلخ] أي في رواياته في الحج (2). قوله [الألد الخصم] يناسب (3) قوله تعالى: {وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} .

قوله [ولم يجامعوها في البيوت] بل كن خارج الدور في بيوت علاحدة.

(1) ففي البذل عن العيني أنه صلى الله عليه وسلم خيره بين الصوم والإطعام والذبح، قال أبو عمر: عامة الآثار عن كعب وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن العظيم، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور إلى أن التخيير لا يكون إلا في الضرورة، فإن فعل ذلك من غير ضرورة فعليه دم. قال الشيخ: ووجهه أن التخيير في حال الضرورة للتيسير والتخفيف، والجاني لا يستحق التخفيف، انتهى. وقال الحافظ: استنبط من الحديث بعض المالكية إيجاب الفدية على من تعمد حلق رأسه بغير عذر، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن ثم قال الشافعي والجمهور: لا يتخير العامد بل يلزمه الدم، وخالف في ذلك أكثر المالكية، انتهى.

(2)

وإلا فأحاديثه تبلغ ثلاثين ألفًا، كما في تهذيب الحافظ، فكيف يمكن أن يكون هذا أجود من الكل، وفيها أصح منه كثيراً.

(3)

يعني ذكر المصنف هذا الحديث كأنه كالتفسير لقوله عز اسمه: {وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} وفسره في الجلالين بشديد الخصومة.

ص: 78

قوله [أفلا تنكحهن في المحيض] وجه بتوجيهين (1): أحدهما أنهم لم سمعوا طعن اليهود أرادوا أن يرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في متاركتهن كمتاركة اليهود، ليكون أسلم من طعنهم، والثاني أنهم استأذنوا في المجامعة المنهية ليكون أنكى فيهم ولتتم المخالفة، والأول أوفق بترتب مجيئهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعن اليهود، ومعنى أفلا تنكحهن على التوجيه الأول أفلا نخالطهن وأنترك مخالطتهن، كالذي يستأذن في ترك المخالطة يعني أنفعل يا رسول الله ترك المخالطة، كما يقول المسافر: أتنزلني عندك، وعلى الثاني فظاهر أن معنى النكاح هو الوطى.

قوله [فتمعز وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم] وجه الغضب (2) في الأول ستيذان في موافقتهم مع ما أمروا بالمخالفة، وعلى الثاني استيذان ترك ما وجب عليهم لإتمام مخالفة اليهود.

(1) وبالأول جزم القاري إذ فسر ما في المشكاة برواية مسلم بلفظ: أفلا تجامعهن أي نساكنهن، والتقدير ألا نعتزلهن، فلا نجتمع معهن في الأكل والشرب والبيوت، يريد أن الموافقة للمؤالفة، وقيل: لخوف ترتب الضرر، انتهى. وبالثاني جزم الشيخ في البذل إذ فسر حديث أبي داؤد بلفظ: أفلا ننكحهن أي أفلا نطأهن في المحيض ليكمل المخالفة، ثم قال: ما فسره القاري والشيخ عبد الحق في اللمعات أفلا نجامعهن في البيوت يأبى عنه ما في أبي داؤد أفلا ننكحهن، ولعلهما لم يطلعا على هذا اللفظ فقالا ما قالا، انتهى.

(2)

ويفهم الغضب من التمعر كما ظنه الصحابة، وفي المجمع: تمعر وجهه أي تغير، وأصله قلة النضاره، وعدم إشراق اللون، أخذ من مكان أمعر، وهو الجدب الذي لا خصب فيه، انتهى. وقال المجد: معر وجهه غيره غيظًا فتمعر، انتهى.

ص: 79

قوله [أنه قد غضب] أي رسخ في قلبه الغضب والموجدة عليهم، وإلا فمطلق الغضب كان غير مشكوك فيه، فكيف يقال فيه إنا ظننا ذلك، ثم إن غضبه صلى الله عليه وسلم لما لم يكن إلا لأمر شرعي انتفى بتهديدهم والموجدة عليه، فإنه (1) لا شك في أنهم تابوا وندموا على ما سألوه، فكان كما قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

قوله [فاستقبلتهما هدية] أي (2) فآتاهما حين انحرفا للانصراف.

قوله [أنى شئتم] أي من أين (3) شئتم.

(1) كما هو المتعين من جلالة شأنهما، ففي الإصابة عن عائشة: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً كلهم من بني عبد الأشهل: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وعباد بن بشر، وفي الصحيح من حديث أنس أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاءت عصا أحدهما، فلما افترقا أضاءت عصا كل واحد منهما، انتهى.

(2)

قال القاري: أي استقبل الرجلين شخص معه هدية يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسناد مجازي.

(3)

قيل: أنى بمعنى كيف بالنسبة إلى العزل وتركه، قاله ابن المسيب، فتكون الكيفية مقصورة على هذين الحالين، أو بمعنى كيف على الإطلاق، أي في أي حال شاءها الواطي قائمة أو مضطجعة، أو بمعنى متى، قاله الضحاك، أي في أي زمان شئتم، وقال جماعة من المفسرين: بمعنى أي، والمعنى على أي صفة شئتم، فيكون تخييراً في الهيئة، أي أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر، وقد وقع ذلك مفسراً في بعض الأحاديث، وقيل: بمعنى أين فجعلها مكانًا، واستدل به على جواز النكاح في الدبر، وممن روى إباحته محمد بن المنكدر، وعبد الله بن عمر من الصحابة، ومالك، وروى عن ابن عمر تكفير من فعل ذلك وإنكاره، وروى عن مالك إنكاره، سئل عنه= =يزعمون أنك تبيح إتيان النساء في الدبر، فقال: معاذ الله ألم تسمع قوله عز اسمه {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} وأنى يكون الحرث إلا موضع البذر، وروى تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا بألفاظ مختلفة كلها تدل على التحريم، وقال ابن عطية: لا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه= =النازلة على زلة عالم، وقال أيضًا: أنى شئتم معناه عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة من أي وجه شئتم، وأنى يجيء سؤالاً وإخبارًا، فهي أعم في اللغة من كيف وأين ومتى، هذا هو الاستعمال العربي، كذا في البحر المحيط مختصراً منه.

ص: 80

آخر ما عليك] بدل من الأول وبيان له، ومعنى آخر ما عليك إلى آخر الوقت الذي يأتي عليك، وهو الجزء الآخر من أيام حياته.

قوله [وفي هذا الحديث دلالة إلخ] وهذا غير تام (1) فإن المنع عن

(1) وجعله الحافظ من أقوى الأدلة، وقال: هو أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضه معنى، وبسط الشيخ في البذل في مستدلات الحنفية من الكتاب والسنة وغيرهما، وذكر من جملتها قوله عز اسمه:{فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أضاف النكاح إليها فيقتضي تصور النكاح عنها، وقوله عز اسمه {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا} أي يتناكحا، فأضاف النكاح إليهما من غير ذكر الولي، وقوله عز اسمه:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ} الآية والاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه أضاف النكاح إليهن من غير ذكر الولي، والثاني أنه نهى الأولياء عن المنع عن نكاحهن أنفسهن من أزواجهن، والنهي يقتضي تصوير المنهى عنه، هذا وروى عنه صلى الله عليه وسلم: ليس للولي مع الثيب= =أمر، وهذا قطع ولاية الولي عنها، وروى عنه صلى الله عليه وسلم: الأيم أحق بنفسها من وليها، إلى آخر ما بسطه، وقال: أجاب الطحاوي عن استدلالهم بهذه القصة بقوله: وكان ذلك عندنا يحتمل ما قالوا ويحتمل غير ذلك أن يكون عضل معقل كان تزهيده لأخته في المراجعة، فتقف عند ذلك، فأمر بترك ذلك، انتهى مختصراً. وبسط الجصاص في أحكام القرآن في الاستدلال بآية الباب للحنفية، وذكر عدة وجوه للاستدلال، واستدل أيضًا بقوله عز اسمه:{فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ} وقال: فإن قيل: لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى الأجنبي، قيل له: هذا غلط لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهى عنه، فكيف يستدل به على إثبات الحق، وأيضًا فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح، فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفًا إلى هذا الضرب من المنع لأنها في الأغلب تكون بيد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك. انتهى.

ص: 81

العضل للأولياء لا يستدعى جواز العضل لهم، فإن العضل كما يكون جائزاً في مواضع يكون حرامًا في مواضع، فالمنع عن العضل الذي ليس لهم فيه حق، أفلا ترى آيات الكتاب تنهي عن أمور محرمة، كما في قوله تعالى:{فَلا تَظْلِمُوا} {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى} {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم} إلى غير ذلك، وأما قوله: لزوجت نفسها (1) ولم تحتج إلخ، ففيه أن امتناعها عن تزويج نفسها لم يكن لاحتياجها فيه إلى أخيها، بل لإرضاء أخيها، وترك ما يسخطه ويؤذيه، وإن

(1) وقد زوجت عائشة حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب، كما في أحكام القرآن.

ص: 82

كانت مختارة فيه محبة (1) هاوية له، أفلا ترى قوله تعالى:{أَن يَنكِحْنَ} حيث نسبه إلى النسوة أنفسها، ولم يقل: ولا تعضلوهن أن تنكحوهن، ثم قوله مع رضائهن يرد عليه مقاله، فإن الولي لما كان مستبداً بذلك أولى بها من نفسها، فأي فاقة بعد ذلك في تزويجها إلى رضاها، فعلم أن العضل ليس حقًا تستحقه الأولياء عليهن إلا إذا أردن تزويج أنفسهن حيث يكون عاراً على الأولياء، بأن يكون في غير كفو أو بأقل من مهر مثلها، وأما في غير ذلك فلا.

قوله [والصلاة الوسطى وصلاة العصر] كان تفسيرا بإعادة (2) حرف

(1) بصيغة اسم الفاعل عطف على مختارة بحذف العاطف، أو خبر ثان، ويحتمل أن يكون مصدراً منصوبًا بنزع الخافض، أي لأجل محبة له.

(2)

جواب عما يرد على الجمهور، وتوضيح ذلك أنهم اختلفوا في المراد بالصلاة الوسطى على اثنين وعشرين قولا ذكرت في الأوجز، والمشهور منها ثلاثة، قول مالك والشافعي أنها الصبح، وقول بعض الصحابة والتابعين أنها الظهر، وهي رواية عن أبي حنيفة، وقول جمهور الصحابة والتابعين أنها الظهر، وهي رواية عن أبي حنيفة، وقول جمهور الصحابة والتابعين أنها العصر، وبه قالت الحنفية وأحمد وداؤد، إلى آخر ما بسط في الأوجز، وأورد على هذا القول الثالث بحديث الباب، قال ابن عبد البر: ثبوت الواو الفاصلة التي لم يختلف في ثبوتها في حديث عائشة يدل على أنها ليست الوسطى، قال الباجي: لأن الشيء لا يعطف على نفسه، انتهى. وأشار الشيخ إلى جواب هذا الإيراد بأن قوله: وصلاة العصر تفسير لقوله: والصلاة الوسطى، فالواو الثانية بمقابلة الأولى، وهذا لطيف جداً، أجيب عنه أيضًا بأن العطف التفسيري معروف عند النحاة، هذا وقد روى عن عائشة بلفظ: وهي صلاة العصر بعدة طرق مذكورة في الأوجز.

ص: 83

العطف، يعني أنه تفسير لقوله: والصلاة الوسطى لا للصلاة الوسطى فقط، لكن (1) عائشة فهمت ذلك قراءة. قوله [عن زيد بن أرقم إلخ] فيه دلالة على أن الكلام في الصلاة إنما نسخ في المدينة، فإن زيد بن أرقم (2) لم يكن في مكة.

قوله [بالقنو والقنوين فيعلقه] فيه دلالة (3) على تعليق المراوح في المساجد لما أنها ليست بأقل نفعًا من القنو مع ما في القنو من الشغل والتلويث ما ليس

(1) استدراك من قوله كانت تفسيراً وجواب عن إشكال آخر، وهو أن عائشة كيف أمثلته في القرآن، وأجيب أيضًا بأن إملاءها كان أيضًا على سبيل التفسير، وورد في الروايات أنها كانت أولاً في القرآن ثم نسخت، كما أخرجه مسلم وغيره من حديث البراء.

(2)

قال العيني: الكلام في الصلاة كان مباحًا ثم حرم، واختلفوا متى حرم؟ فقال قوم: بمكة، واستدلوا بحديث ابن مسعود ورجوعه من عند النجاشي بمكة (وتقدم الجواب عنه في الصلاة) وقال آخرون: بالمدينة بدليل حديث زيد بن أرقم، فإنه من الأنصار أسلم بالمدينة، وسورة البقرة مدنية، وروى الطبراني من حديث أبي أمامة: كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه، فيخبره بما فاته، فيقضي ثم يدخل معهم، حتى جاء معاذ يومًا فدخل في الصلاة، فذكر الحديث، وهذا كان بالمدينة قطعًا، لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بالمدينة، انتهى مختصرا.

(3)

لله در الشيخ ما أدق نظره، ويدخل فيما استنبطه تعليق الساعات، فإن الاحتياج إليها لإقامة الصلاة وتكثير الجماعة أشد من الاحتياج إلى المراوح.

ص: 84

في المروحة. قوله [فنزلت هذه الآية بعدها فنسختها إلخ] هذا نسخ بحسب (1) اصطلاح المحدثين، فإنهم يسمون كل تخصيص وتفسير وبيان إلى غير ذلك نسخًا، فإن الآية الأولى وهي قوله تعالى:{إن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآية ليس بشامل هواجس النفس وخطراتها حتى ينسخ ذلك بالآية الثانية، بل المراد بما تخفوه هو المرتبة المسماة بالعزم (2) الذي يؤاخذ العبد عليها كما أن يكمن

(1) قال صاحب المدارك: المحققون على أن النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار، وقال الحافظ: المراد بقوله نسختها، أي أزالت ما تضمنته من الشدة، وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به، لكنها لا تقع المؤاخذة به، أشار إلى ذلك الطبري فراراً من إثبات دخول النسخ في الأخبار، وأجيب بأنه وإن كان خبراً لكنه يتضمن حكمًا، ومهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام، وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ما كان خبراً محضًا لا يتضمن حكمًا، كالأخبار عما مضى من أحاديث الأمم، ونحو ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث التخصيص، فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيراً، والمراد بالمحاسبة بما يخفي الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه، دون ما يخطر له ولا يستمر عليه، انتهى.

(2)

قال صاحب المدارك: لا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، لكن ما اعتقده عزم عليه، والحاصل أن عزم الكفر كفر، وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور، فأما إذا= =هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره، فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله، أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا؟ قيل: لا، لقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به، والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم، وأن المؤاخذة في العزم ثابتة، وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني، والدليل عليه قوله تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ} الآية، وعن عائشة: ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا، انتهى.

ص: 85

رجل في نفسه يقتل فلانًا، ويفكر لذلك تدبيراً، فإنه مأخوذ على ما عقد عليه قلبه من ذلك، وأما من يوسوس قلبه أن يزني فلانة الأجنبية وهو مع ذلك يرد هذا الخاطر عن نفسه، ويشتغل بما يشغله عن وسوسة تلك، فهو غير مأخوذ عليها، هذا ويخدشه أن الصحابة بأسرها كيف خفى عليهم ذلك، كيف وفيه (1) أنه دخل قلوبهم منه شيء، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كيف لم يبين لهم المراد، بل بين لهم (2) في ذلك ما يحقق المؤاخذة على الهواجس، وكون الآية أريد بها الوساوس، ومما يخطر

(1) كما هو نص الروايات الكثيرة في الباب، منها ما في حديث علي عند المصنف: لما نزلت هذه الآية أحزنتنا، وما في حديث ابن عباس عنده: دخل قلوبهم منه شيء لم يُدخل من شيء. وفي الدر برواية ابن جرير وغيره عن ابن عباس، قال: لما نزلت ضج المؤمنون ضجة، وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد، والرجل، واللسان، كيف نتوب من الوسوسة، كيف تمتنع منها؟ فجاء جبرئيل بهذه الآية {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَاّ وسْعَهَا} الحديث.

(2)

كما هو ظاهر حديث ابن عباس المذكور، ونص حديث عائشة في المعاتبة، ويدل عليه الروايات الصريحة وسيأتي بعضها قريبًا.

ص: 86

بالبال -والله أعلم بحقيقة الحال- أن فهم المعنى العام من كلمة (تخفوه) ليس ببعيد، فإن كل أمر وقع في قلب رجل فهو يصدق عليه أنه مما أخفاه على التبادر، وإن كان النظر إلى نسبة الفعل إليه ينفي هذا العموم، ثم إيراد الخدشة بأنه عليه السلام كيف لم يبين لهم مراد الآية حتى يرجعوا عما هم عليه، فلعله صلى الله عليه وسلم مع علمه بمعنى الآية الذي هو مراده تعالى إنما أرشدهم التسليم (1) والسمع والطاعة، تمرينًا لأصحابه على الانقياد، وتدريبًا لهم بامتثال أمر رب العباد حتى يكونوا منقادين لما كلفوا وإن كان من قبيل ما لم يطيقوه،

(1) كما هو ظاهر حديث ابن عباس عند المصنف، وأوضح منه ما في الدر برواية أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ} الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله= =صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا: يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم {سَمِعْنَا وعَصَيْنَا} بل قولوا: سمعنا وأطعنا، الحديث، وبرواية الفريابي وعبد بن حميد وغيرهما، عن محمد بن كعب القرظي، قال: ما بعث الله من نبي، ولا أرسل من رسول أنزل عليهم الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية {وإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} الآية فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها ويقولون: نؤاخذ بما يحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا؟ فيكفرون ويضلون، فلما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم، فقالوا: يا رسول الله أنؤاخذ بما تحدث به أنفسنا، ولم تعمله جوارحنا؟ قال: نعم! فاسمعوا وأطيعوا واطلبوا إلى ربكم، الحديث.

ص: 87