الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يزل على حاله إلى أن نحلت حركاته، وغاضت عمن يقصده بركاته.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ست عشرة وست مئة.
عبد الكريم بن هبة الله
ابن السديد المصري القاضي الجليل الكبير النبيل المدبر المشير الأثير الأثيل، كريم الدين أبو الفضائل، وكيل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وناظر خاصته ومدبر دولته.
أحيا الكروم والجود، وسهر في طيب الثناء عليه والمدابير هجود، صدق أخبار البرامكة بل أخملهم، وزاد في اقتراح المكارم فحملهم الخجل بل جملهم، ابتدع في الإحسان طرقاً خفيت على الأوائل، وابتده جوداً لا يحسن الثناء عليه سحبان وائل، فكان كما قال أبو الطيب:
تمشي الكرام على آثار غيرهم
…
وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
عمر ربوع الندى، وغمر الناس بالجدى، وعم بجوده وما خص، وبل جناح الشكر وما حص، فدرجت حوله طيور الثناء وما طارت، وعرجت في مراقي حمدة ودارت، أجمع أهل عصره من غير مصره على سماحه، ولم يخالف واحد على مبالغة الجود في بطن راحه، إذا أنه كرم، كرمه عرش على الفقراء والأمراء، وتعدى الغاية فتأدى إلى الملوك والوزراء حتى أخجل بنيله النيل، وفرت مياه الفرات، وقالت:
هذا من المستحيل، وعلى الجملة فكان خبره أكبر من خبره، وهو أبو دلف زمانه الذي ولت الدنيا على أثره، وقد تمكن من سلطانه تمكن الصبابة من بني عذرة، والشجاعة من آل أبي صفرة، وحل منه محل الإنسان من العين. وأطاعه طاعة امفلس لرب الدين، فهو له في القوبل مثل المحب للواشين، والغر للغاشين لا يكاد يخالفه، ولا يرى هواه في شيء إلا يميل إيه ويحالفه، وكان به لذلك الملك نضارة، ولذلك العصر غضارة:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
…
بعد الممات جمال الكتب والسير
ولم يزل نجمه في سعود، وعزمه في صعود، إلى أن غدر به زمانه، وخانه محبوه وإخوانه، وتبرأ منه من كان يجمعهم خوانه فقبض عليه ونظر بعد الرضا بعين السخط إليه وجهزه إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم إلى أسوان، ومن هناك انتقل إلى رضوان، وادعي أنه شنق روحه، واختار أن سكن ضريحه، وذلك في ثالث عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وكان قد أسلم كهلاً أيام الجاشنكير، وكان كاتبه، وكان لا يصرف على السلطان شيء إلا بقلمه، ويقال: إنه طلب يوماً إوزة، ولم يكن كريم الدين حاضراً، فتعذر
صرفها إليه، ولما هرب المظفر رحمه الله تعالى ووصل السلطان إلى مصر، لم يكن له دأب في غير تطلب كريم الدين والتوقع عليه والسؤال عنه في كل وقت.
أخبرني الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس، قال: جاء كريم الدين إلى الأمير علم الدين الجاولي، وقال له: قد جئت إليك، فقال: ما في يدي لك فرج، ولكن اليوم للسلطان خاصكي، يقال له: الأمير سيف الدين طغاي الكبير وهو لا يخالفه فأريد أجتمع لك به، وأعرفك ما يكون، ثم إنه اجتمع به فقال له أحضره، ودخل طغاي إلى السلطان، وهو يضحك، فقال له: إن حضر كريم الدين أيش تعطيني؟ ففرح، وقال له: أعندك هو؟ أحضره، فخرج، وقال للجاولي: أحضره، فأحضره، وقال طغاي لكريم الدين: مهما قال لك السلطان؛ قل له: نعم، ولا تخاله، ودعني أنا أدبر أمرك، فدخل به عليه، فلما رآه استشاط غضباً، وقال له: اخرج الساعة، احمل ألف ألف دينار، فقال: نعم، وخرج، فقال: لا كثير، أحمل خمس مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة. فقال: لا، كثير، احمل ثلاثة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فقال: لا، كثير، احمل الساعة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فخرج، فقال له الأمير: سيف الدين طغاي: لا تسقع ذقنك وتحضر الجيمع الآن، ولكن هات الآن منها عشرة آلاف دينار، ودخل بها إلى السلطان، فسكن غيظه، وبقي كل يومين وثلاثة يحمل خمسة آلاف دينار، ومرة ثلاثة آلاف دينار، ومرة ألفين. ولم يزل هو والقاضي فخر الدين ناظر الجيش؛ يصلحان أمره عند السلطان إلى أن رضي عنه وسامحه بما بقي عنده، واستخدمه ناظر الخاص فهو أول من باشر هذه الوظيفة، ولم تكن تعرف أولاً، ثم
تقدم عنده، وأحبه محبة زائدة عن الحد، وكان يخلع عليه أطلس أبيض والفوقاني بطرز، والتحتاني بطرز، والقبع زركش على ما استفاض.
وكانت الخزائن عنده جميعها في بيته، وإذا أراد السلطان شيئاً نزل مملوك إليه في بيته، واستدعى منه ما يريده، فيجهزه إليه من بيته، وكان يخلع على أمراء الطبلخانات الكبار من عنده، وقيل: إن السلطان نزل يوماً من الصيد، فقال له: يا قاضي! عرض أنت صيود الأمراء، يحضرون صيودهم على طبقاتهم بين يديه، وهو يخلع عليهم على طبقاتهم واحداً بعد واحد.
وحج هو والخوندة الكبرى طغاي، واحتفل بأمرها، وقد مضى ذكر حجها في ترجمتها، وكان يخدم كل واحد من الأمراء الكبار والمشايخ والخاصكية الكبار، وأرباب الوظائف والجمدارية الصغار، وكل أحد حتى الأوشاقية في الإصطبل وأرباب الوظائف، وكان في أول أمره ما يخرج القاضي فخر الدين لصلاة الصبح إلا ويجد كريم الدين راكباً وهو ينتظره، ويطلع في خدمته إلى القلعة، ودام الأمر هكذا ستة أشهر أو ما حولها، ثم إن فخر الدين كان يركب ويحضر إلى بابه، وينتظره ليطلع معه إلى القلعة، وكان في كل يوم ثلاثاء، يحضر إلى دار فخر الدين، ويتغذى عنده، ويحضر محفيتين لا يعود اله شيء من ماعونهما الصيني أبداً، وكان يركب في عدة مماليك أتراك - يقال سبعين مملوكاً أو أقل - بكنابيش عمل الدار وطرز
ذهب، والأمراء تركب في خدمته. وبالجملة ما رأى أحد من المتعممين ما رآه القاضي كريم الدين.
ولما ورد في صفر سنة ثماني عشرة وسبع مئة أمر ببناء جامع في آخر القبيبات بدمشق، فعمره الصاحب شمس الدين غبريال، وأخذ في العمل فيه بعد سفره.
قيل: إنه طلبه السلطان يوماً إلى الدور فدخل، وعادت الخزندارة تروح وتجيء مرات فيما تطلبه الخوندة طغاي، فقال له السلطان: يا قاضي! أيش حاجة لهذا التطويل بنتك، ما تختبئ منك، ادخل إليها، وأبصر الذي تريده أفعله، فقام، ودخل إليها وسير قال لها: أبوك هنا، أبصري له ما يأكل، فأخرجت له طعاماً، وقام السلطان إلى كرمة في الدور، وقطع منها عنباً، وأحضره في يده، وهو ينفخه من الغبار، وغسله بماء بيده، وقال: يا قاضي، كل من عنب دورنا، هذا أمر ما فرح به متعمم.
وكان إذا أراد أن يعمل سوءاً، ويراه قد أقبل يقول: جاء القاضي وما يدعنا نعمل شيئاً مما نريده، فيحدثه في إبطال ما كان قد هم به من الشر، وفي مدة حياة القاضي كريم الدين لم يقع من السلطان إلا خير.
وأما مكارمه فحكى لي غير واحد بالقاهرة جماعة لا يمكن تواطؤهم على نقل باطل: أنه حضرت إليه امرأة رفعت له قصة تطلب فيها إزاراً، فوقع في ظاهرها إلى الصيرفي بصرف مبلغ ثماني مئة درهم، فلما رأى الصيرفي ذلك؛ أنكره، وأوقفها، وتوجه إليه، وقال: يا سيدي، هذه سألت إزاراً والإزار ما ثمنه هذا المبلغ، فقال له:
صدقت، وأخذ القصة، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: هذه متعالي وقال: أنا ما أردت إلا ثمانين، ولكن الله أرادها ثماني مئة، فوزن الصيرفي للمرأة ثماني مئة درهم وثمانين درهماً.
وقيل: إنه كان له صيرفي يستدعي منه ما يريد صرفه لمن يسأله شيئاً، وإن الصيرفي أحضر إليه مرة وصولات ليست بخطه فأنكرها، فقال الصيرفي: هذا في كل وقت يحضر إلي مثل هذه الوصولات، فقال: إذا جاء أمسكه وأحضره، فلما جاء على العادة أمسكه وأحضره إلى بابه فقيل: إن الصيرفي وقع بالمزور، فقال: سيبوه، مالي وجه أراه، ثم قال: أحضروه، فلما مثل بين يديه قال: ما حملك على هذا؟ قال: الحاجة، فقال له: كلما احتجت إلى شيء اكتب به خطك على عادتك لهذا الصيرفي، ولكن ارفق، فإن علينا كلفاً كثيرة، وقال للصيرفي: كلما جاءك شيء من خط هذا فاصرفه، ولا تشاور عليه.
وحكي لي أنه قبل إمساكه ضيع بعض بأبية مماليك بكتمر اللاساقي حياصة ذهب، فقال صاحبها للأمير، فقال الأمير: إن لم يحضر الحياصة، وإلا روحوا به للوالي ليقطع يده، فنزلوا بذلك البابا، فوجد القاضي كرم الدين آخر النهار طالعاً إلى القلعة، فوقف وشكا حاله، فقال: أخروا أمره إلى غد، فلما نزل إلى داره؛ قال لبعض عبيده: خذ معك غداً حياصة ذهب، لنعطيها لذلك البابا المسكين، فلما أصبح وطلع إلى القلعة أمسك، واشتغل الناس بأمره، ونسي أمر البابا، ولما فرغ
الناس طلب البابا، وجهز إلى الوالي، فقال له رفاقه: ما كان القاضي كريم الدين وعدك، روح إليه، فقال: يا قوم، إنسان قد أمسك وصودر، أروح إليه! فراح إليه، وكان قد أمر بالمقام في القرافة، فلما دخل إليه؛ شكا حاله، فقال: يا بني، جئت إلي وأنا في هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الدراهم، استعن بها، كانت قريب الألفين، فلما أخذها وخرج؛ قال لذلك العبد: ما كنت قد أعطيتك حياصة ذهب لهذا البابا؟ فقال: نعم، وهي معي، فقال: هاتها، فأخذها، وطلب البابا، ودفعها إليه، وقال: هذه الحياصة أعطهم إياها والدراهم أنفقها، فطلع بالحياصة، وأعطا للمملوك، فدخل بها المملوك للأمير سيف الدين بكتمر الساقي، فطلب البابا، وقال له: قل لي أمر هذه الحياصة كيف هو؟ فحكى له ما جرى له مع كريم الدين، فقيل لي: إن بكتمر الساقي لطم وجهه، وقال: يا مسلمين! مثل هذا يمسك أو يؤذى؟! وما إمساك كريم الدين برضى بكتمر.
وحكى لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله أنه بلغه أن القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والقاضي نجم الدين بن الأثير قعدا يوماً على باب القلة وأجري ذكر كريم الدين ومكارمه، فقال علاء الدين بن عبد الظاهر: ما مكارمه إلا لمن يخالفه، فهو يصانع بذلك عن نفسه، فما كان بعد يومين أو ثلاث إلا حتى احتاج نجم الدين بن الأثير إلى رصاص يستعمله في قدور حمام، فكتب ورقة إلى كريم الدين يسأل فيها بيع جملة من الرصاص بديوان الخاص، فحمل إليه جملة كبيرة، فضل له منها عما احتاج إليه ثلاثون قنطاراً، ولم يأخذ عن ذلك ثمناً، وأما علاء الدين بن بعد الظاهر؛ فإنه تركه يوماً في بستانه، وانحدر إليه في البحر، فلم يدر به إلا وقد
أرست حراقته على زربية علاء الدين، فنزل إليه، وتلقاه، ودهش لقدومه، فحلف أنه ما يأكل ما يحضره إليه من خارج البستان، ومهما كان طعام ذلك النهار يحضره، فأحضر له ما اتفق حضوره، وقال له: يا مولانا أنا ما أعلمتك بمجيئي، ولكن أنا مثل اليوم ضيفك، ولكن لا ألتقي هذه العمارة على هذه الصورة، وشرع رتبها على ما أراد، وخرج من عنده، فلم يشعر علاء الدين ذلك اليوم إلا بالمراكب قد أرست على زربيته بأنواع الأخشاب والطوب وأفلاق النخل والجبس والمهندسين والصناع والفعول، وكل ما يحتاج إليه، وأخذوا في هدم ذلك المكان، وشرعوا في بنائه، على ما قال لهم، فلم يأت على ذلك خمسة أيام أو ستة إلا وقد تكامل ورخم وزخرف بالذهب واللازورد، وفرغ منه، فلما كان قبل الميعاد بيوم جاء إليه مركب موسوق بأنواع الغنم والإوز والدجاج الفائق وغيره، والسكر والأرز، وجميع ما يطبخ حتى المخافي والماعون الصيني والجبن ومن يقليه، وعمل الطعام الفائق المختلف ومد السماط العظيم، ونزل القاضي كريم الدين ومعه من يختاره وجاء إليه، وجد الدار قد عمرت على ما أراد، والطعام قد مد سماطه، فأكل هو ومن معه، وأحضر أنواع الفواكه والحلوى والمشروب، ولما فرغ من ذلك أحضر بقجة كبيرة، أخرج إليه منها ما يصلح للنساء من القماش الإسكندري وغيره، وما يصلح لملبوس علاء الدين، وقال: هذه خمسة آلاف درهم يكسو بها مولانا عبيده وجواريه على
ما يحبه ويراه، وهذا توقيع تصدق به مولانا السلطان على مولانا فيه زيادة معلوم دراهم وغلة وكسوة لحم وجراية، ونزل يركب، ونزل معه علاء الدين، فلما ركب وفارقه، قال: يا مولانا علاء الدين! والله هذه الأشياء أنا أفعلها طباعاً، وأنا لا أرجوك ولا أخافك.
وقيل: إنه مرة شرب دواء، فجمع له كل ما دخل القاهرة ومصر من الورد، وحمل إلى داره وبسط ذلك الورد إلى كراسي الطهارة، وداس الناس ما داسوه، وأخذ ما فضل أباعه الغلمان للبيمارستان بمبلغ ثلاثة آلاف درهم.
وكان السلطان قد فوض إليه نظر البيمارستان المنصوري، فنمت أجور أوقافه، وعمرت وعمر البيمارستان، وكان كلما دخل فيه تصدق بعشرة آلاف درهم، ومات مرة من الزحمة ثلاثة أنفس.
وبالجملة، فما سمعت عنه بالديار المصرية إلا كل مكرمة غير الأخرى يبتدع فعلها ولم نسمعها عن غيره. وهو الذي صدق أخبار البرامكة، ومن رئاسته الكاملة أنه كان إذا قال: نعم؛ كانت نعم، وإذا قال: لا؛ فهي لا، وهذه الخلة تمام الرئاسة.
وكان في كل أول ثلاثة الشهور رجب وما بعده من كل سنة يخرج كل من كان في الحبوس من الولاية، ومن حبس الشرع، وما يدع في الحبوس أحداً، إن كان عليه دين أوفاه، أو على قضية معضلة أحضر الغريم، وتوصل إلى رضاه بكل طريق، وعمر
بالزربية جامعاً وميضأه، وعمر في طرق الرمل البيارات، وأصلح الطرق، وعمر في دمشق جامع القبيبات وجامع القابون، ووقف عليهما الوقوف الجيدة.
وكان عاقلاً وقوراً داهية، جزل الرأي بعيد الغور، بحب العلماء والفضلاء، ويبرهم ويحسن إليهم أخبرني الشيخ شهاب الدين العسجدي، قال: كنت ليلة عيد مع الشيخ صدر الدين ونحن متوجهان إلى القرافة، فعرض لنا فقير، وقال للشيخ: يا سيدي، شيء لله، فقال لي: كم معك؟ قلت: لا عليك، توجه إلى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يسلم عليك، ويهنئك بالعيد، فتوجهت إليه، وقلت له ذلك، فقال: كأن الشيخ مفلس في هذا العيد، يا ططاج - مملوكه - ادفع إلى رسول الشيخ ألفي درهم، قال: فأخذتها، وجئت بها إليه، فقال الشيخ: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنة بعشرة.
قدم من ثغر من الإسكندرية مرة في نوبة الحريق الذي وقع بالقاهرة، فغوت به الغوغاء، ورجموه، فغضب السلطان، وقطع أيدي أربعة، ثم إنه مرض في ذلك العام قبل الواقعة، ولما عوفي زينت القاهرة، وتزاحم الخلق، واختنق واحد.
ولما انحرف عنه السلطان أمر للأمير سيف الدين أرغون النائب بالقبض عليه، فلما أراد بكرة النهار الدخول إلى السلطان على العادة طلبه إلى بيته وأمسكه، وأوقعت الحوطة على دوره وموجوده، وأمسك ولده علم الدين عبد الله، وكان يوماً عظيماً، وذلك يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وبقي في بيته أياماً، ثم إنه رسم له بالنزول إلى تربته بالقرافة، فتوجه إليها، وأقام بها.
وفي جمادى الآخرة رسم بتسفيره إلى الشوبك، فأقام به إلى أن رسم له بالحضور إلى القدس، فوصل إليه تاسع عشر شوال من السنة المذكورة، فأقام به يحسن إلى الفقراء والمجاورين والزوار، إلى أن رسم له بالعودة إلى مصر، فتوجه من القدس في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولما وصل إليها أخذ ما كان من ذخائره وحواصله وموجوده، ورسم له بالتوجه إلى أسوان، فأقام بها إلى أن توجه إليه الأمير ركن الدين بيبرس الفارقاني، وأصبح على ما قيل مشنوقاً بعمامته، وقيل: إنه لما أحس بقتله توضأ، وصلى ركعتين، وقال: هاتوا، عشنا سعداء، ومتنا شهداء. وكان الناس يقولن: ما عمل أحد مع أحد ما عمله السلطان مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة.
وكان قد طلب الحجار وست الوزراء، وسمع عليهما صحيح البخاري بقراءة شيخنا ابن سيد الناس ووصلهما، ووصل الشيخ بجملة، وكتب له بها نسخ وذهبت وجلدت.
وكتب إليه شرف الدين القدسي:
إذا ما بار فضلك عند قوم
…
قصدتهم ولم تظفر بطائل
فخلهم خلالك الذم واقصد
…
كريم الدين فهو أبو الفضائل
وأنشدني إجازة شيخنا أبو الثناء شهاب الدين محمود، ما كتب به إلى القاضي كريم الدين يتقاضاه سكراً له في الديوان:
أيها السيد الذي لو تجارى
…
جوده والحيا لقصر وبله
والكريم الذي تفرد في الجو
…
د فلم يلف في المكارم مثله
والذي كل ما تفرق بين الن؟
…
اس من فرغ نائل فهو أصله
والذي كل ما يقال من الأو
…
صاف والمدح والثنا فهو أهله
عم معروفة وتمت أيادي؟
…
هـ، وزادت علياه وامتد فضله
؟ وسما نيله على النيل إذ في
…
كل يوم إن تأته فاض فضله
وهمى جوده فلو لم يسل سأ
…
ل ومن لم يقصده وافاه بذله
لي رسم على نداك من السك؟
…
ر هذا أوانه ومحله
وخصوصاً والعبد من إثر ضعف
…
آده ثقله وأعياه حمله
لي مني تصحيفه في نظام
…
يتقاضاه عقده أو حله
مثل مولاي من يرى الشكر أولى
…
فهو آل الندى ويصبيه فعله
فابق واسلم يعزى إليك الندى وال؟
…
جود والفضل والتطول كله
ما تغنت ورقاء في الورق النض؟
…
ر وحلى معاطف الدوح ظله
ومما رثى به الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم للقاضي كريم الدين رحمه الله تعالى:
كريم الدين عشت بكل خير
…
ومت ممات كل فتى كريم
شهيداً قد درجت بغير ذنب
…
ولا إثم يؤثم للأثيم
بلغت جميع ما تختار حتى
…
بلوغك رحمة الله الرحيم
إلى جنات عدن صرت يا من
…
له تشتاق جنات النعم
وجدت بما حوت كفاك فينا
…
لأرملة وشيخ أو يتيم
وللأمراء والفقراء حتى
…
لأثرى كل محتاج عديم