الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جهل وضعف في الأذهان الفاترة، أو أن الدين معرفة الإمام، فإن هذا وأمثاله تحكم منهم وإسلام، إلى غير ذلك من المقالات التي خبطوا خبط العشواء فيها، واستعملوا في القول بها من كان غمراً أو سفيهاً، فما الدين القيم إلا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأشار الخلفاء الراشدون إليه، ولزم السلف الصالح منهاجه، وقوى الكتاب والسنة والإجماع احتجاجه، فاجهد على أن يركبوا الصراط المستقيم من ذلك، واحرص على أن يسلكوا إلى الحق أوضح المسالك، وتقوى الله تعالى ملاك الوصايا، وأنت إن شاء الله تعالى لا تزال خير خدنها، وساكن عدنها، وساحب ردنها، وصاحب مدنها، فاجعلها نصب عينك، وهذا فراق بين الوصايا وبينك، والله تعالى يعين ولايتك، ويوضح لأهل الحق بالسنة عنايتك، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
علي بن داود
ابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكري بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، الشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل الفقيه الأصولي النحوي الأديب نجم الدين أبو الحسن ابن القاضي عماد الدين القرشي الأسدي الزبيري القحفازي، بالقاف والحاء المهملة، وفاء بعدها ألف وراء.
قرأ القرآن الكريم على الشيخ علاء الدين بن المطرز، وكان قد أخذ القراءات
السبع عن عماد الدين بن أبي زهران الموصلي، قرأ عليه رواية أبي عمرو من طريقي الدوري والسوسي إفراداً وجمعاً.
وأخذ الفقه عن قاضي القضاة صدر الدين علي مع الفرائض قبل أن يباشر الحكم، وأصول الفقه على قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لعنايته بمختصر ابن الحاجب، وعن الشيخ جلال الدين الخبازي الحنفي.
وقرأ في أصول الدين عقيدة الطحاوي حفظاً، واعتنى بحلها وبمطالعة كتب الأصول لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وغيرهم، وعلم العربية من الشيخ شرف الدين الفزاري، ثم عن الشيخ مجد الدين التونسي. وعلم البلاغة عن الشيخ بدر الدين بن النحوية الحموي حين جاء إلى دمشق سنة تسع وتسعين وست مئة مع الجفال، ونزل بالبادرائية، قرأ عليه كتابه ضوء المصباح، وشرحه إسفار الصباح.
والمنطق والجدل عن الشيخ سراج الدين الرومي مدرس الفرخشاهية والسفينية بالجامع الأموي.
وعلم المواقيت عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في مقدمته التي صنفها
ثم عن الشيخ بدر الدين بن دانيال بمدينة الكرك حين جفل الأعيان إليها سنة سبع مئة في مقدمته التي صنفها في علم الإسطرلاب وهي مطولة مفيدة.
وعلم العروض فمن الكتب الموضوعة في ذلك.
وحل المترجم، وجد في الكتب الموضوعة وقد تكلم فيه كلاماً غير شاف، فأخذه بالقوة حتى كتب له فيه:
إن زرزوراً ووزه
…
زودا داود زادا
فحله.
وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين بن الدرجي فيما حول سنة ثمانين وست مئة. سمع عليه أجزاء كثيرة، وسمع موطأ مالك من قاضي القضاة جمال الدين المالكي، ومن الشيخ نجم الدين الشقراوي الحنبلي، وسمع مختصر الرعاية للمحاسبي على قاضي القضاة شرف الدين البارزي لما قدم إلى دمشق حاجاً، ومن غيرهم.
وكان الشيخ نجم الدين مجموعاً للفضائل، ممنوعاً من الرذائل، مطبوعاً على التنديب والتندير الذي يدل على لطف الشمائل، كثير الحكايات المختصرة في دروسه، والنوادر المضحكات في غصون فوائده وغروسه، لا يخل بذلك، ولا يوجد في وقت إلا وهو عليه متهالك، يضحك الثكالى، وينشط الكسالى، مع الأصول التي أحكم
قواعدها، وكثر بروقها ورواعدها، والفقه الذي تهدلت فروعه، وتملأت منه أفاويقه وضروعه، والنحو الذي برز على أقرانه في إقرائه، وظهر مذهبه الصحيح من إفرائه، قرأ عليه فيه من الأعيان جماعة، واشتهر ذلك عنه في عصره، فما ينكر أحد سماعه، لو عاصره صاحب المفصل كان عليه مفصلاً، أو صاحب التكملة كان ناقصاً، وهذا مكملاً.
وكتب المنسوب القوي، وحرر أصله السوي، وكان خطه آنق من حواشي الأصداغ، وأظرف من الحلل التي رقمت في أوان الصحة والفراغ. وله النظم الذي هو وسط، لا هو الذي ارتفع، ولا هو الذي سقط.
كان من محاسن دمشق التي يفخر بها لزمان، وغرائبها التي قلدت جيد الدهر قلائد الجمان، وقل أن اتفق مجموعه في عصر لغيره من أهل مذهبه، أو قارب مداه من يجاري إلى غاية مطلبه. وخطب بالجامع التنكزي قبل بالدموع الأردان، وعلا المنبر فما ذكر معه سجع الحمائم على البان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصاب الموت قحف القحفازي، واختطف روحه من المنية بازي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ونقلت مولده من خطه ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وست مئة.
حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، وقد تقدم ذكره، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوماً لغزاً للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون عليه:
يا أيها الحبر الذي
…
علم العروض به امتزج
أبن لنا دائرة
…
فيها بسيط وهزج
فقال واحد منهم: هذه الساقية، فقال له الشيخ: دورت فيها زماناً حتى ظهرت لك، يريد أنه ثور يدور في الساقية.
وجئت أنا إليه في سنة سبع عشرة وسبع مئة، وسألته في أن أقرأ عليه المقامات الحريرية، فقال: أنا والله قليل الأدب.
وسمعته يوماً يقول لمنصور الكتبي رحمه الله: يا منصور! هذا أوان الحجاج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة، فقال له: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك حرفاً قدره عشر مرات.
وقيل لي: إنه لما عمر الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى الجامع الذي له بظاهر دمشق كان قد عينوا له شخصاً من الحنفية يلقب الكشك ليكون خطيباً، فلما كان يوماً وهو يمشي في الجامع المذكور، أجري له ذكر الشيخ نجم الدين ومجموع فضله وأنه في الحنفية مثل الشيخ كمال الدين الزملكاني في الشافعية، فأحضره، واجتمع به، وتحدثا، ثم قال له وهم في الجامع يمشون: أيش تقول في هذا الجامع؟ فقال: مليح، وصحن مليح، لكن ما يليق أن يكون فيه كشك، فأعجب
ذلك الأمير سيف الدين تنكز، وأمر له بخطابة الجامع، وسمعت خطبته في أول يوم خطب به، وذلك في يوم الجمعة عاشر شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، ثم إنه رسم له بعد مدة بتدريس الركنية، فوليها سابع عشري المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. فباشرها مدة، ثم نزل عنها، وقال: لها شرط لا أقوم به، ومعلومها في الشهر جملة كثيرة، تركه تورعاً.
وكان إذا قال هذه التناديب يقولها سريعة رشقة من غير فكر ولا روية، ويقولها وهو يضحك وينبسط.
وكان يعرف الإسطرلاب، ويحل التقويم، ويشتغل في مختصر ابن الحاجب والحاجبية والألفية لابن مالك، والمقرب لابن عصفور، وفي ضوء المصباح وغيره في المعاني والبيان.
وكان قد تولى تدريس الركنية بجبل قاسيون عوضاً عن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة الحنفي لما مات في المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. وتولى الظاهرية عوضاً عن شمس الدين بن العز في أول صفر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وكنت قد كتبت أليه لما وضعت تاريخي الكبير أطلب منه ما أستعين به على ترجمته على العادة في مثل ذلك، ومنه:
يا مفيد الورى معاني المعالي
…
وإمام الأنام في كل علم
إن لي معجماً كأفق فسيح
…
اشتهى أن يزان منك بنجم
فتأخر جوابه عني، فكتبت إليه أيضاً:
ظفرت بوعد منك بلغني المنى
…
وجودك نجم الدين ليس يحول
وقد طال ليلي لانتظار وروده
…
وليل الذي يرعى النجوم طوي
وكتبت معه السؤال الذي تقدم ذكره في ترجمة الشيخ زين الدين بن شيخ العوينة آنفاً وأوله:
ألا إنما القرآن أكبر معجز
…
لأفضل من يهدي به الثقلان
فكتب هو إلي بخطه:
يا سائلي عن نسبي
…
ومولدي وأدبي
وما قرأ في العلو
…
م من شريف الكتب
ومن أخذت ذاك عنه من شيوخ مذهبي
وغيرهم ممن حوى
…
سر كلام العرب
وما الذي سمعته
…
عن النبي العرب
وما الذي سمعته
…
عن النبي العربي
صلى عليه الله ما احلو
…
لك جنح غيهب
وذكر شيء صغته
…
من شعري المنتخب
وما الذي صنفته
…
من كتب وخطب
لولا وجوب حرمة القصد ورعي الرتب
ما قلت ذاك خشية
…
من حاسد مؤنب
يقول إني قلته مفتخراً بحسبي
لكنما البخل بما
…
سئلت لا يحسن بي
والمقتضى مني له
…
لا يأتلي في الطلب
وهو خليل في الرخا
…
وعدة في الكرب
وهمة في جمع شم؟
…
ل الفضل لا في النشب
وما صلاح الدين إلا
…
في اقتناء القرب
هو الذي أوجب لي
…
يا صاح كشف الحجب
عن محتدي ومولدي
…
وفضلي المحتجب
فقلت غير آمن
…
من عائب مندب
مختصراً مقتصداً
…
معتذراً من رهبي
ما ستراه واضحاً
…
مرتسماً عن كثب
ما زلت للفضل حمى
…
ولبنيه كالأب
تجمع شمل ذكرهم
…
مخلداً في الكتب
وذكر نثراً ما ذكرته في صدر ترجمته هذه، ثم إنه قال: وأما الرواية فإني لم أسمح لأحد بأن يروي عني مسموعاتي لصعوبة ما شرطه أصحابنا في الضبط بالحفظ من حين سمع إلى حين روى، وأن الكتب التي سمعتها لم تكن محفوظة عندي، فضلاً عن حفظ ما سمعته. وأما ما صنفه من الكتب فإني رغبت عن ذلك لمؤاخذتي للمصنفين،
فكرهت أن أجعل نفسي غرضاً لمن يأخذ علي، غير أني جمعت منسكاً للحج أفردت فيه أنواع الجنايات، ومع كل نوع ما يجب من الجزاء على من وقع فيه؛ ليكون أسهل في الكشف ومعرفته، وكان ذلك بسؤال امرأة صالحة لا أعلم في زماننا أعبد منها، وانتفع بحسن القصد فيه وبركتها خلق كثير. وأما ما سمحت به القريحة الجامدة والفكرة الخامدة، فمن ذلك ما كتبت به إلى عماد الدين بن مزهر، وقد كان يجتمع معنا في ليالي الشتاء عند بعض الأصحاب، فلما مات عمه تزوج جاريته، وانقطع عنا، فقلت:
إن يكن خصك الزمان بخود
…
ذات قد لدن وخد أسيل
فلقد فزت بالسعادة والرحب وفارقتنا بوجه جميل
قلت: هو مأخوذ من قول ابن الخيمي:
لو رأى وجه حبيبي عاذلي
…
لتفارقنا على وجه جميل
وقال: وقلت متذكراً لزيارة الكعبة وزيارة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام:
يا ربة الستر هل لي نحو مغناك
…
من عودة أجتلي فيها محياك
أم هل سبيل إلى لقياك ثانية
…
لمغرم ما مناه غير لقياك
له نوازع شوق بات يضرمها
…
بين الجوانح والأحشاء ذكراك
لم ينس طيب لياليك التي سلفت
…
وكيف ينساك صب بات يهواك
يا ربة الخال كم قد طل فيك دم
…
فما أجل بعرض البيد قتلاك
أسرت بالحسن ألباب الأنام فما
…
أعز في ذل ذاك الأسر أسراك
ماذا عساها ترى تنأى الديار بنا
…
لو كنت في مسقط الشعرى لجيناك
ولو تحجبت بالسمر الذوابل عن
…
زوار ربعك يا سمرا لزرناك
ذلت لعزك أعناق الملوك أعلاك يا منتهى سؤلي وأغلاك
تهتكت فيك أستار الهوى ولهاً
…
لما بدا من خلال الستر معناك
يا هل ترى يسمح الدهر المشت بما
…
أرجوه من قرب مغناك لمضناك
وأجتلي من محياك الجميل ضحى
…
ما بات يحكيه لي من حسنك الحاكي
من بعد خط رحالي في حمى أرج الأرجاء بالمصطفى الهادي الرضى الزاكي
خير الخلائق طراً عند خالقه
…
وخاتم الرسل ما حي كل إشراك
سباق غايات أقصى الفضل والشرف الأعلى وراقي العلى من غير إدراك
مهدي المعارف مبدي كل غامضة
…
مسدي العوارف مردي كل فتاك
محمد ذي المقال الصادق الحسن المصدوق في القول مقتصي كل أفاك
يا نفس إن بلغتك العيس حجرته
…
وصافحت يمن ذاك الربع يمناك
ونلت مأمؤلك الأقصى بلثم ثرى
…
أعتابه وبلغت القصد من ذاك
وقمت بين يديه للسلام على
…
أقدام ذلك تذري الدمع عيناك
وقد مددت يد الإملاق طالبة
…
سؤاله لك عفواً عند مولاك
فقد بلغت المنى والسول فاجتهدي
…
هناك واستنجدي لي طرفك الباكي
عساك أن ترزقي عطفاً عليك فإن رزقت ذاك فيا والله بشراك
وليهنك السعد إذ حطت رحالك في
…
ربع به لم تزل تحدى مطاياك
فثم أندى الورى كفاً وأعظمهم
…
جاهاً وأرحبهم صدراً لملقاك
وخيرهم لنزيل في حماه وأو
…
فاهم ذماماَ وأملاهم بجدواك
آخر قلباه من شوق لرؤيته
…
فقد تقادم عهد الشيق الشاكي
بالله يا نفس كوني لي مساعدة
…
حاشاك أن تخذليني اليوم حاشاك
وجددي العزم في ذا العام واجتهدي
…
عسى بذلك تخبو نار أحشاك
فإن حرمت لقاه تلك معذرة
…
وإن ظفرت به يا حسن مسعاك
صلى عليه إله العرش ما قطعت
…
كواكب الأفق ليلاً برج أفلاك
قال: وقلت عند قدوم الحج في بعض السنين أبياتاً أنشدت بدار الحديث الأشرفية:
يا نياق الحجيج لا ذقت سهداً
…
بعدها ولا ولا تجشمت وخدا
لا فدينا سواك بالروح منا
…
أنت أولى من بات بالروح يفدى
يا بنات الذميل كيف تركتن
…
شعاب الغضا وسلعاً ونجدا
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً
…
بوجوه زارت معالم سعدى
قال: ولم يحضرني باقيها.
ولما ظفر قازان في سنة تسع وتسعين، ثم جاء في سنة اثنتين وسبع مئة، فكسر، وقيل لي: إن قازان عندهم اسم للقدر، قلت:
لما غدا قازان فخاراً بما
…
قد نال بالأمس وأغراه البطر
جاء يرجي مثلها ثانية
…
فانقلب الدست عليه فانكسر
قلت أنا: هذان البيتان في غاية الحسن في بادي الرأي، ولكن إذا حكهما النظر ونقدهما تبهرجا وتزيفا وذلك لأن القدر في اللغة التركية قرن، هكذا بلا ألف، وأولها قاف، وقازان إنما هو: غازان، بالغين المعجمة، وإنما قال ذلك المتهكم به، كما قالوا في بولاي: بوليه، وفي خداي بندا خربندا، وفي قوله: فانقلب الدست عليه، فانكسر فيه أيضا، نظر، لأن المعنى الذي ورى به لا يصح له وبأدنى تأمل يظهر هذا للبيب، ولولا أن هذا شعر مثل هذا شيخ الأدب وفقيه وما وأخذته، فإنه قد مر ويمر في هذا التاريخ أشياء من هذا النوع فما أعرج على المؤاخذة.
قال الشيخ نجم الدين: ولما ذهب بدر الدين بن بصخان مع الجفال إلى مصر وأقام هناك كتبت إليه:
يا غائباً قد كنت أحسب قلبه
…
بسوى دمشق وأهلها لا يعلق
إن كان صدك نيل مصر عنهم
…
لا غرو فهو لنا العدو الأزرق
قلت: وقد ذكرت في ألحان السواجع ما جاء في هذه المادة.
قال الشيخ: ومن الخطب فاتحة خطبة رأس السنة: " الحمد لله الذي لا تدرك كنه عظمته ثواقب الأفهام، ولا تحيط بمعارف عوارفه
خطرات الأوهام، ولا تبلغ مدى شكر نعمه محامد الأنام، الذي طرز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصع بجواهر النجوم حلة الظلام، وفصل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام.
أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومنه الشوامل الجسام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا نقص لها تمام، ولا يخفر لها ذمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وسوق الباطل قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحق قد غام، فجرد سيف العزم وشام، وعنف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام، صلى الله عليه وآله الخيرة الكرام، صلاة لا انفصال لمتتابعها ولا انفصام.
قال: وأما الجواب عن إعادة لفظ الأهل في قوله تعالى: " حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها "، ولم يقل: استطعماهم، والمحل إضمار، وفيه الإيجاز، فقد علم أن البلاغة لا تختص بالإيجاز، وإنما هو نوع من أنواع، وأن مدار حسن الكلام وارتفاع شأنه في القبول بإيراده مطابقاً لمقتضى الحال، فإن كان مقتضى الحال خليقاً ببسط الكلام تعلقت البلاغة ببسطه، وإن كان حقيقاً بالإيجاز كانت البلاغة في إيراده كذلك، ثم قد يعرض للبليغ أمور يحسن معها إيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فيتنزل غير السائل منزلة من يسأل إذا كان قد لوح له بما
يقتضى السؤال، ويتنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهرت عليه مخايل الإنكار، ويوقع المضمر في موضع الظاهر، والظاهر في موضع المضمر إلى غير ذلك من الأمور المذكورة في علم البلاغة، والذي حسن إيقاع الظاهر موقع المضمر في الآية الكريمة أن الظاهر أدل على المعنى الذي وضع له اللفظ من المضمر؛ لأنه يدل عليه بنفسه، والمضمر يدل عليه بواسطة ما يفسره، وقصد المتكلم هنا الإخبار عن الذين طلب منهم الإطعام أنهم أهل القرية؛ لأن من غشيه الضعف في منزله ولم يعتذر بعذر عن إكرامه؛ بل قابله بالمنع مع ظهور حاجته التي أوجبت له أن يسأل منه ذلك؛ لأن المسألة آخر أسباب الكسب يعلم بذلك أن الحامل له على الامتناع من إضافته لؤم الطباع واتباع مذموم البخل ولشح المطاع، كما قال الشاعر:
حريص على الدنيا مضيع لدينه
…
وليس لما في بيته بمضيع
حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كانوا أهل قرية لئاماً "، ومن كانت هذه سجيته كان حرياً بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بالإحسان إيه، فلما رأى موسى صلوات الله عليه إصلاح الخضر عليه السلام لجدار مشرف على السقوط في القرية التي هؤلاء أهلها من غير طلب أجر ذلك منهم مع الحاجة إلى ذلك عجب من ذلك وأنكره حتى كأن نسي ما قدمه من وعده إياه بالصبر وبعدم المصاحبة إن سأله عن شيء بعد ذلك، مع حرصه على صحبته والتعلم منه فكان في إعادة لفظ الأهل في الآية الكريمة إقامة لعذر موسى في الاعتراض في هذه الحالة؛ لأنه حالة لا يصبر عن
الاعتراض فيها لأن حالهم يقتضى بذل الأجر في إصلاح أمر ديناوي لحرصهم وشحهم فترك طلب الأجرة على إصلاح ذلك مع الضرورة والحاجة وقع إحساناً إلى أهلها الذين قابلوهما بالمنع عن الضيافة، فكانت البلاعة متعلقة بلفظ الأهل التي هي الحاملة على الاعتراض ظاهراً فأطلعه الخضر عليه السلام بأن الجدار إنما كان ليتيمين من أهلها، واليتيم محل المرحمة، وليس محلاً لأن يطلب منه أجرة، وإما لعجزه، أو لفقره وهو الظاهر، أو لأنه لا يجوز تصرفه في ماله، ولهذا قال:" رحمة من ربك "، ولم يكن لأهلها الذين أبوا أن يضيفوهما، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى ما نقلته من خط الشيخ رحمه الله تعالى.
قلت: جواب الشيخ رحمه الله تعالى في غاية الحسن، وهو كلام عارف بهذا الفن، جار على القواعد، والذي قاله الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك ملخصه: أنه إنما أعاد الأهل بلفظ الظاهر، لأمرين. أحدهما: أن استطعتم صفة لقرية، فلو قال: أستطعماهما لكان مجازاً، إذ القرية لا تستطعم، فلا بد من ذكر المضاف مضمراً، فتعين ذكره مظهراً، ولا يرد عليه أن استطعما جواب ل؟ إذا، لا صفة لقرية، لأنا نقول: لقوله في القصة الأخرى: " حتى إذا لقيا غلاماً فقتله "، فقال: ههنا جواب إذا متعين ولا يستقيم أن يكون فقتله جوابه إذ الماضي الواقع في جواب، إذا لا يكون
بالفاء، فتعين فيه. قال: والظاهر أن الجواب في القصة الأخرى هكذا لأنها في مساق واحد.
الثاني: أن الأهل لو أضمر لكان مدلوله مدلول الأول، ومعلوم أنه جمع الأهل، ألا ترى أن إذا قلت: أتيت أهل قرية كذا، إنما تعني: وصلت إليهم، فلا خصوصية لبعضهم، والاستطعام في العادة إنما يكون لمن يلي النازل بهم وهم بعضهم، فوجب أن تقول: استطعما أهلها لئلا يفهم أنهم استطعموا جميع الأهل، وليس كذلك.
وقد أجابني عن هذا السؤال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى بجواب طويل، نظم ونثر، وقد كتبته بخطي، وقرأته عليه، وهو مثبت في التذكرة التي لي. وقد تقدم جواب الشيخ زين الدين علي بن الحسين بن شيخ العوانية في ترجمته أيضاً.
ومن شعر الشيخ نجم الدين رحمه الله تعالى، قوله في مليحة اسمها: قلوب:
عاتبني في حبكم عاذل
…
يزعم نصحي وهو فيه كذوب
وقال: ما في قلبك اذكره لي
…
فقلت في قلبي المغنى قلوب
ومنه في مليح نحوي:
أضمرت في القلب هوى شادن
…
مشتغل في النحو لا ينصف
وصفت ما أضمرت يوماً له
…
فقال لي: المضمر لا يوصف