الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس صفر سنت ست وثلاثين وسبع مئة.
علي بن إسماعيل بن يوسف
الإمام العالم العامل العلامة القدوة العارف المسلك، ذو الفنون قاضي القضاة بدمشق الشافعي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، القونوي التبريزي.
سمع الحديث عن إبراهيم بن عنبر المعروف بالمارداني، وأبي العباس أحمد بن عبد الله اليونيني، وأبي العباس أحمد بن عبد الواحد الزملكاني، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وإسماعيل بن عثمان بن المعلم، وأبي الخير سلامة بن سالم الجعبري، وعبد الله بن محمد الرصافي، وأبي حفص عمر بن القواس.
وسمع بمصر من الأبرقوهي، وابن الصواف، وابن القيم، ومن الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة تقي الدين أبي الفتح بن دقيق العيد، ولازمه زمناً طويلاً، يحضر عنده بالليل، وكتب له بخطه مع تحريه وضبطه على مختصر ابن الحاجب على النسخة التي هي ملكه، باحثت صاحب هذا الكتاب، ونعته وقال: فوجدته يطلق اسم الفاضل عليه استحقاقاً. وحسبك هذا الثناء من الشيخ تقي الدين رضي الله عنه وعلى من كان يطلق هذا اللفظة، أعني الفاضل.
وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى جبل علوم، وطود حلوم، وبحر فضائل ومسل مسائل، فاضل الدهر وعالمه العلامة، ومن إذا ذكر الناس غيره لم يقل الإنصاف له إلا مه، عرف التفسير وكشف سر كشافه، وعلم ما يخاطب به منه وما يشافه، وخاض بحر الفقه فلو رآه الروياني لأغرقه في بحره، وحوى محاسن الحاوي، فلو عاصر الماوردي لعجز عن ثنائه الطيب وشكره، ومخض زبد الكلام، فلو تأمله السيف الآمدي لوقف فيه عند حده، أو الإمام فخر الدين لتحقق أن محصله من عنده، وحقق أصول الفقه فلو تقدم زمانه كان ابن الحاجب بين يديه نقيباً، أو البيضاوي لتسود وجوه طروسه ولم يكن في منهاجه مصيباً.
وذاق لب العربية فالفارسي يفتخر به ويقول أنا أبو علي، وابن مالك يقول: من شافعي في هذا الفن إلى هذا الولي. وخاض في لجة المعاني والبيان، فعبد
القاهر عنده عبد مقهور، وصاحب المفتاح لا نسبة له إلى من عنده خزائن المنظوم والمنثور.
وبرع في المنطق فهو من الخونجي أفضل، ومن الكاتبي أنبه، ومن الأبهري أبهر وأنبل.
وجد للجدل حتى وافقه العميدي على الخلاف، ونسف حبال النسفي وما تلافاه أحد من التلاف.
وهذب نفسه بالمعارف في التصوف، وذاب في خلواته من التشوق إلى حضرة القدس والتشوف، فلو رآه الشبلي لقال هذا الأسد، أو معروف لأنكر نفسه وقال: هذا الذي بلغ من الأشد الأشد.
هذا إلى صورة قد حسنها الذي فطرها، وشيبة بيضها الله ونورها، وأخلاق ليس للنسيم لطفها، ولا للرياض نضرتها وظرفها.
أقمام في القاهرة فملأها علماً، وجاء إلى دمشق فسرها حكماً وحلماً.
ولم يزل فيها على حاله إلى أن غاض بحره العجاج، وطفئ سراجه الوهاج.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق رابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له.
ومات بورم الدماغ بقي مريضاً أحد عشر يوماً. وكانت جنازته حافلة، وتأسف الناس عليه.
خرجوا به ولكل باك حوله
…
صعقات موسى يوم دك الطور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه
…
في كل قلب موحد محفور
تبكي عليه وما استقر قراره
…
في اللحد حتى صافحته الحور
وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى قد قدم دمشق في أول سنة ثلاث وتسعين وست مئة، فرتب صوفياً، ثم إنه درس بالإقبالية، ثم إنه توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي مشيخة سعيد السعداء، وأقام ثلاثين سنة على قدم واحد، إذا طلع الفجر خرج من مسكنه للصلاة بسكون ووقار، وإذا فرغ منها أخذ في إشغال الطلبة في غير ما فن إلى أن يؤذن الظهر، فيصلي، ويأكل شيئاً في بيته، ثم إنه من الظهر إلى العصر يدور، إما أن يزور أصحابه الأعزة، أو يتوجه في شفاعة لأحد قصده، أو يسلم على غائب أو يهنئ أو يعزي أو يعود مريضاً، إلى أن يتوجه إلى وظيفة الخانقاه للذكر والعبادة. هكذا أبداً لا يمر له وقت في غير ذلك.
وكان قد ولي تدريس الشريفية بالقاهرة، وبها سكنه. وكان السلطان يعظمه ويثني عليه، وكذلك الأمير سيف الدين أرغون النائب.
أخبرني القاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين كاتب السر بدمشق، قال: سمعت الأمير سيف الدين أرغون النائب يقول بحلب: ما رأيت رجلاً مثل الشيخ علاء الدين القونوي ولا ملأ عيني غيره.
وكان يعرف بالتركي وبالعجمي.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني ببلبيس، وقد طلبه السلطان ليوليه قضاء دمشق، فحينئذ عين السلطان الشيخ علاء الدين لقضاء الشام، فما خرج منها إلا كارهاً. كان يقول لأصحابه الأعزة عليه: أخملني السلطان كونه لم يولني قضاء الديار المصرية، وليته كان عينني لذلك في الظاهر، وكنت أنا سألته الإعفاء من ذلك.
ولما خرج إلى الشام حمل كتبه معه على البريد، وأظنها كانت وقر خمسة عشر فرساً أو أكثر. وباشر منصب الحكم بدمشق أحسن مباشرة بصلف زائد وعفة مفرطة، ولن يكن له تهمة في الأحكام، بل رغبته وتطلعه إلى الإشغال والإفادة. وطلب الإقالة أولاً من السلطان، فما أجابه، ثم إنه لما جاء إلى الشام واستقر في دمشق، كتب إلى شيخنا العلامة تقي الدين السبكي ليناقله إلى وظائفه بالقاهرة، ويأخذ هو قضاء الشام، فما وافقه ذاك.
وكان منصفاً في بحوثه، ريضاً معظماً للآثار، ولم يغير عمته للتصوف. ولما جاء إلى دمشق، بلغني أنه أحضر القاضي فخر الدين المصري والقاضي جمال الدين ابن جملة، وحل من وسطه كيساً فيه ألف دينار، وقال: هذه جاءت معي من الديار المصرية.
وخرج له ابن طغريل والشيخ عماد الدين بن كثير مشيخة، فوصلهما بجملة. وشرح الحاوي في أربع مجلدات وجوده، واختصر منهاج الحليمي وسماه الابتهاج. وله التصرف، شرح التعرف في التصوف.
وكان قد أحكم العبية، وله يد طولى في الأدب، ويكتب خطاً قوياً إلى الغاية مليحاً تعليقاً.
وكان له حظ وافر من صلاة وصيام وخير وحياء، وكان مع مخالفته للشيخ تقي الدين بن تيمية وتخطئته له في أشياء كثيرة، يثني عليه ويعظمه ويذب عنه، إلا أنه لما توجه من مصر قال له السلطان: إذا وصلت إلى دمشق، قل لنائب الشام يفرج عن ابن تيمية. فقال: يا خوند، على ماذا حبستموه؟ قال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة. فقال: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد تاب ورجع أفرجنا عنه. وكان ذلك سبب تأخيره في السجن إلى أن مات.
وكان له ميل إلى محيي الدين بن عربي، إلا أن له ردوداً على أهل الاتحاد. وكان يتحدث على حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" كنت سمعه الذي يسمع به ". وشرحه شرحاً حسناً، وبينه بياناً شافياً.
ورأيته يكتب بخطه على ما يقتنيه من الكتب التي تخالف السنة من اعتزال وغيره:
عرفت الشر لا للشر
…
ر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر
…
ر من الخير يقع فيه
وكان يترسل جيداً من غير سجع، ويستشهد بالأبيات المناسبة والأحاديث والآيات اللائقة بذلك المقام.
وكنت أنا بصفد أكتب إليه وهو بمصر عن الأمير شرف الدين حسين بن جندر رحمه الله تعالى فتأتي أجوبته بخطه، وهي في غاية الحسن، وفيها السلام علي والثناء الكبير والتودد من غير معرفة. ولما دخلت القاهرة واجتمعت به مرات، عاملني بكل جميل وطلب مني كتابي جنان الجناس. وقف عليه، وبقي عنده مدة، ثم أعاده إلي، وبلغني الثناء الزائد منه علي. ثم لما قدمت من مصر إلى دمشق متوجهاً إلى الرحبة، وهو بالشام قاض، طلب ذاك المصنف مني، فحملته إليه، وبقي عنده مديدة، ثم أعاده، وأخذ في الفضل والشكر على عادة إحسانه، جزاه الله عني الخير، ورحمه ورضي عنه.
وكتب هو رحمه الله إلى ناصر الدين شافع، وقد طلب منه شيئاً من شعره:
غمرتني المكارم الغر منكم
…
وتوالت علي منها فنون
شرط إحسانكم تحقق عندي
…
ليت شعري الجزاء كيف يكون
يقبل الباسطة الشريفة، لا زالت للمكرمات مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة.
وينهي أن بضاعة المملوك فغي كل الفنون مزجاه، ولا سيما في فن الأدب، فإنه فيه في أدنى الدرجات. وقد وردت عليه إشارة مولانا حرسه الله تعالى في طلبه شيئاً من الشعر الذي ليس المملوك منه في عير ولا نفير، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما شذ من الهذيان، الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا للنسيان. والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إسحانه إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقاطته لا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده ويحرسه بالملائكة ويعضده.
وكتبت إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم:
مخالفة المرسوم وافقت المنى
…
وحازت من الإحسان خصل المناضل
أثارت على نجل الأثير إثارة
…
من العلم مفتوناً بها كل فاضل
وشاعت بالشام صورة فتيا على لسان بعض اليهود، وهي:
أيا علماء الدين ذمي دينكم
…
تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى بي بكفر بزعمكم
…
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسد الباب عني فهل إلى ال؟
…
دخول سبيل؟ بينوا لي قصتي
قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا
…
فها أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضياً
…
فربي لا يرضى لشؤم بليتي
وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي
…
وقد حرت دلوني على كشف حيرتي
؟
إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة فها أنا راض باتباع المشيئة
وهل لي اختيار أن أخالف حكمه
…
فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فكتب الشيخ علاء الدين رحمه الله الجواب:
حمدت إلهي قبل كل مقالة
…
وصليت تعظيماً لرب البرية
وحاولت إبلاغ النصيحة منصفاً
…
لمن طلب الإيضاح في كل شبهة
فأول ما يلقى إلى كل طالب
…
لتحقيق حق واتباع حقيقة
نزوع الفتى من كل عقد وشبهة
…
تصد عن الإمعان في نظم حجة
وإلقاء سمع واجتناب تعنت
…
فلا خير في المستحمق المتعنت
إذا صح عن الجد في كشف غمة
…
بليت بها فاسمع هديت لرشدتي
صدقت، قضى الرب العظيم بكل ما
…
يكون وما قد كان فوق المشيئة
وهذا إذا حققته متأملاً
…
فليس يسد الباب من بعد دعوة
لأن من المعلوم أن قضاءه
…
بأمر على تعليقه بشريطة
يجوز ولا يأباه عقل كما ترى
…
حدوث أمور بعد أخرى تأدت
كما الري بعد الشرب والشبع الذي
…
يكون عقيب الأكل في كل مرة
فليس ببدع أن يكون معلقاً
…
قضاء إله الخلق رب الخليقة
بكفرك مهما كنت بالبغي رافضاً
…
تعاطي أسباب الهدى مع مكنة
فمن جملة الأسباب مما رفضته
…
مع الأمر والإمكان لفظ الشهادة
فأنت كمن لا يأكل الدهر قائلاً
…
أموت بجوع إذ قضى لي بجوعة
فلو أنتم أقبلتم بضراعة
…
إلى الله والدين القويم الطريقة
ووفيتم حسن التأمل حقه
…
وأحسنتم الإمعان في كل نظرة
لكان الذي قد شاءه الله من هدى
…
وليس خروج من قضاء بالة
ألا نفحات الرب في الدهر جمة
…
ولكن تعرض كي تفوز بنفحة
ولا تتكل واعمل فكل ميسر
…
لما هو مخلوق له دون ريبة
ولو كنت أدري أن فهمك قابل
…
لفهم كلام ذي غموض ودقة
لأشبعت فيه القول بسطاً محققاً
…
على نمطي علمي كلام وحكمة
ولكنما المقصود إقناع مثلكم
…
فهاك قصيراً من فصول طويلة
ولولا ورود النهي عن هذه التي
…
سألت لصار الفلك في وسط لجة
فها أنا أطوي بسط ما قد نشرته
…
وأستغفر الله العظيم لزلتي
ونظم الشيخ علاء الدين رحمه الله أبياتاً في الشجاج، أنشدنيها عنه الإمام قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاتي المالكي. قال: أنشدنا لنفسه، وسمعتها منه غير مرة:
إذا رمت إحصاء الشجاج فهاكها
…
مفسرة أسماؤها متواليه
فحارصة إن شقت الجلد ثم ما
…
أسال دماً وهي المسماة داميه
وباضعة ما تقطع اللحم والتي
…
لها الغوص فيه للذي مر تاليه
وتلك لها وصف التلاحم ثابت
…
وما بعدها السمحاق فافهمه واعيه