الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا أميراً له من الجود بحر
…
فهو يجري لنا بغير وقوف
قد غرقنا في بحر هم وغم
…
فطلعنا بذاك من شنطوف
ولما دخلت أنا في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت جماعة قد لهجوا بالمقامة التي أنشأها القاضي علاء الدين وسماها مراتع الغزلان، فكلفني بعض أصحابي الأعزة أن أنشئ رسالة في مادتها، فأنشأت رسالتي عبرة اللبيب بعبرة الكئيب.
علي بن محمد بن سلمان بن حمائل
الشيخ الإمام الصدر الرئيس الكاتب الشاعر، صدر الشام، القاضي علاء الدين بن غانم.
كان حسنة من حسنات الزمان، وبقية مما ترك أول الفضل والإحسان، ذا مروءة فاتت الواصف، وجود أخجل هتانه الغمام الواكف. تأذى من الدولة مرات، وما رجع عما له من العصبية والخير من كرات، يسدي الجميل إلى من يعرف والى من لا يعرف، ويتكل على الله تعالى فيما يتصرف بقلمه ويصرف. وكان وجيهاً في الدولة يعرف الناس قدره، ويعلمون أن المروءة لا تنزل إلا في قلبه، ولا تسكن إلا صدره.
وكان حسام الدين لاجين وقبجق والأفرم ومن بعده إلى تنكز يرعون قدره ويراعونه، ويعلمون أنه ما يبخل أ، يعير ماعونه، لا يبخل بجاهه وماله على أحد من أبناء جنسه، ولو أن ما يف كفه غير نفسه.
ولم يزل على حاله إلى أن حج وعاد إلى تبوك، فغنم ابن غانم أجله، وراح إلى الله تعالى، ولم يقصر به كرمه ولا اعتراه خجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وله ست وثمانون سنة.
وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى يقول: ما أعرف أحداً في الشام إلا ولعلاء الدين بن غانم في عنقه مانة قلدها بصنيعة أو ماله أو جاهه.
وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يكرهه ويؤذيه ويحط عليه ويقول: كيف أعمل بهذا ابن غانم، أي من أردت أن أذكره عنده بسوء يقول: ما في الدنيا مثل ابن غانم، أو كما قال.
وكان وقوراً مليح الهيئة منور الشيبة، ملازم الجماعة، مطرح الكلفة.
حدث عن ابن عبد الدائم، والزين خالد، وابن النشبي، وجماعة.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة، ولما دخلت ديوان الإنشاء اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، ووجدت منه خيراً وبراً رحمه الله تعالى.
وهو كان آخر من بقي من رؤساء دمشق، لأن بيته كان مقصداً لكل غريب وغياثاً لكل ملهوف.
كتب إليه الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض ما كتبه من أمداحه:
علوت اسماً ومقداراً ومعنى
…
فيا لله من فضل جلي
كأنكم الثلاثة ضرب خيط
…
علي في علي في علي
قلت: أخذ الثاني برمته من قول علاء الدين الوداعي رحمه الله تعالى نقلت ذل من خطه، وقد اجتمع بأصحابه، وكلهم يدعى علياً:
لقد سمح الزمان لنا بيوم
…
غدا فيه السمي مع السمي
تجمعنا فكنا ضرب خيط
…
علي في علي في علي
وكان ينظم وينثر، وله أعمال جيدة في شبيبته، وبين الشيخ علاء الدين وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وبين الشهاب محمود وغيره من أهل عصره محاورات ومكاتبات على عادة الأدباء، مليحة.
وكان قد طلب هو وأخوه شهاب الدين أحمد بن غانم إلى مصر على البريد في شهر رجب سنة سبع عشرة وسبع مئة، فرسم للشيخ علاء الدين بكتابه السر بحلب، فاستعفى من ذلك. وعرض عليه الإقامة بمصر، فاختار العود إلى بلده، ورسم لهما بزيادتين وخلعتين، وأعيدا إلى دمشق.
ومن نثره رحمه الله يصف قلعة: " ذات أودية ومحاجر لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظر إلا أنها طالعة بين النجوم بمالها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر إلا أن " هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج "، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء ولا حر الهواجر، وقد توعرت مسالكه، فلا يداس فيه إلا على المحاجر، وتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه " فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ".
ومنه في صدر كتاب:
" وجعله لحقيقة العلياء نفساً وعيناً، ولا أعدم منه الملك ناظراً ولا عيناً. ولا زال
على الأعداء يرسل من مهابته رقيبين، أذناً وعيناً وأغنى بمكارمه من أن نشيم من السماء خالاً وعيناً، أو نرد من الأرض منهلاً وعيناً، وأطلع طلعة لوائه في الخافقين حتى تخال الشمس عيناً، وسير ركائب ذكره في الآفاق لا تشتكي أينا ولا عيناً وأقام ميزان القسط بين الرعايا لا تجد فيه غبناً ولا عيناً "، واستعبد بخدمته كل أصيد من الملوك، لكل جحفل قلباً ولك محفل عيناً، وأهلك كل عدو له وحاسد تارة فجأة وتارة عيناً، ومتعه بما خصه من استجلاء عرائس الحور العين بمجاهدته إذا شغل سواه عيناء من أسماء وعيناً، وسطر آثار مآثره محكمة على صفحات الأيام إذا لم يبق لمن سلف من الملوك أثراً ولا عيناً ".
وأنشدني من لفظه ما كتبه إلى شيخنا العلامة أبي الثناء محمود:
لقد غبت عنا والذي غاب محسود
…
وأنت على ما اخترت من ذاك محمود
خللنا محلاً بعد بعدك ممحلاً
…
به كل شيء ما خلا الشر مفقود
به الباب مفتوح إلى كل شقوة
…
ولكن به باب السعادة مسدود
قال: فكتب الجواب:
أأحبابنا بنتم وشط مزاركم
…
برغمي وحالت دون وصلكم البيد
وودعتم روض الحمى بفراقكم
…
فشابت نواصي بانه وهو مولود
ومن لم تهجه الورق وجداً عليكم
…
توهم أن النوح في الدوح تغريد
وكتب إليه شيخنا نجم الدين الصفدي:
شنف الأسماع بالدر الذي
…
قد حكى الأنجم في ظلمائها
وبدا كالشمس إلا أنه
…
زاد في الحسن على لألائها
فكتب الجواب إليه:
ليس للمملوك إلا مدحة
…
في معاليك وفي آلائها
وبحار الفضل تجري منك لي
…
فمقالي قطرة من مائها
ومن شعر:
سلب المهجة مني
…
بالجفون الفاترات
لو يزور البيت لم ير
…
م الحشا بالجمرات
وأخبرني من لفظه، قال: عتبني شهاب الدين محمود، وهو صاحب ديوان الإنشاء. وقال: بلغني أن جماعة من ديوان الإنشاء يذمونني، وأنت حاضر، ما ترد عني، فكتبت إليه:
ومن قال إن القوم ذموك كاذب
…
وما منك إلا الفضل يوجد والجود
وما أحد إلا لفضلك حامد
…
وهل عيب بني الناس أو ذم محمود
قال: فكتب إلي بأبيات منها:
علمت بأني لم أذم بمجلس
…
وفيه كريم القوم مثلك موجود
ولست أزكي النفس إذ ليس نافعي
…
إذا ذم مني الفعل والاسم محمود
وما يكره الإنسان من أكل لحمه
…
وقد آن أن يبلى ويأكله الدود
قال: ولم يكن بعد ذاك إلا أيام حتى توفي رحمه الله تعالى وأكله الدود.
وكان القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى قد طلب مني كتابي جنان الجناس وكتب علي:
لقد ضم أجناس فأطربا
…
وأعجز من باراه فيها وأعجبا
صلاح لدين الله أبدي بدائعاً
…
تروق بألفاظ أرق من الصبا
يراه بليغ جاء بالمدح سائلاً
…
مجيباً مجيزاً قوله لا مخيبا
بإنشاده هذا وإنشائه لقد
…
به فات من قد فاق فضلاً ومنصبا
فقس إياد عند ذي الفضل باقل
…
ولفظ امرئ القيس البديع هنا هبا
فكتبت أنا أشكره على ذلك:
ألا هكذا من قال شعراً فأطربا
…
ووشى بروداً باليراع فأعجبا
جبرت انكساري إذا أجزت مصنفي
…
بأبيات شعر قد حكت رقة الصبا
فما كل من وافى بحسنى يجيدها
…
ولا كل من أولى الندى يجزل الحبا
فأقسم لو جاراك في الفضل فارس ال؟
…
كتابة أعني الفاضل ابن علي كبا
ومن للعماد الأصفهاني أن يرى
…
ببابك دهراً واقفاً متأدبا
لأنت الذي أنسى بألفاظ نظمه
…
ورونقها عصر الشبيبة والصبا
طريقتك المثلى التي اجتهد الورى
…
على مثلها واستحسنوا منك مذهبا
ولم ير أحلى من يراعك أحمرا
…
علت دهمة جاري من الطرس أشهبا
بقيت لنا ذخراً مآثر فضله
…
يضوع لها في كل يوم لنانبا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وكم سرحة لي في الربا زمن الصبا
…
أشاهد مرأى حسنها متمليا
ويسكرني عرف الصبا من نسيمها
…
فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا
وأسأل فيها مبسم الروض قبلة
…
فيبرز من أكمامه لي أيديا
فلله روض زرته متنزهاً
…
فأبدى لعيني حسن مرأى بلا ريا
غدا الغصن فيه راقصاً ونسيمه
…
يكر على من زاره متعديا
ترجلت الأشجار والماء خر إذ
…
نسيم الصبا أضحى به متمشيا
يغني لديك الورق والغصن راقص
…
فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا
فأنشدته أنا لنفسي في هذا المعنى:
حسدت نسيم الروض في كل حالة
…
ولا سيما يوم قطعناه بالحمى
فكم م عطفاً للغصون مرنحا
…
وعانق قداً للقضيب مقوما
وقبل خد الورد وهو مضرج
…
وثغر الأقاحي في الربا إذا تبسما
وكم بات يستجلي عذار بنفسج
…
سقته الغوادي صوبها فتنمنما
ولما أمال القضب نقش ظلها
…
وكبت كفا للغدير ومعصما
وفتح أجفاناً من الزهر أغمضت
…
ونبه قمري الحمي فترنما
ولم أنسى وجه الروض يسفر ضاحكاً
…
بأزهاره كالدر لما تنظما
فمذ فتحت فيه البروق جفونها
…
تبرقع منها بالحيا وتلثما