الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الوهاب بن فضل الله
القاضي الكبير الخبير، الكاتب المدبر شرف الدين أبو محمد، كاتب السر، وصاحب ديوان الإنشاء بمصر والشام.
كان كاتباً مترسلاً، حسن المقاصد متوصلاً، ما كتب بين يدي الأتراك مثله، ولا عرف مقاصدهم وأتاهم كما في نفوسهم مثل بنانه الذي فاض وبله، يتحيل في عبارته، ويتجنب مستثقل الألفاظ، ويتحيد عن الألفاظ الغربية التي تهجر من الأعراب، فلا يخرج الكتاب من يده إلا عذباً فصيح الألفاظ، ظاهر المعاني، لا يحتاج إلى التنبيه والإيقاظ. يكتب خطاً لو كان للحدائق يوماً ما احتاجت للأزاهر، أو للغواني ما تحلت بالجواهر، متعه الله بحواسه الخمس، وكان يسمع البعيد ويسمع الهمس. وكان مخاديمه يحترمونه ويعظمونه، ويتوخون كبار الدر لأجل الثناء عليه وينظمونه. وكان كاملاً في فنه، حاملاً أعباء ديوانه، إذا انفرد لا تثنه.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه بريد حينه، وحل عليه من الأجل وفاء دينه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
وكان في أول أمره يلبس القماش الفاخر، ويأكل الأطعمة المنوعة الشهية، ويعمل السماعات الطيبة، ويعاشر الفضلاء مثل الشيخ بدر الدين بن مالك وغيره. ثم إنه انسلخ من ذك كله لما داخل الدولة وقتر على نفسه واختصر في ملبوسه، وانجمع عن الناس انجماعاً كلياً.
وكان قد سمع في الكهولة من ابن عبد الدائم، وأجاز له ابن مسلمة وغيره.
وتنقل إلى أن صار صاحب ديوان الإنشاء بمصر مدة طويلة، وما كتب قدام أحد إلا وعظمة واحترامه، مثل حسام الدين لاجين، والملك الأشرف، والملك الناصر محمد بن قلاوون. والأمير سيف الدين تنكز كان يذكره كل قليل، ويجعل أفعاله قواعد يمشي الناس عليها.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن القيسراني. قال: كنت يوماً أقرأ البريد على الأمير سيف الدين تنكز، فتحرك على دائر المكان طائر، فالتفت إليه يسيراً ورجع إلي، وقال: كنت يوماً بالمروج، وشرف الدين بن فضل الله يقرأ علي بريداً جاء من السلطان، والصبيان قد رموا جلمة على عصفور، فاشتغلت بالنظر إليها، فبطل القراءة وقال: يا خوند، إذا قرأت عليك كتاب السلطان اجعل بالك كله مني، ويكون كلك عندي، ولا تشتغل بغيري أبداً، وافهمه لفظة لفظة، أو كما قال.
وما رأى أحد ما رآه هو من تعظيم الناس له، رآه الملك الأشرف مرة، وقد قام ومشى، وتلقى أميراً، فلما حضر عنده قال: رأيتك وقد قمت من مكانك وخطوت خطوات! فقال: يا خوند، كان الأمير سيف الدين بيدار النائب قد جاء وسلم علي. فقال: لا تعد تقوم لأحد أبداً. أنت تكون عندي قاعداً وذاك واقف.
ولما توفي القاضي فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بمصر، وقام بعده عماد الدين بن الأثير مدة يسرة طلب السلطان الملك الأشرف القاضي شرف الدين من دمشق، ورتبه بعد عماد الدين بن الأثير في صحابة ديوان الإنشاء بالديار المصرية،
فأقام بها إلى أن جاء السلطان الملك الناصر من الكرك في سنة تسع وسبع مئة. وكان قد وعد بالوظيفة للقاضي علاء الدين بن الأثير، فأخرج القاضي شرف الدين إلى صحابة ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه محيي الدين، فوصل إلى دمشق يوم السبت تاسع عشر شهر الله المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولم يزل بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور، وهو ينفذ بريداً إلى بعض النواحي.
ومتعه الله بجوارحه، لم يتغير سمعه ولا بصره، ولا تغيرت كتابته، وخلف نعمة طائلة من الأموال.
ولما مات بدمشق حضر شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود مكانه في صحابه ديوان الإنشاء بدمشق، ورثاه بقصيدة طنانة، وهي:
لتبك المعالي والنهى الشرف الأعلى
…
وتبك الورى الإحسان والحلم والفضلا
وتنتحب الدنيا لمن لم تجد له
…
وإن جهدت في حسن أوصافه مثلاً
ومن أتعب الناس اتباع طريقه
…
فكفوا وأعيتهم طريقته المثلى
لقد أثكل الأيام حتى تجهمت
…
وإن كانت الأيام لا تعرف الثكلا
وفارق منه الدست صدراً معظماً
…
رحيباً يرد الحزن تدبيره سهلا
فكم حاط بالرأي الممالك فاكتفت
…
به أن تعد الخيل للصون والرجلا
وكم جردت أيدي العدى نصل كيدهم
…
فرد إلى أعناقهم ذلك النصلا
وكم جل خطب لا يحل انعقاده
…
فأعمل فيه صائب الرأي فانحلا
وكم جاء أمر لا يطاق هجومه
…
فلما تولى أمر تدبيره ولى
وكم كف محذوراً وكم فك عانياً
…
وكم رد مكروهاً وكم قد جلا جلى
ومنها:
وقد كان للاجين ظلاً فقلصت
…
يد الموت عدواً عنهم ذلك الظلا
وعف عن الأغراض مغض عن القذى
…
صبور عليه في الورى يحمل الكلا
سأندبه دهري وأرثيه جاهداً
…
وأكثر فيه من بكاي وإن قلا
ولم لا وقد صاحبته جل مدتي
…
أراه أباً براً ويعتدني نجلا
ولم يرنا في طول مدتنا امرؤ
…
فيحسبنا إلا الأقارب والأهلا
وكم أرشدتني في الكتابة كتبه
…
ولو زل عن إرشادها خاطري ضلا
وكم مشكلات لم تبن لمحدق
…
إليها جلاها فانجلت عندما أملى
فمن هذه حالي وحالته معي
…
أيحسن أن أبكي على فقده أم لا
وعهدي به لا أبعد الله عهده
…
وأقلامه أني جرت نشرت عدلا
وتجري بما تجري الملوك من الندى
…
بها فتزيل الجدب والمحل والأزلا
لقد كان ي أنس به وهو نازح
…
كأن التنائي لم يفرق لنا شملا
وقد زال ذاك الأنس واعتضت بعده
…
دموعاً إذا أنشأتها أنست ألوبلا
فلا مدمعي الهامي يجف ولا الأسى
…
يخف جواه إن أقل لهما مهلا
ولا حرقي تخبو وإن يطف وقدها
…
بماء دموعي صار فيها غضاً جزلا
إلى الله أشكو فقد صحب رزئتهم
…
وفقد ابن فضل الله قد عدل الكلا
ولم يترك الموت الذي حم منهم
…
حمماً ولا خلى الردى منهم حلاً
وعمهم داعي الحمام فأسرعوا
…
جميعاً وألفى قولنا منه إلا
وكم يرجئ الساري الونى عن رفاقه
…
بإبطائه عمن تقدمه كلا
أيطمع من قد جاز معترك الردى
…
إذا ركبهم يوماً بدارهم حلا
ولا سيما من عاهد الداء جسمه
…
يعاوده بدءاً إذا ظنه ولى
عزاؤك محيي الدين في الذاهب الذي
…
قضى إذا قضى فرض المناقب والنفلا
فمثلك من يلقى الدروس بكاهل
…
يقل الذي تعيا الجبال به حملا
وفي الصبر أجر أنت تعرف قدره
…
وآثاره الحسنى فلا تدع الفضلا
وسلم لأمر الله وارض بحكمه
…
تحز منه فضلاً ما برحت له أهلا
ولا زال صواب المزن والعفو دائماً
…
يؤمانه حتى إذا وصلا انهلا
ورثاه الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن غانم، أنشدنيها لنفسه إجازة:
ما كنت من حزني عليك بلاه
…
لما فقدتك يا بن فضل الله
أصبحت ذا جلد لفقدك واهن
…
حزناً عليك وذا اصطباري واه
كم صنت سر الملك منك بهمة
…
وكفاية ما صانها إلا هي
ولكم مهم مشكل أمضيته
…
إذ أنت منه امرأو ناه
من للمصالح والمهمات التي
…
ما كنت عنها ساعة بالساهي
كم حاجة حصلت تجاهك وانقضت
…
وكريهة فرجتها لله
من ذا يقوم مقام فضلك في العلا
…
من سائر الأنظار والأشباه
ما زلت عمرك محسناً حتى انتهى
…
ولكل عمر في الزمان تناه
كم قائل ما زلت أنت ملاذه
…
قد كنت عزي في الأنام وجاهي
ولكم سعيد مات بعدك خاملاً
…
بل كان يفخر دائماً ويباهي
ما فرد داهية برزئك قد دهت
…
بل قد دهت لما فقدت دواه
قسماً لقد خمل الزمان وكنت لم؟
…
اكنت فيه هو الزمان الزاهي
لله در معارف قد حزتها
…
من ذا يجاري فضلها ويباهي
أنطلقت أفواه الزمان بمدحك ال؟
…
عالي لفضل دام منك وفاهي
أسفي على ما فات منك وأنت لم
…
تبرح بقربي منعماً وتجاهي
أبكيك ما بقي البكاء بكاء مح؟
…
زون على طول المدى أواه
فسقت ضريحك رحمة فياضة
…
ترويه بالأنواء والأمواه
ولما طلب في الأيام الأشرفية إلى مصر، كتب إليه علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت:
وافقت ربي في ثلاث بأن
…
تبقى وترقى وتنال العلى
وقد رأت عيناي أمنيتي
…
والحمد لله تعالى على
والآن في مصر فلا بد من
…
أن تخلف الفاضل والأفضلا
وكتب إليه، ونقلت من خطه:
لئن كان أصلي من ذؤابة كندة
…
أولي الحكم الغراء والمنطق الفصل
فما زلت طول الدهر أشكر فضلكم
…
إلى أن دعوني في القبائل بالفضل
ومن إنشاء القاضي شرف الدين بن فضل الله كتاب بشرى بالنيل، وهو:
لا زالت البشائر تستمتع بمحاورته، وتغتبط بمجاورته، وتود لو استقر بذراه قرارها، وطال معه سرارها، وهذه البشرى تبشره بنعمة عظمت مواهبها، وعذبت مشاربها، وانتشرت في البسيطة مذاهبها، وردت الآمال الظماء، وضاهت الأرض بها السماء، وأغنت عن منة الغمام، وعمت مصر بالهناء حتى فاض إلى الشام، وهي وفاء النيل الذي وفى، وفي وفائه حياة البلاد والعباد، وشكر النعمة به متعين على الحاضر والباد.
ومنه أيضاً:
ورد كتابه فتمتع منه بعرائس أبكار الأفكار، وتملى منه بنفائس من أنفاس الأزهار، وشاهد كل سطر منه أحسن من سطري، وكان ناظره صائماً عن النظر لبعده فأوجب عليه عيد قدومه فطراً، وردد فكره في بدائعه الرائقة الرائعة، ورأى التشريف بإرساله من جملة صنائعه المتتابعة، ووقف عليه وسر بدونه وإيابه. وشكر الأيام التي خولته من اقترابه ما لم تطمعه الأيام في تمثيله ولم يدر في حسابه، والله تعالى يقرن اليمن بهذه الحركة، ويجعلها مشمولة على السعادة مخصوصة بالبركة.
ومنه نسخة كتاب كتبه عن نائب السلطان بالشام لما قدم المبارك الذي ادعى أنه ابن المستنصر: " سلام عليك طبتم فادخلوها خالدين ".
ليهنك النعمة المخضر جانبها
…
من بعدما اصفر في أرجائها العشب
ضاعف الله جلال الجناب الكريم الشريف العالي المولوي السيدي النبوي، وجعل قدومه كاسمه المبارك على الإسلام.
واسم شققت له من اسمك فاكتس
…
شرف العلو به وفضل العنصر
وأورد ركابه الأرض الشامية ورود الغمام، وبين أنوار الخلافة على جبين مجده فلا تضام النواظر في رؤيتها ولا الأفهام، وأضاء بوجوده بيت الإمامة حتى يعود إلى عوائده الحسنى في سالف الأيام، وسخر له العزائم والشكائم، وجعل من شيمته السيوف والأقلام. ورد الكتاب الكريم تبدو البكرات من صفحاته، وتسري نسمات السعد من أنفاس كلمه الطيب ونفحاته، وكان كالسحاب إذا سح وابله، وكالذكر المحفوظ إذا عمت ميامنه للإسلام وفواضله.
وكالبدر وافته لوقت سعوده
…
وتم سناه واستقلت منازله
فتلقاه حين ألقي إليه من سماء الشرف بالإعظام، وحل الواردون به من مواطن القبول محل ملائكة الوحي الكرام، وتلا على ما قبله: يا بشراي هذا سيد ولم يقل: هذا غلام. فأي قلب لم يسر بمقدمه، وأي طرف لم يستطع أنوار مطلعه على الدنيا ومنجمه.
ومن شعره يمدح الملك المنصور قلاوون الألفي:
تهب الألوف ولا تهاب لهم
…
ألفاً إذا لاقيت في الصف
ألف وألف في ندى ووغى
…
فلأجل ذا سموك بالألفي
ومنه لما ختن الملك الناصر محمد:
لم يروع له الختان جناناً
…
قد أصاب الحديد منه حديداً
مثلما تنقص المصابيح بالقط
…
ط فتزداد في الضياء وقودا
ومنه:
كتبت والشوق يدنيني إلى أمل
…
من اللقاء ويقصيني من الدار
والشوق يضرم فيما بين ذاك وذا
…
بين الجوانح أجزاء من النار
ومنه:
في ذمة الله ذاك الركب إنهم
…
ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف
فإن أعش بعدهم فرداً فيا عجباً
…
وإن أمت هكذا وجداً فيا أسفي
ومنه يهنئ القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ببنت:
أمولاي فتح الدين هنئ خدركم
…
بقرة عين للصيانة والمجد
ومتعتم منها بأيمن غرة
…
مباركة في الصالحات من الولد
وصين بني سعد حماكم وعشتم
…
ميامين فرسان اليراعة والحمد
وعوذ تم من عين حاسد فضلكم
…
ومجدكم في المجد يوماً وفي المهد
فأولادكم إما بدور فضيلة
…
وإما شموس هن أخبية السعد
فبورك فيها طلعة فلربما
…
أفاد بني سعد فخاراً بنو نهد