الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمر بن داود بن هارون بن يوسف
القاضي زين الدين أبو حفص الصفدي، كاتب الإنشاء بالشام ومصر أصله من نين قرية من مرج بني عامر من صفد، بنونين، بينهما ياء آخر الحروف على وزن بين ودين.
كان كاتباً ذكياً، فاضلاً سرياً، يقع على المقاصد، ويرقب المجرات ويراصد، إذا أخذ كتاباً تأمل فضوله، وتصور محصوله، وأجاب عنه بأجوبة بليغة ساده، دالة على غزارة المادة، وكان قلمه بليغاً إذا كتب مسترسلاً من غير سجع، واتكل على ما عنده في ذلك من الطبع، لأنه يأتي بما يكتبه، بليغ المعاني، مستوفي المقاصد، تام المراد، غير مخل ببيان ولا فاسد.
أما نظمه فكان قليلاً مرذولاً، بطيئاً مهزولاً، ونثره كان أجود منه؛ إلا أنه كان وعر الجادة، ناب عن الطبع غير سار في المادة، وخطه أيضاً قوي منسوب، لكن ما عليه حلاوة، ولا له ما لخط غيره من اللطف والطلاوة؛ إلا أنه كان صبوراً على الكتابة، لا يسأم تواترها، ولا يمل تكاثرها، يقوم بتنفيذ ما في الديوان، ويسد مهماته على أحسن ما يكون وأسده، ولو بلغت إلى كيوان.
تنقل من صفد إلى دمشق إلى غزة إلى الرحبة، ثم إلى دمشق، ثم إلى مصر إلى دمشق إلى مصر كرتين هبة بعد هبة، مع عطلة تخللت ذاك، وكاد الأمر يكون حتماً بغير انفكاك، ولكنه لطفت به المقادير، وأعادت اسمه إلى الدساتير.
ولم يزل على حاله إلى أن بتر الله عمر عمر، وانقبض ابنساطه في الحياة وانقبر.
وتوفي رحمه الله وسامحه بالقاهرة في ثامن عشري صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة، بعد مرض طويل قاسى منه شدة.
ومولده في سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
قدم من قريته إلى صفد، وقد عذر في عام ستة عشر وسبع مئة فيما أظن أو قبل ذلك بقليل، ولازم شيخنا نجم الدين الصفدي، وأقام في بيته يبيت ويصبح، واشتغل عليه وكتبه وهذبه ودربه، فكان شيخنا في تلك المدة كاتب سر صفد، فاستكتبه عنده، وتخرج. وكان ذكياً فذاق هذه الصناعة، ومهر فيها. ولما بطل الشيخ نجم الدين من التوقيع كتب زين الدين الدرج للأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الدواوين بصفد ووالي الولاة، ولما هرب الأمير علم الدين سنجر الساقي من صفد فاراً من نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي توجه زين الدين معه، فأقام بدمشق مدة يتردد إلى شيخنا شهاب الدين أبي الثناء محمود والى القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وعرف بين أهل دمشق، وعامل أهلها معاملة جيدة إلى أن أجمعوا على الشكر منه والتوجع له في بطالته، فأقام بها مدة، وحضر شمس الدين الجاولي إذ ذاك نائب غزة، فرأى خط زين الدين وعبارته فأعجبه ذلك. وكان
زين الدين شديد المداخلة للناس، لطيف المؤانسة جريا في الإدلال والكلام والمشاركة مع صاحب المجلس والانخراط في سلكه، فخاف ابن منصور من تقدمه، فعمل عليه وأعاده إلى دمشق. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، جهزه إلى الرحبة موقعاً بإشارة القاضي شمس الدين محمد بن شيخنا شهاب الدين محمود رحمه تعالى بعد ما أقام بدمشق بطالاً تسع سنين فأقام بها قريباً من سنتين.
ولما توجه القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى مصر قال الأمير سيف الدين تنكز لهما: ما بقي في الديوان أحد، فذكراه له، وقالا: يا خوند، كاتب الرحبة زين الدين الصفدي يصلح أن يكون في باب مولانا ملك الأمراء. وكان قد خلا مكان القاضي جمال الدين بن رزق الله من ديوان الإنشاء بدمشق لتوجهه إلى توقيع غزة، فرسم بإحضار زين الدين إلى دمشق، فجاء إليها، وأقام بها دون السنة، ثم إن القاضي شهاب الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فأقام يكتب بين يديه قريباً من ثماني سنين إلى أن رسم السلطان الملك الناصر محمد للقاضي شهاب الدين بن فضل الله بأن يلزم بيته، فعمل عليه هو الآخر، وأخرجه السلطان من الديوان، وأقام في القاهرة مدة ملازم بيته، ثم إن طاجار الدوادار أخرجه من القاهرة إلى صفد بطالاً، فأقام فيها إلى أن حضر القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، فتحدث له القاضي شهاب الدين وأحضره من صفد إلى دمشق، فبقي فيها بطالاً إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد فتحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله مع الأمير علاء الدين ألطنبغا
نائب الشام، فأمر له بالدخول إلى ديوان الإنشاء، فأقام به إلى أن رسم السلطان الملك الصالح بإبطال من أحدث عبد أبيه السلطان الملك الناصر، فبطل، ولازم بيته مدة، ثم إنه دخل مع من دخل فيما بعد.
ولم يزل يكتب في ديوان الإنشاء بدمشق إلى أن حضر القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله، فسلم إليه الأمر، ورأى من السعادة ما لا رآه في عمره مدة ثلاث سنين. ثم إن القاضي علاء الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فتوجه هو ووالده القاضي شهاب الدين أحمد في البريد يوم عيد الأضحى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فأقام بها موقعاً في الدست، وولده في جملة كتاب الإنشاء، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكنت قد كتبت إليه إلى دمشق من صفد:
عن عيني مذ غاب شخصك عنها
…
يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي
…
لا تسل ما جرى على الخد منها
وكتبت إليه مع غلام حسن الوجه وهو بغزة:
يا نازحاً صورته في خاطري
…
فرميت للتصوير بالنيران
إن لم يبلغك النسيم تحيتي
…
فلقد أتاك بها قضيب البان
وكتب هو إلي من دمشق وأنا بصفد سنة ست عشرة وسبع مئة:
أشتاق من دون الأنام خليلا
…
فلذاك أصبو بكرة وأصيلا
مولى رحلت وسرت عن معروفه
…
فعدمت من إحسانه تنويلا
لو كان في عصر مضى لم يعتمد
…
إلا على ألفاظه الترسيلا
هو فارس في فنه كم جدل الأقران في ميدانهم تجديلا
ليس اليراع بكفه في طرسه
…
إلا حساماً هزه مصقولا
فإذا ترسل خلته من لطفه
…
أضحى يدير على الأنام شمولا
نبت الكتابة عن سواه فلم تجد
…
إلا بضافي الظل عنه بديلا
فلذاك وجه الدهر راح بفضله
…
لمن اجتلاه أو رآه جميلا
أرجو اجتماع الشمل منه لأنه
…
قد لا يكون به الزمان نحيلا
والله ما لاحت بروق في الدجا
…
إلا تجدد لي بكى وعويلا
ولربما سمح الزمان بعودتي
…
فأبل من شوقي إليه غليلا
لا زال جودك بالمرام كفيلا
…
ولطيف صنعك بالأنام جميلا
أنس قريضك مذ تطلع نيراً
…
بسما البديع كثيراً وجميلاً
قط اليراع لسانه عن وصفه
…
مذ مد باعاً في البديع طويلا
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
يا سيداً أضحى عظيم فخاره
…
أبداً على هام العلا إكليلا
وكسا برود النظم من ترصيعه
…
غرر البيان وزادها تحجيلا
لاحت تباشير الصباح بطرسه
…
من أسطر أفنيتها تقبيلا
راقت محاسنه ورق شمائلا
…
فغدا يمج من البيان شمولا
أما التشوق والحنين فلا تسل
…
فالخطب منه لا يزال جليلا
مذ غبت عني فالدموع على الولا
…
لو كن سيلاً ما وجدن مسيلا
وتلهب الزفرات في طي الحشا
…
خلى محل الصبر عنك محيلا
فاسعف بقربك إنه جل المنى
…
لتكيد ضداً أو تسر خليلا
فالجسم في صفد أقام وقلبه
…
بل قد تشحط في دمشق قتيلا
وكتبت أنا إليه من صفد:
يا بارقاً سال في عطف الدجى ذهبا
…
أذكرتني زمناً في جلق ذهبا
لئن حكيت فؤادي في تلهبه
…
فلست تحيكه لا وجداً ولا حربا
ويا نسمياً سرى والليل معتكر
…
وهب وهناً إلى أن هزني طربا
أراك تنفح عطراً في صباك فهل
…
تركت ذيلاً على جيرون منسحبا
أم قد تحملت من صحبي تحيتهم
…
فكان ذلك في طيب الصبا سببا
قوم عهدت الوفاء المحض شيمتهم
…
وإن شككت سل العلياء والأدبا
صرفت إلا عناني عن محبتهم
…
وبت نضواً حيلف الشوق مكتئبا
لا الدار تدنو ولا السلوان ينجدني
…
وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا
أحبابنا إن ونت عني رسائلكم
…
فلست أسأل إلا الفضل والحسبا
وحياتكم ما لنفسي عنكم بدل
…
كلا ولا اتخذت في غيركم أربا
أعيذ ودكم من أن يغيره
…
نأي ولو جردت من دون ذاك ظبا
لعل دهراً قضى بالبعد يجمعنا
…
وقلما جاد دهر بالذي سلبا
أرضى بحكم زماني وهو يظلمني
…
فيكم وأجني ببعدي عنكم التعبا
ولن يظفرني إلا بودكم
…
يا حيرتي فيكم إن رد ما وهبا
نسيتموني ولم أعتد سوى كرم
…
منكم يبوؤني من فضلكم رتبا
حاشاكم أن تروا هجري بلا سبب
…
أو تجعلوا البين فيما بيننا حجبا
عاقبتموني ولا ذنب أتيت به
…
فقل عن الصخر إذ يقسوا ولا عجبا
عودوا إلى جبر كسري لا فجعت بكم
…
فقد لقيت ببعدي عنكم نصبا
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
يا خير من خط في الأوراق أو كتبا
…
وخير من حاول العلياء والأدبا
ومن علا فغلت فيه مودتنا
…
وفاق فضلاً وفات العجم والعربا
أنت قصديك الغراء باسمة
…
عن نقط أحرفها لما حكى الحببا
فرنحت أنفساً بالبعد قد تلفت
…
وحركت كل عطف قد قسا طربا
فهل بعثت بعتب جاء عن قلق
…
أو لطف نظمك قد أهدى نسيم صبا
حاشى المودة أن يعتادها ملك
…
أو أن يكون النوى في مثله سببا
وإنما الدهر بالإزراء حاربني
…
وجار في الحكم لما بت مغتربا
وما ترق على ذلي عواطفه
…
ولا تمد إلى العلياء لي طنبا
وكلما قلت قد لينت شرته
…
يزيد ناري على تأجيجها حطبا
فاعذز فإنك أولى الناس كلهم
…
ببسط عذري إن لم أبعث الكتبا
فأنت تعلم أني قد جعلتك من
…
دون البرية في الدنيا أخاً وأبا
فلا تؤاخذ إذا ما هفوة عرضت
…
ممن يكون إلى علياك منتسبا
وكتبت أنا إليه من الرحبة أهنئه بمولود ذكر:
هناء به وجه الزمان تهللا
…
وبشرى بها الإقبال وافى وأقبلا
فهنئت مولوداً أتى فتشوفت
…
إليه عيون الفضل والمجد والعلى
وأكرم بنجم لاح فينا ومن يقل
…
بنجل فحرف الميم باللام بدلا
إذا ضوأ الآفاق نور هلاله
…
فكيف إذا ما صار بدراً مكملا
سيرضيك في أفعاله ومقاله
…
إذا طال في أوج العلا أو تطولا
وترعف أقلام السيادة كفه
…
ويرعف أعداء ويرعد ذبلا
ويستخدم البيض الرقاق يراعه
…
إلى أن يرد الصعب سهلاً مذللا
ويسعى إلى أبوابه السعد صاغراً
…
ويأتي إليه وهو طفل تطفلا
يقبل الأرض وينهي أنه جلس بهذه البشرى على سرر السرور، والتحف منها بحبر الحبور، وملأ كفه بالدرر من هذه الأفراح، وملأ طرفه بالبدور، ونطقته هذه المسرات بالمحامد فارتجل وارتجز، وأمكنته الفرصة من التهاني، فانتهب وانتهز، وقرن الهناء بالدعاء فابتهج وابتهل، تخير ساعات الإجابة فانتقد وانتقل، وكيف لا يبتهج المملوك بمخدوم تجدد، ويتمسك بفضل تعدد، ويسر بدوح تفرع، وإن كان أصله بالمزايا تفرد، وهو هذا إلا بيت تمد في العلياء أطنابه، ترفع في السيادة أعلامه وقبابه، وتتسع لبني الآمال ساحاته ورحابه:
وهذا هدية رب العلا
…
فثق بهدايا هداياته
وما أقول إلا أن مولانا ليث وقد أشبل، وبحر زخر لجه حتى مد بجدول، ومن حرمان المملوك أنه ما شافه السمع الكريم بالتهاني، ولا فاز برصد هذا الهلال كيف يترقى إلى الإبدار على الدقائق والثواني، ولا عاين لسلوك المحبين إليه طريقة، ولا حضر لهذه الجوهرة النفيسة يوم عقيقة، وما ضر الأيام لو كنت لجوهره عرضاً أدنى، أو لو ساعفت بالقرب فأكون حاضراً بالصورة إذ قد حضرت بالمعنى، والله تعالى يمتع عينه الكريمة بهذه القرة، ويهبه أمثالها حتى يرى في كل ذرة من الزمان دره، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب عن ذلك:
أتاني كتاب منك كالبدر يجتلى
…
فأصبحت أجلوه على سائر الملا
حكى الروض أمس بالأزاهر ناضراً
…
أو العقد أضحى بالجمان مفصلا
يدير على سمع الأنام سلافة
…
من القول فاتت منك مسكرة الطلا
لو أن أبا تمام أبصر حسنه
…
لما قال في عصر تقدم أو خلا
تخال به برداً عليك محبراً
…
وتحسبه عقداً عليك مفصلا
تهن به عبداً لعبدك قد أتى
…
فناهيك من مولى به قد تطولا
لقد زاد عبد في عبيدك إذا أتى
…
فتمم عداً حين جاء تكملا
وإني لأرجو أن يفوء بخدمة
…
يفوق بها فوق السماكين منزلا
تربيه مملوكاً وتنشيه خادماً
…
ويكفيه هذا للمعالي توسلا
وكتب هو إلي من صفد وأنا مقيم بالديار المصرة بعد ما خرج إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقد ظن أن لي في خروجه مدخلاً، وعلم الله تعالى كاف:
إن كان ظنك أنني لك ظالم
…
فارحم لأن تسمى لأنك راحم
حسب المسيء من القصاص بأنه
…
جرح بجرح والسعيد مسالم
كم قد حرصت على التنصل عندما
…
وقع العتاب فما أقال الحاكم
الله يعلم أنني عاذر
…
والله عني بالبراءة عالم
ها قد جرى لي ما جرى لك قبلها
…
ووقعت في صفد وأنفي راغم
إن صح لي فيها عليك جناية
…
فجزاؤها هذا العقاب اللازم
فاقنع به واذكر قديم مودتي
…
فالعهد فيما بيننا متقادم
أو لم يكن ذنب وحالي ما ترى
…
فامدد إلي يداً وجاهك قائم
فلقد تأتى ما تريد فوالني
…
منك الجميل فإنه لك دائم
جار الزمان على وليك واعتدى
…
وإليك للزمن الألد يخاصم
من كان ليس بنادم مستدرك
…
فأنا عليك إلى مماتي نادم
كانت هناة وانقضت ومن الذي
…
منا وليس له تعد جرائم
إن الذي قسم الحظوظ كما يشا
…
للرزق ما بين البرايا قاسم
قل وكثر ليس تبقى حالة
…
والدهر بين الناس بان هادم
يا من له أخلصت كن لي مخلصاً
…
فعلى مجازينا كلانا قادم
أعلنت بالشكوى لضر مسني
…
لكن ودي في الحقيقة سالم
ولك السيادة خلة ومكارم ال؟
…
أخلاق منها في يديك خواتم
فاقبل أخوتي الجديدة إنني
…
فيها لمجدك أو لودك خادم
وإلى الرضى عد بي وللحسنى أعد
…
حتى تقوم على الصفاء علائم
والبس رياستك السنية حلة
…
أبداً لها من نسج سعدك راقم
واجعل لها شكراً إقالة عثرة
…
من صاحب قد صد عنه العالم
أنت الخليل بل الخلي من الهوى
…
وأخوتي قد جرها لك آدم
فأعن أخاك بحسن سعيك مرة
…
إن المغارم في الإخاء مغانم
قلت: الأجوبة التي تقدمت أصلحت أنا فيها أماكن حتى رقت ولطفت، وأما هذه الأبيات الميمية فهي شعره على صرافته لم أغير منها شيئاً، وهي بخط يده في التاريخ الكبير في ترجمته.
وكتبت أنا الجواب إلهي عن ذلك:
يا من تعرضني وقلبي سالم
…
من إثمه والله إنك آثم
أتظن أني فهت فيك بفظة
…
لا والذي هو بالسرائر عالم
ما الأمر فيك كما زعمت وإنما
…
أنت امرؤ فيما أهمك واهم
أنسيت أن الله في أحكامه
…
عدل وأنك في الحقيقة ظالم
فاقتص لي منك الغداة بمثل ما
…
عاملتني والله عدل حاكم
كم قد قطعت الليل منك مسهداً
…
والقلب ملتهب وطرفي ساجم
أستصرخ الأنصار فيك وكلهم
…
في غفلة عما دهاني نائم
وإذا طلبت الروح من نفس الصبا
…
جاءتني النسمات وهي سمائم
فأقمت في صفد ودمعي مطلق
…
حزناً ومالي في البرية راحم
حتى إذا علم الإله ضرورتي
…
نجى وطرفك بالغواية حالم
فأنب وتب لله وارض بحكمه
…
واصبر فحكم الله أمر لازم
لعساك تؤجر أو ترى لك مخلصاً
…
من ضيق حال ضره متفاقم
والله مالي في خروجك مدخل
…
كلا ولا طبعي لذاك ملائم
فعليك بالصبر الجميل فإنه
…
لجراح ناب النائبات مراهم
ما دام لي بخلاف قصدك شدة
…
وكذاك ما تخشاه ما هو دائم
أعزز علي بأن يسوءك حادث
…
أو أن أنفك في الرزية راغم
ما احتجت للتذكار منك لأنني
…
لك في الرخاء وفي الشقاء أقاسم
فلأبذلن عليك مجهودي إلى
…
أن تنقضي البلوى وبالك ناعم
فتوخ في الأسحار أوقات الدعا
…
إن الدعاء لدفع ذاك دعائم
فكأنني بك قد خلصت خلوص بد
…
ر التم حيث سحابه متراكم
وصفوت كالإبريز يخرج من لظى
…
والصبح قد أخفاه ليل عاتم
وأراك مسروراً ووجهك مسفر
…
بشراً وثغرك بالأماني باسم
وكأنما قد كان من عبث الردى
…
بك لم يكن ولك الزمان مسالم
وكان هو قد كتب بدمشق قبل الديوان كتاباً ببشارة النيل على وجه امتحان الخاطر، وجهز إلي نسخته، وهو: " أعز الله أنصار المقر ولا أخلاه من أثر رحمة يشاركه فيها الخلائق، وينبه ذوي الفضائل على التفكر في لطيف صنع الخالق، ويدخل في شمول عمومها وعموم شمولها الصامت والناطق، ويدل على إقبال الرخاء دلالة البرق المستطير على النوء الصادق:
حتى يكون مباركاً في نفسه
…
وعلى الورى في سائر الأقطار
متقسم المعروف أحلى موقعاً
…
عند النفوس من الخيل الساري
يحيكه مشبه كفه النيل الذي
…
أغنى الثرى عن منة الأمطار
أربى عليها لونه لما جرى
…
ما شانه الإرعاد بالأكدار
وهي نعمة تحدث عن عجائب بحرها على الحقيقة ولا حجر، ويتساوى في الانتفاع بها كل نام فضلاً عما دب ودرج. لقد أبرزت كنانة أرض الله في أثوابها القشب، وسرى ذكرها إلى الشام المرتقب، موسم الوسمي طليعة السحب تضمن ذلك المثال الشريف الوارد بخبر وفائه القائل من سمعه: هذا عذوبة ألفاظ ألبستها من حلاوة مائه. وإن المقياس أتى بتمام قياسه الثابت على عادة عدانه، ونادى وقد سقى الأرض غير مفسدها بالأمان من طوفانه. وإن أراقم غدرانه انسابت في ذلك الإقليم
فابتلعت غدران أراقمه، ومحا سيله المتدفق معالمه المجهولة، فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه. وإنه أحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين ضائقة المحل بسور، وأخذ الطرق على السالكين فلا مراكب في البر ولا عاصم إلا الجسور. ولم تنتقض قاعدة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. على أن لله الحفي في هذا لطفاً خفياً وما هو بالخفي، فنقصها جاء " تماماً على الذي أحسن "، ونجاة بدنها الهالك للنبات آية المأمن. وكأني بهذا المخبر عنه، وقد بلغ الزبا من الربا، فطار النسر مبلول الجناح، ودنا حين أطلق فركضه من مشى بالأرجل، لا أن رفعه من قام بالراح.
ومولانا يأخذ من هذه الأنباء بأحسنها وكلها حسنة، ومن هذه البشائر المنتظر قدومها بأبينها يمناً وكلها بينة متيمنة، وقد علم حق نعم الله الشكر فيوفيها منه حقها. ويتوقع رزق بلاده من السماء كما وعد، فقد أخرج لتلك من خزائن غيبه رزقها، ويوفر الرعايا من الجباية ليتوفروا على الدعاء، ويعرفوا نزاهة هذه الدولة القاهرة عن القوة على الضعفاء.
فإن المرسوم الشريف نص على هذه الخاتمة الجلية، وطهر هذه الموارد من قذى
الأذى لتنقى القلوب من السخط كما كانت في نفسها نقية، ومن وعى فواضل هذا الكرم الطاهر فليقل: يا مقيلات الجدود العواثر.
والله تعالى يجعل مولانا من المتوكلين عليه ليزيده إيماناً، ويرزقه كما رزق تلك الديار التي غدت من الظمأ خماصاً، وراحت من الري بطاناً، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ولما كنت أنا بالديار المصرية سنة تسع وعشرين وسبع مئة ألزمني القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله تعالى أن أنشئ كتاباً في المعنى، فكتبت، وبالله التوفيق: ضاعف الله تعالى نعمةالجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية هي أكبر من الآخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق ليل الهم وتفرى، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا.
هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تخصه بسلام يرق كالماء انسجاماً، ويروق كالزهر ابتساماً، وتتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص الله الديار المصرية بوفادة وفائه، وأغنى قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منه الغمام الذي إن
جاد فلا بد له من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي البلاد التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج فيها مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس. وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج من البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع.
والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها وجود الوفاء عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر والماء كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمي، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى. إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في ذا العلم المبارك جذب البلاد من الجدب، وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحصنها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه.
وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة في مطالعتنا الشريفة في كل يوم بخير قاعة في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعاً، وأقبلت سوابق الخيرات سراعاً، وفتح
أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، وتضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفا بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلاب لكرم طباعه جبر العالم بكسره.
فرسمنا بأن يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فرح موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له في هذا خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله عز وجل على العباد. وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها.
ويخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.
فليأخذ الجناب العالي حظه من البشرى التي جادت المن والمنح وانهلت أياديها الغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجا أديم الأفق، ويتخذها عقداً يحيط به من العنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان
في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا المحروسة بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم الشريف حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة.
والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إلى زين الدين المذكور، وقد أعارني نسخة الفلك الدائر:
فديت مولى خالني مقتراً
…
فعمني بالنائل الغامر
لم يرض بالأرض على قدره
…
فجاد لي بالفلك الدائر
فراح وصفي في علا مجده
…
مشتهراً كالمثل السائر
وأنشدني من لفظه لنفسه في ضوء البدر بين الغصون:
نظرت للشهب وقد أحدقت
…
بالبدر منها في الدياجي عيون
والروض يستجلي سنا نوره
…
فتحسد الأرض عليها الغصون
وكلما صانته أوراقه
…
نازعها الريح فلاح المصون
فقلت حتى البدر لم تخله
…
ريب الليالي في السما من عيون
فقلت له: والله حسن، ولكن أطلت فيه النفس في أربعة أبيات، ولو كان ذلك في بيتين لكان أحسن. وأنشدته لنفسي في ما بعد ذلك:
كأنما الأغصان لما انثنت
…
أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليك خلف شباكها
…
تفرجت منه على موكبه
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة جمال الدين يوسف النابلسي الصوفي شيء من هذا المعنى.
وأنشدته يوماً الأبيات التي أوردتها في ترجمة شيخنا نجم الدين حسن بن محمد خطيب صفد، وأولها:
ولقد ذكرتكم بحرب ينثنى
…
غن بأسها الهزبر الأغلب
فأنشدني هو لنفسه في هذا المعنى:
ولقد ذكرتك عندما بلغ الزبا
…
عرق الجياد وفاض ماء النيل
والبحر بر بالوحول وقد طمى
…
بالبر بحر فرسخ في ميل
والناس قد خاضوا فأغرق بعضهم
…
ونجا القليل بضجة وعويل
وقلوبهم من روعها في غمرة
…
ويطب ذكرك بينهم تعويلي
ولما رسم بعوده إلى ديوان الإنشاء بدمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق، كتبت أنا إليه توقيعاً، ونسخته: رسم بالأمر العالي لا زال يزيد الأولياء زينا، ويزين الأكفاء بمن إذا حل صدراً كان عيناً، ويرتجع لكل مستحق ما كان له في ذمة الزمان ديناً، أن يستقر المجلس العالي الزيني في كذا، لأنه الكاتب الذي دبج المهارق، ورقم طورسها فكان لها نظرات الحدق ونضارة الحدائق، وخط سطورها التي إذا رملها غدت من الحسن كالريحان تحت الشقائق، وصرع بها أطيار المعاني لأن دالات السطور قسي، والنقط بنادق، وزان آفاقها بنجوم أسجاعه فلم يصل أحد إلى درجات فصاحتها لما فيها من
الدقائق، وأصدرها في الروح والروع يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق، وأودعها نفائس إنشائه فأثنى عليها أئمة البلاغة، ولو سكتوا أثنت حقائب الحقائق. طالما كتب بالأبواب الشريفة تقليداً، وجهز في المهمات كتباً ملأت البحر حرباً والبر بريداً، ووشى أمثلة صدرت عنها فطارت في الآفاق، ولكن أوثقتها الأفهام تقييداً، وعاد الآن إلى الشام فنفس عنه خناق الوحشة بقربه، وتلقها بالرحب علماً بأنه يغني عن الكتائب بكتبه، وأحله في رتبة يشرفها الولي بسلمه ويسوء العدو بحربه، شوقاً إلى أنس ألفه من لطفه، وعرفه من عرفه في نفح عرفه، فطاب به الواديان كلاهما، وتنافسا في أخذ حظيهما من قربه، فما تساهلا تساهماً، فهو من القوم الذين تسقى البلاد بهم وتسعد، وإذا قربوا من مكان تخطاهم السوء للأبعد، وإذا قاموا بمهم كانوا فيه أقعد، وإذا باشروا المعالي كانوا أسعد الناس وأصعد، وإذا كتبوا كبتوا العدا، لأن كلامهم لمع فأبرق وطرسهم قعقع فأرعد.
فليباشر ذلك على ما عهد من أدواته الكاملة، وكلماته التي تركت محاسن البرايا بائرة وأزاهر الخمائل خاملة. والوصايا التي تملا كثيرة، وكم شرع لها قرطاسه وشرعها بأقلامه، ونضد عقودها بإحكام أحكامه، وملأ بجيوشها صدور مهامه. فما يلقى إلى بحره منها دره، ولا يذكر لطود فضله منها ذره، ولا يطلع