الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي بن إسماعيل
الشيخ الإمام نور الدين الصفدي.
ربي في حجر الشيخ زين الدين أبي بكر المقرئ إمام مسجد الشيرزي بصفد ومقرئها.
كان له قدرة على الحفظ، وشهرة بكثرة اللفظ، ذكياً إلى الغاية، زكياً في نفسه ليس لطلبه نهاية، يحرص على أن يسلك طريق الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويأخذ نفسه بالدخول في كل بلية، ويشتهي أن يحيط بالأشياء علماً، وألا يدع علماً ولا غيره حتى يملكه فهما، فلذلك ضيع الزمان، وإن كان قد خرج عن الجهل بأمان، لكنه ذو عربية جيدة، وروية لم تكن عن الصواب متحيدة، وبرع في الحديث دراية، وشاكل فيه ببعض رواية، وشارك في الفقه فأخذ منه بنصيب، وكابد من الفقر كل يوم عصيب.
ثم إنه دخل اليمن، وتولى هناك تدريساً، ولم يكشف الله لي بعد ذلك من أمره تلبيساً.
وأظنه توفي رحمه الله تعالى بعد الست والثلاثين وسبع مئة.
كان هذا نور الدين أعجوبة لمن يفكر في أمره، كان شديد الحرص على أن يعرف كل شيء، وإذا سئل عن شيء، يريد أن يجيب عنه بالقوة، وإذا لم يوافق الصواب يتحيل على نصرة ما يقوله بكل الطرق.
وأعرف له يوماً وضعت قدامه قطع الشطرنج التي وصفها مشهرو، وهو أنها تصف صفاً مخصوصاً من القطع البيض والسود، وإذا تكامل ذلك يدعي أن مركباً كان فيه مسلمون ونصارى جالسين على هيئة مخصوصة، وكان الرائس مسلماً، فهاج البحر عليهم وهم في وسط اللجة، فاحتاجوا إلى أن يرموا بعضهم في البحر ليخف المركب فأرادوا يعملون القرعة، وكان الرائس ذكياً، فنظر إليهم وقال: ما نحتاج إلى قرعة، بل نعد من هنا، وكل من جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسع من النصارى رمى به إلى البحر إلى أن رمى بالنصارى جميعهم، ولم يرم بأحد من المسلمين.
فلما صنعت ذلك قدامة، أعجبه ذلك وزهره ونحنح وبقي مفكراً في ذلك، واشتغل باله به عامة نهاره. ثم إني فارقته وعدت إليه، فوجدته يكرر عليها ويقول: أربعة مسلمون وخمسة نصارى، ومسلمان ونصراني وثلاثة مسلمون ونصراني ومسلم، وهو يدرس ذلك، ويكرر عليه، ويقع التخبيط عليه في سرد ذلك على الصحة، فرحمته وقلت: يما مولانا هذا أمر يتعبك ولا ينضبط لك، وقد تطلبه في وقت الحاجة، فيشذ الصواب فيه عنك. فقال لي: فكيف انضبط لك هذا؟ قلت له: هذا ضابطه في بيت واحد من الشعر. فطار عقله، وقال: هذا أعجب. ولم يصدق. قلت: نعم، بيت واحد، حروفه المهملة مسلمون، والمعجمة نصارى. فلما أنشدته ذلك، وصف القطع على حكمه وعده وصح معه، خرج من حبال عقله، فقلت: وأزيدك أخرى، إن أردت صففت لك ثمانية ثمانية وسبعة سبعة وستة ستة وخمسة وخمسة وأربعة أربعة ثلاثة ثلاثة. فقال: هذا بقاعدة أيضاً قلت: نعم. فقال: أريد تعلمني ذلك، فقلت: ما هو وقته. وقمت وتركته. وحفظ مني بيت التسعة، وهو:
ولما فتنت بلحظ له
…
عذلت فما خفت من شامت
وفرح به فرحاً عظيماً، ثم إنه طالبني في آخر وقت بمعرفة القاعدة في ذلك، فما قلت له. وفرق الدهر بيننا بعد ذلك.
ونور الدين هذا في عذر مما ذهب، لأنني وجدت الفاضل الأديب الكامل صفي الدين الحلي قد جاء إلى شيء مثل هذا، فأراد ضبط صفه، وصنع له أبياتاً لتعلق بالذهن، فقال خمسة أبياتاً، أولها:
جيش من الزنج والإفرنج يقدمه
…
ما كان بينهما زوج من الخدم
والضبط في هذا ببيت واحد أخصر وأحسن وأسرع في العمل. ث إنني بعد فراقي لنور الدين هذا بثلاثين سنة، أردت ضابطاً لعد ستة وإلقاء السابع، وأخذت نفسي به، تصورته، وعملت لذلك بيتاً، وهو:
فديتك إن صدقي من فخار
…
أبان بناء سر في دعائي
ثم إنني فكرت في رص مهارك النرد، وهي ثلاثون مهركة، وأردت أن توضع كذا دائرة، وتعد: ستة ويلقى السابع، ففتح الله بذلك، ووضعت له هذا البيت، وهو:
قد رد شاني بكل شين
…
عدمت ذا في صلاح جبري
ثم أردت أيضاً أعد قطع الشطرنج: أربعة ويحذف الخامس، ففتح الله به، ونظمت لذلك بيتاً، وهو:
عبتم فلم أندفع ومن ذا
…
يدفع بالسب عنه ضرا؟
ثم إني أردت ذلك في قطع النرد، ففتح الله به، ونظمت له بيتاً، وهو:
لا تبك إن هب ريح نجد
…
إنك يا بئس ما بليتا
وكان قد نزل إلى دمشق، وقرأ على الشيخ نجم الدين القحفازي نحواً وعروضعاً، ولما رآه الجماعة بهذه المخيلة عبثوا به، ونظم فيه جمال الدين يوسف الصوفي رحمه الله تعالى.
وسائل يسأل مستفهماً
…
من أين ذا المولى علي ورد
قلت له: من صفد، قال لي:
…
ولا رأى أولى به من صفد
وشاع البيتان في دمشق واشتهر، فحصل له خيال، وترك دمشق، وتوجه إلى صفد، وفتح له حانوت تجارة في البطاين، ثم إنه طلب في بكرة نهار فلم يوجد له خبر، وغاب سنين ولم يظهر له أثر، فعمل أهله عزاءه. ولما كان بعد مدة ظهر خبره من مصر، ثم إنه عاد إلى صفد، فرأيته قد زاد الحال به، وقد تعلق بلعب الشطرنج، فكان يستغرق نهاره وليله، ولا يأكل ولا يشرب إلا إذا لم يجد من يلعب معه، وزاد في ذلك، فقلت له: يا مولانا، هذا الشطرنج هو مثل الكتابة، متى وصل الإنسان فيهما إلى غاية لا يمكنه أن يتعداها، وأنا قد نصحتك فما بقيت تقدر تزداد على هذه الغاية التي وصلت إليها شيئاً. فقال: كيف أعمل؟ أريد أكون فيها عالية مثل غيري. قلت: هذا الذي فتح الله به عليك، فلم يرجع عن غيه، ثم إنه لازم ذلك زماناً وعاد إلى ما قلت له. ثم إنه نزل إلى دمشق ورأيته بها، ثم إنا طلبناه فلم نقع له على خبر. وبعد حين تقديره عشرة أعوام طلع خبره في اليمن، وأنه هناك شيخ حديث، وهذا آخر عهدي بخبره في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.