الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَل عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَال أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَل.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّهُ لَا يُخِل بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَل عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَل.
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:
10 -
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا (1) مِنَ اللَّيْل، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَال: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَل الْقَوْمُ - يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَال رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى. . أَنْ قَال ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَال الرَّسُول: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُل فِي الْقَوْمِ
(1) الهوي: الساعة الممتدة من الليل (لسان العرب، مادة هوى) .
فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا (1) قَال: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عز وجل تَفْعَل بِهِمْ مَا تَفْعَل، لَا تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلَا نَارٌ وَلَا بِنَاءٌ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُل امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَال حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُل الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَال: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَال أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ. . . إِلَخْ (2) فَهَذَا دَلِيل جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.
تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:
11 -
سَبَقَ أَنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (3)
وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الأَْمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الأُْمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1) حديث غزوة الخندق أخرجه ابن إسحاق في سيرته، وفي إسناده انقطاع. (البداية والنهاية لابن كثير 4 / 113 - 114 ط دار السعادة) .
(2)
تفسير ابن كثير 5 / 430 - 431 ط دار الأندلس.
(3)
سورة الحجرات / 12.
قَال لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ (1) فَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الأَْمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ. (2)
وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالإِْنْكَارِ.
أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الأَْسْتَارِ عَنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَل عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى
(1) حديث: " إنك إن اتبعت عورات الناس. . . " أخرجه أبو داود (5 / 199 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح. (عون المعبود 4 / 423 - نشر دار الكتاب العربي) .
(2)
حديث: " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس. . . " أخرجه أبو داود (5 / 200 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة وصححه النووي كما في فيض القدير (2 / 323 - ط المكتبة التجارية) .
شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَال: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الإِْيقَادِ فِي الأَْخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ، وَعَنِ الدُّخُول بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ. فَقَال: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَل يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْل طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَال: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لَا يُكْسَرُ. وَنُقِل عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.
فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُول عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِل عَنْ مُهَنَّا الأَْنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَل إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.
وَقَال فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُل يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَال: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَل جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّل عَلَيْهِ. وَقَال الْجَصَّاصُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تَجَسَّسُوا} نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَال: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ، بَل أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْل الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ. ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ