الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَنْعِهَا فِي حَقِّ الرِّجَال؛ لأَِنَّ أَمْرَ الْمَرْأَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ قَال تَعَالَى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ فَعَل مِنْهُنَّ ذَلِكَ فَرَحًا بِحُلِيِّهِنَّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَنْ فَعَل مِنْهُنَّ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَال فَهُوَ حَرَامٌ مَذْمُومٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ ضَرَبَ بِنَعْلِهِ مِنَ الرِّجَال، مَنْ فَعَل ذَلِكَ تَعَجُّبًا حَرُمَ، فَإِنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ تَبَرُّجًا لَمْ يَجُزْ (2) .
وَأَحْسَنُ الْمَشْيِ مَشْيُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَكَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ مِشْيَةً، وَأَحْسَنَهَا وَأَسْكَنَهَا (3) وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا} (4) .
قَال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: يَعْنِي بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ (5) .
تَحْسِينُ الْخُلُقِ:
18 -
تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا. قَال اللَّهُ
(1) سورة النور / 31.
(2)
تفسير القرطبي 12 / 238.
(3)
حديث: " كان إذا مشى تكفأ. . . . " أخرجه مسلم (4 / 1815 - ط الحلبي) .
(4)
سورة الفرقان / 63.
(5)
زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1 / 167، ونشر مؤسسة الرسالة 1399 هـ.
تَعَالَى: {وَلَا تَمْشِ فِي الأَْرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَْرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَال طُولاً} (1) وَقَال جَل شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (2) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) .
وَيَتَنَاسَبُ تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ عِظَمِ الْحَقِّ، فَمَنْ كَانَ حَقُّهُ عَلَيْكَ أَكْبَرَ كَانَ تَحْسِينُ الأَْخْلَاقِ مَعَهُ أَوْجَبَ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يَتَأَفَّفَ لأَِحَدِ وَالِدَيْهِ، لِعَظِيمِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ، قَال تَعَالَى:{فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (4) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
(1) سورة الإسراء / 37.
(2)
سورة الحجرات 11 - 12.
(3)
سورة القلم / 4.
(4)
سورة الإسراء / 17.
تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ وَالرِّفْقُ بِهِ وَاحْتِمَال أَذَاهُ، وَفِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ (1) .
تَحْسِينُ الظَّنِّ:
أ -
تَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى:
19 -
يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَكْثَرُ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِاللَّهِ عِنْدَ نُزُول الْمَصَائِبِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، قَال الْحَطَّابُ: نُدِبَ لِلْمُحْتَضَرِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَتَأَكَّدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَرَضِ، إِلَاّ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ (2)، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَاّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ (3) .
ب -
تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ:
20 -
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِالْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا مَا أَخْطَأَ أَحَدُهُمْ عَفَا عَنْهُ وَصَفَحَ وَالْتَمَسَ لَهُ الْعُذْرَ.
وَمَعَ إِحْسَانِهِ الظَّنَّ بِالْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ لَهُمْ
(1) حديث: " استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع " أخرجه البخاري (9 / 253 - الفتح - ط السلفية) ومسلم (2 / 1091 - ط الحلبي) .
(2)
مواهب الجليل. 2 / 218 و 219.
(3)
حديث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " أخرجه مسلم (4 / 2206 - ط الحلبي) .
وَجْهٌ، عَلَيْهِ أَنْ يَتَّهِمَ نَفْسَهُ وَلَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْغُرُورِ، وَأَسْلَمُ لِلْقَلْبِ عَنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، قَال ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَل: إِذَا خَرَجَ الْمَرْءُ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخْطِرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقَعَ فِي الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى، بَل يَخْرُجُ مُحْسِنَ الظَّنِّ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، مُسِيءَ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ، فَيَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي فِعْل الْخَيْرِ (1) . .
تَحْسِينُ الْخَطِّ:
21 -
حُسْنُ الْخَطِّ عِصْمَةٌ لِلْقَارِئِ مِنَ الْخَطَأِ فِي قِرَاءَتِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْكَلَامُ أَكْثَرَ حُرْمَةً كَانَ تَحْسِينُ الْخَطِّ فِيهِ أَلْزَمَ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ فِيهِ أَفْحَشُ، وَعَلَى هَذَا فَتَحْسِينُ الْخَطِّ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَلْزَمُ شَيْءٍ، ثُمَّ يَتْلُوهُ تَحْسِينُ الْخَطِّ بِكِتَابَةِ سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِالآْثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَكَذَا. .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ " قَوْل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما: يَا مُعَاوِيَةُ أَلْقِ الدَّوَاةَ، وَحَرِّفِ الْقَلَمَ، وَانْصِبِ الْبَاءَ، وَفَرِّقِ السِّينَ، وَلَا تُعَوِّرِ الْمِيمَ، وَحَسِّنِ اللَّهَ، وَمُدَّ الرَّحْمَنَ، وَجَوِّدِ الرَّحِيمَ (2) .
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 60.
(2)
حديث: " يا معاوية ألق الدواة، وحرف القلم. . " أخرجه السمعاني في أدب الإملاء (ص 170 - ط ليدن) وفي إسناده إرسال.
تَحْسِينُ الْمَخْطُوبَةِ:
22 -
لَا تُمْنَعُ الْمَرْأَةُ الْمَخْطُوبَةُ مِنْ تَحْسِينِ هَيْئَتِهَا وَلُبْسِهَا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْخَاطِبِ لَهَا مِنْ غَيْرِ سَتْرِ عَيْبٍ وَلَا تَدْلِيسٍ وَلَا سَرَفٍ (1) .
تَحْسِينُ الْمُصْحَفِ:
23 -
تَحْسِينُ الْمُصْحَفِ مَنْدُوبٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَحْسِينِ خَطِّهِ، وَتَعْشِيرِهِ، وَكِتَابَةِ أَسْمَاءِ سُوَرِهِ فِي أَوَّل كُل سُورَةٍ وَعَدَدِ آيَاتِهَا، وَتَشْكِيلِهِ وَتَنْقِيطِهِ، وَعَلَامَاتِ وُقُوفِهِ، وَتَجْلِيدِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْمُصْحَفِ (2) . .
تَحْسِينُ الذَّبْحِ:
24 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَدْبِ تَحْسِينِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ تَحْسِينًا يُؤَدِّي إِلَى إِرَاحَةِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ، فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ قَبْل الذَّبْحِ (3) . وَكَرِهُوا الذَّبْحَ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، لِمَا فِي الذَّبْحِ بِهَا مِنْ تَعْذِيبٍ لِلْحَيَوَانِ (4) وَلِحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُول
(1) مواهب الجليل 3 / 405.
(2)
تفسير القرطبي 1 / 63، 64، والمدخل لابن الحاج 1 / 77، و 4 / 87.
(3)
حاشية الجمل على شرح المنهاج 5 / 236 طبع دار إحياء التراث العربي ببيروت، ونيل الأوطار 5 / 212 طبع دار الجيل.
(4)
شرح منتهى الإرادات 3 / 408.
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (1) .
وَيُنْدَبُ عَدَمُ شَحْذِ السِّكِّينِ أَمَامَ الذَّبِيحَةِ، وَلَا ذَبْحُ وَاحِدَةٍ أَمَامَ أُخْرَى، كَمَا يُنْدَبُ عَرْضُ الْمَاءِ عَلَيْهَا قَبْل ذَبْحِهَا. وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ فِي الْعُنُقِ لِمَا قَصُرَ عُنُقُهُ، وَفِي اللَّبَّةِ لِمَا طَال عُنُقُهُ كَالإِْبِل وَالنَّعَامِ وَالإِْوَزِّ لأَِنَّهُ أَسْهَل لِخُرُوجِ الرُّوحِ.
وَإِمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَى الذَّبِيحَةِ بِرِفْقٍ وَتَحَامُلٍ يَسِيرٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا.
وَأَنْ لَا يَكُونَ الذَّبْحُ مِنَ الْقَفَا، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ أَعْمَقَ مِنَ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ، وَلَا يَكْسِرُ الْعُنُقَ، وَلَا يَقْطَعُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْل أَنْ تَزْهَقَ نَفْسُهَا (2) .
وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ تَحْسِينُ الْقَتْل فِي الْقِصَاصِ أَوِ الْحَدِّ، لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
تَحْسِينُ الْمَبِيعِ:
25 -
يُعْتَبَرُ تَحْسِينُ الْمَبِيعِ مُبَاحًا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَتْرُ
(1) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) .
(2)
حاشية الجمل 5 / 235 وما بعدها، وشرح المنهاج 5 / 234، والمغني 8 / 578، والمحلى 7 / 444 الطبعة المنيرية.
عَيْبٍ، أَوْ تَغْرِيرٌ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ تَحْسِينٌ مُؤَقَّتٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُول، فَإِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ الَّذِي أُخْفِيَ بِالتَّحْسِينِ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْعَيْبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ، غَرَرٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ) .
تَحْسِينُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ:
26 -
يُنْدَبُ تَحْسِينُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَيَكُونُ تَحْسِينُهَا: بِالسَّمَاحَةِ بِالْمُطَالَبَةِ: لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (2) . وَأَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ فِي وَقْتٍ يُظَنُّ فِيهِ الْيُسْرُ: فَقَدْ قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمَّا أَتَاهُ عَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، فَقَال سَعِيدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَبَقَ سَيْلُكَ مَطَرَكَ، إِنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ، وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرْ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ، فَقَال عُمَرُ: مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إِلَاّ هَذَا، مَا لَكَ تُبْطِئُ بِالْخَرَاجِ؟ قَال سَعِيدٌ: أَمَرْتنَا أَنْ لَا نَزِيدَ الْفَلَاّحِينَ عَلَى
(1) الفتاوى الهندية 3 / 43 - 50، والزيلعي 4 / 35، 41، 74، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 332، ومواهب الجليل 4 / 437، والمغني 4 / 157، 160، 167، والمدخل لابن الحاج 4 / 28، 29، ومعالم القربة في أحكام الحسبة للقرشي ص 92، 136، ونهاية الرتبة للشيزري ص 34، 65.
(2)
حديث: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع. . . " أخرجه البخاري (4 / 206 - الفتح - ط السلفية) .
أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، فَلَسْنَا نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى غَلَاّتِهِمْ، فَقَال عُمَرُ: لَا عَزَلْتُكَ مَا حَيِيتُ (1) .
تَحْسِينُ الْمَيِّتِ وَالْكَفَنِ وَالْقَبْرِ:
27 -
يُنْدَبُ تَحْسِينُ هَيْئَةِ الْمَيِّتِ، فَفِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: فَإِذَا مَاتَ شُدَّ لَحْيَاهُ، وَغُمِّضَتْ عَيْنَاهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَحْسِينَهُ، إِذْ لَوْ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ لَبَقِيَ فَظِيعَ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ يُغَسَّل (2) .
28 -
وَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ كَفَنِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الْكَفَنَ لِلْمَيِّتِ بِمَثَابَةِ اللِّبَاسِ لِلْحَيِّ، وَلِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ (3) .
وَيَكُونُ تَحْسِينُ الْكَفَنِ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: تَحْسِينُ ذَاتِ الْكَفَنِ، وَتَحْسِينُ صِفَةِ الْكَفَنِ، وَتَحْسِينُ وَضْعِهِ عَلَى الْمَيِّتِ.
أ - أَمَّا تَحْسِينُ ذَاتِ الْكَفَنِ: فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يُكَفَّنُ بِمِثْل مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ فِي حَيَاتِهِ - وَهُوَ يَلْبَسُ لَهَا أَحْسَن
(1) الأموال لأبي عبيد ص 43، والمغني 8 / 537، والمدخل لابن الحاج 1 / 69.
(2)
تبيين الحقائق 1 / 235.
(3)
حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " أخرجه مسلم (2 / 651 - ط الحلبي) .
ثِيَابِهِ - وَيُقْضَى بِذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْوَرَثَةِ فِيهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ (1) .
ب - أَمَّا تَحْسِينُ صِفَةِ الْكَفَنِ: فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْبَيَاضُ فِي الْكَفَنِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا بِهَا مَوْتَاكُمْ (2) وَالْجَدِيدُ أَفْضَل مِنَ الْقَدِيمِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
ج - أَمَّا تَحْسِينُ كَيْفِيَّةِ الْكَفَنِ: فَيَتَمَثَّل بِأَنْ تُجْعَل أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ بِحَيْثُ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَيَظْهَرُ حُسْنُ الْكَفَنِ (4) .
29 -
وَيُنْدَبُ تَحْسِينُ الْقَبْرِ، وَيَكُونُ تَحْسِينُهُ بِمَا يَلِي:
أ - حَفْرُهُ لَحْدًا إِنْ أَمْكَنَ، وَبِنَاءُ اللَّحْدِ، وَأَفْضَل مَا يُبْنَى بِهِ اللَّحْدُ اللَّبِنُ، ثُمَّ الأَْلْوَاحُ، ثُمَّ الْقِرْمِيدُ، ثُمَّ الْقَصَبُ (5) .
ب - أَنْ يَكُونَ عُمْقُهُ بِقَدْرِ قَامَةٍ - وَهِيَ
(1) مواهب الجليل 2 / 218.
(2)
حديث: " البسوا من ثيابكم البياض. . . " أخرجه أبو داود (4 / 332 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 185 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3)
سبل السلام 2 / 96، وتبيين الحقائق 1 / 238، والمغني 2 / 464، وكفاية الأخيار 1 / 320، وشرح منتهى الإرادات 1 / 334.
(4)
المغني 2 / 464 وما بعدها، والمدخل لابن الحاج 3 / 241 وما بعدها، وسبل السلام 2 / 96.
(5)
مواهب الجليل 2 / 234.
مَا يَقْرُبُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرَاعٍ - وَأَنْ يَكُونَ وَاسِعًا بِحَيْثُ لَا يَضِيقُ بِالْمَيِّتِ.
ج - فَرْشُ أَرْضِهِ بِالرَّمْل إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ صَخْرِيَّةً أَوْ كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ لِذَلِكَ.
د - أَنْ يَعْلُوَ عَنِ الأَْرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ، وَيَكُونَ مُسَطَّحًا أَوْ مُسَنَّمًا عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا هُوَ الأَْفْضَل.
هـ - أَنْ يُعَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ بِحَجَرٍ.
وَلَيْسَ مِنَ الْمُسْتَحْسَنِ - بَل هُوَ مَكْرُوهٌ - تَجْصِيصُ الْقُبُورِ وَتَطْيِينُهَا وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا (1) . .
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 258، ومواهب الجليل 2 / 234، وكفاية الأخيار 1 / 324، وشرح منتهى الإرادات 1 / 349 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 1 / 601 و5 / 269 و441، وحاشية قليوبي 1 / 351.
تَحسِينِيَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحْسِينِيَّاتُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَادَّةِ الْحُسْنِ، وَالْحُسْنُ فِي اللُّغَةِ بِالضَّمِّ: الْجَمَال. وَجَاءَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ ضِدُّ الْقُبْحِ. وَالتَّحْسِينُ: التَّزْيِينُ (1) .
وَأَمَّا التَّحْسِينِيَّاتُ فِي اصْطِلَاحِ الأُْصُولِيِّينَ: فَهِيَ مَا لَا تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ وَلَا حَاجَةٌ، وَلَكِنْ تَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّيْسِيرِ وَرِعَايَةِ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ (2) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: تَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَالسِّبَاعِ حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الأَْخْلَاقِ (3) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا أَيْضًا: اعْتِبَارُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ صِيَانَةً لِلْمَرْأَةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، لِكَوْنِهِ مُشْعِرًا بِتَوَقَانِ نَفْسِهَا إِلَى الرِّجَال، فَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ
(1) الصحاح والقاموس ولسان العرب، والمصباح، مادة:" حسن ".
(2)
المستصفى 1 / 286، 290 ط الأميرية، والإحكام للآمدي 3 / 49 ط صبيح، والموافقات للشاطبي 2 / 11 ط دار المعرفة.
(3)
مسلم الثبوت 2 / 263 ط الأميرية.
بِالْمُرُوءَةِ، فَفُوِّضَ ذَلِكَ إِلَى الْوَلِيِّ حَمْلاً لِلْخَلْقِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ -
الضَّرُورِيَّاتُ:
2 -
الضَّرُورِيَّاتُ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ مِنْ مَعْنَى مَادَّةِ ضَرَّ، وَالضُّرُّ فِي اللُّغَةِ: خِلَافُ النَّفْعِ، وَضَرَّهُ وَضَارَّهُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالاِسْمُ الضَّرَرُ. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: كُل مَا كَانَ سُوءَ حَالٍ وَفَقْرًا وَشِدَّةً فِي بَدَنٍ فَهُوَ ضُرٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ ضِدُّ النَّفْعِ فَهُوَ بِفَتْحِهَا (2) .
وَأَمَّا عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: فَهِيَ الأُْمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهِيَ حِفْظُ الدِّينِ، وَالْعَقْل، وَالنَّسْل، وَالْمَال، وَالنَّفْسِ.
وَهِيَ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْمَصَالِحِ (3) بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الأُْخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ وَالرُّجُوعِ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ.
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ والتحسينيات، إِذِ التَّحْسِينِيَّاتُ هِيَ الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الأَْحْوَال الْمُدَنَّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُول الرَّاجِحَةُ.
(1) روضة الناظر ص 76 - 87 ط السلفية.
(2)
الصحاح والقاموس والمصباح، مادة:" ضر ر ".
(3)
الموافقات 2 / 8 - 11 ط دار المعرفة. والمستصفى 1 / 287 ط الأميرية.
ب -
الْحَاجِيَّاتُ
3 -
يُعْرَفُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ مِنْ مَعْنَى الْحَاجَةِ، وَهِيَ: الاِحْتِيَاجُ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: فَهِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَصِل إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَتَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ
الثَّانِيَ
ةِ بَعْدَ الضَّرُورِيَّاتِ، أَمَّا التَّحْسِينِيَّاتُ فَتَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ (2) .
أَقْسَامُ التَّحْسِينِيَّاتِ:
4 -
تَنْقَسِمُ التَّحْسِينِيَّاتُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل:
مَا كَانَ غَيْرَ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، كَتَحْرِيمِ تَنَاوُل الْقَاذُورَاتِ، فَإِنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ مِنْهَا مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الأَْخْلَاقِ.
الثَّانِي:
مَا كَانَ مُعَارِضًا لِلْقَوَاعِدِ كَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، إِذْ لَوْ مُنِعَتْ مَا ضَرَّ، لَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعَادَةِ لِلتَّوَسُّل بِهَا إِلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ مِنَ الرِّقِّ، وَهِيَ خَارِمَةٌ لِقَاعِدَةِ امْتِنَاعِ بَيْعِ الشَّخْصِ بَعْضَ مَالِهِ بِبَعْضٍ آخَرَ، إِذْ مَا يُحَصِّلُهُ
(1) انظر معنى مادة: " حوج " في القاموس والصحاح والمصباح.
(2)
جمع الجوامع 2 / 281 ط الحلبي، والموافقات 2 / 10 - 11 ط دار المعرفة.
الْمُكَاتَبُ فِي قُوَّةِ مِلْكِ السَّيِّدِ لَهُ بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ (1) .
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:
أ -
الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا:
5 -
التَّحْسِينِيَّاتُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْمَصَالِحِ إِلَاّ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْحَاجِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهَا فِي الْمَنْزِلَةِ، وَالْحَاجِيَّاتُ بِدَوْرِهَا مُكَمِّلَةٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ لَهُمَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ التَّحْسِينِيَّاتِ يُؤَدِّي فِي النِّهَايَةِ إِلَى تَرْكِ الضَّرُورِيَّاتِ ْ؛ لأَِنَّ الْمُتَجَرِّئَ عَلَى تَرْكِ الأَْخَفِّ بِالإِْخْلَال بِهِ مُعَرَّضٌ لِلتَّجَرُّؤِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ لَوِ اقْتَصَرَ الْمُصَلِّي عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ مَا يُسْتَحْسَنُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّحْسِينِيَّاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاجِيَّاتِ - الَّتِي هِيَ آكَدُ مِنْهَا - كَالنَّفْل بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فَرْضٌ، وَكَذَا الْحَاجِيَّاتُ مَعَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْل الصَّلَاةِ كَالْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ بِالْجُزْءِ يَنْتَهِضُ أَنْ يَصِيرَ وَاجِبًا بِالْكُل، فَالإِْخْلَال بِالْمَنْدُوبِ مُطْلَقًا يُشْبِهُ الإِْخْلَال بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْوَاجِبِ (2) . .
(1) جمع الجوامع مع حاشية البناني 2 / 281 - 282 ط الحلبي، وإرشاد الفحول 216 - 217 ط الحلبي.
(2)
انظر ما قاله الشاطبي في المسألة الرابعة من المسائل التي ذكرها في النوع الأول من كتابه الموافقات 2 / 16 - 25 ط دار المعرفة.
ب -
تَعَارُضُ التَّحْسِينِيَّاتِ مَعَ غَيْرِهَا:
6 -
التَّحْسِينِيَّاتُ وَإِنْ كَانَتْ مُكَمِّلَةً لِلْحَاجِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ لَهَا، إِلَاّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهَا مُكَمِّلَةً: أَلَاّ تَعُودَ عَلَى أَصْلِهَا بِالإِْبْطَال، فَإِذَا كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا فَإِنَّهَا تُتْرَكُ، وَمِثْل ذَلِكَ الْحَاجِيَّاتُ مَعَ الضَّرُورِيَّاتِ، لأَِنَّ كُل تَكْمِلَةٍ يُفْضِي اعْتِبَارُهَا إِلَى إِبْطَال أَصْلِهَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِبْطَال الأَْصْل إِبْطَال التَّكْمِلَةِ؛ لأَِنَّ التَّكْمِلَةَ مَعَ مَا كَمَّلَتْهُ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ الْمَوْصُوفِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ارْتِفَاعُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَاعْتِبَارُ هَذِهِ التَّكْمِلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُؤَدٍّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ لَمْ تُعْتَبَرِ التَّكْمِلَةُ، وَاعْتُبِرَ الأَْصْل مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ.
الثَّانِي: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُل مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الأَْصْلِيَّةِ، لَكَانَ حُصُول الأَْصْلِيَّةِ أَوْلَى لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ، وَحِفْظَ الْمُرُوءَاتِ مُسْتَحْسَنٌ، فَحَرُمَتِ النَّجَاسَاتُ حِفْظًا لِلْمُرُوءَاتِ، وَإِجْرَاءً لأَِهْل الْمُرُوءَاتِ عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ دَعَتِ
الضَّرُورَةُ إِلَى إِحْيَاءِ النَّفْسِ بِتَنَاوُل النَّجِسِ كَانَ تَنَاوُلُهُ أَوْلَى (1) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ: أَنَّ الْمَصَالِحَ إِذَا تَعَارَضَتْ حُصِّلَتِ الْعُلْيَا مِنْهَا، وَاجْتُنِبَتِ الدُّنْيَا مِنْهَا فَإِنَّ الأَْطِبَّاءَ يَدْفَعُونَ أَعْظَمَ الْمَرَضَيْنِ بِالْتِزَامِ بَقَاءِ أَدْنَاهُمَا، وَيَجْلِبُونَ أَعْلَى السَّلَامَتَيْنِ وَالصِّحَّتَيْنِ وَلَا يُبَالُونَ بِفَوَاتِ أَدْنَاهُمَا، فَإِنَّ الطِّبَّ كَالشَّرْعِ، وُضِعَ لِجَلْبِ مَصَالِحِ السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَلِدَرْءِ مَفَاسِدِ الْمَعَاطِبِ وَالأَْسْقَامِ، وَلِدَرْءِ مَا أَمْكَنَ دَرْؤُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلِجَلْبِ مَا أَمْكَنَ جَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ دَرْءُ الْجَمِيعِ أَوْ جَلْبُ الْجَمِيعِ، فَإِنْ تَسَاوَتِ الرُّتَبُ تَخَيَّرَ، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ اُسْتُعْمِل التَّرْجِيحُ عِنْدَ عِرْفَانِهِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الْجَهْل بِهِ. (2)
ج -
الاِحْتِجَاجُ بِهَا:
7 -
ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالتَّحْسِينِيَّاتِ بِمُجَرَّدِهَا إِنْ لَمْ تَعْتَضِدْ بِشَهَادَةِ أَصْلٍ، إِلَاّ أَنَّهَا قَدْ تَجْرِي مَجْرَى وَضْعِ الضَّرُورَاتِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ، فَحِينَئِذٍ إِنْ لَمْ يَشْهَدِ الشَّرْعُ بِرَأْيٍ فَهُوَ
(1) الموافقات 2 / 13 - 16 ط دار المعرفة.
(2)
قواعد الأحكام / 4 ط العلمية.
كَالاِسْتِحْسَانِ فَإِنِ اعْتَضَدَ بِأَصْلٍ فَذَاكَ قِيَاسٌ وَمِثْل التَّحْسِينِيَّاتِ فِي هَذَا الْحَاجِيَّاتُ. (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
(1) المستصفى 1 / 293 - 294 ط الأميرية، وروضة الناظر ص 87 ط السلفية.
تَحَصُّنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
مِنْ مَعَانِي التَّحَصُّنِ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلَاحِ: الدُّخُول فِي الْحِصْنِ وَالاِحْتِمَاءُ بِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحِصْنُ، كُل مَوْضِعٍ حَصِينٍ لَا يُتَوَصَّل إِلَى مَا فِي جَوْفِهِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ لاِرْتِفَاعِهِ، وَالْجَمْعُ حُصُونٌ.
وَحَصَّنَ الْقَرْيَةَ تَحْصِينًا بَنَى حَوْلَهَا مَا يُحَصِّنُهَا مِنْ سُورٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُسْتَعْمَل التَّحَصُّنُ أَيْضًا بِمَعْنَى: التَّعَفُّفِ عَنِ الرَّيْبِ، وَمِنْهُ قِيل لِلْمُتَعَفِّفَةِ (حَصَانٌ) . (1)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا. . .} (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 -
التَّحَصُّنُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ - إِنْ جَاءُوا
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح مادة:" حصن " وشرح فتح القدير 4 / 284 ط الأميرية بمصر، الطبعة الأولى، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 143 ط دار إحياء التراث العربي.
(2)
سورة النور / 33.
لِقِتَال الْمُسْلِمِينَ - جَائِزٌ شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْحِصْنِ أَقَل مِنْ نِصْفِ الْكُفَّارِ أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِيَلْحَقَهُمْ مَدَدٌ وَقُوَّةٌ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاوِرَةِ لِيَشُدُّوا أَزْرَهُمْ، فَيَكْثُرَ عَدَدُهُمْ وَيَخْشَاهُمْ عَدُوُّهُمْ، وَلَا يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ بِتَحَصُّنِهِمْ إِثْمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ ْ؛ لأَِنَّ الإِْثْمَ مَنُوطٌ بِمَنْ فَرَّ بَعْدَ لِقَاءِ الْمُحَارِبِينَ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ، وَلَا مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ لَقَوْهُمْ خَارِجَ الْحِصْنِ فَلَهُمُ التَّحَيُّزُ إِلَى الْحِصْنِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَال أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ. (1)
وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ الْمُحَارِبُونَ فِي بِلَادِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ غَيْرَ قَاصِدِينَ الْحَرْبَ، فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْتَاطُوا بِإِحْكَامِ الْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ وَشَحْنِهَا بِمُكَافِئِينَ لَهُمْ، وَتَقْلِيدِ ذَلِكَ لِلْمُؤْتَمَنِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَشْهُورِينَ بِالشَّجَاعَةِ. (2)
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (جِهَادٌ) .
3 -
وَيَجُوزُ أَيْضًا لِلْمُسْلِمِينَ التَّحَصُّنُ بِالْخَنَادِقِ كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَمَا جَاءَ الأَْحْزَابُ لِقِتَالِهِ حَوْل الْمَدِينَةِ. (3) وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْله تَعَالَى
(1) المغني لابن قدامة 8 / 486 ط مكتبة الرياض بالرياض، والخرشي 3 / 113 ط دار صادر / بيروت، ونهاية المحتاج 8 / 62 ط الحلبي بمصر.
(2)
نهاية المحتاج 8 / 42، وروضة الطالبين 10 / 208 ط المكتب الإسلامي.
(3)
حديث: " تحصن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ومشاركته إياهم " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 399 ط السلفية) .
: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَل مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظَّنُونَا} (1) وَقَدْ شَارَكَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِنَفْسِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ.
4 -
وَمِثْل التَّحَصُّنِ بِالْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ: التَّحَصُّنُ بِكُل مَا يَحْمِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُفَاجَأَةِ الْعَدُوِّ لَهُمْ مِنَ الْوَسَائِل الَّتِي تَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ أَنْوَاعِ الْخَطَرِ. وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالأَْمْكِنَةِ. (2)
تَحْصِينٌ
اُنْظُرْ: إِحْصَانٌ، جِهَادٌ.
تَحَقُّقٌ
اُنْظُرْ: تَثَبُّتٌ.
(1) سورة الأحزاب / 9 - 11.
(2)
البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 4 / 92 - 11، والروض الأنف لابن هشام 2 / 258 - 266، وتفسير القرطبي 14 / 128 - 133 ط دار الكتب المصرية، وتفسير روح المعاني 20 / 155 وما بعدها، وفتح الباري 7 / 392.
تَحْقِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
مِنْ مَعَانِي التَّحْقِيرِ فِي اللُّغَةِ: الإِْذْلَال وَالاِمْتِهَانُ وَالتَّصْغِيرُ. وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّرَ، وَالْمُحَقَّرَاتُ: الصَّغَائِرُ. وَيُقَال: هَذَا الأَْمْرُ مَحْقَرَةٌ بِكَ: أَيْ حَقَارَةٌ.
وَالْحَقِيرُ: الصَّغِيرُ الذَّلِيل. تَقُول: حَقَّرَ حَقَارَةً، وَحَقَّرَهُ وَاحْتَقَرَهُ وَاسْتَحْقَرَهُ: إِذَا اسْتَصْغَرَهُ وَرَآهُ حَقِيرًا. وَحَقَّرَهُ: صَيَّرَهُ حَقِيرًا، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى الْحَقَارَةِ.
وَحَقَّرَ الشَّيْءَ حَقَارَةً: هَانَ قَدْرُهُ فَلَا يَعْبَأُ بِهِ، فَهُوَ حَقِيرٌ (1) . وَهُوَ فِي الاِصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
لِلتَّحْقِيرِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ:
2 -
فَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا مَنْهِيًّا عَنْهُ: كَمَا فِي تَحْقِيرِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَسُخْرِيَةً مِنْهُ وَامْتِهَانًا لِكَرَامَتِهِ. وَفِي هَذَا قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ
(1) الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة:" حقر ".
وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) وَنَحْوُهَا مِنَ الآْيَاتِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ. (2)
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: لَا يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. فَقَال رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُل يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَال: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ وَفِي رِوَايَةٍ وَغَمْصُ النَّاسِ (3)، وَبَطَرُ الْحَقِّ: هُوَ
(1) سورة الحجرات / 11.
(2)
حديث: " لا تحاسدوا ولا تناجشوا. . . " أخرجه مسلم (4 / 1986 - ط الحلبي) .
(3)
حديث: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه. . . . " أخرجه مسلم (1 / 93 - ط الحلبي) .
دَفْعُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَالْغَمْطُ وَالْغَمْصُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ: الاِحْتِقَارُ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ} قِيل مَعْنَاهُ: مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ أَوْ سَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ. (2)
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: السُّخْرِيَةُ: الاِسْتِحْقَارُ وَالاِسْتِهَانَةُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَوْمَ يُضْحَكُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْل أَوِ الْقَوْل أَوِ الإِْشَارَةِ أَوِ الإِْيمَاءِ، أَوِ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِهِ إِذَا تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلِطَ، أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ، أَوْ قَبِيحِ صُورَتِهِ (3) .
فَمَنِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنَ التَّحْقِيرِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ كَانَ قَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ شَرْعًا تَأْدِيبًا لَهُ.
وَهَذَا التَّعْزِيرُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ، وَفْقَ مَا يَرَاهُ فِي حُدُودِ الْمَصْلَحَةِ وَطِبْقًا لِلشَّرْعِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ) ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَأَحْوَال النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِكُلٍّ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْهُ. (4)
وَهَذَا إِنْ قَصَدَ بِهَذِهِ الأُْمُورِ التَّحْقِيرَ، أَمَّا إِنْ
(1) الأذكار للنووي 311 - 312.
(2)
القرطبي 16 / 328.
(3)
الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 22 دار المعرفة.
(4)
ابن عابدين 3 / 177 - 179، والشرح الكبير 4 / 327 - 330، والشرح الصغير 4 / 462، 466، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 273 - 275، وكشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 121 - 124 م النصر الحديثة.
قَصَدَ التَّعْلِيمَ أَوِ التَّنْبِيهَ عَلَى الْخَطَأِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْقِيرًا - فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَيُعْرَفُ قَصْدُهُ مِنْ قَرَائِنِ الأَْحْوَال.
3 -
هَذَا وَقَدْ يَصِل التَّحْقِيرُ الْمُحَرَّمُ إِلَى أَنْ يَكُونَ رِدَّةً، وَذَاكَ إِذَا حَقَّرَ شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلَامِ، كَتَحْقِيرِ الصَّلَاةِ وَالأَْذَانِ وَالْمَسْجِدِ وَالْمُصْحَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، (1) وَقَال تَعَالَى فِيهِمْ أَيْضًا:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} . (2) وَنُقِل فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ لِمَالِكٍ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَزْدَرِي الصَّلَاةَ، وَرُبَّمَا ازْدَرَى الْمُصَلِّينَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ مَلأٌَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، مِنْهُمْ مَنْ زَكَّى وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُزَكِّ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الاِزْدِرَاءِ بِالْمُصَلِّينَ لِقِلَّةِ اعْتِقَادِهِ فِيهِمْ فَهُوَ مِنْ سِبَابِ الْمُسْلِمِ، فَيَلْزَمُهُ الأَْدَبُ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَمَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى ازْدِرَاءِ الْعِبَادَةِ فَالأَْصْوَبُ أَنَّهُ رِدَّةٌ، لإِِظْهَارِهِ إِيَّاهُ وَشُهْرَتِهِ بِهِ، لَا زَنْدَقَةٌ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ (3) .
4 -
وَقَدْ يَكُونُ التَّحْقِيرُ وَاجِبًا: كَمَا هُوَ الْحَال
(1) سورة التوبة / 65، 66.
(2)
سورة المائدة / 58.
(3)
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للعلامة الشيخ محمد عليش 2 / 260 - 263.
فِيمَنْ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) أَيْ ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُهَانُونَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْصُل بِهِ الصَّغَارُ عِنْدَ إِعْطَائِهِمُ الْجِزْيَةَ. اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَهْل الذِّمَّةِ، وَجِزْيَةٌ) .
التَّعْزِيرُ بِمَا فِيهِ تَحْقِيرٌ:
5 -
مِنْ ضُرُوبِ التَّعْزِيرِ: التَّوْبِيخُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّحْقِيرِ. وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْبِيخِ فِي التَّعْزِيرِ بِالسُّنَّةِ، فَقَدْ، رَوَى أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَابَّ رَجُلاً فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا ذَرٍّ: أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. (2) وَقَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ. (3)
وَقَدْ فُسِّرَ النَّيْل مِنَ الْعِرْضِ بِأَنْ يُقَال لَهُ مَثَلاً: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدِي، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّعْزِيرِ
(1) سورة التوبة / 29.
(2)
حديث: " يا أبا ذر أعيرته بأمه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 84 - ط السلفية) .
(3)
حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " أخرجه أبو داود (4 / 45 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (5 / 62 - ط السلفية) .
بِالْقَوْل، وَقَدْ جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ لاِبْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْقَوْل فَدَلِيلُهُ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَال: اضْرِبُوهُ فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ (1) . وَفِي رِوَايَةٍ بَكِّتُوهُ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ؟ مَا خَشِيتَ اللَّهَ؟ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَهَذَا التَّبْكِيتُ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْل (2) .
(ر: تَعْزِيرٌ) .
6 -
قَدْ يَكُونُ التَّحْقِيرُ بِالْفِعْل: كَمَا هُوَ الْحَال فِي تَجْرِيسِ شَاهِدِ الزُّورِ، فَإِنَّ تَجْرِيسَهُ هُوَ إِسْمَاعُ النَّاسِ بِهِ، وَهُوَ تَشْهِيرٌ، وَإِذَا كَانَ تَشْهِيرًا كَانَ تَعْزِيرًا. فَقَدْ وَرَدَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ فِي التَّشْهِيرِ بِشَاهِدِ الزُّورِ: قَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ: يُطَافُ بِهِ وَيُشْهَرُ وَلَا يُضْرَبُ، وَفِي السِّرَاجِيَّةِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.، وَفِي جَامِعِ الْعَتَّابِيِّ: التَّشْهِيرُ أَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ وَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي كُل مَحَلَّةٍ: إِنَّ هَذَا شَاهِدُ الزُّورِ فَلَا تُشْهِدُوهُ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يُشْهَرُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِغَيْرِ الضَّرْبِ، وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُسَخِّمُ وَجْهَهُ فَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ
(1) حديث: " أتي برجل قد شرب. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 66 - ط السلفية) والرواية الأخرى لأبي داود (4 / 620 - ط عزت عبيد دعاس) .
(2)
ابن عابدين 3 / 182، وتبصرة الحكام 2 / 200، ومعين الحكام للطرابلسي ص 231.
السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ، وَعِنْدَ الشَّيْخِ الإِْمَامِ أَنَّهُ التَّفْضِيحُ وَالتَّشْهِيرُ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَوَادًا.
وَنُقِل عَنْ شُرَيْحٍ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِشَاهِدِ الزُّورِ إِلَى سُوقِهِ إِنْ كَانَ سُوقِيًّا، وَإِلَى قَوْمِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا، وَيَقُول آخِذُهُ: إِنَّ شُرَيْحًا يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَقُول: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ (1) .
(1) ابن عابدين 3 / 192، والهداية 3 / 132 ط مصطفى البابي الحلبي، وابن عابدين 4 / 395، والاختيار شرح المختار 2 / 39 ط الحلبي 1936، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 330، والمغني لابن قدامة 9 / 259 - 260 م الرياض الحديثة.
تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ
التَّعْرِيفُ:
1 -
حَقَّقَ الأَْمْرَ: تَيَقَّنَهُ أَوْ جَعَلَهُ ثَابِتًا لَازِمًا.
وَالْمَنَاطُ: مَوْضِعُ التَّعْلِيقِ.
وَمَنَاطُ الْحُكْمِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: عِلَّتُهُ وَسَبَبُهُ (1) .
وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ النَّظَرُ وَالاِجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، بَعْدَ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ، فَإِثْبَاتُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِالنَّظَرِ وَالاِجْتِهَادِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ.
فَمِثَال مَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَعْرُوفَةً بِالنَّصِّ: جِهَةُ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ اسْتِقْبَالِهَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) وَأَمَّا كَوْنُ جِهَةِ مَا هِيَ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الاِشْتِبَاهِ فَمَظْنُونٌ بِالاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الأَْمَارَاتِ.
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط مادة " حقق " و " ناط ".
(2)
سورة البقرة / 144.
وَمِثَال مَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَعْلُومَةً بِالإِْجْمَاعِ: الْعَدَالَةُ، فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ قَبُول الشَّهَادَةِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الشَّخْصِ عَدْلاً فَمَظْنُونٌ بِالاِجْتِهَادِ.
وَمِثَال مَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً بِالاِسْتِنْبَاطِ: الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، فَإِنَّهَا مَنَاطُ تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ، فَالنَّظَرُ فِي مَعْرِفَتِهَا فِي النَّبِيذِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ، وَسُمِّيَ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ؛ لأَِنَّ الْمَنَاطَ وَهُوَ الْوَصْفُ عُلِمَ أَنَّهُ مَنَاطٌ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِ وُجُودِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 -
تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ مَسْلَكٌ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَالأَْخْذُ بِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الأُْمَّةِ، وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا قِيَاسًا؟ (2)
وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ وَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي فِي تَطْبِيقِ عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى آحَادِ الْوَقَائِعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
(1) الأحكام للآمدي 3 / 63، والمستصفى للغزالي 2 / 230، 231، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 222.
(2)
إرشاد الفحول / 222، والمستصفى 2 / 231، وروضة الناظر ص 146، وجمع الجوامع 2 / 341.
تَحْكِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ وَالشَّيْءِ، أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.
وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (1) .
وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ: أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. فَهُوَ حَكَمٌ، وَمُحَكَّمٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ: إِنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُحَكَّمِينَ (2) فَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ يَقَعُونَ فِي يَدِ الْعَدُوِّ، فَيُخَيَّرُونَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْل، فَيَخْتَارُونَ الْقَتْل ثَبَاتًا عَلَى الإِْسْلَامِ.
وَفِي الْمَجَازِ: حَكَّمْتُ السَّفِيهَ تَحْكِيمًا: إِذَا أَخَذْتَ عَلَى يَدِهِ، أَوْ بَصَّرْتَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْل النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَكِّمِ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدكَ. أَيِ: امْنَعْهُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَمْنَعُ
(1) سورة النساء / 65.
(2)
حديث: " إن الجنة للمحكمين " أورده ابن الأثير في النهاية (1 / 419 - ط الحلبي) ولم يعزه لأحد.
وَلَدَكَ وَقِيل: أَرَادَ حُكْمَهُ فِي مَالِهِ إِذَا صَلَحَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدَكَ. (1)
وَمِنْ مَعَانِي التَّحْكِيمِ فِي اللُّغَةِ: الْحَكَمُ.
يُقَال: قَضَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَقَضَى لَهُ، وَقَضَى عَلَيْهِ. (2)
وَفِي الاِصْطِلَاحِ: التَّحْكِيمُ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا (3) .
وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: التَّحْكِيمُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّخَاذِ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا بِرِضَاهُمَا لِفَصْل خُصُومَتِهِمَا وَدَعْوَاهُمَا.
وَيُقَال لِذَلِكَ: حَكَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَمُحَكَّمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ -
الْقَضَاءُ:
2 -
مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالإِْلْزَامُ بِهِ، وَفَصْل الْخُصُومَةِ.
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس، ولسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة، والمغرب، وأساس البلاغة، والنهاية في غريب الحديث، ومفردات الراغب، والمعجم الوسيط.
(2)
لسان العرب والقاموس المحيط.
(3)
الدر المختار للحصكفي 5 / 428، مع حاشية ابن عابدين ط البابي الحلبي، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم 7 / 24 ط - دار المعرفة بيروت.
(4)
مجلة الأحكام العدلية م 1790.
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ التَّحْكِيمِ وَالْقَضَاءِ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَحْدِيدِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٍ مُتَمَاثِلَةً. كَمَا سَنَرَى بَعْدَ قَلِيلٍ (1) .
إِلَاّ أَنَّ بَيْنَهَا فَوَارِقَ جَوْهَرِيَّةً تَتَجَلَّى فِي أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الأَْصْل فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ التَّحْكِيمَ فَرْعٌ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ صَاحِبُ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَةِ الْقَضَاءِ أَحَدٌ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنِ اخْتِصَاصِهِ مَوْضُوعٌ.
أَمَّا تَوْلِيَةُ الْحَكَمِ فَتَكُونُ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَفْقَ الشُّرُوطِ وَالْقُيُودِ الَّتِي تُوضَعُ لَهُ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ، كَمَا سَنَرَى.
ب -
الإِْصْلَاحُ:
3 -
الإِْصْلَاحُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الإِْفْسَادِ. يُقَال: أَصْلَحَ: إِذَا أَتَى بِالْخَيْرِ وَالصَّوَابِ. وَأَصْلَحَ فِي عَمَلِهِ، أَوْ أَمْرِهِ: أَتَى بِمَا هُوَ صَالِحٌ نَافِعٌ.
وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ: أَزَال فَسَادَهُ.
وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، أَوْ ذَاتَ بَيْنِهِمَا، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا: أَزَال مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَاوَةٍ وَنِزَاعٍ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ.
، وَفِي، الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
(1) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 6 / 453 - المكتب الإسلامي بدمشق، وبدائع الصنائع 7 / 2 ط الجمالية، ومغني المحتاج 4 / 372.
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْل وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . (1)
فَالإِْصْلَاحُ وَالتَّحْكِيمُ يُفَضُّ بِهِمَا النِّزَاعُ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوْلِيَةٍ مِنَ الْقَاضِي أَوِ الْخَصْمَيْنِ، وَالإِْصْلَاحُ يَكُونُ الاِخْتِيَارُ فِيهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ مُتَبَرِّعٍ بِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
التَّحْكِيمُ مَشْرُوعٌ.، وَقَدْ دَل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ (2) .
4 -
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . (3)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ دَلِيل إِثْبَاتِ التَّحْكِيمِ. (4)
5 -
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَضِيَ بِتَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه فِي
(1) سورة الحجرات / 9.
(2)
مجمع الأنهر 2 / 173، وشرح العناية 5 / 498.
(3)
سورة النساء / 35.
(4)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 179 ط دار الكتب المصرية.
أَمْرِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَ جَنَحُوا إِلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِالنُّزُول عَلَى حُكْمِهِ. (1)
وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَضِيَ بِتَحْكِيمِ الأَْعْوَرِ بْنِ بَشَامَةَ فِي أَمْرِ بَنِي الْعَنْبَرِ، حِينَ انْتَهَبُوا أَمْوَال الزَّكَاةِ. (2)
وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ هَانِئَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ، سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ.، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَال: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ.، فَقَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا.، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَال: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ. قَال: فَمَا أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ. قَال: أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ. وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ. (3)
6 -
أَمَّا الإِْجْمَاعُ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ، فَحَكَّمَا
(1) تحكيم سعد بن معاذ في أمر اليهود. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 165 - ط السلفية) .
(2)
حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بتحكيم الأعور بن بشامة " أخرجه ابن شاهين في الصحابة، وفي إسناده جهالة. (الإصابة لابن حجر 1 / 55 - نشر الرسالة) .
(3)
حديث: " إن الله هو الحكم " أخرجه أبو داود (5 / 240 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (8 / 226 - ط المكتبة التجارية) وجامع الأصول (1 / 373) وإسناده حسن.
بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه (1) .
وَاخْتَلَفَ عُمَرُ مَعَ رَجُلٍ فِي أَمْرِ فَرَسٍ اشْتَرَاهَا عُمَرُ بِشَرْطِ السَّوْمِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى شُرَيْحٍ (2) .
كَمَا تَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنهم (3) ، وَلَمْ يَكُنْ زَيْدٌ وَلَا شُرَيْحٌ وَلَا جُبَيْرٌ مِنَ الْقُضَاةِ.
وَقَدْ وَقَعَ مِثْل ذَلِكَ لِجَمْعٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. (4)
7 -
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ. (5)
إِلَاّ أَنَّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ امْتَنَعَ عَنِ الْفَتْوَى بِذَلِكَ، وَحُجَّتُهُ: أَنَّ السَّلَفَ إِنَّمَا يَخْتَارُونَ لِلْحُكْمِ مَنْ كَانَ عَالِمًا صَالِحًا دَيِّنًا، فَيَحْكُمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، أَوْ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ. فَلَوْ قِيل بِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ الْيَوْمَ
(1) المبسوط 21 / 62 وفتح القدير 5 / 498، والمغني 10 / 190، وكشاف القناع 6 / 303.
(2)
المغني 10 / 190، وطلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية ص 146.
(3)
المغني 10 / 190، وكشاف القناع 6 / 303، وأسنى المطالب 4 / 67.
(4)
المبسوط 21 / 62، وشرح العناية 5 / 498، ومغني المحتاج 4 / 378، ونهاية المحتاج 8 / 230.
(5)
فتح القدير 5 / 498، وبدائع الصنائع 7 / 3، ومواهب الجليل 6 / 112، وتبصرة الحاكم 1 / 43، والشرح الكبير 4 / 135، ونهاية المحتاج 8 / 230، والمغني 10 / 190، ومطالب أولي النهى 6 / 471.
لَتَجَاسَرَ الْعَوَامُّ، وَمَنْ كَانَ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ أَمْثَالِهِمْ، فَيَحْكُمُ الْحَكَمُ بِجَهْلِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الأَْحْكَامِ، وَهَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِذَلِكَ أَفْتَوْا بِمَنْعِهِ. (1)
وَقَال أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجْزِهِ ابْتِدَاءً. (2) وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَال بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِجَوَازِهِ فِي الْمَال فَقَطْ. (3)
وَمَهْمَا يَكُنْ فَإِنَّ جَوَازَ التَّحْكِيمِ هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ نَفَاذُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ. (4)
8 -
وَطَرَفَا التَّحْكِيمِ هُمَا الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ اتَّفَقَا عَلَى فَضِّ النِّزَاعِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى الْمُحَكِّمَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ.
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 430.
(2)
التاج والإكليل 6 / 112، ومواهب الجليل 6 / 112، وحاشية الدسوقي 4 / 135.
(3)
روضة الطالبين 11 / 121، ونهاية المحتاج 8 / 230 - 231، ومغني المحتاج 4 / 379.
(4)
حاشية ابن عابدين 5 / 430، والعقود الدرية 1 / 319، والروضة 11 / 121، وكشاف القناع 6 / 308، ومواهب الجليل 6 / 112، وحاشية الدسوقي 4 / 135.
وَقَدْ يَكُونُ الْخَصْمَانِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ يَكُونَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. (1)
9 -
وَالشَّرْطُ فِي طَرَفَيِ التَّحْكِيمِ الأَْهْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ لِلتَّعَاقُدِ الَّتِي قِوَامُهَا الْعَقْل، إِذْ بِدُونِهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ. (2)
وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيل التَّحْكِيمِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ مِنْ عَامِل الْمُضَارَبَةِ إِلَاّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَا مِنَ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالإِْفْلَاسِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْقَاصِرِ أَوْ بِالْغُرَمَاءِ (3) . .
شُرُوطُ الْمُحَكَّمِ:
10 -
أ - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ أَوَّل مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ مَثَلاً لَمْ يَجُزْ بِالإِْجْمَاعِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ (4) ، إَلَاّ إَذَا رَضُوا بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَحْكِيمًا لِمَعْلُومٍ.
11 -
ب - أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْدِيدِ عَنَاصِرِ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةِ. (5)
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 428، وفتح الوهاب 2 / 208.
(2)
البحر الرائق 7 / 24، وتنوير الأبصار 5 / 428.
(3)
ابن عابدين 5 / 430، والفتاوى الهندية 3 / 271، ومغني المحتاج 4 / 379، ونهاية المحتاج 8 / 230.
(4)
البحر الرائق 7 / 26، والفتاوى الهندية 3 / 269.
(5)
البحر الرائق 7 / 24، وبدائع الصنائع 7 / 3، ومواهب الجليل 6 / 112، وتبصرة الحكام 1 / 43، ومغني المحتاج 4 / 378، والكافي 3 / 436، والمغني 10 / 190.
وَالْمُرَادُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ هُنَا: الأَْهْلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْقَضَاءِ، لَا فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ مَوْضُوعِ النِّزَاعِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُمْكِنُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهُ عِنْدَمَا لَا يُوجَدُ الأَْهْل لِذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَ التَّحْكِيمِ بِعَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ، وَقِيل: يَتَقَيَّدُ بِالْمَال دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ، أَيْ إِثْبَاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُحَكَّمَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ كُل صِفَاتِ الْقَاضِي.
وَثَمَّةَ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ لِهَذَا الشَّرْطِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَبْحَثِ (دَعْوَى)(وَقَضَاءٌ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً فِي الْمُحَكَّمِ مِنْ وَقْتِ التَّحْكِيمِ إِلَى وَقْتِ الْحُكْمِ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَكَّمِ: الإِْسْلَامُ، إِنْ كَانَ حَكَمًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا، أَمَّا إِذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الْمُحَكَّمِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ
(1) مغني المحتاج 4 / 378 - 379، ونهاية المحتاج 8 / 230، وفتح الوهاب 2 / 208، وحاشية الباجوري 2 / 396، وكشاف القناع 6 / 306، والبحر الرائق 7 / 24، وفتح القدير 5 / 499.
تَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ كَتَوْلِيَةِ السُّلْطَانِ إِيَّاهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ وِلَايَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْحُكْمَ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ صَحِيحَةٌ.، وَكَذَلِكَ التَّحْكِيمُ.
وَلَوْ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، وَحَكَّمَا غَيْرَ مُسْلِمٍ جَازَ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ قَبْل الْحُكْمِ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُ الْحَكَمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُنَفَّذُ لَهُ.
وَقِيل: لَا يُنَفَّذُ لَهُ أَيْضًا.
12 -
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَحْكِيمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلَامِ صَحَّ، وَإِلَاّ بَطَل. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ فِي كُل حَالٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلاً، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قُتِل الْمُرْتَدُّ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا. (1)
13 -
وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ آثَارًا تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ التَّفْرِيعِيَّةِ. . . مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا صَبِيًّا فَبَلَغَ، أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ حَكَمَ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ.
وَلَوْ حَكَّمَا مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ أَيْضًا، وَكَانَ فِي رِدَّتِهِ عَزْلُهُ. فَإِذَا عَادَ إِلَى الإِْسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْكِيمٍ جَدِيدٍ.
وَلَوْ عَمِيَ الْمُحَكَّمُ، ثُمَّ ذَهَبَ الْعَمَى، وَحَكَمَ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ.
أَمَّا إِنْ سَافَرَ أَوْ مَرِضَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 438، والبحر الرائق 7 / 24، والفتاوى الهندية 3 / 268 - 269، وفتح القدير 5 / 502.
مِنْ سَفَرِهِ أَوْ بَرِئَ وَحَكَمَ جَازَ ْ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ بِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ أَنَّ حَكَمًا غَيْرَ مُسْلِمٍ، حَكَّمَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْل الْحُكْمِ، فَهُوَ عَلَى حُكُومَتِهِ؛ لأَِنَّ تَحْكِيمَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ.
وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَكَّل الْحَكَمَ بِالْخُصُومَةِ فَقَبِل، خَرَجَ عَنِ الْحُكُومَةِ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَدْ قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي قَوْل الْكُل. (1)
14 -
ج - أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الْمُحَكَّمِ وَأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَرَابَةٌ تَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُحَكَّمُ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِيهِ، أَوِ اشْتَرَاهُ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْحُكُومَةِ.
وَإِنْ حَكَّمَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ، فَحَكَمَ لِنَفْسِهِ، أَوْ عَلَيْهَا جَازَ تَحْكِيمُهُ ابْتِدَاءً، وَمَضَى حُكْمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْرًا بَيِّنًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَصْمُ الْحَكَمُ قَاضِيًا أَمْ غَيْرَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا لِلتُّهْمَةِ.
(1) البحر الرائق 7 / 24 - 25، وابن عابدين 5 / 431، وفتح القدير 5 / 99، والفتاوى الهندية 3 / 268، 269.
الثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا جَازَ.
وَالْقَوْل الأَْوَّل هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ. (1)
مَحَل التَّحْكِيمِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ.
15 -
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ.
وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ اسْتِيفَاءَ عُقُوبَتِهَا مِمَّا يَسْتَقِل بِهِ وَلِيُّ الأَْمْرِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْخُصُومِ، فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ.، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَمَا اخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ مِنْ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَضَعِيفٌ. لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَالأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا. (2)
16 -
أَمَّا الْقِصَاصُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
(1) البحر الرائق 7 / 28، وفتح القدير 5 / 502، والفتاوى الهندية 4 / 379، ومغني المحتاج 4 / 379، والتاج والإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل 6 / 112، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 135، ومطالب أولي النهى 6 / 472، وكشاف القناع 6 / 303.
(2)
البحر الرائق 7 / 26، وبدائع الصنائع 7 / 3.
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِ.
وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ التَّحْكِيمَ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ.
وَالإِْنْسَانُ لَا يَمْلِكُ دَمَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَوْضِعًا لِلصُّلْحِ.
وَمَا رُوِيَ مِنْ جَوَازِهِ فِي الْقِصَاصِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَعِيفٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ حَقًّا مَحْضًا لِلإِْنْسَانِ - وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ حَقَّهُ - وَلَهُ شَبَهٌ بِالْحُدُودِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل (1) .
17 -
وَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِي مَا يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحَكَمَيْنِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُمَا الْحُكْمُ عَلَى الْقَاتِل وَحْدَهُ بِالدِّيَةِ، لِمُخَالَفَتِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُوجِبْ دِيَةً عَلَى الْقَاتِل وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِلَةِ، إِلَاّ فِي مَوَاضِعَ مُحَدَّدَةٍ - كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْل خَطَأً - (2) وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (دِيَةٌ، عَاقِلَةٌ) .
أَمَّا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمُحَدَّدَةِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ وَنَافِذٌ. (3)
18 -
وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي اللِّعَانِ كَمَا ذَكَرَ الْبُرْجَنْدِيُّ، وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ نُجَيْمٍ. وَعِلَّةُ
(1) البحر الرائق 7 / 26، وبدائع الصنائع 7 / 3، والفتاوى الهندية 3 / 268.
(2)
البحر الرائق 7 / 26، وبدائع الصنائع 7 / 3.
(3)
البحر الرائق 7 / 26.
ذَلِكَ أَنَّ اللِّعَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِّ. (1)
وَأَمَّا فِيمَا عَدَا مَا ذُكِرَ آنِفًا، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ وَنَافِذٌ. (2) وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ الْحَبْسُ، إِلَاّ مَا نُقِل عَنْ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ جَوَازِهِ. (3)
19 -
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ إِلَاّ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا هِيَ: الرُّشْدُ، وَضِدُّهُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ) ، وَأَمْرُ الْغَائِبِ، وَالنَّسَبُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْحَدُّ، وَالْقِصَاصُ، وَمَال الْيَتِيمِ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ، وَاللِّعَانُ.؛ لأَِنَّ هَذِهِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا الْقَضَاءُ. (4)
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِمَّا حُقُوقٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْحَدِّ وَالْقَتْل وَالطَّلَاقِ، أَوْ حُقُوقٌ لِغَيْرِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ، كَالنَّسَبِ، وَاللِّعَانِ.
وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ عَرَفَةَ حَدًّا لِمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ، فَقَال: ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيمَا يَصِحُّ لأَِحَدِهِمَا تَرْكُ حَقِّهِ فِيهِ.
(1) حاشية الدرر 2 / 336، وحاشية الطحطاوي 3 / 208.
(2)
الدر المختار 5 / 430، والفتاوى الهندية 3 / 268.
(3)
البحر الرائق 6 / 308، 7 / 28، والدر المختار 5 / 432، وصدر الشريعة 2 / 70.
(4)
حاشية الدسوقي 4 / 136، وتبصرة الحكام 1 / 43 - 44.
وَقَال اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الأَْمْوَال، وَمَا فِي مَعْنَاهَا. (1)
20 -
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ التَّحْكِيمَ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ فِيهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبُ.
وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلاً فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ. وَفِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ.
وَقِيل: بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ.
وَقِيل: يَخْتَصُّ التَّحْكِيمُ بِالأَْمْوَال دُونَ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا (2) .
21 -
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ.
فَفِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّحْكِيمَ يَجُوزُ فِي كُل مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَاضِي مِنْ خُصُومَاتٍ، كَمَا قَال أَبُو الْخَطَّابِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَال وَالْقِصَاصُ وَالْحَدُّ وَالنِّكَاحُ وَاللِّعَانُ وَغَيْرُهَا، حَتَّى مَعَ وُجُودِ قَاضٍ، لأَِنَّهُ كَالْقَاضِي وَلَا فَرْقَ. وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِجَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي الأَْمْوَال خَاصَّةً، وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالْقِصَاصُ وَالْحَدُّ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّحْكِيمُ، لأَِنَّهَا
(1) تبصرة الحكام 1 / 42، والشرح الكبير 4 / 136.
(2)
روضة الطالبين 11 / 121، ونهاية المحتاج 8 / 230، ومغني المحتاج 4 / 378، 379.
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الاِحْتِيَاطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَرْضِهَا عَلَى الْقَضَاءِ لِلْحُكْمِ. (1)
شُرُوطُ التَّحْكِيمِ:
يُشْتَرَطُ فِي التَّحْكِيمِ مَا يَأْتِي:
22 -
أ - قِيَامُ نِزَاعٍ، وَخُصُومَةٍ حَوْل حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ. (2)
وَهَذَا الشَّرْطُ يَسْتَدْعِي حُكْمًا قِيَامَ طَرَفَيْنِ مُتَشَاكِسَيْنِ، كُلٌّ يَدَّعِي حَقًّا لَهُ قِبَل الآْخَرِ.
23 -
ب - تَرَاضِي طَرَفَيِ الْخُصُومَةِ عَلَى قَبُول حُكْمِهِ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ مِنْ قِبَل الْقَاضِي فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِهِ، لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْقَاضِي.
وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَقَدُّمُ رِضَى الْخَصْمَيْنِ عَنِ التَّحْكِيمِ، بَل لَوْ رَضِيَا بِحُكْمِهِ بَعْدَ صُدُورِهِ جَازَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ التَّرَاضِي. (3)
24 -
ج - اتِّفَاقُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَالْحَكَمِ عَلَى قَبُول مُهِمَّةِ التَّحْكِيمِ. . . وَمُجْمَل هَذَيْنِ الاِتِّفَاقَيْنِ يُشَكِّل رُكْنَ التَّحْكِيمِ، الَّذِي هُوَ:
(1) الكافي لابن قدامة 3 / 436، والمغني 10 / 191، ومطالب أولي النهى 6 / 471.
(2)
مجلة الأحكام العدلية م 1876 وحاشية الدرر 2 / 336.
(3)
البحر الرائق 7 / 25، وفتح القدير 5 / 502، ومجلة الأحكام العدلية م 1851.
لَفْظُهُ الدَّال عَلَيْهِ مَعَ قَبُول الآْخَرِ.
وَهَذَا الرُّكْنُ قَدْ يَظْهَرُ صَرَاحَةً.، كَمَا لَوْ قَال الْخَصْمَانِ: حَكَّمْنَاكَ بَيْنَنَا. أَوْ قَال لَهُمَا: أَحْكُمُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِلَا.
وَقَدْ يَظْهَرُ دَلَالَةً. . . فَلَوِ اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ عَلَى رَجُلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُعْلِمَاهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمَا اخْتَصَمَا إِلَيْهِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، جَازَ.
وَإِنْ لَمْ يَقْبَل الْحُكْمَ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ إِلَاّ بِتَجْدِيدِ التَّحْكِيمِ. (1)
وَلِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يُقَيِّدَا التَّحْكِيمَ بِشَرْطٍ. . . فَلَوْ حَكَّمَاهُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فِي يَوْمِهِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ وَجَبَ ذَلِكَ.، وَلَوْ حَكَّمَاهُ عَلَى أَنْ يَسْتَفْتِيَ فُلَانًا، ثُمَّ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَال جَازَ.
وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ، فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَجُزْ، وَلَا بُدَّ مِنِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمَحْكُومِ بِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا لَمْ يَجُزْ. (2)
وَكَذَلِكَ لَوِ اتَّفَقَا عَلَى تَحْكِيمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ.
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ غَيْرَهُ بِالتَّحْكِيمِ. لأَِنَّ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَرْضَيَا بِتَحْكِيمِ غَيْرِهِ.
وَلَوْ فَوَّضَ، وَحَكَمَ الثَّانِي بِغَيْرِ رِضَاهُمَا،
(1) حاشة الطحطاوي 3 / 207، وحاشية ابن عابدين 5 / 428.
(2)
البحر الرائق 7 / 26، والهداية وشروحها 5 / 502، والفتاوى الهندية 3 / 568، وحاشية ابن عابدين 5 / 431، وحاشية الطحطاوي 3 / 308، ومغني المحتاج 4 / 379، وفتح الوهاب 2 / 208.
فَأَجَازَ الأَْوَّل حُكْمَهُ، لَمْ يَجُزْ لأَِنَّ الإِْذْنَ مِنْهُ فِي الاِبْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ، فَكَذَا فِي الاِنْتِهَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ الْخَصْمَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ. وَقِيل: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، كَالْوَكِيل الأَْوَّل إِذَا أَجَازَ بَيْعَ الْوَكِيل الثَّانِي.
إِلَاّ أَنَّ تَعْلِيقَ التَّحْكِيمِ عَلَى شَرْطٍ، كَمَا لَوْ قَالَا لِعَبْدٍ: إِذَا أُعْتِقْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا، وَإِضَافَتَهُ إِلَى وَقْتٍ، كَمَا لَوْ قَالَا لِرَجُلٍ: جَعَلْنَاكَ حَكَمًا غَدًا، أَوْ قَالَا: رَأْسَ الشَّهْرِ. . . كُل ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. وَالْفَتْوَى عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل. (1)
25 -
وَلَيْسَ لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مُحَكَّمٍ لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّحْكِيمِ.
وَلَوْ حَكَمَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، فَأَجَازَا حُكْمَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ حَكَّمَاهُ فِي الاِبْتِدَاءِ. (2)
26 -
وَلَا يَحْتَاجُ الاِتِّفَاقُ عَلَى التَّحْكِيمِ لِشُهُودٍ تَشْهَدُ عَلَى الْخَصْمَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَدْ حَكَّمَا الْحَكَمَ.
إِلَاّ أَنَّهُ يَنْبَغِي الإِْشْهَادُ خَوْفَ الْجُحُودِ. وَلِهَذَا ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ: إِذْ لَوْ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ حَكَّمَا الْحَكَمَ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، فَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا أَنَّهُ
(1) البحر الرائق 7 / 24، 29، وفتح القدير 5 / 502، والفتاوى الهندية 3 / 217، 570، وجامع الرموز 2 / 231، وحاشية الطحطاوي 3 / 203، 208، وحاشية ابن عابدين 5 / 431.
(2)
الفتاوى الهندية 3 / 268، وفتح القدير 5 / 502، والبحر الرائق 7 / 24، وحاشية ابن عابدين 5 / 428.
حَكَّمَهُ، لَمْ يُقْبَل قَوْل الْحَكَمِ أَنَّ الْجَاحِدَ حَكَّمَهُ إِلَاّ بِبَيِّنَةٍ. (1)
27 -
وَيَجِبُ أَنْ يَسْتَمِرَّ الاِتِّفَاقُ عَلَى التَّحْكِيمِ حَتَّى صُدُورِ الْحُكْمِ، إِذْ إِنَّ رُجُوعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ يُلْغِي التَّحْكِيمَ، كَمَا سَنَرَى.
فَلَوْ قَال الْحَكَمُ لأَِحَدِهِمَا: أَقْرَرْتَ عِنْدِي، أَوْ قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَلَيْكَ بِكَذَا، وَقَدْ أَلْزَمْتُكَ، وَحَكَمْتُ بِهَذَا، فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الإِْقْرَارَ أَوِ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ لِقَوْلِهِ، وَمَضَى الْقَضَاءُ. لأَِنَّ وِلَايَةَ الْمُحَكَّمِ قَائِمَةٌ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْقَاضِي.
أَمَّا إِنْ قَال ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَزَلَهُ الْخَصْمُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَحُكْمَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْحُكْمِ الَّذِي يُصْدِرُهُ الْقَاضِي بَعْدَ عَزْلِهِ. (2)
28 -
د - الإِْشْهَادُ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِقَبُول قَوْل الْحَكَمِ عِنْدَ الإِْنْكَارِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الإِْشْهَادِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. (3)
(1) المبسوط 21 / 63، والدسوقي 3 / 135، ومطالب أولي النهى 6 / 472، وكشاف القناع 6 / 303.
(2)
فتح القدير 5 / 501، 502، والفتاوى الهندية 3 / 269، وجامع الرموز 2 / 232، والمبسوط 21 / 63، والكفاية 3 / 167.
(3)
شرح العناية 5 / 502.
طَرِيقُ الْحُكْمِ:
29 -
طَرِيقُ كُل شَيْءٍ مَا يُوصَل إِلَيْهِ، حُكْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. (1)
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ طَرِيقَ الْحُكْمِ: مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ.
وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَاّ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ الإِْقْرَارِ، أَوِ النُّكُول عَنْ حَلِفِ الْيَمِينِ.
يَسْتَوِي فِي هَذَا حُكْمُ الْحَكَمِ، وَحُكْمُ الْقَاضِي.
فَإِنْ قَامَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ حُجَّةً مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ. وَإِلَاّ كَانَ بَاطِلاً.
وَيَبْدُو أَنَّ الْحَكَمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ.
وَأَمَّا كِتَابُ الْمُحَكَّمِ إِلَى الْقَاضِي، وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، إِلَاّ بِرِضَى الْخَصْمَيْنِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِهِ وَنَفَاذِهِ. (2)
الرُّجُوعُ عَنِ التَّحْكِيمِ:
30 -
حَقُّ الرُّجُوعِ عَنِ التَّحْكِيمِ فَرْعٌ مِنْ صِفَةِ التَّحْكِيمِ الْجَوَازِيَّةِ. . . وَلَكِنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ مُطْلَقًا.
31 -
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
(1) كشاف القناع 6 / 324.
(2)
البحر الرائق 7 / 25 - 27، والفتاوى الهندية 3 / 270، وفتح القدير 5 / 502، وحاشية ابن عابدين 5 / 431، والمغني 10 / 191.
إِلَى أَنَّ لِكُل خَصْمٍ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ، وَلَا حَاجَةَ لاِتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ رَجَعَ كَانَ فِي ذَلِكَ عَزْلٌ لِلْمُحَكَّمِ.
أَمَّا بَعْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَنِ التَّحْكِيمِ، وَلَا عَزْل الْمُحَكَّمِ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُل الْحُكْمُ، لأَِنَّهُ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْمُحَكَّمِ، كَالْقَاضِي الَّذِي يُصْدِرُ حُكْمَهُ، ثُمَّ يَعْزِلُهُ السُّلْطَانُ.
وَعَلَى هَذَا: فَإِنِ اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى حَكَمٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا فِي عَدَدٍ مِنَ الدَّعَاوَى، فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنْ تَحْكِيمِ هَذَا الْحَكَمِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ الأَْوَّل نَافِذٌ، لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا بَقِيَ، فَإِنْ حَكَمَ لَا يَنْفُذُ.
وَإِنْ قَال الْحَكَمُ لأَِحَدِ الْخَصْمَيْنِ: قَامَتْ عِنْدِي الْحُجَّةُ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَى عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ، فَعَزَلَهُ هَذَا الْخَصْمُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَكَمُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ. (1)
32 -
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُ رِضَا الْخَصْمَيْنِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ. بَل لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْحُكْمِ، ثُمَّ بَدَا لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل الْحُكْمِ. تَعَيَّنَ عَلَى الْحَكَمِ أَنْ
(1) البحر الرائق 7 / 26، وفتح القدير 5 / 500، والفتاوى الهندية 3 / 268، وتبصرة الحكام 1 / 43.
يَقْضِيَ، وَجَازَ حُكْمُهُ.
وَقَال أَصْبَغُ: لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ مَا لَمْ تَبْدَأِ الْخُصُومَةُ أَمَامَ الْحَكَمِ، فَإِنْ بَدَأَتْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا الْمُضِيُّ فِيهَا حَتَّى النِّهَايَةِ.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَيْسَ لأَِحَدِهِمَا الرُّجُوعُ وَلَوْ قَبْل بَدْءِ الْخُصُومَةِ. (1)
33 -
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ الرُّجُوعُ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ، وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ.
وَقِيل بِعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ. أَمَّا بَعْدَ الْحُكْمِ فَلَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْخَصْمِ بِهِ كَحُكْمِ الْقَاضِي.
وَقِيل: يُشْتَرَطُ؛ لأَِنَّ رِضَاهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي أَصْل التَّحْكِيمِ، فَكَذَا فِي لُزُومِ الْحُكْمِ. وَالأَْظْهَرُ الأَْوَّل. (2)
34 -
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِكُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ التَّحْكِيمِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْحُكْمِ.
أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَقُبَيْل تَمَامِهِ، فَفِي الرُّجُوعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّجُوعُ لأَِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتِمَّ، أَشْبَهَ قَبْل الشُّرُوعِ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا رَأَى مِنَ الْحَكَمِ مَا لَا يُوَافِقُهُ
(1) تبصرة الحكام 1 / 43.
(2)
روضة الطالبين 11 / 122، ومغني المحتاج 4 / 379، ونهاية المحتاج 8 / 231.
رَجَعَ فَبَطَل مَقْصُودُهُ. فَإِنْ صَدَرَ الْحُكْمُ نَفَذَ (1) . .
أَثَرُ التَّحْكِيمِ:
35 -
يُرَادُ بِأَثَرِ التَّحْكِيمِ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ نَتَائِجَ.
وَهَذَا الأَْثَرُ يَتَمَثَّل فِي لُزُومِ الْحُكْمِ وَنَفَاذِهِ، كَمَا يَتَمَثَّل فِي إِمْكَانِ نَقْضِهِ مِنْ قِبَل الْقَضَاءِ.
أَوَّلاً: لُزُومُ الْحُكْمِ وَنَفَاذُهُ:
36 -
مَتَى أَصْدَرَ الْحَكَمُ حُكْمَهُ، أَصْبَحَ هَذَا الْحُكْمُ مُلْزِمًا لِلْخَصْمَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَتَعَيَّنَ إِنْفَاذُهُ دُونَ أَنْ يَتَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى رِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ. وَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الْقَاضِي.
وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ، فَلَوْ رَجَعَ عَنْ حُكْمِهِ، وَقَضَى لِلآْخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ الْحُكُومَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَضَاءِ الأَْوَّل، فَكَانَ الْقَضَاءُ الثَّانِي بَاطِلاً. (2)
37 -
وَلَكِنَّ هَذَا الإِْلْزَامَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ حُكْمُ الْحَكَمِ يَنْحَصِرُ فِي الْخَصْمَيْنِ فَقَطْ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمَا، ذَلِكَ لأَِنَّهُ صَدَرَ بِحَقِّهِمَا عَنْ وِلَايَةٍ
(1) الكافي 3 / 436، والمغني 10 / 190، 191، ومطالب أولي النهى 6 / 472، وكشاف القناع 6 / 303.
(2)
البحر الرائق 7 / 27، والفتاوى الهندية 3 / 271.
شَرْعِيَّةٍ نَشَأَتْ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى اخْتِيَارِ الْحَكَمِ لِلْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ نِزَاعٍ وَخُصُومَةٍ. وَلَا وِلَايَةَ لأَِيٍّ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَسْرِي أَثَرُ حُكْمِ الْحَكَمِ عَلَى غَيْرِهِمَا. (1)
38 -
وَتَطْبِيقًا لِهَذَا الْمَبْدَأِ، فَلَوْ حَكَّمَ الْخَصْمَانِ رَجُلاً فِي عَيْبِ الْبَيْعِ فَقَضَى الْحَكَمُ بِرَدِّهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ بِرَدِّهِ عَلَى بَائِعِهِ، إِلَاّ أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ الأَْوَّل وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي بِتَحْكِيمِهِ، فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ، فَادَّعَى أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ قَدْ ضَمِنَهَا لَهُ عَنْ هَذَا الرَّجُل، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلاً، وَالْكَفِيل غَائِبٌ. فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى الْمَال، وَعَلَى الْكَفَالَةِ، فَحَكَمَ الْحَكَمُ بِالْمَال وَبِالْكَفَالَةِ، صَحَّ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ وَلَمْ يَصِحَّ بِالْكَفَالَةِ، وَلَا عَلَى الْكَفِيل.
وَإِنْ حَضَرَ الْكَفِيل، وَالْمَكْفُول غَائِبٌ، فَتَرَاضَى الطَّالِبُ وَالْكَفِيل، فَحَكَمَ الْمُحَكَّمُ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ جَائِزًا، وَنَافِذًا بِحَقِّ الْكَفِيل دُونَ الْمَكْفُول. (2)
(1) البحر الرائق 7 / 26، والمنهاج 4 / 379، والسراج الوهاج ص 589، ونهاية المحتاج 8 / 231، والكافي لابن قدامة 3 / 436، وكشاف القناع 6 / 303.
(2)
فتح القدير 5 / 499، وحاشية ابن عابدين 5 / 431، والبحر الرائق 7 / 28.
وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذَا الْمَبْدَأِ غَيْرُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ، هِيَ: مَا لَوْ حَكَّمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَغَرِيمُهُ رَجُلاً فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْزَمَ الشَّرِيكَ شَيْئًا مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ نَفَذَ هَذَا الْحُكْمُ، وَتَعَدَّى إِلَى الشَّرِيكِ الْغَائِبِ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ الْغَائِبِ. وَالصُّلْحُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ. فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ رَاضِيًا بِالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. . . (1)
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ التُّجَّارِ قَدْ جَعَل التَّحْكِيمَ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ كَأَنَّهُ تَحْكِيمٌ مِنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ. وَلِهَذَا لَزِمَ الْحُكْمُ، وَنَفَذَ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا.
ثَانِيًا: نَقْضُ الْحُكْمِ:
39 -
قَدْ يَرْضَى الْخَصْمَانِ بِالْحُكْمِ، فَيَعْمَلَانِ عَلَى تَنْفِيذِهِ. . وَقَدْ يَرَى أَحَدُهُمَا رَفْعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ لَمْ يَنْقُضْهُ إِلَاّ بِمَا يَنْقُضُ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا رُفِعَ حُكْمُ الْمُحَكَّمِ إِلَى
(1) البحر الرائق 7 / 28، والدر المختار 5 / 429.
(2)
روضة الطالبين 11 / 123، ومغني المحتاج 4 / 379، والمغني 10 / 190، ومطالب أولي النهى 6 / 471، وكشاف القناع 6 / 303.
الْقَاضِي نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا مَذْهَبَهُ أَخَذَ بِهِ وَأَمْضَاهُ، لأَِنَّهُ لَا جَدْوَى مِنْ نَقْضِهِ، ثُمَّ إِبْرَامِهِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الإِْمْضَاءِ: أَنْ لَا يَكُونَ لِقَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ نَقْضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، لأَِنَّ إِمْضَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ ابْتِدَاءً.
أَمَّا إِنْ وَجَدَهُ خِلَافَ مَذْهَبِهِ أَبْطَلَهُ، وَأَوْجَبَ عَدَمَ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ.
وَهَذَا الإِْبْطَال لَيْسَ عَلَى سَبِيل اللُّزُومِ، بَل هُوَ عَلَى سَبِيل الْجَوَازِ، إِنْ شَاءَ الْقَاضِي أَبْطَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَأَنْفَذَهُ. (1)
40 -
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الإِْجَازَةُ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ.
وَعَلَيْهِ فَلَوْ حَكَّمَا رَجُلاً، فَأَجَازَ الْقَاضِي حُكُومَتَهُ قَبْل أَنْ يَحْكُمَ، ثُمَّ حَكَمَ بِخِلَافِ رَأْيِ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَجَازَ الْمَعْدُومَ.
وَإِجَازَةُ الشَّيْءِ قَبْل وُجُودِهِ بَاطِلَةٌ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ.
وَلَكِنَّ السَّرَخْسِيَّ قَال: هَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ
(1) البحر الرائق 7 / 27، وحاشية الدرر 2 / 336، وحاشية ابن عابدين 5 / 431، وهذا ما تفيده عبارة الكاساني: إذا حكم في فصل مجتهد فيه، ثم رفعه إلى القاضي، ورأيه يخالف رأي الحاكم المحكم، له أن يفسخ حكمه. (بدائع الصنائع 2 / 3) .
فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا فِي اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي الاِسْتِخْلَافِ فَيَجِبُ أَنْ تَجُوزَ إِجَازَتُهُ.
وَتُجْعَل إِجَازَةُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ اسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِل حُكْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلاً، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ حَكَّمَا آخَرَ، فَقَضَى بِحُكْمٍ آخَرَ، ثُمَّ رُفِعَ الْحُكْمَانِ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُ الْمُوَافِقِ لِرَأْيِهِ.
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْقُضُ حُكْمَ الْمُحَكَّمِ إِلَاّ إِذَا كَانَ جَوْرًا بَيِّنًا. سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ الْقَاضِي، أَمْ مُخَالِفًا لَهُ.
وَقَالُوا بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْل الْعِلْمِ، وَبِهِ قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى (1) .
انْعِزَال الْحَكَمِ:
41 -
يَنْعَزِل الْحَكَمُ بِكُل سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الأَْتِيَّةِ:
أ - الْعَزْل: لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَزْل الْمُحَكَّمِ قَبْل الْحُكْمِ، إِلَاّ إِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ قَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ
(1) البحر الرائق 7 / 27، وحاشية ابن عابدين 5 / 431، والمدونة 4 / 77، والكافي لابن عبد البر 2 / 959، ومواهب الجليل 6 / 112، والتاج والإكليل 6 / 113، وتبصرة الحكام 1 / 44.
الْقَاضِي، فَلَيْسَ لَهُمَا عَزْلُهُ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ اسْتَخْلَفَهُ.
ب - انْتِهَاءُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِلتَّحْكِيمِ قَبْل صُدُورَ الْحُكْمِ.
ج - خُرُوجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّحْكِيمِ.
د - صُدُورُ الْحُكْمِ.
تَحَلُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحَلُّل ثُلَاثِيَّةٌ مِنْ حَل. وَأَصْل مَعْنَى (حَل) فِي اللُّغَةِ: فَتَحَ الشَّيْءَ وَفَكَّ الْعُقْدَةَ، وَيَكُونُ بِفِعْل الإِْنْسَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْحُرْمَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْضِعِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ إِحْرَامٍ فَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ يَمِينٍ فَيَخْرُجُ مِنْهَا بِالْبِرِّ أَوِ الْكَفَّارَةِ بِشَرْطِهَا، وَإِنْ كَانَ التَّحَلُّل مِنَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ بِالسَّلَامِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُهُ شَرْعًا عَنْ ذَلِكَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ
وَالْمُرَادُ بِهِ: الْخُرُوجُ مِنَ الإِْحْرَامِ. وَحِل مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَى الْمُحْرِمِ قِسْمَانِ:
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح، والمغرب في ترتيب المعرب مادة:" حلل "، وبدائع الصنائع 2 / 177، وحاشية الدسوقي 2 / 468، والمغني لابن قدامة 8 / 684.
أ -
التَّحَلُّل الأَْصْغَرُ، وَيُسَمَّى أَيْضًا: التَّحَلُّل الأَْوَّل:
2 -
وَيَكُونُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِفِعْل أَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ. وَيُبَاحُ بِهَذَا التَّحَلُّل لُبْسُ الثِّيَابِ وَكُل شَيْءٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ (بِالإِْجْمَاعِ) وَالطِّيبَ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَالصَّيْدَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَحْصُل التَّحَلُّل الأَْصْغَرُ عِنْدَهُمْ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ حَل لَهُ كُل شَيْءٍ إِلَاّ النِّسَاءَ.
وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ اسْتِثْنَاءِ الطِّيبِ وَالصَّيْدِ أَيْضًا ضَعِيفٌ.
هَذَا، وَيَجِبُ الذَّبْحُ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ لِلْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ بَيْنَ هَذِهِ النُّسُكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْخِلَافِ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْل أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْل أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ. (3)
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ
(1) الدسوقي 2 / 45، ونهاية المحتاج 3 / 299، وروضة الطالبين 3 / 103، 104، والمغني 3 / 483، ومطالب أولي النهى 2 / 427.
(2)
الاختيار 1 / 153، والزيلعي 2 / 32، 33، وابن عابدين 2 / 182، 192، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 508.
(3)
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم. . . " أخرجه مسلم (2 / 849 - ط الحلبي) .
الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَل لَهُ كُل شَيْءٍ إِلَاّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، لِمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ، وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَال لَهُمْ فِيمَا قَال: إِذَا جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَل لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلَاّ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ (1) .
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ أَيْضًا: فَإِنَّهُ أَخَذَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلَال بِالآْيَةِ أَنَّ الْحَاجَّ يُعْتَبَرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ.
وَأَمَّا دَلِيل إِبَاحَةِ لُبْسِ الثِّيَابِ وَكُل شَيْءٍ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَهُوَ حَدِيثُ: إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَل كُل شَيْءٍ إِلَاّ النِّسَاءَ (3) ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ. (4)
(1) قول عمر رضي الله عنه: " إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 410 - ط الحلبي) وإسناده صحيح.
(2)
سورة المائدة / 95.
(3)
حديث: " إذا رميتم الجمرة فقد. . " أخرجه أحمد (1 / 234 - ط الميمنية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (الفتح 3 / 585 - ط السلفية) .
(4)
حاشية ابن عابدين 2 / 515 ط مصطفى الحلبي بمصر، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 45 ط عيسى الحلبي بمصر، ونهاية المحتاج 3 / 299 ط المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 3 / 103، 104 ط المكتبة الإسلامية، والمغني لابن قدامة 3 / 438 ط الرياض، ومطالب أولي النهى 2 / 427 (ر: الحج) .
ب -
التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ - وَيُسَمَّى أَيْضًا التَّحَلُّل الثَّانِيَ:
3 -
هَذَا التَّحَلُّل هُوَ الَّذِي يُبَاحُ بِهِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ، وَيَبْدَأُ الْوَقْتُ الَّذِي تَصِحُّ أَفْعَال التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَحْصُل عِنْدَهُمَا بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ - بِشَرْطِ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ - هُنَا بِاتِّفَاقِهِمَا، فَلَوْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقْ لَمْ يَتَحَلَّل حَتَّى يَحْلِقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ مَسْبُوقًا بِالسَّعْيِ، وَإِلَاّ لَا يَحِل بِهِ حَتَّى يَسْعَى؛ لأَِنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَا مَدْخَل لِلسَّعْيِ فِي التَّحَلُّل، لأَِنَّهُ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ، وَنِهَايَةُ وَقْتِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ بِحَسَبِ مَا يَتَحَلَّل بِهِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ الطَّوَافُ، وَهُوَ لَا يَفُوتُ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَبْدَأُ وَقْتُ التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ مِنْ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَيَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ عِنْدَهُمَا بِاسْتِكْمَال أَفْعَال التَّحَلُّل الَّتِي ذُكِرَتْ، وَهِيَ: ثَلَاثَةٌ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَاثْنَانِ عَلَى الْقَوْل الآْخَرِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ
(1) شرح فتح القدير 2 / 183 ط دار صادر، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 181 ط دار إحياء التراث العربي، وشرح الزرقاني 2 / 280، 281 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 46، 47 ط عيسى الحلبي بمصر، وحاشية العدوي 1 / 479 ط دار المعرفة.
لَيْسَ بِنُسُكٍ، وَنِهَايَةُ التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِحَسَبِ مَا يَتَحَلَّل بِهِ عِنْدَهُمَا إِنْ تَوَقَّفَ التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ عَلَى الطَّوَافِ أَوِ الْحَلْقِ أَوِ السَّعْيِ، أَمَّا الرَّمْيُ فَإِنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ التَّحَلُّل وَلَمْ يَرْمِ حَتَّى آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَاتَ وَقْتُ الرَّمْيِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَيَحِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِمُجَرَّدِ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ مُقَابِل ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ الأَْصَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ بِفَوَاتِ وَقْتِ الرَّمْيِ يَنْتَقِل التَّحَلُّل إِلَى كَفَّارَتِهِ، فَلَا يَحِل حَتَّى يُؤَدِّيَهَا. (1)
وَحُصُول التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ بِاسْتِكْمَال الأَْفْعَال الثَّلَاثَةِ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقُ، وَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ الْمَسْبُوقُ بِالسَّعْيِ مَحَل اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ تُبَاحُ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ:
4 -
اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْعُمْرَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا تَحَلُّلاً وَاحِدًا تُبَاحُ بِهِ لِلْمُحْرِمِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، وَيَحْصُل هَذَا التَّحَلُّل بِالْحَلْقِ
(1) المجموع شرح المهذب 8 / 172 - 174، ونهاية المحتاج 3 / 299 - 300، وشرح المنهاج مع حاشية قليوبي 2 / 119، 120 مصطفى الحلبي بمصر. والمغني لابن قدامة 3 / 438، 442 ط مكتبة الرياض الحديثة بالرياض، ومطالب أولي النهى 2 / 427 وما بعدها.
(2)
المراجع السابقة.
أَوِ التَّقْصِيرِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عُمْرَةٌ) . (1)
التَّحَلُّل مِنَ الْيَمِينِ:
5 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ الْمُؤَكِّدَةَ لِلْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ تَنْحَل بِفِعْل مَا يُوجِبُ الْحِنْثَ، وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ لِمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَذَلِكَ إِمَّا بِفِعْل مَا حَلَفَ عَلَى أَلَاّ يَفْعَلَهُ، وَإِمَّا بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَرَاخَى عَنْ فِعْل مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ إِلَى وَقْتٍ لَيْسَ يُمْكِنُهُ فِيهِ فِعْلُهُ، وَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِالتَّرْكِ الْمُطْلَقِ، مِثْل أَنْ يَحْلِفَ: لَتَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ، فَيَأْكُلُهُ غَيْرُهُ. أَوْ إِلَى وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ الْوَقْتِ الَّذِي اشْتَرَطَ وُجُودَ الْفِعْل فِيهِ، وَذَلِكَ فِي الْفِعْل الْمُشْتَرَطِ فِعْلُهُ فِي زَمَانٍ مُحَدَّدٍ، مِثْل أَنْ يَقُول: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا، فَإِنَّهُ إِذَا انْقَضَى النَّهَارُ وَلَمْ يَفْعَل حَنِثَ ضَرُورَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الأَْيْمَانِ هِيَ الأَْرْبَعَةُ الأَْنْوَاعِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
(1) رد المحتار 2 / 197 وما بعدها، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 483، وروضة الطالبين 3 / 104، ومطالب أولي النهى 2 / 444، والمغني لابن قدامة 3 / 392.
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} . (1)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا حَنِثَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الأُْوَل أَيِ: الإِْطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوِ الْعِتْقِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ إِلَاّ إِذَا عَجَزَ عَنِ الثَّلَاثَةِ (2)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} .
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (أَيْمَانٌ) .
وَالتَّحَلُّل فِي الْيَمِينِ: الاِسْتِثْنَاءُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَيُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ؟ وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (أَيْمَانٌ، طَلَاقٌ) .
تَحَلِّي
اُنْظُرْ: حِلْيَةٌ.
تَحْلِيفٌ
اُنْظُرْ: حَلِفٌ.
(1) سورة المائدة / 89.
(2)
بدائع الصنائع 3 / 5 - 19، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 48، 49 ر:(الأيمان) ، وتفسير القرطبي 6 / 265، 266، وبداية المجتهد 1 / 433، 435، 436، وحاشية الدسوقي 2 / 131، 133، ونهاية المحتاج 8 / 171 - 174، وكشاف القناع 6 / 242، 243، ر:(الأيمان) .
تَحْلِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
مِنْ مَعَانِي التَّحْلِيقِ فِي اللُّغَةِ: الاِسْتِدَارَةُ وَجَعْل الشَّيْءِ كَالْحَلْقَةِ (1) .
وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا: إِزَالَةُ الشَّعْرِ، يُقَال: حَلَقَ رَأْسَهُ يَحْلِقُهُ حَلْقًا، وَتِحْلَاقًا: أَزَال شَعْرَهُ، كَحَلَّقَهُ وَاحْتَلَقَهُ (2) . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} ، (3) وَفِي الْحَدِيثِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ (4) وَالتَّحْلِيقُ خِلَافُ التَّقْصِيرِ، وَهُوَ: الأَْخْذُ مِنَ الشَّعْرِ بِالْمِقَصِّ. وَخِلَافُ النَّتْفِ، وَهُوَ: نَزْعُ الشَّعْرِ مِنْ أُصُولِهِ. وَيَرِدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
التَّحْلِيقُ بِمَعْنَى الاِسْتِدَارَةِ فِي التَّشَهُّدِ:
2 -
يَرِدُ التَّحْلِيقُ بِمَعْنَى: الاِسْتِدَارَةِ فِي التَّشَهُّدِ
(1) لسان العرب مادة: " حلق ".
(2)
ترتيب القاموس المحيط.
(3)
سورة الفتح / 27.
(4)
حديث: " اللهم اغفر للمحلقين. . " وأخرجه البخاري (الفتح 3 / 561 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 945 - ط الحلبي) .
فِي الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ التَّشَهُّدُ الأَْوَّل أَوِ الأَْخِيرُ.
وَصِفَتُهُ: أَنْ يَقْبِضَ الْمُصَلِّي الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَحْلِقَ بِإِبْهَامِهِ مَعَ الْوُسْطَى وَيُشِيرَ بِالسَّبَّابَةِ - وَهِيَ الأُْصْبُعُ الَّتِي تَلِي الإِْبْهَامَ - عِنْدَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ رَافِعًا لَهَا وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ الْمُفْتَى بِهِ. وَالتَّحْلِيقُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ سُنَّةٌ. (1)
وَذُكِرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الصَّلَاةِ أَنْ يَعْقِدَ الْمُصَلِّي فِي تَشَهُّدِهِ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَالْوُسْطَى وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى فَخِذِهَا الأَْيْمَنِ، وَأَطْرَافُهَا عَلَى اللَّحْمَةِ الَّتِي تَحْتَ الإِْبْهَامِ عَلَى صِفَةِ تِسْعَةٍ، وَأَنْ يَمُدَّ السَّبَّابَةَ وَالإِْبْهَامَ، وَالإِْبْهَامُ بِجَانِبِهَا عَلَى الْوُسْطَى مَمْدُودَةٌ عَلَى صُورَةِ الْعِشْرِينَ، فَتَكُونُ الْهَيْئَةُ صِفَةَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَهَذَا هُوَ قَوْل الأَْكْثَرِ، وَنُدِبَ أَنْ يُحَرِّكَ السَّبَّابَةَ يَمِينًا وَشِمَالاً تَحَرُّكًا وَسَطًا فِي جَمِيعِ التَّشَهُّدِ. (2) وَلَمْ يُسَمُّوا ذَلِكَ تَحْلِيقًا.
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (تَشَهُّدٌ) .
(1) كشاف القناع 1 / 292 ط مكتبة النصر الحديثة، ونهاية المحتاج 1 / 501، 502 ط المكتبة الإسلامية، وشرح المنهاج 1 / 164 ط مصطفى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 1 / 508، 509 ط مصطفى الحلبي.
(2)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 250، 251 ط عيسى الحلبي.
التَّحْلِيقُ بِمَعْنَى إِزَالَةِ الشَّعْرِ:
3 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَدَنِ الْمُحْرِمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) فَيَحْظُرُ عَلَى الْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ أَوْ رَأْسِ مُحْرِمٍ غَيْرِهِ، وَقَلِيل الشَّعْرِ كَذَلِكَ يَحْظُرُ حَلْقُهُ أَوْ قَطْعُهُ، وَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ شَعْرَهُ أَثْنَاءَ إِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِلنَّصِّ.
وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ أَفْضَل مِنَ التَّقْصِيرِ.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: وَالْمُقَصِّرِينَ. (2)
وَفِي دُعَاءِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَفْضَل مِنَ التَّقْصِيرِ، هَذَا إِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ تَمَتُّعٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَأَرَادَ التَّحَلُّل مِنْ عُمْرَتِهِ، فَالأَْفْضَل لَهُ التَّقْصِيرُ، لِيَتَوَفَّرَ الْحَلْقُ لِلتَّحَلُّل مِنَ الْحَجِّ. (3)
(1) سورة البقرة / 196.
(2)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما سبق تخريجه ف / 1.
(3)
كشاف القناع 2 / 488، والدسوقي 2 / 46.
وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُ عَنِ الرِّجَال، وَأَنَّ النِّسَاءَ سُنَّتُهُنَّ التَّقْصِيرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ، (1) وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ فِي الْحَجِّ نُسُكٌ.
وَالْحَلْقُ - أَوِ التَّقْصِيرُ - فِي ذَاتِهِ وَاجِبٌ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ شَعْرٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ - كَالأَْقْرَعِ وَمَنْ بِرَأْسِهِ قُرُوحٌ - فَإِنَّهُ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَبَعْدَ فَرَاغِ الْحَلْقِ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، فَاجْعَل لِي كُل شَعْرَةٍ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ. (3)
وَالتَّفْصِيل مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (إِحْرَامٌ)(حَلْقٌ) .
(1) حديث: " ليس على النساء حلق، وإنما عليهن التقصير " أخرجه أبو داود (2 / 502 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في التلخيص (2 / 261 - شركة الطباعة الفنية) .
(2)
تفسير القرطبي 2 / 281، 282 - الطبعة الثانية، وبدائع الصنائع 2 / 140 - الطبعة الأولى بمصر، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 45، 46 ط مصطفى الحلبي، ونهاية المحتاج 3 / 299 وما بعدها.
(3)
نهاية المحتاج 3 / 297، والمجموع 8 / 215.
تَحْلِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحْلِيل لُغَةً ضِدُّ التَّحْرِيمِ، وَأَصْل الْفِعْل (حَل) وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَالتَّضْعِيفِ، فَيُقَال: أَحْلَلْتُهُ. وَمِنْهُ {أَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) أَيْ أَبَاحَهُ وَخَيَّرَ فِي الْفِعْل وَالتَّرْكِ، وَاسْمُ الْفَاعِل: مُحِلٌّ وَمُحَلِّلٌ. (2)
وَالتَّحْلِيل فِي الشَّرْعِ هُوَ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ فِعْلاً مَا هُوَ حَلَالٌ. قَال ابْنُ وَهْبٍ: قَال مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ: إِيَّاكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لأَِصْنَعَ هَذَا. قَال الْقُرْطُبِيُّ:
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عز وجل، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول أَوْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ، إِلَاّ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ تَعَالَى يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ. (3)
ثُمَّ قَال: وَقَدْ يَقْوَى الدَّلِيل عَلَى التَّحْرِيمِ
(1) سورة البقرة / 275.
(2)
المصباح المنير مادة: (حلل) .
(3)
تفسير القرطبي 10 / 116 دار الكتب.
عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، فَلَا بَأْسَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُول ذَلِكَ، كَمَا يَقُول: إِنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الأَْعْيَانِ السِّتَّةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ التَّحْلِيل وَيُرَادُ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْ مَظْلَمَةٍ، وَيُطْلَقُ التَّحْلِيل وَيُرَادُ مِنْهُ: تَحْلِيل الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمُطَلِّقِهَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ -
الإِْبَاحَةُ:
2 -
الإِْبَاحَةُ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْلَال، وَفِي الاِصْطِلَاحِ الأُْصُولِيِّ: هِيَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ تَخْيِيرًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ. (1)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الإِْذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْل حَسَبَ مَشِيئَةِ الْفَاعِل فِي حُدُودِ الإِْذْنِ (2) وَقَدْ تُطْلَقُ الإِْبَاحَةُ عَلَى مَا قَابَل الْحَظْرَ، فَتَشْمَل الْفَرْضَ وَالإِْيجَابَ وَالنَّدْبَ. (3) وَالإِْبَاحَةُ فِيهَا تَخْيِيرٌ، أَمَّا الْحِل فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا.
ر: (إِبَاحَةٌ) .
تَحْلِيل الْحَرَامِ:
3 -
الْمُرَادُ بِهِ: جَعْل الْحَرَامِ حَلَالاً، كَتَحْلِيل الرِّبَا، فَذَلِكَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبٌ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
(1) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 112.
(2)
تعريفات الجرجاني.
(3)
تبيين الحقائق 6 / 10.
الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} . (1)
التَّحْلِيل مِنَ الدُّيُونِ وَغَيْرِهَا:
4 -
التَّحْلِيل مِنَ الدَّيْنِ: إِخْرَاجُ الدَّيْنِ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّحَلُّل فَهُوَ: طَلَبُ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْل أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ. (2)
وَالتَّحْلِيل قَدْ يَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَبِغَيْرِهِ:
فَاَلَّذِي بِمُقَابِلٍ: كَالزَّوْجَةِ تُرِيدُ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا، فَتُعْطِيهِ مَالاً لِيَخْلَعَهَا. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَلَا يَحِل لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَاّ أَنْ يَخَافَا أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . (3)
وَقَدْ يَكُونُ التَّحْلِيل بِلَا مُقَابِلٍ، وَأَصْل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ
(1) سورة النحل / 116، والقرطبي 10 / 116.
(2)
حديث: " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 101 - ط السلفية) .
(3)
سورة البقرة / 229.
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . (1)
فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِلْمَهْرِ، وَهُوَ دَيْنٌ. (2)
التَّحْلِيل مِنَ التَّبِعَاتِ وَالْحُقُوقِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ:
5 -
مَنْ أَخْطَأَ فِي حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَنْ ذَنْبِهِ. وَقَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّ لِلتَّوْبَةِ شُرُوطًا مِنْهَا: أَنْ يَبْرَأَ التَّائِبُ مِنْ حَقِّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَالاً رَدَّهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَدَّ قَذْفٍ وَنَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ، أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وَإِنْ كَانَ غِيبَةً اسْتَحَلَّهُ مِنْهَا. (3) (ر: تَوْبَةٌ) .
نِكَاحُ الْمُحَلِّل:
6 -
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ رَجْعِيَّتَيْنِ جَازَ لَهُ إِرْجَاعُهَا فِي الْعِدَّةِ.
وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرًى، فَحُكْمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَالثِّنْتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ هُوَ نُقْصَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَزَوَال مِلْكِ الاِسْتِمْتَاعِ، حَتَّى لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا إِلَاّ بِنِكَاحٍ
(1) سورة النساء / 4.
(2)
الجصاص 2 / 70.
(3)
رياض الصالحين ص 11.
جَدِيدٍ، وَيَجُوزُ نِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ - وَإِنْ كَانَ بَائِنًا - فَإِنَّهُ يُوجِبُ زَوَال مِلْكِ الاِسْتِمْتَاعِ، لَا زَوَال حِل الْمَحَلِّيَّةِ.
أَمَّا إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا، فَإِنَّ الْحُكْمَ الأَْصْلِيَّ لِلطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ هُوَ زَوَال مِلْكِ الاِسْتِمْتَاعِ وَزَوَال حِل الْمَحَلِّيَّةِ أَيْضًا، حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ نِكَاحُهَا قَبْل التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . (1) بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} .
وَإِنَّمَا تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ وَتَحِل لِلزَّوْجِ الأَْوَّل بِشُرُوطٍ:
أ -
النِّكَاحُ:
7 -
أَوَّل شُرُوطِ التَّحْلِيل: النِّكَاحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَقَدْ نَفَى حِل الْمَرْأَةِ لِمُطَلِّقِهَا ثَلَاثًا، وَحَدُّ النَّفْيِ إِلَى غَايَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ. وَالْحُكْمُ الْمَحْدُودُ إِلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْل وُجُودِ الْغَايَةِ، فَلَا تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ قَبْل التَّزَوُّجِ، فَلَا تَحِل لِلزَّوْجِ الأَْوَّل قَبْلَهُ ضَرُورَةً. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إِذَا وَطِئَهَا إِنْسَانٌ بِالزِّنَى أَوْ بِشُبْهَةٍ أَنَّهَا لَا تَحِل لِزَوْجِهَا لِعَدَمِ النِّكَاحِ. (2)
(1) سورة البقرة / 229.
(2)
البدائع 3 / 187 - 189، وفتح القدير 3 / 178، وابن عابدين 2 / 537 ط بولاق وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 94 - 95، والقوانين الفقهية ص 231 الدار العربية للكتاب وتفسير القرطبي3 / 149 - 153، ومغني المحتاج 3 / 182 - 183، 293، والمغني 6 / 646 - 648، 7 / 261، 275.
صِحَّةُ النِّكَاحِ:
8 -
يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي لِكَيْ تَحِل الْمَرْأَةُ لِلأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَلَا تَحِل لِلأَْوَّل إِذَا كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، حَتَّى لَوْ دَخَل بِهَا؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً، وَمُطْلَقُ النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا هُوَ نِكَاحٌ حَقِيقَةً.
وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الثَّانِي مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ، وَدَخَل بِهَا، لَا تَحِل لِلأَْوَّل عِنْدَ مَنْ يَقُول بِفَسَادِهِ لِمَا قُلْنَا. (1)
ج -
الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ:
9 -
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ صِحَّةِ الزَّوَاجِ: أَنْ يَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فِي الْفَرْجِ، فَلَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ لَمْ تَحِل لِلأَْوَّل، لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ الْحِل عَلَى ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ مِنْهُمَا. فَقَال لاِمْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ. (2)
وَلَا يَحْصُل هَذَا إِلَاّ بِالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ. وَقَال
(1) المصادر السابقة.
(2)
حديث: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 249ط السلفية) ومسلم (2 / 1056 - ط الحلبي) .
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: تَحِل بِنَفْسِ الْعَقْدِ، لِحَمْلِهِ النِّكَاحَ فِي الآْيَةِ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْجِمَاعِ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا الآْيَةَ عَلَى الْجِمَاعِ. وَأَدْنَى الْوَطْءِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ؛ لأَِنَّ أَحْكَامَ الْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ الاِنْتِشَارِ لأَِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، وَلَا تُعْقَل مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الإِْنْزَال مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَاّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَإِنَّهُ قَال: لَا تَحِل إِلَاّ بِوَطْءٍ وَإِنْزَالٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُبَاحٍ كَحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، هَل يُحِل الْمَرْأَةَ أَمْ لَا؟
ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ الْوَطْءَ يُحِل الْمَرْأَةَ، وَإِنْ وَقَعَ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُبَاحٍ كَحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاطِئُ بَالِغًا عَاقِلاً أَمْ صَبِيًّا مُرَاهِقًا أَمْ مَجْنُونًا، لأَِنَّ وَطْءَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ، مِنَ الْمَهْرِ وَالتَّحْرِيمِ، كَوَطْءِ الْبَالِغِ الْعَاقِل.
وَالْحَنَابِلَةُ كَالْجُمْهُورِ فِي أَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ يُحِل الْمَرْأَةَ كَالْعَاقِل.
وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا، إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، وَدَخَل بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي، حَلَّتْ لِلأَْوَّل، لأَِنَّ وَطْأَهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ مِنَ الْمَهْرِ وَالتَّحْرِيمِ، كَوَطْءِ الْبَالِغَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالاً (مُبَاحًا) ، لأَِنَّ الْوَطْءَ غَيْرُ
الْمُبَاحِ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَحْصُل بِهِ الإِْحْلَال كَوَطْءِ الْمُرْتَدَّةِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: فَلَا تَحِل الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا الأَْوَّل إِذَا جَامَعَهَا زَوْجُهَا الثَّانِي فِي صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ حَيْضٍ أَوِ اعْتِكَافٍ.
كَمَا اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ بَالِغًا، وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً؛ لأَِنَّ مَنْ دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ مَنْ دُونَ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ لَا يُمْكِنُهُ الْمُجَامَعَةُ.
وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَطْءَ زَوْجِهَا الذِّمِّيِّ يُحِلُّهَا لِلأَْوَّل؛ لأَِنَّ النَّصْرَانِيَّ زَوْجٌ.
وَلَا يُحِلُّهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
الزَّوَاجُ بِشَرْطِ التَّحْلِيل:
10 -
مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا بِشَرْطٍ صَرِيحٍ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الأَْوَّل فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ. (2) وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى
(1) المصادر السابقة.
(2)
حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل. . . " أخرجه الترمذي (3 / 419 - ط الحلبي) وصححه ابن دقيق العيد كما في التلخيص لابن حجر (3 / 170 - ط شركة الطباعة الفنية) .
يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: هُوَ الْمُحَلِّل. لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّل لَهُ. (1)
وَالنَّهْيُ يَدُل عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) بِفَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ لِلْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ بِشَرْطِ الإِْحْلَال فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ، وَشَرْطُ التَّأْقِيتِ فِي النِّكَاحِ يُفْسِدُهُ، وَمَا دَامَ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيل، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْل عُمَرَ رضي الله عنه: وَاللَّهِ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ إِلَاّ رَجَمْتُهُمَا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَتَحِل لِلأَْوَّل بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِي وَتَنْتَهِيَ عِدَّتُهَا. وَيُكْرَهُ لِلثَّانِي وَالأَْوَّل؛ لأَِنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا شُرِطَ فِيهِ الإِْحْلَال أَوْ لَا. فَكَانَ النِّكَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ نِكَاحًا صَحِيحًا، فَيَدْخُل تَحْتَ قَوْله تَعَالَى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَتَنْتَهِي الْحُرْمَةُ عِنْدَ وُجُودِهِ، إِلَاّ أَنَّهُ كُرِهَ النِّكَاحُ لِهَذَا الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ السَّكَنُ وَالتَّوَالُدُ وَالتَّعَفُّفُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
(1) حديث: " ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ هو المحلل. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 623 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 199 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
يَقِفُ عَلَى الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: النِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحٌ، وَلَا تَحِل لِلأَْوَّل؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ، فَكَانَ شَرْطُ الإِْحْلَال اسْتِعْجَال مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِغَرَضِ الْحِل، فَيَبْطُل الشَّرْطُ وَيَبْقَى النِّكَاحُ صَحِيحًا، لَكِنْ لَا يَحْصُل بِهِ الْغَرَضُ (1) .
الزَّوَاجُ بِقَصْدِ التَّحْلِيل:
11 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوَاجَ بِقَصْدِ التَّحْلِيل - مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ - صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتَحِل الْمَرْأَةُ بِوَطْءِ الزَّوْجِ الثَّانِي لِلأَْوَّل؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ بِمُجَرَّدِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، فَوَقَعَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا لِتَوَافُرِ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فِي الْعَقْدِ، وَتَحِل لِلأَْوَّل، كَمَا لَوْ نَوَيَا التَّأْقِيتَ وَسَائِرَ الْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوَاجَ بِقَصْدِ التَّحْلِيل - وَلَوْ بِدُونِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ - بَاطِلٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَوَاطَأَ الْعَاقِدَانِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ قَبْل الْعَقْدِ، ثُمَّ عُقِدَ الزَّوَاجُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ، وَلَا تَحِل الْمَرْأَةُ بِهِ لِزَوْجِهَا الأَْوَّل، عَمَلاً بِقَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَلِحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ. (2)
(1) المصادر الفقهية السابقة.
(2)
حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل. . " سبق تخريجه ف / 10 وانظر المصادر الفقهية السابقة.
هَدْمُ طَلَقَاتِ الأَْوَّل بِالزَّوَاجِ الثَّانِي:
12 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ طَلَاقَ الزَّوْجِ الأَْوَّل إِذَا كَانَ ثَلَاثًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ هَل يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؟ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْل الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ طُلِّقَتْ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا الأَْوَّل.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَهْدِمُ؛ لأَِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ الثَّالِثَةَ بِالشَّرْعِ، فَلَا يَهْدِمُ مَا دُونَهَا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، لأَِنَّهُ لَمَّا هَدَمَ الثَّلَاثَ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَهْدِمَ مَا دُونَهَا، وَبِهِ قَال ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ (1) .
(1) المصادر الفقهية السابقة.
تَحْلِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحْلِيَةُ لُغَةً: إِلْبَاسُ الْمَرْأَةِ الْحُلِيَّ، أَوِ اتِّخَاذُهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ.
وَيُقَال: تَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ: لَبِسَتِ الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذَتْهُ. وَحَلَّيْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ: أَلْبَسْتُهَا الْحُلِيَّ، أَوِ اتَّخَذْتُهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ. (1) وَالتَّحْلِيَةُ لَا تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
تَزْيِينٌ:
2 -
التَّزْيِينُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُل شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ. (2)
فَالتَّزَيُّنُ أَعَمُّ مِنَ التَّحْلِيَةِ، لِتَنَاوُلِهِ مَا لَيْسَ حِلْيَةً كَالاِكْتِحَال وَتَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَالاِخْتِضَابِ.
(1) المصباح المنير مادة: " حلا ".
(2)
لسان العرب والصحاح للمرعشلي، ومختار الصحاح مادة:" زين ".
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 -
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّحْلِيَةِ بِحَسَبِ الأَْحْوَال.
فَقَدْ تَكُونُ التَّحْلِيَةُ وَاجِبَةً كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، (1) وَتَزَيُّنِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَتَى طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ. (2)
وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً كَتَحَلِّي الرَّجُل لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ وَلِقَاءِ الْوُفُودِ (3) وَخِضَابِ الشَّيْبِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً كَلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ لِلرِّجَال كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، (5) وَخِضَابِ الرَّجُل يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا. (6)
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 223، والاختاير شرح المختار 1 / 45، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 71، والمغني لابن قدامة 1 / 577 - 579 م الرياض الحديثة، والشرح الكبير 1 / 211.
(2)
حاشية ابن عابدين 2 / 652، 3 / 188، 5 / 274، وروضة الطالبين 7 / 344، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 76 - 68.
(3)
حاشية ابن عابدين 1 / 545 - 556، وفتح القدير 2 / 40، وروضة الطالبين 2 / 45، 76، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 46، 98، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 381، 398، وجواهر الإكليل 1 / 96، 103، والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1 / 197، 200، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 42، 51 م النصر الحديثة، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 195 - 197، والمغني لابن قدامة 2 / 370 م الرياض الحديثة.
(4)
حاشية ابن عابدين 5 / 481 - 482.
(5)
المصدر السابق.
(6)
ابن عابدين 5 / 271.
وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا كَتَحَلِّي الرِّجَال بِحِلْيَةِ النِّسَاءِ، وَتَحَلِّي النِّسَاءِ بِحِلْيَةِ الرِّجَال، وَكَتَحَلِّي الرِّجَال بِالذَّهَبِ (1) .
الإِْسْرَافُ فِي التَّحْلِيَةِ:
4 -
التَّحْلِيَةُ الْمُبَاحَةُ أَوِ الْمُسْتَحَبَّةُ إِذَا أُسْرِفَ فِيهَا تُصْبِحُ مَحْظُورَةً، وَقَدْ تَصِل إِلَى مَرْتَبَةِ التَّحْرِيمِ.
وَالإِْسْرَافُ: هُوَ مُجَاوَزَةُ حَدِّ الاِسْتِوَاءِ، فَتَارَةً يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ الْحَلَال إِلَى الْحَرَامِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الإِْنْفَاقِ، فَيَكُونُ مِمَّنْ قَال اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (2) وَالإِْسْرَافُ وَضِدُّهُ مِنَ الإِْقْتَارِ مَذْمُومَانِ، وَالاِسْتِوَاءُ هُوَ التَّوَسُّطُ (3) قَال اللَّهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} . (4)
تَحْلِيَةُ الْمُحِدَّةِ:
5 -
الْمُحِدَّةُ مِنَ النِّسَاءِ هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتْرُكُ الزِّينَةَ وَالْحُلِيَّ وَالطِّيبَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا لِلْعِدَّةِ، وَالْحِدَادُ تَرْكُهَا ذَلِكَ. (5)
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 261، 269، 271، وروضة الطالبين 2 / 263 المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 362، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 285 - 286 م النصر الحديثة.
(2)
سورة الإسراء / 27.
(3)
أحكام القرآن للجصاص 3 / 41 ط المطبعة البهية.
(4)
سورة الفرقان / 67.
(5)
لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة " حدد ".
وَإِحْدَادُهَا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: امْتِنَاعُهَا عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْمَوْتِ - وَهُوَ بِالإِْجْمَاعِ - أَمْ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى خِلَافٍ (1) .
6 -
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحِدَّةِ أَنْ تَسْتَعْمِل الذَّهَبَ بِكُل صُوَرِهِ، فَيَلْزَمُهَا نَزْعُهُ حِينَ تَعْلَمُ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الأَْسَاوِرِ وَالدَّمَالِجِ وَالْخَوَاتِمِ، وَمِثْلُهُ الْحُلِيُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يُتَّخَذُ لِلْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْعَاجِ وَغَيْرِهِ. (2)
وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لُبْسَ الْحُلِيِّ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ، لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحُلِيِّ عَلَى الْمُحِدَّةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَا الْحُلِيَّ (3) وَلأَِنَّ
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 616 - 617، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب 4 / 154، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي 7 / 140 - 142 ط الحلبي 1357 هـ، والمغني لابن قدامة 9 / 166، 168 ط المنار 1348 هـ، وحاشية سعدي جلبي على شرح فتح القدير 3 / 219، وفتح القدير 4 / 162، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 479، والمجموع شرح المهذب 17 / 221، وقليوبي وعميرة 4 / 53.
(2)
المجموع شرح المهذب 17 / 29 - 30، وقليوبي وعميرة 4 / 53، وفتح القدير 4 / 162، والفتاوى الهندية 1 / 533، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 479، والمغني لابن قدامة 9 / 167 ط المنار، والمحرر في فقه الحنابلة 2 / 107 - 108.
(3)
حديث: " ولا الحلي "، أخرجه أبو داود (2 / 727 - ط عزت عبيد دعاس) بلفظ " ولا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي. . . " وصححه ابن حبان (ص 322 - موارد الظمآن - ط السلفية) .
الزِّينَةَ تَحْصُل بِالْفِضَّةِ، فَحَرُمَ عَلَيْهَا لُبْسُهَا وَالتَّحَلِّي بِهَا كَالذَّهَبِ. وَقَصَرَ الْغَزَالِيُّ الإِْبَاحَةَ عَلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِحِلِّهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَلَّى لِتَتَعَرَّضَ لِلْخُطَّابِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِل تَلْمِيحًا أَوْ تَصْرِيحًا (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: وَلَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ وَلَا الْحُلِيَّ.
التَّحَلِّي فِي الإِْحْرَامِ:
7 -
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُرِيدُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ مِمَّنْ أَحْرَمَ بِهِمَا فِعْلاً.
وَتَحَلِّي الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُلِيِّ مُبَاحٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ سِوَارًا أَمْ غَيْرَهُ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما نَهَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْيَلْبَسْنَ بَعْدَ
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 617، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 478 - 479، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7 / 141 - 142، والمغني لابن قدامة 9 / 169 ط المنار.
ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا الْخَلْخَال وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْحُلِيِّ مِثْل السِّوَارِ وَالدُّمْلُوجِ (2) فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ. وَقَدْ قَال أَحْمَدُ: الْمُحْرِمَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَتْرُكَانِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ، وَلَهُمَا مَا سِوَى ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ الْخَاتَمَ وَالْقُرْطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، وَكَرِهَ السِّوَارَيْنِ وَالدُّمْلُجَيْنِ وَالْخَلْخَالَيْنِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: الرُّخْصَةُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ. وَقَال عَنْ نَافِعٍ: كَانَ نِسَاءُ ابْنِ عُمَرَ وَبَنَاتُهُ يَلْبَسْنَ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمَنَاسِكِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مَا تَلْبَسُ وَهِيَ حَلَالٌ مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَحُلِيِّهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ
(1) مطالب أولي النهى 2 / 353 وحديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 52 - ط السلفية) .
(2)
الدملج والدملوج: هو الحلي يلبس على العضد. (لسان العرب) .
الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَيُحْمَل كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ فِي الْمَنْعِ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ.
وَلُبْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلرَّجُل، وَفِيهِ الْفِدَاءُ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ. (1)
8 -
وَمِنَ التَّحَلِّي فِي الإِْحْرَامِ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، لَكِنَّهُ سُنَّ اسْتِعْدَادًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الإِْحْرَامَ بِمُطَيَّبٍ، وَنَدَبُوهُ بِغَيْرِهِ.
وَالتَّطَيُّبُ فِي ثَوْبِ الإِْحْرَامِ قَبْل الإِْحْرَامِ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَإِنَّ التَّحْلِيَةَ بِالطِّيبِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ هُوَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، (2) وَأَمَّا لُبْسُ الْمَرْأَةِ حُلِيَّهَا فِي الإِْحْرَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِغْرَاءٌ ر:(إِحْرَامٌ) .
(1) المسلك المتقسط 83، والشرح الكبير 2 / 55، والمجموع 7 / 260، ونهاية المحتاج 2 / 449، ومطالب أولي النهى 2 / 353، والمغني 3 / 330 ط الرياض.
(2)
المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 211 - 216، والمغني لابن قدامة 3 / 315 - 317 م الرياض الحديثة، وتنوير الأبصار 2 / 221، ورد المحتار على الدر المختار 2 / 162، 164، والشرح الكبير 2 / 59، 61 - 62، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 274 المكتب الإسلامي، وشرح اللباب 80 - 81.
تَحَمُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحَمُّل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَمَّل الشَّيْءَ أَيْ: حَمَلَهُ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَاّ عَلَى مَا فِي حَمْلِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، يُقَال: رَجُلٌ حَمَّالٌ يَحْمِل الْكَل عَنِ النَّاسِ. (1)
وَفِي الأَْثَرِ: لَا تَحِل الْمَسْأَلَةُ إِلَاّ لِثَلَاثٍ مِنْهَا: رَجُلٌ تَحَمَّل حَمَالَةً عَنْ قَوْمٍ.
وَفِي تَسْمِيَةِ مَا قَدْ يُطْلَبُ مِنَ الشَّخْصِ الشَّهَادَةُ فِيهِ تَحَمُّلاً، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَعْلَى الأَْمَانَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ حَمْلُهَا إِلَى كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ. (2)
وَفِي الاِصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: التَّحَمُّل: الْتِزَامُ أَمْرٍ وَجَبَ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ قَهْرًا مِنَ الشَّرْعِ (3) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 -
التَّحَمُّل يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ،
(1) لسان العرب مادة: " حمل ".
(2)
تحفة المحتاج 8 / 480.
(3)
الإنصاف 12 / 124 بتصرف.
فَهُوَ فِي الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.
أَوَّلاً - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ:
3 -
اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، كَالنِّكَاحِ وَالإِْقْرَارِ بِأَنْوَاعِهِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَلِتَوَقُّفِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) وَسُمُّوا شُهَدَاءَ بِاعْتِبَارِ مَا سَيَئُول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، فَإِنْ قَامَ بِالتَّحَمُّل الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلَاّ أَثِمُوا جَمِيعًا. هَذَا إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَاّ الْعَدَدُ اللَاّزِمُ لِلشَّهَادَةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ (2) .
الاِمْتِنَاعُ عَنْ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ:
4 -
إِذَا دُعِيَ الْمُكَلَّفُ إِلَى تَحَمُّل شَهَادَةٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ لَزِمَتْهُ الإِْجَابَةُ. وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَدُعِيَ إِلَى أَدَائِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قَامَ بِالْفَرْضِ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأَْدَاءِ اثْنَانِ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْكُل أَثِمُوا، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأَْدَاءِ،
(1) سورة البقرة / 282.
(2)
المغني 9 / 149، وتحفة المحتاج 8 / 480، والزرقاني 7 / 190.
أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّل فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (2) وَلأَِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ بِنَفْسِهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لَا يَحْصُل مِنْهُ، وَهَل يَأْثَمُ بِالاِمْتِنَاعِ إِذَا وُجِدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْحَنَابِلَةِ:
أَحَدُهُمَا: يَأْثَمُ، لأَِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِدُعَائِهِ، وَلأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنِ الاِمْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .
وَالثَّانِي: لَا يَأْثَمُ، لأَِنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا. (3)
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّل:
5 -
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ
(1) سورة البقرة / 282.
(2)
حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه ابن ماجه وأحمد بن حنبل من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. ورواه الحاكم والدارقطني عن أبي سعيد رضي الله عنه، والحديث حسنه النووي، وقال: رواه مالك وله طرق يقوي بعضها بعضا. وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به. (سنن ابن ماجه 2 / 784 ط الحلبي، وفيض القدير 6 / 431، 432، وجامع العلوم والحكم ص 286 ط الحلبي) .
(3)
المغني 9 / 147.
الأُْجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّل قَوْلاً وَاحِدًا فِي الْمَذْهَبَيْنِ، إِنْ كَانَ التَّحَمُّل فَرْضَ كِفَايَةٍ وَفِيهِ كُلْفَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كُلْفَةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَمُّل، كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، فَلَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ إِنْ كَانَ فِي التَّحَمُّل كُلْفَةٌ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الْمَذْهَبَيْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّل، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ لِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ. وَقِيل: يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ لِلْحَاجَةِ، وَقِيل: يَجُوزُ مُطْلَقًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَتَحَمُّل الشَّهَادَةِ - وَكَذَلِكَ أَدَاؤُهَا - يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَلَا أُجْرَةَ لِلشَّاهِدِ. (1)
تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
6 -
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الأَْمْوَال، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَال، وَالأَْنْكِحَةُ، وَالْفُسُوخُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْوِلَادَةُ، وَعُيُوبُ النِّسَاءِ، وَحُقُوقُ اللَّهِ عَدَا
(1) ابن عابدين 4 / 370، والاختيار 2 / 147، والفتاوى الهندية 3 / 452، والدسوقي 4 / 199، وتحفة المحتاج 8 / 481، والروضة 11 / 275، والإنصاف 12 / 6 - 7
الْحُدُودِ كَالزَّكَاةِ، وَوَقْفِ الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَمُّل فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ السَّتْرُ، فَأَشْبَهَ الأَْمْوَال.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ التَّحَمُّل فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَتُبْنَى عَلَى الإِْسْقَاطِ، فَأَشْبَهَتِ الْحُدُودَ. (2)
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
ثَانِيًا - تَحَمُّل الْعَاقِلَةِ عَنِ الْجَانِي دِيَةَ الْخَطَأِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ:
7 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّل دِيَةَ الْخَطَأِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ تَجِبُ أَوَّلاً. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَلْزَمُ الْجَانِيَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الْعَاقِلَةُ. وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ:
(1) المغني 9 / 206، وروضة الطالبين 11 / 289، وتحفة المحتاج 8 / 487، وحاشية ابن عابدين 4 / 392.
(2)
المغني 9 / 201، 209، وروضة الطالبين 11 / 289، وحاشية ابن عابدين 4 / 392 - 393، والزرقاني 7 / 194.
تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْعَاقِلَةِ. (1)
وَكَذَلِكَ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. أَمَّا مَالِكٌ فَلَا يَثْبُتُ شِبْهُ الْعَمْدِ فِي الْقَتْل أَصْلاً (2) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (3)، وَهُوَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ اقْتَتَلَتَا، فَحَذَفَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. (4)
وَكَانَ قَتْلُهَا شِبْهَ عَمْدٍ، فَثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ أَوْلَى.
أَمَّا جِهَاتُ الْعَاقِلَةِ وَتَرْتِيبُهُمْ فِي التَّحَمُّل فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَةٌ) .
ثَالِثًا - تَحَمُّل الإِْمَامِ عَنِ الْمَأْمُومِ:
8 -
لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ، وَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ الإِْمَامُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَسْبُوقًا أَمْ غَيْرَ مَسْبُوقٍ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ،
(1) نهاية المحتاج 8 / 369 ط المكتبة الإسلامية، والقليوبي 4 / 155، والمغني 7 / 770، وحاشية الدسوقي 4 / 282، وحاشية ابن عابدين 5 / 410 - 411.
(2)
المصادر السابقة.
(3)
نهاية المحتاج 7 / 369.
(4)
حديث: " قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 252 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1310 - ط الحلبي) .
عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ قِرَاءَتِهِ خَلْفَ الإِْمَامِ، مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَهْرًا، وَاسْتِحْبَابِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَمَّل الإِْمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا، فَأَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ، أَوْ فِي الْقِيَامِ بِقَدْرٍ لَا يَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، كَمَا يَتَحَمَّل عَنْهُ سَهْوَهُ فِي حَال اقْتِدَائِهِ. (2)
أَمَّا غَيْرُ الْمَسْبُوقِ فَلَا يَتَحَمَّل عَنْهُ الإِْمَامُ الْقِرَاءَةَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ:(قِرَاءَةٌ) .
وَمِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الإِْمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِ أَيْضًا: سُجُودُ السَّهْوِ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ، وَالسُّتْرَةُ؛ لأَِنَّ سُتْرَةَ الإِْمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 -
يُذْكَرُ التَّحَمُّل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالدِّيَةِ، وَتَحَمُّل الإِْمَامِ خَطَأَ الْمَأْمُومِينَ، وَتَحَمُّل الْحَدِيثِ.
(1) مواهب الجليل 1 / 518، وابن عابدين 1 / 366، والمغني 1 / 566.
(2)
الجمل على شرح المنهج 1 / 345، 461.
تَحْمِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحْمِيدُ فِي اللُّغَةِ: كَثْرَةُ الثَّنَاءِ بِالْمَحَامِدِ الْحَسَنَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدِ (1) . وَالتَّحْمِيدُ فِي الإِْطْلَاقِ الشَّرْعِيِّ يُرَادُ بِهِ كَثْرَةُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهُ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْحَمْدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَالأَْحْسَنُ التَّحْمِيدُ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَبِمَا يُثْنَى عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ -
الشُّكْرُ:
2 -
الشُّكْرُ فِي اللُّغَةِ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِمَا قَدَّمَ لِغَيْرِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ (3) .
(1) لسان العرب، والصحاح، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة:" حمد "، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 133.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 133 - 134، وتنظر الرسالة الرابعة من قواعد الفقه للبركتي ص 222.
(3)
لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير في مادة:" شكر ".
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ. وَالشُّكْرُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْيَدِ وَالْقَلْبِ.
وَالشُّكْرُ مُجَازَاةٌ لِلْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَقَدْ يُوضَعُ الْحَمْدُ مَكَانَ الشُّكْرِ، تَقُول: حَمِدْتُهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ، يَعْنِي أَثْنَيْتَ عَلَى شَجَاعَتِهِ، كَمَا تَقُول: شَكَرْتُهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، إِلَاّ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ، لأَِنَّكَ تَحْمَدُ عَلَى الصِّفَاتِ وَلَا تَشْكُرُ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى الْفَرْقِ (1) .
ب -
الْمَدْحُ:
3 -
الْمَدْحُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ تَقُول: مَدَحْتُهُ مَدْحًا مِنْ بَابِ نَفَعَ: أَثْنَيْتَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، خَلْقِيَّةً كَانَتْ أَوِ اخْتِيَارِيَّةً. وَالْمَدْحُ فِي الاِصْطِلَاحِ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ قَصْدًا. وَلِهَذَا كَانَ الْمَدْحُ أَعَمَّ مِنَ الْحَمْدِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 -
مَوَاطِنُ التَّحْمِيدِ فِي حَيَاةِ الإِْنْسَانِ مُتَعَدِّدَةٌ.
(1) التعريفات للجرجاني ص 128، والنظم المستعذب 1 / 9.
(2)
المصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب بهامش المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 82، والتعريفات للجرجاني ص 207.
فَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ عِرْفَانًا مِنْهُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَنَاءً عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ نِعَمٍ لَا حَصْرَ لَهَا، قَال تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1) فَلَا طَاقَةَ عَلَى عَدِّهَا، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى حَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ، وَهِيَ نِعَمٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَلِذَا هَيَّأَ لِلإِْنْسَانِ مِنَ الأَْسْبَابِ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
وَالتَّحْمِيدُ تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَتَارَةً يَكُونُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً كَمَا هُوَ بَعْدَ الْعُطَاسِ. وَتَارَةً يَكُونُ مَنْدُوبًا كَمَا فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الدُّعَاءِ، وَفِي ابْتِدَاءِ كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ، وَبَعْدَ كُل أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَا فِي الأَْمَاكِنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ.
وَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا كَمَا فِي الْفَرَحِ بِالْمَعْصِيَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ:
5 -
التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْضِيَّتِهِ أَوْ نَدْبِهِ (3) . وَالْبُدَاءَةُ بِهِ فِيهِمَا مُسْتَحَبَّةٌ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
(1) سورة إبراهيم / 34.
(2)
حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص4، وكشاف القناع 1 / 12.
(3)
ابن عابدين 1 / 543 - 544، 561، ومراقي الفلاح ص 277 - 281، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 118، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 31 - 33 م النصر الحديثة، والشرح الكبير 1 / 378 - 379، والأذكار للنووي 104.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: كُل كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَجْذَمُ (1) ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (صَلَاةُ الْجُمُعَةِ) .
التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ:
6 -
يُسْتَحَبُّ التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ قَبْل إِجْرَاءِ الْعَقْدِ ْ؛ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ لَفْظِهِ عليه الصلاة والسلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِل فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (3) {
(1) حديث: " كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم " أخرجه أبو داود (5 / 172 - ط عزت عبيد دعاس) وأعله بالإرسال، وفي إسناده راو ضعيف. (فيض القدير للمناوي 5 / 13 - ط المكتبة التجارية) .
(2)
حديث: " كان يخطب الناس يحمد الله. . . " أخرجه مسلم (2 / 593 - ط الحلبي) .
(3)
حديث: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه. . .) أخرجه أبو داود (3 / 592 - ط عزت عبيد دعاس) وهو صحيح الطرق. (التلخيص الحبير لابن حجر 3 / 152 - ط شركة الطباعة الفنية) .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .
التَّحْمِيدُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ:
7 -
التَّحْمِيدُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ - وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ - سُنَّةٌ: فَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ (4) وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
(1) سورة النساء / 1.
(2)
سورة آل عمران / 102.
(3)
الآيتان 70، 71 من سورة الأحزاب. وانظر ابن عابدين 1 / 561، 2 / 262، وكشاف القناع من متن الإقناع 5 / 21، والأذكار للنووي 250، والشرح الكبير 2 / 216.
(4)
حديث: " قوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك. . " أخرجه أبو داود (1 / 491 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة وفي إسناده انقطاع، ولكن له طرق يتقوى بها. (التلخيص لابن حجر 1 / 229 - ط شركة الطباعة الفنية) .
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
وَالتَّحْمِيدُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لِبُرَيْدَةَ رضي الله عنه: يَا بُرَيْدَةُ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُل: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ (2) وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِلْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، فَإِنَّهُمَا يَجْمَعَانِ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، وَيَكْتَفِي الْمَأْمُومُ بِالتَّحْمِيدِ اتِّفَاقًا لِلأَْمْرِ بِهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: إِذَا قَال الإِْمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ (3) وَلِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قَال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَال رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَال:
(1) مراقي الفلاح 139، 141، 153، والأذكار 43، وكشاف القناع 1 / 334.
(2)
حديث: " يا بريدة إذا رفعت رأسك. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 339 - ط شركة الطباعة الفنية) وإسناده ضعيف جدا. (ميزان الاعتدال للذهبي 3 / 268 - ط الحلبي) .
(3)
حديث: " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 283 - ط السلفية) ومسلم (1 / 306 - ط الحلبي) .
أَنَا. قَال: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّل (1) .
وَهَذَا التَّحْمِيدُ بَعْدَ قَوْل الإِْمَامِ أَوْ قَوْل الْفَرْدِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ عَقِيبَ التَّسْلِيمِ:
8 -
هُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3) لِمَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُهَلِّل فِي إِثْرِ كُل صَلَاةٍ فَيَقُول: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللَّهِ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَاّ إِيَّاهُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْل، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. (4)
وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُل صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ،
(1) حديث رفاعة بن رافع أخرجه البخاري (الفتح 2 / 284 - ط السلفية) . وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 332، 348 - 349، وابن عابدين 1 / 334، ومراقي الفلاح 142، 154، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 82، 89، والأذكار للنووي 53.
(2)
الشرح الكبير 1 / 248، وجواهر الإكليل 1 / 51.
(3)
المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 87، والأذكار للنووي 68، ونزهة المتقين شرح رياض الصالحين للنووي 2 / 973 - 974.
(4)
حديث: " كان يهلل في إثر كل صلاة. . . " أخرجه مسلم (1 / 415 - 416 - ط الحلبي) .
وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَال فِي تَمَامِ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ (1) .
وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُول بَعْدَ ذَلِكَ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " وَيَخْتِمُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. (3)
وَالأَْوْلَى الْبَدْءُ بِالتَّسْبِيحِ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْلِيَةِ، ثُمَّ التَّحْمِيدِ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْلِيَةِ، ثُمَّ التَّكْبِيرِ لأَِنَّهُ تَعْظِيمٌ. (4)
التَّحْمِيدُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ:
9 -
هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلإِْمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ، فَيُثْنِي وَيَحْمَدُ مُسْتَفْتِحًا: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،
(1) حديث: " من سبح الله في دبر كل صلاة " أخرجه مسلم (1 / 418 - ط الحلبي) .
(2)
حديث: قوله في ختام ذكر الصلاة " سبحان ربك رب العزة. . . " أخرجه أبو يعلى من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف، كما في تفسير ابن كثير (6 / 43 - ط دار الأندلس) .
(3)
مراقي الفلاح 171 - 173، وابن عابدين 1 / 356، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 365 - 367.
(4)
مراقي الفلاح 172.
وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ " وَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ. (1)
وَهُوَ سُنَّةٌ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول بَيْنَهَا: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رضي الله عنه قَال: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَمَّا يَقُولُهُ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ؟ قَال: يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو وَيُكَبِّرُ (2) .
التَّحْمِيدُ فِي صَلَاةِ الاِسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ:
10 -
التَّحْمِيدُ فِي خُطْبَةِ صَلَاةِ الاِسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَيَقُول الْمُصَلِّي: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ.
(1) مراقي الفلاح 291، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 54، 56 م النصر الحديثة.
(2)
حديث الذكر بين تكببرات العيد. أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قولا وفعلا بإسناد جيد كما قال ابن علان في الفتوحات الربانية (4 / 242) ، وانظر السنن الكبرى للبيهقي (3 / 291، 292) .
التَّحْمِيدُ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ:
11 -
التَّحْمِيدُ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول كَمَا قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. (1) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَال عَلَى الصَّفَا: اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَاّ إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ. لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. (2)
وَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّحْمِيدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَفْضَل وَأَحْسَنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَقُول إِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ،
(1) حديث: قوله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، الله أكبر. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 50 - ط شركة الطباعة الفنية) . وقال ابن حجر: وفي إسناده عمرو بن شمر، وهو متروك. (التلخيص الحبير 2 / 87 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2)
حديث: قوله على الصفا: " الله أكبر، الله أكبر " ورد في مسلم عن جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رقى الصفا وحد الله وكبره وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". وزاد ابن ماجه: " وحمده ". صحيح مسلم (وابن ماجه (2 / 1023 - ط الحلبي) . وانظر مراقي الفلاح 296، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 128، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 58.
لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا. (1)
التَّحْمِيدُ لِلْعَاطِسِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ:
12 -
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْعَاطِسِ إِذَا عَطَسَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، فَيَقُول عَقِبَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَوْ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ كَانَ أَفْضَل، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلْيَقُل لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ (2) وَعَنْهُ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ (3) وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآْخَرَ. فَقَال الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمِّتْنِي؟ فَقَال: هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى. (4) وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ
(1) الفواكه الدواني 1 / 321 نشر دار المعرفة.
(2)
حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 608 - ط السلفية) .
(3)
حديث: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال " أخرجه أبو داود (5 / 290 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(4)
حديث: " هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 610 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ. (1)
التَّحْمِيدُ لِلْخَارِجِ مِنَ الْخَلَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ:
13 -
وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول:" غُفْرَانَكَ "(2)" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي "(3) . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما رضي الله عنهما قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذَاقَنِي لَذَّتَهُ، وَأَبْقَى فِي قُوَّتَهُ، وَأَذْهَبَ عَنِّي أَذَاهُ (4) .
(1) حديث: " إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه " أخرجه مسلم (4 / 2292 - ط الحلبي) . وانظر الأذكار للنووي ص 240.
(2)
حديث: قوله: " غفرانك ". أخرجه أبو داود (1 / 30 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 158 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه الذهبي.
(3)
حديث: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " أخرجه ابن ماجه (1 / 110 - ط الحلبي) . وفي التعليق على ابن ماجه: عن إسماعيل بن مسلم، متفق على تضعيفه، والحديث بهذا اللفظ غير ثابت.
(4)
حديث: (والحمد لله الذي أذاقني لذته. . . " أخرجه ابن السني (ص 8 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده ضعيفان. والفتوحات الربانية (1 / 405 - ط المنيرية) .
التَّحْمِيدُ لِمَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ:
14 -
هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُل الأَْكْلَةَ أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. (1)
وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَكَل أَوْ شَرِبَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ (2) وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ أَنَسٍ الْجُهَنِيُّ رضي الله عنه عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ أَكَل طَعَامًا فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (3)
وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الأَْنْصَارِيُّ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَكَل أَوْ شَرِبَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَل لَهُ مَخْرَجًا. (4)
(1) حديث: " إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة. . . " أخرجه مسلم (4 / 2095 - ط الحلبي) .
(2)
حديث: " كان إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 508 - ط الحلبي) والبغوي في شرح السنة (11 / 279 - ط المكتب الإسلامي) وأعله بالانقطاع.
(3)
حديث: " من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا " أخرجه الترمذي (5 / 508 - ط الحلبي) وإسناده حسن.
(4)
حديث: " كان إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 187 - 188 - ط عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في الأذكار (ص 212 - ط الحلبي) .
وَلِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ التَّابِعِيُّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَال: اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وَأَحْسَنْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ سَمِعَ بِشَارَةً تَسُرُّهُ، أَوْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ، أَوِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَةٌ ظَاهِرَةٌ:
15 -
يُسْتَحَبُّ لِلشَّخْصِ أَنْ يَحْمَدَهُ سُبْحَانَهُ، وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي هَذَا قَوْل اللَّهِ تبارك وتعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (2) وَهُوَ مَا يَقُولُهُ أَهْل الْجَنَّةِ.
وَفِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} . (3)
(1) حديث: " كان إذا قرب إليه طعاما يقول: بسم الله. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 125 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (5 / 636 - ط المنيرية) . وانظر كشاف القناع 5 / 174، والأذكار للنووي 212، والمدخل لابن الحاج 1 / 227، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 131، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 179 - 181، 223.
(2)
سورة فاطر / 34.
(3)
سورة النمل / 15.
وَقَوْل إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ} . (1)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَرْسَل ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها يَسْتَأْذِنُهَا أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَلَمَّا أَقْبَل عَبْدُ اللَّهِ قَال عُمَرُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَال: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَال لَهُ جِبْرِيل عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. (3)
التَّحْمِيدُ لِلْقَائِمِ مِنَ الْمَجْلِسِ:
16 -
التَّحْمِيدُ لِلْقَائِمِ مِنَ الْمَجْلِسِ مُسْتَحَبٌّ. فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَال قَبْل أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
(1) سورة إبراهيم / 39.
(2)
مقالة عمر أخرجها البخاري (الفتح 3 / 256 - ط السلفية) .
(3)
حديث الإسراء أخرجه البخاري (الفتح 6 / 477 - ط السلفية) ومسلم (1 / 154 - ط الحلبي) . وانظر الأذكار للنووي 104، 264.
وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَاّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ. (1)
التَّحْمِيدُ فِي أَعْمَال الْحَجِّ:
17 -
التَّحْمِيدُ فِي أَعْمَال الْحَجِّ مُسْتَحَبٌّ، وَمِمَّا أُثِرَ مِنْ صِيَغِهِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَكَ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَكَ، أَحْمَدُكَ بِجَمِيعِ مَحَامِدِكَ، مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَعَلَى كُل حَالٍ. اللَّهُمَّ صَل وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ أَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَعِذْنِي مِنْ كُل سُوءٍ، وَقَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَكْرَمِ وَفْدِكَ عَلَيْكَ، وَأَلْزِمْنِي سَبِيل الاِسْتِقَامَةِ حَتَّى أَلْقَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. (2)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا:
18 -
التَّحْمِيدُ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ
(1) حديث: " من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه. . . " أخرجه الترمذي (5 / 494 - ط الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح. وانظر الأذكار للنووي 264 - 265، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 621 - 623، والأذكار للنووي 177.
(2)
حديث الملتزم قال ابن حجر: لم أقف له على أصل (الفتوحات الربانية 4 / 391 - ط المنيرية) .
لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غَفَرَ اللَّه لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ:
19 -
التَّحْمِيدُ لِمَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مُسْتَحَبٌّ. فَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول إِذَا اسْتَيْقَظَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَعَافَانِي فِي جَسَدِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ. (3)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُول عِنْدَ رَدِّ اللَّهِ تَعَالَى رُوحَهُ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ
(1) حديث: " من لبس ثوبا جديدا فقال. . . " أخرجه أبو داود (4 / 310 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (1 / 300 - ط المنيرية) . وانظر الأذكار للنووي ص 22.
(2)
حديث: " كان إذا استيقظ قال: الحمد لله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 130 - ط السلفية) .
(3)
حديث: " إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 4 - ط دائرة المعارف العثمانية) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات (1 / 291 - ط المنيرية) .
الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَاّ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ:
20 -
التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال لَهُ وَلِفَاطِمَةَ رضي الله عنهما: إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ (2) وَفِي رِوَايَةٍ التَّسْبِيحُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. قَال عَلِيٌّ فَمَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَشْرَعُ فِي الْوُضُوءِ، وَلِمَنْ فَرَغَ مِنْهُ:
21 -
التَّحْمِيدُ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ. فَيَقُول الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَل
(1) حديث: (ما من عبد يقول عند رد الله روحه. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 4 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه ابن حجر كما في الفتوحات (1 / 292 - ط المنيرية) . وانظر الأذكار للنووي 21.
(2)
حديث: " إذا أويتما إلى فراشكما أو إذا أخذتما. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 119 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2091 - ط الحلبي) .
الْمَاءَ طَهُورًا. وَرُوِيَ عَنِ السَّلَفِ، وَقِيل عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَفْظِهَا: بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الإِْسْلَامِ. (1)
وَالتَّحْمِيدُ لِمَنْ فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ. فَيَقُول بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ. سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. وَقَال صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَال عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ وُضُوئِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ خُتِمَ عَلَيْهَا بِخَاتَمٍ فَوُضِعَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2)
التَّحْمِيدُ لِلْمَسْئُول عَنْ حَالِهِ:
22 -
وَالتَّحْمِيدُ لِلْمَسْئُول عَنْ حَالِهِ مُسْتَحَبٌّ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ
(1) حديث: " باسم الله العظيم. . . " أخرجه الديلمي في سند الفردوس كما في إتحاف السادة المتقين (2 / 353 - ط الميمنية) وإسناده ضعيف.
(2)
حديث: " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد. . . " أخرجه ابن السني (ص 9 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأورده الهيثمي بنحوه في المجمع (1 / 239 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.
رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَال النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ: كَيْف أَصْبَحَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَال: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَارِئًا. (1)
23 -
كَذَلِكَ التَّحْمِيدُ لِمَنْ رَأَى مُبْتَلًى بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ. (2) قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُول هَذَا الذِّكْرَ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَلَا يُسْمِعُهُ الْمُبْتَلَى لِئَلَاّ يَتَأَلَّمَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، إِلَاّ أَنْ تَكُونَ بَلِيَّتُهُ مَعْصِيَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْمِعَهُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً. (3)
- كَذَلِكَ التَّحْمِيدُ لِمَنْ دَخَل السُّوقَ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ دَخَل السُّوقَ فَقَال: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ،
(1) مقالة علي: (أصبح بحمد الله بارئا " أخرجها البخاري (الفتح 11 / 57 - ط السلفية) . وانظر الأذكار للنووي 269.
(2)
حديث: " من رأى مبتلى فقال:. . . " أخرجه الترمذي (5 / 493 - ط الحلبي) وهو حسن لطرقه. وانظر الأذكار للنووي 269.
(3)
الأذكار للنووي 269.
كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ. (1)
التَّحْمِيدُ لِمَنْ عَطَسَ فِي الصَّلَاةِ:
25 -
التَّحْمِيدُ لِمَنْ عَطَسَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ إِذَا جَهَرَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ إِنْ أَسَرَّ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ. (2) وَحَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ رضي الله عنه قَال: بَيْنَمَا أَنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ. فَقُلْتُ: وَاثُكْل أُمَّاهُ مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي، بِأَبِي وَأُمِّي هُوَ، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي صلى الله عليه وسلم وَلَا كَهَرَنِي ثُمَّ قَال: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الآْدَمِيِّينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. (3)
(1) حديث: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 491 - ط الحلبي) وصححه الحاكم. (الفتوحات لابن علان 6 / 193 - المنيرية) وانظر الأذكار للنووي 269.
(2)
مراقي الفلاح 283، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 349، 381.
(3)
حديث: " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من. . . " أخرجه مسلم (1 / 381 - ط الحلبي) . وانظر المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 94، 122. ومعنى كهرني: قهرني (المصباح) .
هَذَا وَيُكْرَهُ التَّحْمِيدُ لِمَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ فِي الْخَلَاءِ وَعَطَسَ، إِلَاّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهِ بِلِسَانِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَاّ عَلَى طُهْرٍ. (1)
(1) حديث: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " أخرجه أبو داود (1 / 23 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 167 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي. وانظر مراقي الفلاح 31، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 33، 283، وجواهر الإكليل 1 / 18، والشرح الكبير 1 / 106، والأذكار لنووي 28، 242.
تَحْنِيكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
مِنْ مَعَانِي التَّحْنِيكِ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُدَلِّكَ بِالتَّمْرِ حَنَكَ الصَّبِيِّ مِنْ دَاخِل فِيهِ، بَعْدَ أَنْ يَلِينَ. (1)
وَالتَّعْرِيفُ الاِصْطِلَاحِيُّ يَشْتَمِل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَعَلَى غَيْرِهِ، كَتَحْنِيكِ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ.
2 -
فَتَحْنِيكُ الْمَيِّتِ هُوَ: إِدَارَةُ الْخِرْقَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ وَتَحْتَ الذَّقَنِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْجَنَائِزُ) .
3 -
وَتَحْنِيكُ الْوُضُوءِ هُوَ: مَسْحُ مَا تَحْتَ الْحَنَكِ وَالذَّقَنِ فِي الْوُضُوءِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (الْوُضُوءِ) .
4 -
وَتَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ (وَيُسَمَّى التَّلَحِّي) هُوَ: إِدَارَةُ الْعِمَامَةِ مِنْ تَحْتِ الْحَنَكِ كَوْرًا أَوْ كَوْرَيْنِ. (2)
تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ:
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 -
التَّحْنِيكُ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَوْلُودِ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " حنك ".
(2)
كشاف القناع 1 / 119، 286.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ. (1)
6 -
وَيَتَوَلَّى تَحْنِيكَ الصَّبِيِّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ. (2)
وَأَوْرَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَمَرَ امْرَأَةً بِتَحْنِيكِهِ. (3)
7 -
وَيُحَنَّكُ الْمَوْلُودُ بِتَمْرٍ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَتْ: خَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ، فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَل فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّل شَيْءٍ دَخَل جَوْفَهُ رِيقُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ تَمْرٌ فَرُطَبٌ، وَإِلَاّ فَشَيْءٌ حُلْوٌ،
(1) حديث أبي موسى رضي الله عنه: " ولد لي غلام فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 - ط السلفية) . مسلم (3 / 1690 - ط الحلبي) .
(2)
حديث: " كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم " أخرجه مسلم (1 / 237 - ط الحلبي) .
(3)
تحفة الودود في أحكام المولود ص 19، وفتح الباري 9 / 588، 7 / 249، وقليوبي وعميرة 4 / 256، وروضة الطالبين 3 / 233 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 650، والحطاب 3 / 256، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 89.
وَعَسَل نَحْلٍ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِمَّا يُفْطِرُ الصَّائِمَ.
8 -
وَيُحَنَّكُ الْغُلَامُ غَدَاةَ يُولَدُ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقُيِّدَ بِالْغَدَاةِ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَالْغَدَاةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ هُنَا.
وَيَنْبَغِي عِنْدَ التَّحْنِيكِ أَنْ يَفْتَحَ الْمُحَنِّكُ فَمَ الصَّبِيِّ، حَتَّى تَنْزِل حَلَاوَةُ التَّمْرِ أَوْ نَحْوِهِ إِلَى جَوْفِهِ. (1)
التَّحْنِيكُ فِي الْعِمَامَةِ:
9 -
تَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ أَنْ يُدَارَ مِنْهَا تَحْتَ الْحَنَكِ كَوْرٌ أَوْ كَوْرَانِ، وَيُسَنُّ تَحْنِيكُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَصَّل الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ تَحْنِيكٍ وَلَا عَذَبَةٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ وُجِدَا فَهُوَ الأَْكْمَل وَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْكَرَاهَةِ، فَقِيل لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ.
وَلَا يُسَنُّ تَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَتُسَنُّ الْعَذَبَةُ لَا غَيْرُ. (2)
(1) فتح الباري 9 / 588، 7 / 249.
(2)
ابن عابدين 5 / 481، ومواهب الجليل 1 / 541، وحاشية الجمل 2 / 89، وكشاف القناع 1 / 119، 286.
تَحَوُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحَوُّل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَوَّل، وَمَعْنَاهُ: التَّنَقُّل مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا: الزَّوَال، كَمَا يُقَال: تَحَوَّل عَنِ الشَّيْءِ أَيْ: زَال عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ: التَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّل. وَالتَّحْوِيل مَصْدَرُ حَوَّل، وَهُوَ: النَّقْل، فَالتَّحَوُّل مُطَاوِعٌ وَأَثَرٌ لِلتَّحْوِيل. (1)
وَيَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّحَوُّل مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي اللُّغَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِحَالَةُ:
2 -
مِنْ مَعَانِي الاِسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمُ الإِْمْكَانِ. (2)
فَالاِسْتِحَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّحَوُّل،
(1) مختار الصحاح، والصحاح في اللغة والعلوم، ولسان العرب مادة:" حول ".
(2)
المصباح المنير مادة: " حول ".
كَاسْتِحَالَةِ الأَْعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحَوُّلِهَا عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَغَيُّرِ أَوْصَافِهَا، وَذَلِكَ بِالاِحْتِرَاقِ، أَوْ بِالتَّخْلِيل، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
أَحْكَامُ التَّحَوُّل:
لِلتَّحَوُّل أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهَا، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
أ -
تَحَوُّل الْعَيْنِ وَأَثَرُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحِل:
3 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، فَرَمَادُ النَّجِسِ لَا يَكُونُ نَجِسًا، وَلَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا مِلْحٌ كَانَ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَلَا نَجِسٌ وَقَعَ فِي بِئْرٍ فَصَارَ طِينًا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إِذَا صَارَتْ خَلًّا سَوَاءٌ بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْل إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، لاِنْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْتَفِي بِانْتِقَائِهَا. فَإِذَا صَارَ الْعَظْمُ وَاللَّحْمُ مِلْحًا أَخَذَا حُكْمَ الْمِلْحِ؛ لأَِنَّ الْمِلْحَ غَيْرُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْعَلَقَةُ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ إِلَى الْمُضْغَةِ تَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَإِذَا تَحَوَّل خَمْرًا يَنْجُسُ.
فَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ
زَوَال الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا. (1)
وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، فَالْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ يُلْقَى فِي الْمَلَاّحَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، وَالدُّخَانُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْ وُقُودِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ، ثُمَّ قَطَّرَ، نَجِسٌ. (2)
4 -
ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَتَطْهُرُ بِالتَّخَلُّل؛ لأَِنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ الإِْسْكَارُ وَقَدْ زَالَتْ، وَلأَِنَّ الْعَصِيرَ لَا يَتَخَلَّل إِلَاّ بَعْدَ التَّخَمُّرِ غَالِبًا، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِالطَّهَارَةِ تَعَذَّرَ الْحُصُول عَلَى الْخَل، وَهُوَ حَلَالٌ بِالإِْجْمَاعِ.
وَأَمَّا إِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا بِفِعْل إِنْسَانٍ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِإِلْقَاءِ الرِّيحِ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي التَّخْلِيل كَبَصَلٍ وَخُبْزٍ حَارٍّ، أَمْ لَا كَحَصَاةٍ.
وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُلْقَاةُ طَاهِرَةً أَوْ نَجِسَةً. (3) وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ أَكْثَرُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيلٌ وَاسْتِحَالَةٌ) .
(1) ابن عابدين 1 / 209، 217، والدسوقي 1 / 52 - 53، والإنصاف 1 / 318، والمغني 9 / 72.
(2)
نهاية المحتاج 1 / 247، ط مصطفى البابي الحلبي، والمغني 1 / 72 ط مكتبة الرياض الحديثة، وروضة الطالبين 1 / 28 ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
(3)
المراجع السابقة.
ب -
تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:
5 -
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدِّبَاغِ، (1) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَهُ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ النَّجَاسَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، (2) وَيُرَاجَعُ فِيهِ أَيْضًا مُصْطَلَحُ:(دِبَاغَةٌ) .
ج -
تَحَوُّل الْوَصْفِ أَوِ الْحَالَةِ:
تَحَوُّل الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي:
6 -
الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ الرَّاكِدَ إِذَا تَحَوَّل إِلَى جَارٍ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ جَرَيَانِهِ، وَالْجَارِي مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا (3) بِأَنْ يَدْخُل الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ وَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَال دُخُولِهِ، وَإِنْ قَل الْخَارِجُ، لأَِنَّهُ صَارَ جَارِيًا حَقِيقَةً، وَبِخُرُوجِ بَعْضِهِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَبْقَى مَعَ الشَّكِّ.
وَفِيهِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
الأَْوَّل: لَا يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ التَّحَوُّل، بَل لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَدْرِ مَا فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ.
(1) يسمى الجلد قبل الدباغ (إهابا) و (مسكا) .
(2)
ابن عابدين 1 / 135، 136 ط دار إحياء التراث الإسلامي بيروت، وحاشية الدسوقي 1 / 54، 55 ط دار الفكر، والمغني 1 / 66 وما بعدها.
(3)
الاختيار 1 / 15.
وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْل الْمُخْتَارِ وَالْقَوْلَيْنِ الآْخَرَيْنِ فِي: أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَوْضِ يَكُونُ طَاهِرًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الْمُخْتَارِ. وَلَا يَكُونُ طَاهِرًا قَبْل الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الآْخَرَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْبِئْرُ وَحَوْضُ الْحَمَّامِ وَالأَْوَانِي. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَتَحَوَّل الْمَاءُ الْكَثِيرُ النَّجِسُ طَهُورًا بِزَوَال التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَبِّ مَاءٍ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ مَاءٍ مُضَافٍ مُقَيَّدٍ انْتَفَتْ نَجَاسَتُهُ، أَمْ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ كَتُرَابٍ أَوْ طِينٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَحَدُ أَوْصَافِ مَا أُلْقِيَ فِيهِ. لأَِنَّ تَنَجُّسَهُ إِنَّمَا كَانَ لأَِجْل التَّغَيُّرِ وَقَدْ زَال، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَتْ خَلًّا، وَفِي تَغَيُّرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ قَوْلَانِ. (2)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ، لِحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (3) أَيْ لَا يَقْبَل النَّجِسَ.
هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَيَنْجُسُ
(1) ابن عابدين 1 / 130، 131.
(2)
حاشية الدسوقي 1 / 46، 47.
(3)
حديث: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " أخرجه أبو داود واللفظ له والترمذي والحاكم، ونسبه ابن حجر أيضا إلى الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي. قال المباركفوري بعد سرد طرق الحديث المختلفة: والحاصل أن الحديث صحيح قابل للاحتجاج، وكل ما اعتذروا به عن العمل والقول به فهو مدفوع. (سنن أبي داود 1 / 51 ط عزت عبيد دعاس، وتحفة الأحوذي 1 / 215 - 221 نشر المكتبة السلفية، والمستدرك 1 / 132، والتلخيص الحبير 1 / 16 نشر المكتبة الأثرية، ونيل الأوطار 1 / 37 ط دار الجيل، والسنن الكبرى للبيهقي 1 / 260) .
لِحَدِيثِ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَاّ مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ. (1)
فَإِنْ تَغَيَّرَ وَصْفٌ مِنْ هَذِهِ الأَْوْصَافِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ زَال تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَاءٍ انْضَمَّ إِلَيْهِ طَهُرَ. وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ. وَلَوْ كَوْثَرٌ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ. وَقِيل: هُوَ طَاهِرٌ لَا طَهُورٌ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَخْتَلِفُ تَطْهِيرُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمُكَاثَرَةِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ لِلْمَاءِ:
(1) حديث: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما. . . " أخرجه البيهقي بلفظ " إن الماء طاهر إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها " وقال: الحديث غير قوي، إلا أنا لا نعلم خلافا في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، قال في البدر المنير: إن الاستثناء المذكور ضعيف فتعين الاحتجاج على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة بالإجماع. أما شطر الحديث الأول: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " فقد أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وقد صححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل والحاكم وغيره. (السنن الكبرى للبيهقي 1 / 260 ط الهند، وتحفة الأحوذي 1 / 203 - 205 نشر المكتبة السلفية، ونيل الأوطار للشوكاني 1 / 34، 35 ط دار الجيل) .
(2)
المنهاج للنووي وشرحه للمحلي 1 / 21 و 22.
أَنْ يَكُونَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ زَائِدًا عَنْهُمَا.
(1)
فَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمَاءٍ آخَرَ.
فَإِنِ اجْتَمَعَ نَجِسٌ إِلَى نَجِسٍ، فَالْكُل نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، لأَِنَّ اجْتِمَاعَ النَّجِسِ إِلَى النَّجِسِ لَا يَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا طَاهِرٌ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَطْهُرَ إِذَا زَال التَّغَيُّرُ وَبَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، (1) لِحَدِيثِ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (2) وَحَدِيثِ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَاّ مَاءٌ غُيِّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. (3)
وَجَمِيعُ النَّجَاسَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِلَاّ بَوْل الآْدَمِيِّينَ وَعَذِرَتَهُمُ الْمَائِعَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، إِلَاّ أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ كَالْغُدْرَانِ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.
(2)
فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ:
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا أَزَالَتِ التَّغَيُّرَ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُول تَغَيُّرُهُ بِطُول الْمُكْثِ.
(1) الكافي 1 / 10 - 11 ط المكتب الإسلامي.
(2)
الحديث سبق تخريجه.
(3)
الحديث سبق تخريجه.
(3)
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.
وَإِنْ كَانَ نَجِسًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ إِمَّا بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ زَوَال تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُول بِهِ التَّغَيُّرُ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا. (1)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ) .
التَّحَوُّل إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْهَا:
7 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إِلَى عَيْنِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَنْ لَا يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ عُضْوًا، فَلَوْ تَحَوَّل بِغَيْرِ عُذْرٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. (2)
وَأَمَّا فِي تَحْوِيل الْوَجْهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْحَرَفَ وَجْهُهُ عَنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ انْحِرَافًا لَا تَزُول فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (3)
(1) المغني 1 / 35 و 36، والإنصاف 1 / 66، والكافي 1 / 11، 1 / 508، وروضة الطالبين 1 / 216، والمغني 1 / 439، وكشاف القناع 1 / 305.
(2)
ابن عابدين 1 / 287، وحاشية الدسوقي 1 / 223، والحطاب 1 / 508، وروضة الطالبين 1 / 216، والمغني 1 / 439، وكشاف القناع 1 / 305.
(3)
ابن عابدين 1 / 287، 288.
وَأَمَّا تَحْوِيل الصَّدْرِ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: مَنِ الْتَفَتَ بِجَسَدِهِ كُلِّهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، إِنْ بَقِيَتْ قَدَمَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. (2)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّحَوُّل إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَامِدًا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُل. (3) وَفِي الْمَوْضُوعِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ:(اسْتِقْبَالٌ) .
التَّحَوُّل مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ فِي الصَّلَاةِ:
8 -
التَّحَوُّل مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، وَمِنْهُ إِلَى الاِسْتِلْقَاءِ أَوِ الاِضْطِجَاعِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ:" الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ " وَالأَْصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5) ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبْل الصَّلَاةِ أَوْ أَثْنَاءَهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضٍ، أَوْ بُطْءَ بُرْئِهِ، أَوْ دَوَرَانَ رَأْسِهِ، أَوْ
(1) ابن عابدين 1 / 421، 432.
(2)
الحطاب 1 / 508، 509، وشرح الزرقاني 1 / 184 ط دار الفكر، وكشاف القناع 1 / 369، 370.
(3)
روضة الطالبين 1 / 212.
(4)
سورة البقرة / 185.
(5)
سورة الحج / 78.
وَجَدَ لِقِيَامِهِ أَلَمًا شَدِيدًا وَنَحْوَهُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (1) زَادَ النَّسَائِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا.
وَيُزَادُ فِي النَّافِلَةِ: أَنَّ لَهُ التَّحَوُّل مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ بِلَا عُذْرٍ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.
تَحَوُّل الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ
وَعَكْسُهُ:
أ - تَحَوُّل الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ:
9 -
يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ مَقَامِهِ، وَجَاوَزَ مَا اتَّصَل بِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، قَاصِدًا الْمَسَافَةَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا السَّفَرُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ نِيَّةُ الْمَتْبُوعِ لَا التَّابِعِ، حَتَّى تَصِيرَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِنِيَّةِ الْقَائِدِ، وَكُل مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ. (2)
ثَانِيهِمَا: إِذَا أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ الإِْقَامَةِ.
(1) حديث: " صل قائما. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 587 ط السلفية، وجامع الأصول 5 / 312 نشر مكتبة الحلواني) .
(2)
بدائع الصنائع 1 / 94 ط دار الكتاب العربي.
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ) . (1)
ب -
تَحَوُّل الْمُسَافِرِ إِلَى مُقِيمٍ:
10 -
يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِأَحَدِ الأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
الأَْوَّل: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ فِيهِ.
وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَ الْفُقَهَاءُ مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ. (2)
الثَّانِي: الْوُصُول إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَزَمَ عَلَى الإِْقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، وَكَانَ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ. وَالْمُدَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ التَّرَخُّصِ خِلَافِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ) .
الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ بِبَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، وَلَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ.
الرَّابِعُ: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ فِي الطَّرِيقِ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ، وَنِيَّةُ مُدَّةِ الإِْقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلإِْقَامَةِ.
وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ
(1) ابن عابدين 1 / 525، 526، وبدائع الصنائع 1 / 94، والاختيار لتعليل المختار 1 / 79، 80 ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 89، 90، وروضة الطالبين 1 / 380، وما بعدها و 386، والمغني 2 / 258 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 503، 506 وما بعدها.
(2)
ابن عابدين 1 / 528، والقوانين الفقهية / 90، وروضة الطالبين 1 / 383 والمغني 2 / 260، والشرح الصغير 1 / 481.
الإِْقَامَةِ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ) .
الْخَامِسُ: الإِْقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الأَْصْل مُقِيمًا، فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا، بِإِقَامَةِ الأَْصْل. (2)
التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل:
الْكَلَامُ عَلَى التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
أ -
الزَّكَاةُ:
11 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الزَّكَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . (3)
نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِ (صَدَقَةً) وَكُل جِنْسٍ يَأْخُذُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ.
وَلِقَوْل مُعَاذٍ لأَِهْل الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمُ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ
(1) ابن عابدين 1 / 528، والشرح الصغير 1 / 481، وروضة الطالبين 1 / 383، 384، والمغني 2 / 288.
(2)
بدائع الصنائع 1 / 101، وروضة الطالبين 1 / 384.
(3)
سورة التوبة / 103.
وَخَيْرٌ لأَِصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، (1) وَكَانَ يَأْتِي بِهِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَال الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَدَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهُوَ يَحْصُل بِالْقِيمَةِ أَيْضًا. قَال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ قُوتَ الْفُقَرَاءِ، وَسَمَّاهُ زَكَاةً. (2)
وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ هَل تُدْفَعُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الأَْدَاءِ
(1) قول معاذ: " ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 311 ط السلفية) . و " خميص " بالصاد كذا ذكره البخاري فيما قاله عياض وابن قرقول. وقال الداودي والجوهري وغيرهما: ثوب خميس (بالسين) ويقال أيضا: خموس. وهو الثوب الذي طوله أذرع يعني الصغير من الثياب. (عمدة القاري 9 / 4 ط المنيرة، وفتح الباري 3 / 311، 314 ط السلفية، والنهاية لابن الأثير مادة:" خمس ".
(2)
حديث: " إن الله تعالى فرض على الأغنياء. . . . " أورده صاحب الاختيار بهذا اللفظ ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار، إلا أنه يدل عليه ما أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير بلفظ " إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاءوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما " قال الطبراني: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، وقال الحافظ المنذري: وثابت ثقة صدوق، روى عنه البخاري وغيره وبقية رواته لا بأس بهم، وروي موقوفا عن علي رضي الله عنه، وهو أشبه. (الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 107 ط مطبعة السعادة بمصر) .
أَمْ يَوْمَ الْوُجُوبِ؟ خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوْطِنِهِ. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: فَيَجُوزُ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، فَيَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا، وَيُخْرِجَ عَنِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا بِقِيمَتِهِ، قَلَّتِ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لأَِنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَكَانَتْ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، (2) وَهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ. (3)
وَأَمَّا فِي الْمَوَاشِي: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَائِزٌ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ بِجَوَازِ الْقِيمَةِ فِي كُل شَيْءٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِئَلَاّ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَقَل مِمَّا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ الْفُقَرَاءَ حَقَّهُمْ، إِلَاّ إِذَا أَجْبَرَ السَّاعِي الْمُزَكِّيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَتِهِ، فَيُجْزِئُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَحَلِّهَا. (4)
(1) ابن عابدين 2 / 22، والاختيار لتعليل المختار 1 / 102، 103.
(2)
الحطاب 2 / 355، والمدونة 1 / 243، وكشاف القناع 2 / 217، ونيل المآرب 1 / 250.
(3)
السراج الوهاج على متن المنهاج 124 ط الحلبي، والقليوبي 2 / 22.
(4)
الحطاب 2 / 360، والمدونة 1 / 308.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُجْزِئُ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الإِْبِل مِرَاضًا، أَوْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ لِعَيْبٍ أَجْزَأَ الْبَعِيرُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِحَاحًا سَلِيمَةً لَمْ يُجْزِئِ النَّاقِصُ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الزَّكَاةُ) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَوُّل فِي الْمَاشِيَةِ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ وَلَا إِلَى الْقِيمَةِ. .
ب -
زَكَاةُ الْفِطْرِ:
12 -
التَّحَوُّل عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا التَّحَوُّل مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَجْنَاسِ الأَْقْوَاتِ، أَوِ التَّحَوُّل مِنَ الأَْدْنَى إِلَى الأَْعْلَى وَعَكْسُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
ج -
الْعُشُورُ:
13 -
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
(1) ابن عابدين 2 / 22، والاختيار 1 / 102 - 103، وروضة الطالبين 2 / 303، والمغني 3 / 62، 65 وكشاف القناع 2 / 252، 254، والمدونة 1 / 358، والحطاب 2 / 368، ونيل المآرب 1 / 258، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 37.
التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الْعُشُورِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَل فِي الْعُشُورِ، وَذَلِكَ لِلأَْدِلَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّحَوُّل مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الأَْعْلَى فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ نَوْعًا وَاحِدًا.
وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الأَْنْوَاعُ: أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ كُل نَوْعٍ بِالْحِصَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَسَّرْ، فَإِنْ عَسُرَ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُل نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ، وَقَل ثَمَرُهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَسَطِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ. (2)
وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ.
وَالثَّالِثُ: مِنَ الْغَالِبِ، وَقِيل: يُؤْخَذُ الْوَسَطُ قَطْعًا. (3)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ) .
د -
الْكَفَّارَاتُ:
14 -
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي
(1) الحطاب 2 / 360، والمدونة 1 / 308، وكشاف القناع 2 / 7، والمغني 2 / 578.
(2)
متن المنهاج المطبوع مع السراج الوهاج 5 / 122، وروضة الطالبين 2 / 247.
(3)
روضة الطالبين 2 / 247.
الْكَفَّارَاتِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا تَخَيَّرَ فِي الْخِصَال الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّارِعُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ التَّحَوُّل عَنِ الْوَاجِبِ إِنْ كَانَ مَالِيًّا إِلَى الْبَدَل فِي الْكَفَّارَاتِ. وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَاتٌ) . (1)
هـ -
النُّذُورُ:
15 -
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُعَيَّنًا وَغَيْرَ مُطْلَقٍ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِمَّا عَيَّنَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُول عَنِ الْمُعَيَّنِ إِلَى غَيْرِهِ بَدَلاً أَوْ قِيمَةً. وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (النَّذْرُ) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْعُدُول عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي النُّذُورِ، وَاسْتَثْنَوْا نَذْرَ الْعِتْقِ وَالْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَّةِ. (2)
تَحَوُّل فَرِيضَةِ الصَّوْمِ إِلَى فِدْيَةٍ:
16 -
اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ
(1) المدونة 1 / 345 و 2 / 111، وابن عابدين 2 / 22، والاختيار لتعليل المختار 1 / 102، 103، والمغني 8 / 738، وروضة الطالبين 8 / 298، 307، وكشاف القناع 1 / 214، 217، ونيل المآرب 1 / 258.
(2)
ابن عابدين 2 / 222، والاختيار لتعليل المختار 1 / 102 - 103، والمدونة 1 / 358 و 2 / 111، والقوانين الفقهية / 175، وروضة الطالبين 2 / 247، و3 / 328، والمغني 9 / 18.
الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ لَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ غَيْرُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ
، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ:(صَوْمٌ وَفِدْيَةٌ) . .
تَحَوُّل الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَل شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ:
17 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتَحَوَّل إِلَى بَيْعٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَالشُّفْعَةُ، وَيَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُل الْعَقْدُ، لأَِنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بَيْعٌ ابْتِدَاءً، وَلِذَا لَا تَبْطُل بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْل حِيَازَةِ الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَابَ عَنِ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوِ الْعَكْسُ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ، مَا لَمْ يَحْدُثِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَفِي كَوْنِ الْعِوَضِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ:(هِبَةٌ) . (1)
وَلِتَحَوُّل الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَل شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى مِنْهَا: تَحَوُّل الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى وَكَالَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ، وَلِذَلِكَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْوَكِيل. (2)
وَإِلَى شَرِكَةٍ إِنْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ، وَإِلَى إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ إِنْ فَسَدَتْ. (3)
وَمِنْهَا: تَحَوُّل السَّلَمِ إِلَى بَيْعٍ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَيْنًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَإِلَى هِبَةٍ
(1) ابن عابدين 4 / 519، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 / 357، 358 ط مكتبة الكليات الأزهرية، وروضة الطالبين 5 / 386، والمغني 5 / 685، والفواكه الدواني 2 / 222.
(2)
بدائع الصنائع 6 / 87، 92، والاختيار لتعليل المختار 3 / 19.
(3)
ابن عابدين 4 / 484، والاختيار لتعليل المختار 3 / 20، والشرح الصغير 3 / 681، وروضة الطالبين 5 / 141، والمغني 5 / 63، 64.
لَوْ قَال: بِعْتُ بِلَا ثَمَنٍ، وَالأَْظْهَرُ الْبُطْلَانُ. (1)
وَمِنْهَا: تَحَوُّل الاِسْتِصْنَاعِ سَلَمًا إِذَا ضُرِبَ فِيهِ الأَْجَل عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ. (2)
وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (عَقْدٌ، وَسَلَمٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَشَرِكَةٌ، وَاسْتِصْنَاعٌ) .
تَحَوُّل الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إِلَى نَافِذٍ:
18 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَصْبَحَ نَافِذًا، وَإِلَاّ فَلَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. (3)
وَقَدْ فَصَّل الْقَائِلُونَ بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ الْكَلَامَ حَوْلَهُ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ:(عَقْدٌ، وَمَوْقُوفٌ، وَفُضُولِيٌّ) .
(1) روضة الطالبين 4 / 6، والوجيز 1 / 154.
(2)
ابن عابدين 4 / 212.
(3)
ابن عابدين 4 / 135 وما بعدها، والشرح الصغير 3 / 26، والقوانين الفقهية / 250، وروضة الطالبين 3 / 353، والمغني 4 / 227.
تَحَوُّل الدَّيْنِ الآْجِل إِلَى حَالٍّ:
يَتَحَوَّل الدَّيْنُ الآْجِل إِلَى حَالٍّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
أ -
الْمَوْتُ:
19 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الآْجِل يَتَحَوَّل بِالْمَوْتِ إِلَى حَالٍّ، لاِنْعِدَامِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ وَتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ. وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِل إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا. (1)
وَفِي لِحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ هَل يَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ، وَتَثْبُتُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، (2) وَمُصْطَلَحِ:(رِدَّةٌ) . وَمُصْطَلَحِ أَجَلٌ (ف: 95 ج 2) .
ب -
التَّفْلِيسُ:
20 -
الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحَجْرِ لِلإِْفْلَاسِ، وَهُوَ
(1) ابن عابدين 5 / 483، والشرح الصغير 3 / 353، 354، والقوانين الفقهية / 323، والقليوبي 2 / 285، وروضة الطالبين 4 / 128، والمغني 4 / 481، 482.
(2)
ابن عابدين 3 / 300، والقليوبي 2 / 285، وجواهر الإكليل 2 / 279، 280، والمغني 8 / 129، 130.
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل لَا يَحِل بِالتَّفْلِيسِ، لأَِنَّ الأَْجَل حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلأَِنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُول مَا لَهُ، فَلَا يُوجِبُ حُلُول مَا عَلَيْهِ. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا، لأَِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِل الْبَالِغِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ إِلَى: أَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لإِِفْلَاسِهِ يَتَحَوَّل دَيْنُهُ الآْجِل إِلَى حَالٍّ، لأَِنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَال، فَيَسْقُطُ الأَْجَل كَالْمَوْتِ. (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:(حَجْرٌ) .
تَحَوُّل الْوَقْفِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ:
21 -
ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ: مَا كَانَ مَعْلُومَ الاِبْتِدَاءِ وَالاِنْتِهَاءِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ،
(1) ابن عابدين 5 / 92، والشرح الصغير 3 / 353، 354، والقوانين الفقهية / 323، والقليوبي 2 / 285، وروضة الطالبين 4 / 128، والمغني 4 / 481.
(2)
ابن عابدين 5 / 92.
(3)
الشرح الصغير 3 / 353، 354، والقوانين الفقهية / 323، والقليوبي 2 / 285، وروضة الطالبين 4 / 128، والمغني 4 / 481.
مِثْل أَنْ يَجْعَل نِهَايَتَهُ إِلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ، كَأَنْ يَجْعَل آخِرَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ:
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلَاّ أَنْ يَقُول: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ، وَعَلَى فُلَانٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. (2)
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ. وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصْرِفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَقْفِ. (3)
وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
(1) ابن عابدين 3 / 364، 365، والاختيار لتعليل المختار 3 / 42، والشرح الصغير 4 / 121 وما بعدها، والمغني 5 / 619، 623، 626، وروضة الطالبين 5 / 325، 326، 328.
(2)
ابن عابدين 3 / 364، 365، والاختيار لتعليل المختار 3 / 42.
(3)
الشرح الصغير 4 / 121 وما بعدها، والمغني 5 / 623، وروضة الطالبين 5 / 326.
تَحَوُّل الْمِلْكِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الإِْبَاحَةِ إِلَى الْمِلْكِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَعَكْسُهُ:
22 -
قَدْ تَتَحَوَّل الْمِلْكِيَّةُ مِنَ الْعَامَّةِ إِلَى الْخَاصَّةِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، كَالإِْقْطَاعِ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال.
فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الأَْرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، كَمَا يُعْطِي الْمَال حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْمَال فِي الدَّفْعِ لِلْمُسْتَحِقِّ. (1) وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ:(إِقْطَاعٌ) .
وَيَتَحَوَّل الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى الْعَامِّ إِذَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثُهُ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَيَنْتَقِل إِلَى بَيْتِ الْمَال مِيرَاثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. (2)
وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى بَيْتِ الْمَال مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْمِيرَاثِ. (3)
وَيَتَحَوَّل الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى عَامٍّ، فِي نَحْوِ الْبَيْتِ الْمَمْلُوكِ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ تَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ.
(1) ابن عابدين 5 / 265، 277، والشرح الصغير 4 / 87، 90، والقوانين الفقهية / 343، 344، والقليوبي 4 / 87 ط دار إحياء الكتب العربية، والمغني 5 / 563.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي / 171.
(3)
الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 205.
تَحَوُّل الْوِلَايَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
23 -
تَتَحَوَّل الْوِلَايَةُ مِنَ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ إِلَى الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
- إِذَا فُقِدَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُسِرَ أَوْ حُبِسَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تَتَحَوَّل مِنَ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ إِلَى الأَْبْعَدِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ تَنْتَقِل إِلَى الْحَاكِمِ.
- وَمِنْهَا غَيْبَةُ الْوَلِيِّ، فَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً تَنْتَقِل الْوِلَايَةُ مِنَ الأَْقْرَبِ إِلَى الأَْبْعَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَنْتَقِل إِلَى الْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ وَلِيُّ الْغَائِبِ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَاّ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَتَنْتَقِل عِنْدَهُمْ إِلَى الأَْبْعَدِ.
وَمِنْهَا: الْعَضْل، وَهُوَ: مَنْعُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ زَوَاجِ الْكُفْءِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الأَْقْرَبَ إِذَا عَضَلَهَا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه. وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشُرَيْحٍ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى الأَْبْعَدِ. (1) وَانْظُرْ
(1) ابن عابدين 2 / 315، 316، والاختيار لتعليل المختار 3 / 96 ط دار المعرفة، والشرح الصغير 1 / 365 ط دار المعارف بمصر، والقوانين الفقهية / 205، وروضة الطالبين 7 / 58، 68، 69، وكشاف القناع 5 / 54، 55، والمغني 6 / 476.
لِتَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ مُصْطَلَحَ: (وِلَايَةُ النِّكَاحِ) .
تَحَوُّل حَقِّ الْحَضَانَةِ:
24 -
الأَْصْل فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الأُْمَّ أَوْلَى النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْل إِذَا كَمُلَتِ الشُّرُوطُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي. (1)
فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الأُْمُّ مِنْ أَهْل الْحَضَانَةِ لِفِقْدَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ فِيهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوِ امْتَنَعَتْ مِنَ الْحَضَانَةِ، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَتَنْتَقِل الْحَضَانَةُ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، وَهَكَذَا تَتَحَوَّل مِنَ الأَْقْرَبِ إِلَى الأَْبْعَدِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ. (2) عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:(حَضَانَةٌ) .
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء. . . " أخرجه أبو داود، وسكت عنه ابن حجر والمنذري، وصححه الحاكم وأقره الذهبي وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. (عون المعبود 2 / 251 ط الهند، والتلخيص الحبير 4 / 10، 11، والمستدرك 2 / 207، ونيل الأوطار 7 / 138، 139 ط دار الجيل، وشرح السنة للبغوي 9 / 333) .
(2)
ابن عابدين 2 / 643، 638، والاختيار لتعليل المختار 4 / 14، 15 والقوانين الفقهية / 229 وروضة الطالبين 9 / 98، والمغني 7 / 613، وكشاف القناع 5 / 499.
تَحَوُّل الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:
25 -
إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَيْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، بِلَا خِلَافٍ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.
وَإِذَا مَاتَ مُطَلِّقُ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ فِي حَال صِحَّتِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا بِطَلَبِهَا، بَنَتْ عَلَى مُدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ. أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا، فَهَذِهِ خِلَافِيَّةٌ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ إِرْثِهَا مِنْهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ لاِنْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُل وَجْهٍ. (1)
(1) فتح القدير 4 / 142، 143 ط دار إحياء التراث العربي، وابن عابدين 2 / 605، والقوانين / 242، والحطاب 4 / 150، 152 ط دار الفكر، وروضة الطالبين 8 / 399، والمغني 7 / 472.
تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ
وَعَكْسُهُ:
أ - تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ:
26 -
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، فَحَاضَتْ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَنَّ عِدَّتَهَا تَتَحَوَّل مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل، قَبْل حُصُول الْمَقْصُودِ بِالْبَدَل تُبْطِل حُكْمَ الْبَدَل كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ، فَيَبْطُل حُكْمُ الأَْشْهُرِ، وَتَنْتَقِل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْقْرَاءِ. (1)
وَكَذَا الآْيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْقْرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوا فِيهَا لِلإِْيَاسِ سِنًّا مُعَيَّنَةً.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْل السَّبْعِينَ - وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْل السِّتِّينَ - يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ.
(1) ابن عابدين 2 / 606، وبدائع الصنائع 3 / 200 ط دار الكتاب العربي، والقوانين الفقهية / 241، وروضة الطالبين 8 / 370، والمغني لابن قدامة 7 / 467، 468.
(2)
بدائع الصنائع 3 / 200، وفتح القدير 4 / 145، وروضة الطالبين 8 / 372، والسراج الوهاج / 449.
إِلَاّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَال: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا، فَهُوَ حَيْضٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلإِْيَاسِ فِيهَا وَقْتًا: إِلَى أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ بَعْدَهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إِلَاّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ، حَتَّى يَبْطُل بِهِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ. (1) وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيْ:(إِيَاسٌ، وَعِدَّةٌ) .
27 -
وَأَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الدَّمَ، وَقَبْل أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ - وَهِيَ الْمُرْتَابَةُ - فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَلَا عِبْرَةَ بِطُول مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ؛ لأَِنَّ الاِعْتِدَادَ بِالأَْشْهُرِ جُعِل بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ قَبْلَهُ.
أَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ. وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الأَْغْلَبَ فِي مُدَّةِ الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ،
(1) البدائع 3 / 200، ابن عابدين 2 / 606، والزرقاني 4 / 204، والمغني 7 / 461، 465، 466.
فَإِذَا مَضَتْ تَبَيَّنَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. (1)
تَحَوُّل الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إِلَى خَرَاجِيَّةٍ وَالْعَكْسُ:
28 -
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ لَا تَصِيرُ عُشْرِيَّةً أَصْلاً، وَكَذَلِكَ لَا تَتَحَوَّل الأَْرْضُ الْعُشْرِيَّةُ إِلَى خَرَاجِيَّةٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ تَتَحَوَّل إِلَى خَرَاجِيَّةٍ إِذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ. (2)
وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لأَِبِي يُوسُفَ: لِلإِْمَامِ أَنْ يُصَيِّرَ الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ خَرَاجِيَّةً، وَالْخَرَاجِيَّةَ عُشْرِيَّةً، إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ، فَإِنَّ هُنَالِكَ لَا يَقَعُ خَرَاجٌ، فَلَا
(1) ابن عابدين 2 / 606، وبدائع الصنائع 3 / 200، والقوانين الفقهية / 241، وروضة الطالبين 8 / 371، والمغني لابن قدامة 7 / 463 - 467، ومتن المنهاج المطبوع مع السراج الوهاج ص 449.
(2)
ابن عابدين 3 / 262، والاختيار لتعليل المختار 1 / 114، 115 ط دار المعرفة، والشرح الصغير 1 / 608 وما بعدها، والأحكام السلطانية للماوردي / 135 ط مطبعة السعادة، والمغني 2 / 729، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 154.
يَحِل لِلإِْمَامِ أَنْ يُغَيِّرَ ذَلِكَ، وَلَا يُحَوِّلَهُ عَمَّا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمُهُ. (1) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ:(أَرْضٌ، وَعُشْرٌ، وَخَرَاجٌ) .
تَحَوُّل الْمُسْتَأْمَنِ إِلَى ذِمِّيٍّ:
29 -
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الإِْقَامَةِ سَنَةً فِي دَارِ الإِْسْلَامِ، فَإِذَا أَقَامَ فِيهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا.
وَظَاهِرُ الْمُتُونِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ قَوْل الإِْمَامِ: إِنْ أَقَمْتَ سَنَةً أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ وَضَعْنَا عَلَيْكَ الْجِزْيَةَ، شَرْطٌ لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ سَنَةً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُول الإِْمَامُ لَهُ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا.
وَكَذَلِكَ يَتَحَوَّل الْمُسْتَأْمَنُ إِلَى ذِمِّيٍّ بِالتَّبَعِيَّةِ: كَمَا لَوْ دَخَل مَعَ امْرَأَتِهِ، وَمَعَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَصَارَ ذِمِّيًّا، فَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ بِخِلَافِ الْكِبَارِ. (2)
وَتَتَرَتَّبُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُسْتَأْمَنِ ذِمِّيًّا أَحْكَامٌ
(1) هامش الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 154 ط مصطفى البابي الحلبي، وكتاب الخارج لأبي يوسف / 65 ط مطبعة بولاق.
(2)
ابن عابدين 3 / 249، والأحكام السلطانية للماوردي / 146 والمغني 8 / 400، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 145.
عِدَّةٌ، يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحَيْ:(أَهْل الذِّمَّةِ، وَمُسْتَأْمَنٌ) .
تَحَوُّل الْمُسْتَأْمَنِ إِلَى حَرْبِيٍّ:
30 -
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَصِيرُ حَرْبِيًّا بِأُمُورٍ:
- إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ بِغَيْرِ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الإِْقَامَةِ، فَإِنْ دَخَل تَاجِرًا أَوْ رَسُولاً أَوْ مُتَنَزِّهًا، أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى دَارِ الإِْسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. (1)
- وَإِذَا نَقَضَ الأَْمَانَ: كَأَنْ يُقَاتِل عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ لأَِجْل حَرْبِنَا، أَوْ يُقْدِمَ عَلَى عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِمُقْتَضَى الأَْمَانِ، (2) انْتُقِضَ عَهْدُهُ وَصَارَ حَرْبِيًّا.
وَفِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ الأَْمَانُ وَالْعَهْدُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَهْل الْحَرْبِ وَمُسْتَأْمَنٌ) .
تَحَوُّل الذِّمِّيِّ إِلَى حَرْبِيٍّ:
31 -
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ يَتَحَوَّل إِلَى حَرْبِيٍّ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُخْتَارًا طَائِعًا
(1) ابن عابدين 3 / 250، 251، والمغني 8 / 400.
(2)
ابن عابدين 3 / 251، 252، والشرح الصغير 1 / 317، وجواهر الإكليل 1 / 269، ومغني المحتاج 4 / 258، 262، والمغني 8 / 400، و458 وما بعدها.
وَالإِْقَامَةِ فِيهَا، أَوْ بِنَقْضِ عَهْدِ ذِمَّتِهِ، فَيَحِل دَمُهُ وَمَالُهُ. وَفِي مُحَارَبَتِهِ جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا - بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِ - خِلَافٌ بَيْنَهُمْ، وَكَذَلِكَ فِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ تَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ:(أَهْل الْحَرْبِ، وَأَهْل الذِّمَّةِ) .
تَحَوُّل الْحَرْبِيِّ إِلَى مُسْتَأْمَنٍ:
32 -
يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا بِالْحُصُول عَلَى أَمَانٍ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ إِعْطَاءِ الأَْمَانِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ذُكِرَ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَيْ:(أَمَانٌ، وَمُسْتَأْمَنٌ) .
تَحَوُّل دَارِ الإِْسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَعَكْسُهُ:
33 -
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى ارْتَدَّ أَهْل بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَتِ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ، وَعَلَى الإِْمَامِ قِتَالُهُمْ بَعْدَ الإِْنْذَارِ وَالإِْعْذَارِ، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَاتَل أَهْل الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ. (2)
34 -
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ دَارَ الإِْسْلَامِ لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ إِلَاّ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
أ - أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَحْكَامُ أَهْل الشِّرْكِ عَلَى
(1) ابن عابدين 3 / 310، والشرح الصغير 1 / 316، 317، وجواهر الإكليل 1 / 269، والمغني 8 / 458، ومغني المحتاج 4 / 258، 262.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي / 45، 46، والمغني 8 / 138.
الاِشْتِهَارِ، وَأَنْ لَا يُحْكَمَ فِيهَا بِحُكْمِ أَهْل الإِْسْلَامِ، أَمَّا لَوْ أُجْرِيَتْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْكَامُ أَهْل الشِّرْكِ، فَلَا تَكُونُ دَارَ حَرْبٍ.
ب - أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً (أَيْ مُجَاوِرَةً) لِدَارِ الْحَرْبِ، بِأَنْ لَا تَتَخَلَّل بَيْنَهُمَا بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ الإِْسْلَامِ.
ج - أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالأَْمَانِ الأَْوَّل الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْل اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، لِلْمُسْلِمِ بِإِسْلَامِهِ، وَلِلذِّمِّيِّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَيَقُولَانِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ لَا غَيْرُ، وَهُوَ: إِظْهَارُ حُكْمِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. (1)
وَتَتَرَتَّبُ عَلَى دَارِ الرِّدَّةِ أَحْكَامٌ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا، وَفِي مُصْطَلَحِ:(رِدَّةٌ) .
35 -
وَتَتَحَوَّل دَارُ الْحَرْبِ إِلَى إِسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ أَهْل الإِْسْلَامِ فِيهَا كَجُمُعَةٍ وَعِيدٍ، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِل بِدَارِ الإِْسْلَامِ. (2)
التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ إِلَى آخَرَ:
36 -
التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ إِلَى آخَرَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى
(1) ابن عابدين 3 / 253.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي / 46، وابن عابدين 3 / 253.
دِينٍ بَاطِلٍ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، كَتَهَوُّدِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى مَا لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، كَانْتِقَال يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، كَتَهَوُّدِ وَثَنِيٍّ أَوْ تَنَصُّرِهِ. فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ هَل يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَل إِلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ أَمْ لَا؟ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَيْ:(تَبْدِيلٌ، وَرِدَّةٌ) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّحَوُّل مِنْ دِينِ الإِْسْلَامِ إِلَى بَاطِلٍ، وَهُوَ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - فَلَا يُقْبَل مِنْهُ إِلَاّ الإِْسْلَامُ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:(رِدَّةٌ) .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: التَّحَوُّل مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى الإِْسْلَامِ، فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، (1) وَفِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ، وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحَيْ:(تَبْدِيلٌ، وَإِسْلَامٌ) .
(1) ابن عابدين 2 / 366، وروضة الطالبين 7 / 132.
تَحْوِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحْوِيل لُغَةً: مَصْدَرُ حَوَّل الشَّيْءَ، وَتَدُورُ مَعَانِيهِ عَلَى
النَّقْل
وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيل. (وَحَوَّلْتُهُ) تَحْوِيلاً: نَقَلْتَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَحَوَّلْتُ الرِّدَاءَ: نَقَلْتُ كُل طَرَفٍ إِلَى مَوْضِعِ الآْخَرِ.
(وَالْحَوَالَةُ) بِالْفَتْحِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّقْل، فَتَقُول: أَحَلْتُهُ بِدَيْنِهِ أَيْ: نَقَلْتَهُ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّقْل:
2 -
النَّقْل: تَحْوِيل الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَالأَْصْل فِيهِ النَّقْل مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الأُْمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالنَّقْل مِنْ
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة:" حول ".
صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَكَنَقْل اللَّفْظِ مِنَ الاِسْتِعْمَال الْحَقِيقِيِّ إِلَى الاِسْتِعْمَال الْمَجَازِيِّ. (1)
ب -
التَّبْدِيل وَالإِْبْدَال وَالتَّغْيِيرُ:
3 -
وَهِيَ أَنْ يُجْعَل مَكَانَ الشَّيْءِ شَيْءٌ آخَرُ، أَوْ تُحَوَّل صِفَتُهُ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، إِلَاّ أَنَّ التَّحْوِيل لَا يُسْتَعْمَل فِي تَبْدِيل ذَاتٍ بِذَاتٍ أُخْرَى. (2)
أَحْكَامُ التَّحْوِيل:
أ -
تَحْوِيل النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:
4 -
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي وُقُوعِهِ عِبَادَةً.
فَمِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِذَا حَوَّل النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ إِلَى نِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنَظُّفِ، فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي إِفْسَادِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ النِّيَّةَ فَرْضًا. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ التَّحْوِيل فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْوُضُوءِ عِبَادَةً، وَفِي هَذَا
(1) المصباح المنير مادة: " نقل "، والفروق ص 139.
(2)
المصباح المنير، ومختار الصحاح، والفروق ص 233، 309، والكليات 2 / 71، والتعريفات ص 63.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّلَاةُ تَصِحُّ عِنْدَنَا بِالْوُضُوءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْوِيًّا، وَإِنَّمَا تُسَنُّ النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ لِيَكُونَ عِبَادَةً، فَإِنَّهُ بِدُونِهَا لَا يُسَمَّى عِبَادَةً مَأْمُورًا بِهَا. . وَإِنْ صَحَّتْ بِهِ الصَّلَاةُ.
فَالْوُضُوءُ مَعَ النِّيَّةِ أَوْ بِدُونِهَا أَوْ مَعَ تَحْوِيلِهَا صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ عِبَادَةً بِدُونِ النِّيَّةِ أَوْ مَعَ تَحْوِيلِهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَيَظْهَرُ أَثَرُ تَحْوِيل النِّيَّةِ عِنْدَهُمْ فِي إِفْسَادِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. (1) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ لَا يَضُرُّ، إِذَا رَجَعَ وَكَمَّلَهُ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى عَلَى الْفَوْرِ، بِأَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ - عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - أَمَّا إِذَا لَمْ يُكَمِّلْهُ أَوْ كَمَّلَهُ بِنِيَّةٍ أُخْرَى كَنِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنْظِيفِ، فَإِنَّهُ يَبْطُل بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْمَلَهُ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى، وَلَكِنْ بَعْدَ طُول فَصْلٍ، فَإِنَّهُ يَبْطُل. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ نَوَى نِيَّةً صَحِيحَةً ثُمَّ نَوَى بِغَسْل الرِّجْل - مَثَلاً - التَّبَرُّدَ أَوِ التَّنَظُّفَ فَلَهُ حَالَانِ:
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 106، 107، وفتح القدير 1 / 28، وروضة الطالبين 1 / 47، وحاشية الدسوقي 1 / 93، 95، والحطاب 1 / 240، والإنصاف 1 / 142.
(2)
الدسوقي 1 / 95، والحطاب 1 / 240.
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ لَا تَحْضُرَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ فِي حَال غَسْل الرِّجْل، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ غَسْل الرِّجْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ لِبَقَاءِ حُكْمِ النِّيَّةِ الأُْولَى.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ مَعَ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ - كَمَا لَوْ نَوَى أَوَّل الطَّهَارَةِ الْوُضُوءَ مَعَ التَّبَرُّدِ - فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْوُضُوءَ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ حَاصِلَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِتَشْرِيكِهِ بَيْنَ قُرْبَةٍ وَغَيْرِهَا. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنَّ مَنْ غَسَل بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَغَسَل بَعْضَهَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ، فَلَا يَصِحُّ إِلَاّ إِذَا أَعَادَ فِعْل مَا نَوَى بِهِ التَّبَرُّدَ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفْصِل فَصْلاً طَوِيلاً فَيَكُونُ وُضُوءُهُ صَحِيحًا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ مَعَ الْمُوَالَاةِ.
فَإِنْ طَال الْفَصْل بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمُوَالَاةُ بَطَل الْوُضُوءُ لِفَوَاتِهَا (2) .
(1) المجموع 1 / 327، 328، ونهاية المحتاج 1 / 147.
(2)
كشاف القناع 1 / 87، ومطالب أولي النهى 1 / 107.
ب -
تَحْوِيل النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ:
5 -
لِلْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ تَحْوِيل النِّيَّةِ تَفْصِيلٌ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُل بِنِيَّةِ الاِنْتِقَال إِلَى غَيْرِهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ، بَل تَبْقَى كَمَا نَوَاهَا قَبْل التَّغْيِيرِ، مَا لَمْ يُكَبِّرْ بِنِيَّةٍ مُغَايِرَةٍ، بِأَنْ يُكَبِّرَ نَاوِيًا النَّفْل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْفَرْضِ أَوْ عَكْسُهُ، أَوِ الاِقْتِدَاءَ بَعْدَ الاِنْفِرَادِ وَعَكْسُهُ، أَوِ الْفَائِتَةَ بَعْدَ الْوَقْتِيَّةِ وَعَكْسُهُ.
وَلَا تَفْسُدُ حِينَئِذٍ إِلَاّ إِنْ وَقَعَ تَحْوِيل النِّيَّةِ قَبْل الْجُلُوسِ الأَْخِيرِ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهُ وَقُبَيْل السَّلَامِ لَا تَبْطُل. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: نَقْل النِّيَّةِ سَهْوًا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ آخَرَ أَوْ إِلَى نَفْلٍ سَهْوًا، دُونَ طُول قِرَاءَةٍ وَلَا رُكُوعٍ، مُغْتَفَرٌ.
قَال ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِنْ حَوَّل نِيَّتَهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ، فَإِنْ قَصَدَ بِتَحْوِيل نِيَّتِهِ رَفْعَ الْفَرِيضَةِ وَرَفْضَهَا بَطَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَهَا لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ الثَّانِيَةُ مُنَافِيَةً لِلأُْولَى. لأَِنَّ النَّفَل مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ، وَمُطْلَقُ الطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ نِيَّةُ النَّفْل مُؤَكِّدَةً لَا مُخَصِّصَةً. (2)
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 441، وحاشية الطحطاوي ص 184.
(2)
حاشية الدسوقي 1 / 235، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 1 / 516.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَلَبَ الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا صَلَاةً أُخْرَى عَالِمًا عَامِدًا بَطَلَتْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَانْقَلَبَتْ نَفْلاً. وَذَلِكَ كَظَنِّهِ دُخُول الْوَقْتِ، فَأَحْرَمَ بِالْفَرْضِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ دُخُول الْوَقْتِ فَقَلَبَ صَلَاتَهُ نَفْلاً، أَوْ قَلَبَ صَلَاتَهُ الْمُنْفَرِدَةَ نَفْلاً لِيُدْرِكَ جَمَاعَةً. لَكِنْ لَوْ قَلَبَهَا نَفْلاً مُعَيَّنًا كَرَكْعَتَيِ الضُّحَى لَمْ تَصِحَّ، أَمَّا إِذَا حَوَّل نِيَّتَهُ بِلَا سَبَبٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَالأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا حَوَّل نِيَّتَهُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، وَتَنْقَلِبُ فِي هَذِهِ الْحَال نَفْلاً.
وَإِنِ انْتَقَل مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ فَلَا تَبْطُل، لَكِنْ تُكْرَهُ، إِلَاّ إِنْ كَانَ الاِنْتِفَال لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَلَا تُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، كَمَنْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مَشْرُوعَةً وَهُوَ مُنْفَرِدٌ، فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِيُدْرِكَهَا، فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقْلِبَهَا نَفْلاً، وَأَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تَضَمَّنَتْ نِيَّةَ النَّفْل، فَإِذَا قَطَعَ نِيَّةَ الْفَرْضِ بَقِيَتْ نِيَّةُ النَّفْل. (2)
وَمِنْ هَذَا التَّفْصِيل يَتَبَيَّنُ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْوِيل نِيَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ نَفْلٍ إِلَى فَرْضٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَقْلِهَا، وَتَظَل نَفْلاً، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِيهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.
(1) المجموع 3 / 286، ونهاية المحتاج 1 / 438.
(2)
كشاف القناع 1 / 318، والإنصاف 2 / 26.
ج -
تَحْوِيل النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ:
6 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَبْطُل بِنِيَّةِ الاِنْتِقَال إِلَى النَّفْل، وَلَا يَنْقَلِبُ نَفْلاً.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الآْخَرِ، يَنْقَلِبُ نَفْلاً إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، أَمَّا فِي رَمَضَانَ فَلَا يَقْبَل النَّفَل؛ لأَِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ صَائِمًا عَنْ نَذْرٍ، فَحَوَّل نِيَّتَهُ إِلَى كَفَّارَةٍ أَوْ عَكْسُهُ، لَا يَحْصُل لَهُ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ - بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ - لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْكَفَّارَةِ التَّبْيِيتَ مِنَ اللَّيْل.
أَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي نَوَاهُ أَوَّلاً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَلَا يَبْطُل.
الثَّانِي: يَبْطُل. وَلَا يَنْقَلِبُ نَفْلاً عَلَى الأَْظْهَرِ. وَيُقَابِلُهُ: أَنَّهُ يَنْقَلِبُ نَفْلاً إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ. (1)
وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ:
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ تَحَوَّلَتْ نِيَّتُهُ إِلَى نَافِلَةٍ، وَهُوَ فِي فَرِيضَةٍ، فَإِنْ فَعَل هَذَا عَبَثًا
(1) البحر الرائق 2 / 282، والأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي 1 / 78، وروضة الطالبين 2 / 325، والمجموع 6 / 298، 299.
عَمْدًا فَلَا خِلَافَ - عِنْدَهُمْ - أَنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهُ. أَمَّا إِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا فَخِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنْ نَوَى خَارِجَ رَمَضَانَ قَضَاءً، ثُمَّ حَوَّل نِيَّةَ الْقَضَاءِ إِلَى النَّفْل بَطَل الْقَضَاءُ لِقَطْعِهِ نِيَّتَهُ، وَلَمْ يَصِحَّ نَفْلاً لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْل مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَبْل الْقَضَاءِ، كَذَا فِي الإِْقْنَاعِ، وَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ وَالتَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى فَيَصِحُّ نَفْلاً، وَإِنْ كَانَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فَقَطَعَ نِيَّتَهُ ثُمَّ نَوَى نَفْلاً صَحَّ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَلَبَ نِيَّةَ الْقَضَاءِ إِلَى النَّفْل بَطَل الْقَضَاءُ، وَذَلِكَ لِتَرَدُّدِهِ فِي نِيَّتِهِ أَوْ قَطْعِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ النَّفَل لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْل مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ قَبْل الْقَضَاءِ. (2)
د -
تَحْوِيل الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ:
7 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحْوِيل الْمُحْتَضَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ مَنْدُوبٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، إِلَاّ إِذَا تَعَسَّرَ ذَلِكَ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، أَوْ لأَِيِّ سَبَبٍ آخَرَ، فَيُلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. (3)
وَدَلِيل تَحْوِيلِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه
(1) المواق على خليل بهامش الحطاب 2 / 433.
(2)
كشاف القناع 2 / 316.
(3)
البناية 2 / 942، والشرح الصغير 1 / 562، وروضة الطالبين 2 / 94 - 97 والمجموع 5 / 103، ومطالب أولي النهى 837.
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَأَل عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ رضي الله عنه فَقَالُوا: تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى بِثُلُثِهِ لَكَ يَا رَسُول اللَّهِ، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ لَمَّا اُحْتُضِرَ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَ الْفِطْرَةَ، وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ. وَقَدْ فَعَلْتَ. (1)
هـ -
تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ:
8 -
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ - إِلَى اسْتِحْبَابِ تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَا يُحَوَّل الرِّدَاءُ عِنْدَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ. لأَِنَّهُ دُعَاءٌ لَا صَلَاةَ فِيهِ عِنْدَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.
وَمَعْنَى تَحْوِيل الرِّدَاءِ: أَنْ يَجْعَل مَا عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، وَبِالْعَكْسِ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْقَوْل الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - إِلَى اسْتِحْبَابِ التَّنْكِيسِ كَذَلِكَ. وَهُوَ: أَنْ يَجْعَل أَعْلَى الرِّدَاءِ أَسْفَلَهُ
(1) حديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم " سأل عن البراء. . . " أخرجه الحاكم (1 / 353 - 354 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
حاشية ابن عابدين 2 / 184، وفتح القدير 2 / 11، والشرح الصغير 1 / 539، وكشاف القناع 2 / 71.
وَبِالْعَكْسِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالتَّنْكِيسِ.
وَمَحَل تَحْوِيل الرِّدَاءِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِلدُّعَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ.
وَدَلِيل تَحْوِيل الرِّدَاءِ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّل رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. (1)
وَقَدْ قِيل: إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ تَحْوِيل الرِّدَاءِ التَّفَاؤُل بِتَغْيِيرِ الْحَال إِلَى الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيل الرِّدَاءِ لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَلَا يُحَوِّل رِدَاءَهُ إِلَاّ الإِْمَامُ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ. (2)
و
تَحْوِيل الدَّيْنِ:
9 -
عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةً، مِنْهَا: تَحَوُّل الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُطَالَبَةِ. (3)
(1) حديث عبد الله بن زيد: " خرج يستسقي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 498 - ط السلفية) .
(2)
نفس المراجع.
(3)
كشاف القناع 3 / 382.
وَمِنْهَا: نَقْل الدَّيْنِ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ. (1)
وَمَشْرُوعِيَّتُهَا ثَابِتَةٌ بِالإِْجْمَاعِ. وَمُسْتَنَدُهَا قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُحِيل أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ. (2)
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْحَوَالَةِ فِي نَقْل الْمَال الْمُحَال بِهِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ.
فَيَبْرَأُ بِالْحَوَالَةِ الْمُحِيل عَنْ دَيْنِ الْمُحَال، وَيَبْرَأُ الْمُحَال عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْمُحِيل، وَيَتَحَوَّل حَقُّ الْمُحَال إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، هَذَا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَهِيَ الأَْغْلَبُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُحِيل دَائِنًا لِلْمُحَال عَلَيْهِ. أَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهِيَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُحِيل دَائِنَا لِلْمُحَال عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ تَحْصُل لِلْمُحِيل فَقَطْ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَوَالَةٌ) .
(1) الاختيار 3 / 3.
(2)
حديث: " مطل الغني ظلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 61 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1197 - ط الحلبي) .
(3)
الاختيار 3 / 3، والشرح الصغير 1 / 3، ونهاية المحتاج 4 / 413، وقليوبي وعميرة 2 / 321، وكشاف القناع 3 / 382.
تَحَيُّزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحَيُّزُ: مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} (1) مَعْنَاهُ أَوْ مَائِلاً إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَال: انْحَازَ الرَّجُل إِلَى الْقَوْمِ بِمَعْنَى تَحَيَّزَ إِلَيْهِمْ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: انْحَازَ الْقَوْمُ: تَرَكُوا مَرْكَزَهُمْ وَمَعْرَكَةَ قِتَالِهِمْ (2) وَمَالُوا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَفِي الاِصْطِلَاحِ: التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ: أَنْ يَصِيرَ الْمُقَاتِل إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِيَكُونَ مَعَهُمْ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَسَوَاءٌ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ أَمْ قَرُبَتْ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ (3) وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ. وَقَال عُمَرُ رضي الله عنه
(1) سورة الأنفال / 15 - 16.
(2)
المصباح المنير، ولسان العرب.
(3)
حديث: " أنا فئة المسلمين " أخرجه أبو داود (3 / 107 - ط عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف. (عون المعبود 2 / 349 - نشر دار الكتاب العربي) .
: أَنَا فِئَةُ كُل مُسْلِمٍ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. رَوَاهُمَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَقَال عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ، لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَرُّفُ:
2 -
التَّحَرُّفُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل وَالْعُدُول. فَإِذَا مَال الإِْنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ يُقَال: تَحَرَّفَ وَانْحَرَفَ وَاحْرَوْرَفَ. (2)
وقَوْله تَعَالَى: {إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} (3) أَيْ مَائِلاً لأَِجْل الْقِتَال لَا مَائِلاً هَزِيمَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِضِيقِ الْمَجَال، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجَوَلَانِ، فَيَنْحَرِفُ لِلْمَكَانِ الْمُتَّسِعِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْقِتَال. (4)
وَالتَّحَرُّفُ فِي الاِصْطِلَاحِ: أَنْ يَنْتَقِل الْمُقَاتِل إِلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَال فِيهِ أَمْكَنَ، مِثْل أَنْ يَنْتَقِل مِنْ مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ إِلَى اسْتِدْبَارِهِمَا، أَوْ مِنْ مُنْخَفِضٍ إِلَى عُلْوٍ أَوْ عَكْسُهُ،
(1) المغني لابن قدامة 8 / 485 م الرياض الحديثة، وروضة الطالبين 10 / 247.
(2)
لسان العرب.
(3)
سورة الأنفال / 16.
(4)
المصباح المنير.
أَوْ مِنْ مَعْطَشَةٍ إِلَى مَوْضِعِ مَاءٍ، أَوْ لِيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إِلَى جَبَلٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْل الْحَرْبِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَحَرُّفٌ) .
فَالتَّحَيُّزُ وَالتَّحَرُّفُ يَكُونَانِ فِيمَا إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فِي الْحَرْبِ، وَالْتَحَمَ جَيْشَاهُمَا، فَالْمُتَحَيِّزُ إِنْ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مُوَاجَهَةِ عَدُوِّهِ وَالظَّفَرِ بِهِ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَعُدَدِهِ، إِلَاّ بِأَنْ يَسْتَنْصِرَ وَيَسْتَنْجِدَ بِغَيْرِهِ مِنْ فِئَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْحَازَ إِلَى فِئَةٍ مِنْهُمْ، لِيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَيَسْتَطِيعُ بِذَلِكَ قَهْرَ الْعَدُوِّ وَالظَّفَرَ بِهِ وَالنَّصْرَ عَلَيْهِ.
وَالْمُتَحَرِّفُ لِقِتَالٍ إِذَا رَأَى أَنْ يَكِيدَ لِخَصْمِهِ وَيَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ السَّبِيل إِلَى النَّيْل مِنْهُ وَالظَّفَرِ بِهِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا فِي تَغْيِيرِ خُطَطِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي تَغْيِيرِ الْمَكَانِ، أَمْ فِي التَّرَاجُعِ لِيَسْحَبَ الْعَدُوَّ وَرَاءَهُ، وَيُعَاوِدَهُ بِالْهُجُومِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ (الْخُدَعَ الْحَرْبِيَّةَ) فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، إِذِ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ. أَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَحِل لِكُلٍّ مِنْهُمَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 -
التَّحَيُّزُ مُبَاحٌ، إِذَا اسْتَشْعَرَ الْمُتَحَيِّزُ عَجْزًا مُحْوِجًا إِلَى الاِسْتِنْجَادِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ
(1) المغني لابن قدامة 8 / 484 - 485، وروضة الطالبين 10 / 247.
بِقَصْدِ الاِنْضِمَامِ إِلَى فِئَةٍ، أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، لِيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى مُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ وَإِيقَاعِ الْهَزِيمَةِ بِهِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِ. فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ يَكُونُ فِرَارًا، وَهُوَ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . (1)
فَإِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فِي الْحَرْبِ وَالْتَحَمَ الْجَيْشَانِ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَصْلٍ عَامٍّ أَنْ يَثْبُتُوا فِي مُوَاجَهَةِ عَدُوِّهِمْ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفِرُّوا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ} . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (2)
4 -
وَعَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْفِرَارَ عِنْدَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَاّ بِالْحَقِّ،
(1) سورة الأنفال / 15 - 16.
(2)
سورة الأنفال / 45.
وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ. (1)
فَثَبَاتُ الْمُسْلِمِينَ فِي مُوَاجَهَةِ أَعْدَائِهِمُ الْكَفَرَةِ وَحُرْمَةُ فِرَارِهِمْ مِنْ لِقَائِهِمْ وَاجِبٌ، إِذَا كَانُوا فِي مِثْل عَدَدِهِمْ أَوْ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . (2) إِلَاّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَصْدِ تَحَيُّزِهِمْ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تُنَاصِرُهُمْ وَتَشُدُّ مِنْ أَزْرِهِمْ وَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ قَرِيبَةً لَهُمْ أَمْ بَعِيدَةً عَنْهُمْ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:{أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَوْ كَانَتِ الْفِئَةُ بِخُرَاسَانَ وَالْفِئَةُ بِالْحِجَازِ جَازَ التَّحَيُّزُ إِلَيْهَا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: إِنِّي فِئَةٌ لَكُمْ (3) وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ. وَقَال عُمَرُ: " أَنَا فِئَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ " وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. وَقَال عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً.
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . " أخرجه البخاري (الفتح5 / 393 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) .
(2)
سورة الأنفال / 66.
(3)
حديث: " إني فئة لكم. . . " سبق تخريجه في (ف 1) .
5 -
فَإِنْ زَادَ الْكُفَّارُ عَلَى مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيُبَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْسَحِبُوا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْمِائَةِ مُصَابَرَةَ الْمِائَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} دَل عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مُصَابَرَةُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: مَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:" فَمَا فَرَّ " إِلَاّ أَنَّهُ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ بِهِمْ وَالنَّصْرُ عَلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُهُمُ الثَّبَاتُ إِعْلَاءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْهَلَاكُ فِي الْبَقَاءِ وَالنَّجَاةُ فِي الاِنْصِرَافِ فَالأَْوْلَى لَهُمُ الاِنْصِرَافُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وَإِنْ ثَبَتُوا جَازَ لأَِنَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي الشَّهَادَةِ، وَحَتَّى لَا يَنْكَسِرَ الْمُسْلِمُونَ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا الْكُفَّارَ، فَفَضْل اللَّهِ وَاسِعٌ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا حَرُمَ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ، وَلَوْ كَثُرَ الْكُفَّارُ جِدًّا، مَا لَمْ تَخْتَلِفْ كَلِمَتُهُمْ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بِقَصْدِ التَّحَيُّزِ لِقِتَالٍ. (2)
(1) سورة البقرة / 195.
(2)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 98 - 99، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 233، 234، وروضة الطالبين 10 / 247 - 249، والشرح الكبير 2 / 178 - 179، والشرح الصغير 2 / 277 - 278، والمغني لابن قدامة 8 / 484 - 485، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 45 - 47، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 380 - 384، وتفسير روح المعاني 9 / 180 - 182.
تَحِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
التَّحِيَّةُ مَصْدَرُ حَيَّاهُ يُحَيِّيهِ تَحِيَّةً، أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ بِالْحَيَاةِ، وَمِنْهُ " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ " أَيِ الْبَقَاءُ، وَقِيل: الْمُلْكُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اُسْتُعْمِل فِي مَا يُحَيَّا بِهِ مِنْ سَلَامٍ وَنَحْوِهِ، وَتَحِيَّةُ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ لِمُؤْمِنِي عِبَادِهِ السَّلَامُ، فَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ إِذَا تَلَاقَوْا وَدَعَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِأَجْمَعِ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . (2)
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ عِبَارَةَ (التَّحِيَّةِ) فِي غَيْرِ السَّلَامِ لِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 -
حُكْمُ التَّحِيَّةِ النَّدْبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ فِي الأَْدَاءِ كَمَا يَلِي:
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة:" حيا "، وتفسير القرطبي 5 / 297، 298 ط دار الكتب المصرية.
(2)
سورة النساء / 58.
أ -
التَّحِيَّةُ بَيْنَ الأَْحْيَاءِ:
3 -
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَرَدَّهُ فَرِيضَةٌ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . وَلِلتَّفْصِيل ر: (سَلَامٌ) .
ب -
تَحِيَّةُ الأَْمْوَاتِ:
4 -
تَحِيَّةُ مَنْ فِي الْقُبُورِ السَّلَامُ، فَإِذَا مَرَّ الْمُسْلِمُ بِالْقُبُورِ أَوْ زَارَهَا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُول مَا وَرَدَ (2) وَهُوَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَل اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. (3)
ج -
تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ:
5 -
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِكُل مَنْ يَدْخُل مَسْجِدًا غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - يُرِيدُ الْجُلُوسَ بِهِ لَا الْمُرُورَ فِيهِ، وَكَانَ مُتَوَضِّئًا - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَبْل الْجُلُوسِ. وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ
(1) تفسير القرطبي 5 / 297 - 304، وفتح الباري 11 / 2، 12 - 14 ط السعودية، وأسهل المدارك 3 / 351 - 353 ط عيسى الحلبي بمصر، وشرح المنهاج 4 / 215 ط مصطفى الحلبي بمصر.
(2)
الفتاوى الهندية 5 / 350، والمغني 2 / 566، ومنهاج الطالبين 1 / 351.
(3)
حديث: " السلام عليكم أهل الديار. . . . " أخرجه مسلم (2 / 671 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
أَبُو قَتَادَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ (1) وَمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُمَا لِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ يَقُول نَدْبًا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْل وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِنَّهَا تَعْدِل رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي الأَْذْكَارِ، وَهِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَالْقَرْضُ الْحَسَنُ. (2)
وَيُسَنُّ لِمَنْ جَلَسَ قَبْل الصَّلَاةِ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَال: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ، وَرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَال: يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا (3) فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْجُلُوسِ.
كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تَتَأَدَّى بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ.
6 -
وَأَمَّا إِذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
(1) حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 537 - ط السلفية) ومسلم (1 / 495 - ط الحلبي) .
(2)
ابن عابدين 1 / 456 - 457، والشرح الصغير 1 / 405، 406 ط دار المعارف بمصر، وجواهر الإكليل 1 / 73، والقليوبي 1 / 215، وروضة الطالبين 1 / 332، والمغني لابن قدامة 1 / 455، 2 / 135 ط مكتبة الرياض الحديثة، وكشاف القناع 1 / 327 ط عالم الكتب بيروت، ومواهب الجليل 2 / 68 - 69، والفتاوى الهندية 5 / 321، والدسوقي 1 / 313 - 314.
(3)
حديث: " يا سليك قم فاركع ركعتين " أخرجه مسلم (2 / 597 - ط الحلبي) .
وَالْمَالِكِيَّةُ - إِنْ قَرُبَ رُجُوعُهُ لَهُ عُرْفًا - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِلَى أَنَّهُ تَكْفِيهِ لِكُل يَوْمٍ مَرَّةً. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَكَرُّرُ التَّحِيَّةِ بِتَكَرُّرِ الدُّخُول عَلَى قُرْبٍ كَالْبُعْدِ. (1) وَإِذَا كَانَتِ الْمَسَاجِدُ مُتَلَاصِقَةً، فَتُسَنُّ التَّحِيَّةُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهَا (2)
7 -
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (3) ، وَالصَّلَاةُ تُفَوِّتُ الاِسْتِمَاعَ وَالإِْنْصَاتَ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لإِِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُوجِزُ فِيهِمَا، لِحَدِيثِ سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَبِهَذَا قَال الْحَسَنُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَكْحُولٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (4) .
(1) المراجع السابقة.
(2)
القليوبي 1 / 215.
(3)
سورة الأعراف / 204.
(4)
بدائع الصنائع 1 / 264 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 1 / 550، والقوانين الفقهية / 86، وبداية المجتهد 1 / 166 ط مكتبة الكليات الأزهرية، وروضة الطالبين 2 / 30، والمغني لابن قدامة 2 / 319
د -
تَحِيَّةُ الْكَعْبَةِ:
8 -
إِذَا وَصَل الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَدَخَل الْمَسْجِدَ وَرَأَى الْبَيْتَ، يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُول: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا (1) لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَيَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُول ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ.
هـ -
تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
9 -
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّوَافُ لِلْقَادِمِ لِمَكَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ تَاجِرًا أَوْ حَاجًّا أَوْ غَيْرَهُمَا، لِقَوْل عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ (3) وَرَكْعَتَا تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تُجْزِئُ عَنْهُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ. (4)
إِلَاّ إِذَا كَانَ لِلدَّاخِل فِيهِ عُذْرٌ مَانِعٌ، أَوْ لَمْ يُرِدِ
(1) حديث: " اللهم زد هذا البيت تشريفا. . . " أخرجه البيهقي (5 / 73 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: هذا منقطع.
(2)
سنن البيهقي 5 / 73، وشرح المنهاج 2 / 102، والمغني 3 / 369، 370 وانظر مصطلح:(حج) .
(3)
الحديث أخرجه البخاري (الفتح 3 / 477 ط السلفية) .
(4)
ابن عابدين 2 / 165، والقليوبي 1 / 215، وكشاف القناع 2 / 477.
الطَّوَافَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ كَرَاهَةٍ. وَإِذَا خَافَ فَوَاتَ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ جَمَاعَتَهَا، أَوِ الْوِتْرَ، أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً قَدَّمَهَا عَلَى الطَّوَافِ، إِلَاّ أَنَّهُ لَا تَحْصُل بِهَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
10 -
وَأَمَّا الْمَكِّيُّ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِطَوَافٍ، وَلَمْ يَدْخُلْهُ لأَِجْل الطَّوَافِ، بَل لِلصَّلَاةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلْعِلْمِ، فَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي حَقِّهِ الصَّلَاةُ، كَتَحِيَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِغَرِيبٍ أَفْضَل مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الطَّوَافَ لأَِهْل الْعِرَاقِ، وَالصَّلَاةَ لأَِهْل مَكَّةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ. (1)
وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحُ: (طَوَافٌ) .
و
تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ:
11 -
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ الرَّوْضَةَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ - وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ - وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: جَاءَ سُلَيْكٌ. . . ثُمَّ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُول: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ
(1) ابن عابدين 1 / 456، 457 و 2 / 165، والشرح الصغير 1 / 406، 407، وجواهر الإكليل 1 / 73، وروضة الطالبين 3 / 76، 78، والمغني لابن قدامة 3 / 370، وكشاف القناع 2 / 477.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه. (1)
حُكْمُ التَّحِيَّةِ بِغَيْرِ السَّلَامِ لِلْمُسْلِمِ:
12 -
ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّحِيَّةَ بِغَيْرِ السَّلَامِ لِلْمُسْلِمِ، كَنَحْوِ: صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، أَوِ السَّعَادَةِ، أَوْ طَابَ حِمَاكَ، أَوْ قَوَّاكَ اللَّهُ، مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ لَا أَصْل لَهَا، وَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى قَائِلِهَا، لَكِنْ لَوْ دَعَا لَهُ مُقَابِل ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا.
13 -
كَمَا أَنَّ عَامَّةَ أَهْل الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ حَيَّا بِغَيْرِ السَّلَامِ غَيْرُ وَاجِبٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَحِيَّتُهُ بِلَفْظٍ، أَمْ بِإِشَارَةٍ بِالإِْصْبَعِ، أَوِ الْكَفِّ أَوِ الرَّأْسِ، إِلَاّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ أَوِ الأَْصَمِّ، فَيَجِبُ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ مَعَ اللَّفْظِ، لِيَحْصُل بِهِ الإِْفْهَامُ؛ لأَِنَّ إِشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ. (2)
14 -
وَأَمَّا الرَّدُّ بِغَيْرِ السَّلَامِ عَلَى مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ، فَعَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَلَا يَسْقُطُ الرَّدُّ الْوَاجِبُ، لأَِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 257، وحاشية الدسوقي 1 / 314، ومنهاج الطالبين 2 / 126، والمغني لابن قدامة 3 / 557.
(2)
روضة الطالبين 10 / 233، ومغني المحتاج 4 / 214، ونهاية المحتاج 8 / 48، والإنصاف 4 / 233، والأذكار للنووي ص 234.
بِالْمِثْل. (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . (2)
حُكْمُ التَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ:
15 -
حُكْمُ التَّحِيَّةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ مَمْنُوعٌ عَلَى سَبِيل الْحُرْمَةِ أَوِ الْكَرَاهَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا سَلَّمُوا هُمْ عَلَى مُسْلِمٍ قَال فِي الرَّدِّ: وَعَلَيْكُمْ. وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا. (3)
16 -
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ قَال: السَّامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ شَكَّ فِيمَا قَال، فَلَوْ تَحَقَّقَ السَّامِعُ أَنَّ الذِّمِّيَّ قَال لَهُ:" سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " لَا شَكَّ فِيهِ، فَهَل لَهُ أَنْ يَقُول: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، أَوْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكَ؟ فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُقَال لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْل، وَاللَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
فَنَدَبَ إِلَى الْفَضْل، وَأَوْجَبَ الْعَدْل، وَلَا
(1) الفواكه الدواني 2 / 423، والجمل على شرح المنهج 5 / 188، وتفسير ابن كثير 2 / 351.
(2)
سورة النساء / 58.
(3)
حديث: " لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام. . " أخرجه مسلم (4 / 1707 - ط الحلبي) .
يُنَافِي هَذَا شَيْئًا مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِوَجْهٍ مَا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَمَرَ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى قَوْل الرَّادِّ " وَعَلَيْكُمْ "، بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ الَّذِي كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِي تَحِيَّتِهِمْ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَال أَلَا تَرِينَنِي قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ، لَمَّا قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَال: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْل الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ (1)
وَالاِعْتِبَارُ وَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ عُمُومُهُ فِي نَظِيرِ الْمَذْكُورِ لَا فِيمَا يُخَالِفُهُ. قَال تَعَالَى {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُول} (2)
فَإِذَا زَال هَذَا السَّبَبُ وَقَال الْكِتَابِيُّ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَالْعَدْل فِي التَّحِيَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ نَظِيرُ سَلَامِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (3)
17 -
وَأَمَّا حُكْمُ التَّحِيَّةِ بِغَيْرِ السَّلَامِ لِلْكَافِرِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ لِعُذْرٍ، أَوْ غَرَضٍ كَحَاجَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ، فَإِذَا كَانَتْ لِعُذْرٍ
(1) حديث: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 42 - ط السلفية) .
(2)
سورة المجادلة / 8.
(3)
أحكام أهل الذمة 1 / 199، 200 ط دار العلم للملايين، والأذكار للنووي ص 226.
فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، إِلَى حُرْمَةِ تَحِيَّةِ الْكُفَّارِ وَلَوْ بِغَيْرِ السَّلَامِ (1) . .
تَحِيَّاتٌ
اُنْظُرْ: تَشَهُّدٌ.
(1) نهاية المحتاج 8 / 48، والإنصاف 4 / 233، وابن عابدين 5 / 265، والأذكار للنووي ص 227.
أ
الآمدي:
تقدمت ترجمته في ج1 ص325.
إبراهيم اللقاني (؟ - 1041ه
ـ)
هو إبراهيم بن حسن بن محمد بن هارون، أبو الإمداد اللقاني المصري المالكي، فقيه، محدث مشارك في جميع أنواع العلوم. أخذ عن أعلام منهم: صدر الدين المنياوي وعبد الكريم البرموني وسالم السنهوري وغيرهم، وعنه ابنه عبد السلام والخرشي وعبد الباقي الزرقاني ويوسف الفيشي وأحمد الزريابي وغيرهم.
من تصانيفه: " الجوهرة "، و " نصيحة الإخوان في شرب الدخان "، و " حاشية على مختصر خليل "، و " قضاء الوطر في نزهة النظر في توضيح تحفة الأثر "، و " منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى "، و " عقد الجمان في مسائل الضمان ".
[شجرة النور الزكية 291، وشرح الصغير (فهرس الأعلام) 4 / 871، وخلاصة الأثر 1 / 6] .
ابن أبي لُبابة (؟ - 127ه
ـ)
هو عبدة بن أبي لبابة، أبو القاسم، الأسدي، الغاضري. روى عن ابن عمر وابن عمرو وزر حبيش ومجاهد وغيرهم.
روى عنه ابن أخته الحسن بن الحر والأعمش وابن جريج والأوزاعي والثوري وابن عيينة وغيرهم، قال ابن سعد: كان من فقهاء أهل الكوفة، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة من ثقات أهل الكوفة، وقال أبو حاتم والنسائي وابن خراش: ثقة.
[تهذيب التهذيب 6 / 461، وسير أعلام النبلاء 5 / 229، وطبقات ابن سعد 6 / 328] .
ابن أبي ليلى:
تقدمت ترجمته في ج1 ص325.
ابن أبي موسى: هو محمد بن أحمد:
تقدمت ترجمته في ج1 ص325.
ابن برهان (؟ - 738ه
ـ)
هو أحمد بن إبراهيم بن داود، أبو العباس، المقرئ الحلبي، المعروف بابن البرهان، فقيه حنفي، مشارك في علوم عديدة، وانتفع به الناس.
من تصانيفه: " شرح الجامع الكبير " في فروع الفقه الحنفي لمحمد بن الحسن الشيباني.
[البداية والنهاية 14 / 182، وتاج التراجم ص11، ومعجم المؤلفين 1 / 137] .
ابن جرير الطبري: هو محمد بن جرير:
تقدمت ترجمته في ج2 ص421.
ابن الجزري: هو محمد بن محمد:
تقدمت ترجمته في ج4 ص319.
ابن الحاجب:
تقدمت ترجمته في ج1 ص327.
ابن حامد: هو الحسن بن حامد:
تقدمت ترجمته في ج2 ص398.
ابن حبيب:
تقدمت ترجمته في ج1 ص327.
ابن حجر العسقلاني:
تقدمت ترجمته في ج2 ص399.
ابن حجر الهيتمي:
تقدمت ترجمته في ج1 ص327.
ابن حمدون (580 - 651 ه
ـ)
هو أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر
ابن حمدون، شرف الدين، القيسي التيقاشي نسبة إلى تيقاش (من قرى قفصة بإفريقية) فقيه، أديب، له اشتراك في جميع العلوم. أخذ عن موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي وتاج الدين الكندي، وتعلم بمصر، وولي القضاء في بلده. من تصانيفه:" أزهار الأفكار في جواهر الأحجار "، و " خواص الأحجار ومنافعها ".
[شجرة النور الزكية 170، والديباج 4 / 1، والأعلام 1 / 259] .
ابن دقيق العيد:
تقدمت ترجمته في ج4 / 319.
ابن الزبير: هو عبد الله بن الزبير:
تقدمت ترجمته في ج1 ص359.
ابن سريج:
تقدمت ترجمته في ج1 ص329.
ابن سيرين:
تقدمت ترجمته في ج1 ص329.
ابن شبرمة:
تقدمت ترجمته في ج2 ص400.
ابن عابدين:
تقدمت ترجمته في ج1 ص330.
ابن عباس:
تقدمت ترجمته في ج1 ص330.
ابن عبدوس: هو محمد بن إبراهيم:
تقدمت ترجمته في ج1 ص331.
ابن العربي:
تقدمت ترجمته في ج1 ص331.
ابن علاّن (996 - 1057ه
ـ)
هو محمد علي بن محمد علاّن بن إبراهيم ابن محمد علاّن، البكري، الصديقي، الشافعي. مفسر، محدث، فقيه. كان إذا سئل عن مسألة ألف بسرعة رسالة في الجواب عنها. أخذ الفقه والحديث والنحو عن محمد ابن محمد بن جار الله والسيد عمر بن عبد الرحيم البصري وعبد الرحيم بن حسان وعبد الملك العصامي وغيرهم، وتصدر للإقراء والإفتاء. وقال عبد الرحمن الخيار: إنه سيوطي زمانه، وأخذ عنه جماعة كثيرون، وقال المحبي: ألف كتباً كثيرة في عدة فنون تزيد على الستين.
من تصانيفه: " إعلام الأخوان بتحريم
الدخان "، و " تحفة ذوي الإدراك في المنع من التنباك "، و " ضياء السبيل إلى معالم التنزيل "، و " دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ". [خلاصة الأثر 4 / 184، والأعلام 7 / 187] .
ابن عيينة:
تقدمت ترجمته في ج7 ص330.
ابن عمر:
تقدمت ترجمته في ج1 ص331
ابن غازي (841 - 919ه
ـ)
هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي، أبو عبد الله، العثماني، المكناسي، الفاسي. مقرئ، محدث، مؤرخ، فقيه، فرضي، مفسر. أخذ الفقه عن الأستاذ النيجي والقوري وغيرهما، وعنه عبد الواحد الونشريسي وابن العباس الصغير وأحمد الدقون والمفتي علي بن هارون وغيرهم. وولي خطابة مكناسة ثم بفأس الجديد ثم الخطابة والإمامة بجامع القرويين آخراً، ولم يكن في عصره أخطب منه.
من تصانيفه: " شفاء الغليل في حل مقفل مختصر خليل "، و " إنشاد الشريد في ضوال
القصيد في القراءات "، و " بغية الطلاب في شرح منية الحساب ".
[نيل الابتهاج 333، وهدية العارفين 2 / 226، ومعجم المؤلفين 9 / 16] .
ابن فرحون: هو إبراهيم بن علي:
تقدمت ترجمته في ج1 ص332.
ابن قدامة:
تقدمت ترجمته في ج1 ص333.
ابن القاسم: هو عبد الرحمن بن القاسم المالكي:
تقدمت ترجمته في ج1 ص332.
ابن القيم:
تقدمت ترجمته في ج1 ص333.
ابن كج (؟ - 405ه
ـ)
هو يوسف بن أحمد بن يوسف، أبو القاسم، الدينوري، المعروف بابن كج. فقيه، من أئمة الشافعية، وولي قضاء الدينور، وقال ابن خلكان: صنف كتباً كثيرة انتفع بها الفقهاء. وقال السبكي: كان يضرب المثل في حفظه لمذهب الشافعي. وارتحل الناس إليه من الآفاق. وهو صاحب " وجه " في المذهب.
[وفيات الأعيان 6 / 63، وطبقات الشافعية 4 / 29، ومرآة الجنان 3 / 12، والأعلام 9 / 284] .
ابن الماجشون:
تقدمت ترجمته في ج1 ص333.
ابن ماجة:
تقدمت ترجمته في ج1 ص334.
ابن المبارك: هو عبد الله بن المبارك:
تقدمت ترجمته في ج2 ص402.
ابن مسعود:
تقدمت ترجمته في ج1 ص360.
ابن المنذر:
تقدمت ترجمته في ج1 ص334.
ابن نافع: هو عبد الله بن نافع:
تقدمت ترجمته في ج3 ص345.
ابن نجيم: هو زين الدين بن إبراهيم:
تقدمت ترجمته في ج1 ص334.
ابن نجيم: هو عمر بن إبراهيم:
تقدمت ترجمته في ج1 ص334.
ابن نصر الله (765 - 844ه
ـ)
هو أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد، أبو الفضل، البغدادي، الحنبلي، المعروف بابن نصر الله. فقيه، محدث، مفسر. شيخ المذهب، مفتي الديار المصرية. أخذ عن مشائخ، منهم: سراج الدين البلقيني وزين الدين العراقي وابن الملقن وغيرهم.
من تصانيفه: " حاشية على المحرر "، و " حاشية على الوجيز "، و " حاشية على فروع ابن مفلح " في الفقه، و " حاشية على تنقيح الزركشي " في الحديث.
[الضوء اللامع 2 / 233، وشذرات الذهب 7 / 250، ومعجم المؤلفين 2 / 195] .
ابن الهمام:
تقدمت ترجمته في ج1 ص335.
ابن وهب:
هو عبد الله بن وهب المالكي: تقدمت ترجمته في ج1 ص335.
ابن يونس (813 - 878 ه
ـ)
هو أحمد بن يونس بن سعيد بن عيسى، القسطنطيني المغربي المالكي، المعروف بابن يونس. أخذ الفقه والحديث والعربية وغيرها من العلوم عن محمد بن محمد بن عيسى وأبي
القاسم البرزلي وقاسم بن عبد الله الهزبري وغيرهم. وأخذ عنه غير واحد من أهل مكة والقادمين عليها.
من تصانيفه: " أجوبة عن أسئلة (رد المغالطات الصنعانية) . [نيل الابتهاج ص82، والضوء اللامع 2 / 253، ومعجم المؤلفين 2 / 215] .
أبو الأحوص: هو محمد بن الهيثم:
تقدمت ترجمته في ج6 ص341.
أبو أمامة:
تقدمت ترجمته في ج3 ص345.
أبو أيوب الأنصاري:
تقدمت ترجمته في ج6 ص342.
أبو بكر الصديق:
تقدمت ترجمته في ج1 ص336.
أبو ثور:
تقدمت ترجمته في ج1 ص336.
أبو جعفر: هو محمد بن عبد الله الهندواني:
تقدمت ترجمته في ج4 ص322.
أبو حنيفة:
تقدمت ترجمته في ج1 ص336.
أبو الخطاب:
تقدمت ترجمته في ج1 ص337.
أبو داود:
تقدمت ترجمته في ج1 ص337.
أبو السعود: هو محمد بن محمد:
تقدمت ترجمته في ج3 ص347.
أبو سعيد الخدري:
تقدمت ترجمته في ج1 ص337.
أبو عبيد: تقدمت ترجمته في ج1 ص337.
أبو الفرج السرخسي (432 - 494ه
ـ)
هو عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد، أبو الفرج، السرخسي، المروزي، الشافعي فقيه، تفقه على القاضي الحسين والحسن بن علي المطوعي ومحمد بن أحمد التميمي. وروى عنه أبو طاهر السنجي وعمر ابن أبي مطيع وأحمد بن محمد بن إسماعيل النيسابوري وغيرهم.
قال فيه ابن السمعاني: أحد أئمة الإسلام، ومن يضرب به المثل في الآفاق بحفظ مذهب الشافعي.
من تصانيفه: " كتاب الأماني " في الفقه.
[طبقات الشافعية 3 / 221، وشذرات الذهب 3 / 400، وتهذيب الأسماء واللغات 2 / 263، ومعجم المؤلفين 5 / 121] .
أبو قتادة:
تقدمت ترجمته في ج2 ص405.
أبو الليث السمرقندي: هو نصر بن محمد:
تقدمت ترجمته في ج1 ص338.
أبو مالك الأشعري
(؟ -؟)
اختلف في اسمه، قيل: الحارث بن الحارث، وقيل: عبيد، وقيل: كعب بن عاصم وقيل غير ذلك. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه عبد الرحمن بن غنم الأشعري وأبو صالح الأشعري وشهر بن حوشب وأبو سلام الأسود وغيرهم.
قال ابن حجر: أبو مالك الأشعري الذي روى عنه أبو إسلام وشهر بن حوشب هو الحارث بن الحارث الأشعري، وأما أبو مالك الأشعري هذا فهو آخر قديم مات في خلافة عمر رضي الله عنه. ثم قال: الفصل بينهما
في غاية الإشكال، حتى قال أبو أحمد الحاكم في ترجمته أبو مالك الاشعري: أمره مشتبه جدا.
[الإصابة 4 / 171، والاستيعاب 4 / 1745، وأسد الغابة 5 / 272، وتهذيب التهذيب 2 / 137، 12 / 218] .
أبو موسى الأشعري:
تقدمت ترجمته في ج1 ص338.
أبو هريرة:
تقدمت ترجمته في ج1 ص339.
أبو يوسف:
تقدمت ترجمته في ج1 ص339.
أحمد (الإمام) :
تقدمت ترجمته في ج1 ص339.
أحمد بن محمد بن الجزري (780
-؟)
هو أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري، أبو بكر، الشيرازي الشافعي الشهير بابن الجزري. مقرئ، مجود، حافظ، مشارك في بعض العلوم. وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر والحافظ أبو بكر ابن المحب وابن قاضي شهبه
وغيرهم. وأخذ عنه محمد بن عثمان الكامل والسعيد مصطفى وغيرهما. وولي الجامع الأكبر البايزيدي بمدينة بروسة. وولاه السلطان الأشرف مشيخة الإقراء بالمدرسة العادلية الكبرى، وبمدرسة أم الصالح، وتدريس الصلاحية بدمشق، وتدريس الأتابكية بِسَفْح قاسيون.
من تصانيفه: " شرح طيبة النشر "، و " شرح مقدمة التجويد "، و " شرح مقدمة علوم الحديث ".
[غاية النهاية في طبقات القراء 1 / 129، والضوء اللامع 2 / 193] .
أحمد بن محمد المنقور التميمي (؟ - 1125ه
ـ)
هو أحمد بن محمد التميمي النجدي، الشهير بالمنقور، ينتهي نسبه إلى سعد بن زيد مناة بن تميم. (والمنقور) لقب له، لأنه من قبيلة قيس بن عاصم المنقري الصحابي. أخذ الفقه عن شيخه الشيخ عبد الله بن ذهلان، قال صاحب الوابلة: اجتهد مع الورع والديانة والقناعة، ومهر في الفقه مهارة تامة، وصنف تصانيف حسنة.
من تصانيفه: " الفواكه العديدة في مسائل مفيدة "، و " مناسك الحج ".
[مقدمة الفواكه العديدة في مسائل مفيدة
ترجمته بقلم محمد بن عبد العزيز بن مانع 1 / 5] .
إسحاق بن راهويه:
تقدمت ترجمته في ج1 ص340.
أسماء بنت أبي بكر الصديق:
تقدمت ترجمتها في ج1 ص340.
أشهب: هو أشهب بن عبد العزيز:
تقدمت ترجمته في ج1 ص341.
الإمام نصر الشيرازي: هو نصر بن علي الشيرازي:
تقدمت ترجمته في ج2 ص423.
أم سلمة:
تقدمت ترجمته في ج1 ص341.
أم عطية
(؟ -؟)
هي نسيبة بنت كعب، ويقال بنت الحارث، أم عطية، الأنصارية رضي الله عنها، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر رضي الله عنه. وعنها أنس بن مالك ومحمد وحفصة ابنا سيرين وعبد الملك بن عمير وغيرهم. قال ابن حجر نقلاً عن ابن عبد البر: كانت
تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمرّض المرضى وتداوي الجرحى، شهدت غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت.
[الإصابة 4 / 476، وأسد الغابة 4 / 367، وتهذيب التهذيب 12 / 455] .
الأمير (1154 - 1232ه
ـ)
هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر ابن عبد العزيز، أبو عبد الله، السنباوي، الأزهري المعروف بالأمير. من فقهاء المالكية، عالم بالعربية. وأخذ عن الشيخ الصعيدي الفقه وغيره، والسيد البليدي، ولازم حسنا الجبرتي سنين وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون، ويوسف الحفني وغيرهم. وأخذ عنه ابنه محمد والدسوقي وأحمد الصاوي وغيرهم.
من تصانيفه: " الإكليل شرح مختصر خليل "، و " حاشية على شرح الزرقاني على العزية " و " حاشية على شرح ابن تركي على العشماوية " في الفقه.
[حلية البشر 3 / 1266، والشرح الصغير قسم الأعلام 4 / 854، والأعلام 7 / 298] .
أنس
ب
ن مالك:
تقدمت ترجمته في ج2 ص406.
الأوزاعي:
تقدمت ترجمته في ج1
ص341.
ب
البابلي (1000 - 1077ه
ـ)
هو محمد بن علاء الدين، شمس الدين، أبو عبد الله، البابلي، القاهري، الأزهري الشافعي. فقيه، محدث، حافظ، أخذ عن الشيخ علي الحلبي وعبد الرؤوف المناوي وسالم السنهوري وعلي الأجهوري وصالح ابن شهاب الدين البلقيني وغيرهم. وأخذ عنه الشمس محمد بن خليفة الشوبري وعبد القادر الصفوري وأحمد بن عبد الرؤوف وغيرهم.
من تصانيفه: " الجهاد وفضائله "، و " فهرست مجمع مروياته وشيوخه ومسلسلاته ".
[خلاصة الأثر 4 / 39، والأعلام 1 / 152] .
الباقلاني: هو محمد بن الطيب:
تقدمت ترجمته في ج1 ص342.
البغوي:
تقدمت ترجمته في ج1 ص343.
البهوتي: هو منصور بن يونس:
تقدمت ترجمته في ج1 ص344.
البيضاوي (؟ - 685ه
ـ)
هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي، ناصر الدين، أبو سعيد، البيضاوي، الشيرازي، الشافعي، والبيضاوي نسبة إلى البيضاء قرية من عمل شيراز. فقيه، مفسر، أصولي، محدث، ولي قضاء القضاة بشيراز، أخذ الفقه عن والده ومعين الدين أبي سعيد وعن زين الدين حجة الإسلام أبي حامد الغزالي وغيرهم.
من تصانيفه: " منهاج الأصول إلى علم الوصول "، و " الغاية القصوى في دراسة الفتوى " في فروع الفقه الشافعي، و " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " وهو المشهور بتفسير البيضاوي، و " شرح مصابيح السنة " للبغوي.
[طبقات الشافعية 5 / 59، والبداية والنهاية 13 / 309، ومرآة الجنان 4 / 220، ومعجم المؤلفين 6 / 97] .