الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
حرف الدال
-
259-
دَاوُد بن عُمَر [1] بن يوسف بن يَحْيَى بن عُمَر بن كامل.
الخطيب، عماد الدّين، أبو المعالي، وأبو سُلَيْمَان الزّبيديّ، المقدِسي، ثمّ الدّمشقيّ، الشّافعيّ، خطيب بيت الأبّار، وابن خطيبها، وبها وُلِد في سنة ستّ وثمانين وخمسمائة.
وسمع من: الخشوعي، وعبد الخالق بن فيروز الجوهريّ، وعمر بن طَبَرْزَد، وحنبل، والقاسم بن عساكر، وجماعة.
روى عَنْهُ: الدّمياطيّ، وزين الدّين الفارقيّ، والعماد ابن البالِسي، والشّمس نقيب المالكيّ، والخطيب شَرَف الدّين، والفخر بن عساكر، وولده الشّرف مُحَمَّد بن دَاوُد، وطائفة من أهل القرية.
وكان ديّنا، مهذّبا، فصيحا، مليح الخطابة، لا يكاد أن يسمع موعظته أحدٌ إلّا وبكى. خطب بدمشق ودرّس بالزّاوية الغزاليّة فِي سنة ثمانٍ وثلاثين بعد الشَّيْخ عزّ الدّين ابن عَبْد السّلام لمّا انفصل عن دمشق. ثمّ عُزِل العماد بعد ستّ سِنين ورجع إلى الخطابة فِي القرية.
تُوُفي فِي حادي عشر شعبان، ودفن ببيت الأبار، وحضره خلق من أهل المدينة، رحمه الله تعالى.
260-
داود [2] .
[1] انظر عن (داود بن عمر) في: صلة التكملة لوفيات النقلة للحسيني 2/ ورقة 39، وذيل مرآة الزمان 1/ 126، وذيل الروضتين 200 والعبر 5/ 229، وسير أعلام النبلاء 23/ 301، 302 رقم 208، وعيون التواريخ 20/ 168، وطبقات الشافعية للإسنويّ 1/ 142، 143 وطبقات الشافعية لابن كثير، ورقة 174 ب، والوافي بالوفيات 13/ 479، 480 رقم 583، والبداية والنهاية 13/ 213، والعسجد المسبوك 2/ 645، وشذرات الذهب 5/ 275، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 436 رقم 407، وعقد الجمان (1) 191، والدليل الشافي 1/ 295، والمنهل الصافي 5/ 292، 293 رقم 1017، والدارس 1/ 420.
[2]
انظر عن (داود الملك الناصر) في: ذيل الروضتين 200، وذيل مرآة الزمان 1/ 126- 184، ووفيات الأعيان 3/ 496، والمختصر في أخبار البشر 3/ 195، 196، والدرّة الزكية 36، 37، والعبر 5/ 229، 230، وسير أعلام النبلاء 23/ 376- 381 رقم 270، ودول الإسلام 2/ 160 والإعلام بوفيات الأعلام 274، والإشارة إلى وفيات الأعيان 354، وتاريخ
السُّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين، أَبُو المفاخر، وأبو المظفّر بن السُّلطان الملك المعظّم شرف الدّين عيسى بن العادل مُحَمَّد بن أيّوب بن شادي بن مروان.
وُلِد بدمشق فِي جُمادى الآخرة في سنة ستّ وستّمائة [1] .
وسمع ببغداد من: أَبِي الْحَسَن القَطيعيّ، وغيره.
وبالكَرَك من: ابن اللّتّيّ.
وأجاز له: المؤيّد الطّوسيّ، وأبو رَوْح عَبْد العِز.
وكان حنفيّ المذهب، عالِمًا، فاضلا، مُناظِرًا، ذكيّا، له اليد البيضاء فِي الشّعر والأدب، لأنّه حصّل طَرَفًا جيّدا من العلوم فِي دولة أَبِيهِ.
وولي السّلطنة فِي سنة أربع وعشرين بعد والده، وأحبّه أهل دمشق. ثمّ سار عمّه الملك الكامل من الدّيار المصريّة لأخذ المُلك منه، فاستنجد بعمّه الأشرف فجاء لنُصرته ونزل بالدهشة، ثمّ تغيّر عليه ومال إلى أخيه الكامل، وأوهم النّاصر أنّه يُصْلح قضيته، فسار إلى الكامل، واتّفقا على النّاصر وحاصراه، كما ذكرنا فِي الحوادث، أربعة أشهر، وأخذا منه دمشق، وسار إلى الكَرَك، وكانت لوالده، وأعطيَ معها الصّلت ونابلس وعجلون وأعمال القدس.
[ () ] ابن الوردي 2/ 198، ومرآة الجنان 4/ 139، وعيون التواريخ 20/ 168- 176، وفوات الوفيات 1/ 419- 428 رقم 149، والبداية والنهاية 113، 198 (في وفيات سنة 655 هـ) .
و214، (في وفيات سنة 656 هـ) . ومآثر الإنافة 2/ 96، والعسجد المسبوك 2/ 643، وإنسان العيون، ورقة 345، والذهب المسبوك للمقريزي 81، والسلوك ج 1 ق 2/ 412، وعقد الجمان (1) 198، 199، والنجوم الزاهرة 7/ 61، 62، وشفاء القلوب 346- 358 رقم 75، وتاريخ ابن سباط 1/ 377، وشذرات الذهب 5/ 275، وترويح القلوب 59 رقم 93، وتاريخ الأزمنة 238، وديوان ابن مطروح 84، والدليل الشافي 1/ 296، والمنهل الصافي 5/ 294- 300 رقم 1018، وصبح الأعشى 4/ 175، والجواهر المضيّة 2/ 605، والدارس 1/ 581، والوافي بالوفيات 33/ 480- 492 رقم 584، والأنس الجليل 1/ 405- 408 و 2/ 5، 6، 9، 10، وقضاة دمشق 66، وثمرات الأوراق لابن حجّة 24، 25، والغيث المسجم 4/ 134، 135، وكشف الظنون 1/ 816، وكشف الظنون 1/ 816، وهدية العارفين 1/ 360، والأعلام 2/ 334، ومعجم المؤلفين 4/ 121.
[1]
في وفيات الأعيان 3/ 496 رقم 141 «ولد يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستمائة» .
وعقد نكاحه على بِنْت عمّه الكامل سنة تسعٍ وعشرين. ثمّ تغيّر عليه الكامل تغيّرا زائدا، ففارق ابنته قبل الدّخول.
ثمّ إنّ النّاصر بعد الثّلاثين قصد الإِمَام المستنصر باللَّه وقدّم له تُحَفًا ونفائس، وسار إليه على البرّيّة، والتمس الحضورَ بين يديه كما فعل بصاحب إربِل، فامتنعوا عليه، فنَظَمَ هذه القصيدة:
وبان [1] ألمّت بالكثيب ذوائبه
…
وجنح الدّجى و [خف][2] تجول غياهِبُهْ
تُقَهقهُ فِي تلك الرُّبُوع رُعُودُهُ
…
وتبكي على تلك الطُّلُول سحائبُهْ
أرِقْتُ له [3] لمّا توالت بروقه
…
وحلّت عزاليه، وأسبل سالبُهْ [4]
إلى أن بدا من أشقر الصُّبْح قادم
…
يُراعُ له من أُدْهم اللَّيل هاربُهْ
وأصبح ثغر الأقحوانة ضاحكا
…
تدغدغه ريح الصّبا وتُلاعبُهْ [5]
وهي قصيدة طنّانة طويلة يقول فيها:
ألا يا أمير المؤمنين، ومن غَدَتْ
…
على كاهل الْجَوْزاء تَعْلُو مراتبُهْ
أيَحْسُنُ فِي شَرْع المعالي ودينِها
…
وأنت الَّذِي تُعْزَى إليه مذاهبُهْ
بأنّي أخوض الدّوّ والدّوّ مقْفر
…
سباريته مُغْبَرَّةٌ وسباسِبُهْ
وقد رصد الأعداء لي كلَّ مرصدٍ
…
وكُلُّهم نحوي تَدُبّ عقاربُهْ
وآتيك والعضْبُ المُهَنَّد مُصْلَتٌ
…
طريرٌ شبَاهُ، قانياتٌ ذوائبُهْ
وأنزِلُ آمالي ببابك راجيا
…
[فواضل جاهٍ][6] يبهرُ النَّجْم ثاقبُهْ
فتقبلُ منّي عَبْدَ رِق فيغتدي
…
له الدّهر عبدا طائعا لا يغالبُهْ
وتُنعم فِي حقّي بما أنت أهلُهُ
…
وتُعْلي محلّي فالسُّها لا يقاربُهْ
وتُلبسني من نسج ظِلّك حلّة [7]
…
يُشرّفُ قدرَ النَّيرَيْن جلائبُهْ [8]
[1] في الفوائد الجلية 206 «ودان» .
[2]
في الأصل بياض، والمستدرك من: الفوائد.
[3]
في ذيل مرآة الزمان: «أرقت به» .
[4]
في الفوائد 207 «ساكبه» .
[5]
في الفوائد 207: «تداعبه» .
[6]
في الأصل بياض، والمستدرك من: الفوائد 210.
[7]
في الفوائد 211 «ملبسا» .
[8]
في الفوائد 211 «جلاببه» .
وتُركبني نُعمَى أياديك مركبا
…
على الفَلَكِ الأعلى تسير مراكبُهْ
وتسمحُ لي بالمال، والجاه بغْيتي
…
وما الجاهُ إلّا بعضُ ما أنتَ واهبُهْ
ويأتيك غيري من بلادٍ قريبة
…
له الأمنُ فيها صاحبٌ لا يجانبُهْ
فيلقى دُنُوًّا منك لم ألق مثلهُ
…
ويحظى ولا أحظى بما أَنَا طالبُهْ
وينظر من لألاءِ قُدْسك نظرة
…
فيرجع والنّورُ الإماميُّ صاحبُهْ
ولو كان يعلوني بنفسٍ ورُتبةٍ
…
وصدقِ وَلاءٍ لستُ فِيهِ أصاقبُهْ
لكُنْتُ أُسَلّي النَّفْسَ عمّا ترومُهُ
…
وكنتُ أذودُ العَيْن عمّا تراقبُهْ
ولكنّه مثلي ولو قلت إنّني
…
أزيدُ عليه لم يعِبْ ذاك عائبُهْ
وما أَنَا ممّن يملأ المالُ عينَهُ
…
ولا بِسِوى التّقريب تُقضَى مآربُهْ
ولا بالّذي يرضى [1] دون نظيرهِ
…
ولو انجلت بالنَّيران [2] مراكبُهْ
وبي ظمأ ورؤياك منهل ريه
…
ولا غرو أن تصفو لي مشاربُهْ
ومن عجبٍ أنّي لدى البحر واقفٌ
…
وأشكو الظَّمأ، والجم [3] جمّ عجائبُهْ
وغيرُ مَلُوم مَن يؤمُّك قاصدا
…
إذا عظمَتْ أغراضُه ومذاهبُه [4]
فوقعت هذه القصيدة من المستنصر بموقع، وأدخله عليه ليلا، وتكلّم معه فِي أشياء من العلوم والآداب، ثمّ خرج سرّا. وقصد المستنصر بذلك رعاية الملك الكامل.
ثمّ حضر النّاصر بالمدرسة المستنصريّة، وبحث واعترض واستدلّ، والخليفة فِي رَوْشَن [5] بحيث يسمع، وقام يومئذٍ الوجيه القيروانيّ فمدح الخليفة بقصيدة جاء منها:
[1] في الفوائد 212 «يرضيه» .
[2]
في الفوائد 212 «ولو أنعلت بالنّيرات» .
[3]
في الفوائد 212 «والبحر» .
[4]
في الفوائد 212 «ومطالبه» .
والقصيدة في: الفوائد الجليّة 206- 212، وإنسان العيون لابن أبي عذيبة (مخطوط) ورقة 346، وذيل مرآة الزمان 1/ 133، والمختصر في أخبار البشر 3/ 157، وتاريخ ابن الوردي 2/ 239، وفوات الوفيات 1/ 420، والوافي بالوفيات 8/ 43، والغيث المسجم 2/ 78، وثمرات الأوراق 24، وشفاء القلوب 348، وعقد الجمان (1) .
[5]
الرّوشن: النافذة.
لو كنت فِي يوم السّقيفة حاضرا
…
كنت المقدَّم والإمامَ الأورعا
قال النّاصر: أخطأت، قد كان حاضرا الْعَبَّاس جدُّ أمير المؤمنين، ولم يكن المقدّم إلّا أَبُو بَكْر، رضي الله عنه.
فخرج الأمر بنفْي الوجيه، فذهب إلى مصر، ووُلّي بها تدريس مدرسة ابن سُكَّر.
ثمّ إنّ الخليفة خلع على النّاصر فألبسه الخِلْعة بالكَرَك، وركب بالأعلام الخليفَتِية وزِيد فِي ألقابه:«المولى المهاجر» .
ثمّ وقع بين الكامل والأشرف، وطلب كلّ منهما من النّاصر أن يكون معه، فرجح جانب الكامل، وجاءه من الكامل في الرّسليّة القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل. ثمّ سار النّاصر إلى الكامل، فبالغ الكامل فِي تعظيمه وأعطاه الأموال والتّحف.
ثمّ اتّفق موتُ الملك الأشرف وموت الكامل، وكان النّاصر بدمشق بدار أُسامة، فتشوّف إلى السّلطنة، ولم يكن حينئذٍ أمْيَزَ منه، ولو بذل المال لحلفوا له. ثمّ سلطنوا الملك الجوادَ، فخرج النّاصر عن البلد إلى القابون، ثمّ سار إلى عجلون وندِم، فجمع وحشد ونزل على السّواحل فاستولى عليها. فخرج الجواد بالعساكر، فوقع المصافّ بين نابلس وجينين، فانكسر النّاصر واحتوى الجواد على خزائنه وأمواله، وكان ثقل النّاصر على سبعمائة جَمَلٍ، فافتقر ولجأ إلى الكرك، ونزل الجواد على نابلس، وأخذ ما فيها للنّاصر.
وقد طوّل شيخُنا قُطْبُ الدّين ترجمة النّاصر وجوّدها [1] ، وهذا مختارٌ منها.
ولمّا مَلَك الصّالح نجمُ الدّين أيّوب دمشقَ وسار لقصد الدّيار المصريّة جاء عمّه الصّالح إِسْمَاعِيل وهجم على دمشق فتملكها. فتسحّب جيش نجم الدّين عَنْهُ، وبقي بنابلس فِي عسكرٍ قليل، فنفّذ النّاصر من الكَرَك عسكرا قبضوا على نجم الدّين وأطلعوه إلى الكَرَك، فبقي معتَقَلًا عنده فِي كرامة.
وكان الكامل قد سلّم القدس إلى الفرنج، فعمّروا في غربيّه قلعة عند موت
[1] في ذيل مرآة الزمان 1/ 126 وما بعدها.
الكامل واضطراب الأمور واختلاف الملوك، فنزل النّاصر من الكَرَك وحاصرها، ونصب عليها المجانيق فأخذها بالأمان وهدمها، وتملّك القدس، وطرد من به من الفرنج، فعمل جمال الدّين ابن مطروح:
المسجد الأقصى له عادةٌ
…
سارت فصارت مَثَلًا سائرا
إذا غدا بالكُفْر مُسْتَوطنًا
…
أن يبعث الله له ناصرا
فناصرٌ طهَّرَهُ أوّلا
…
وناصرٌ طهَّره آخِرا [1]
ثمّ إنّه كلّم الصّالح نجم الدّين وقال له: إن أخرجتك وملّكتك الدّيار المصريّة، ما تفعل معي؟ قال: أَنَا غلامك وفي أسْرك، قل ما شئت. فاشترط عليه أن يعطيه دمشق ويعينه على أخذها وأن يمكّنه من الأموال، وذكر شروطا يتعذَّر الوفاء بها. ثمّ أَخْرَجَهُ وسار معه وقد كاتَبَه أمراءُ أَبِيهِ الكامل من مصر، وكرهوا سلطنة أخيه العادل. فلمّا تملّك الدّيار المصريّة وقع التّسويف من الصّالح والمغالطة، فغضب الناصر ورجع، وقد وقعت الوحشة بينهما. وزعم الصّالح أنّه إنّما حلف له مُكْرَهًا وقال: كنت فِي قبضته.
وحكى ابن واصل [2] عن صاحب حماه المنصور أنّ الملك الصّالح لمّا استقرّ بمصر قال لبعض أصحابه: امض إلى النّاصر وخوّفه منّي بالقبض عليه لعلّه يرحل عنّا. فجاء ذلك وأوهمه، فسارَعَ الخروجَ إلى الكَرَك.
ثمّ إنّ الصّالح أساء العِشرة فِي حقّ النّاصر وبعث عسكرا فاستولوا على بلاد النّاصر، ولم يزل كلّ وقت يُضايقه ويأخذ أطراف بلاده حتّى لم يبق له إلّا الكَرَك.
ثمّ فِي سنة أربعٍ وأربعين نازَلَه فخر الدّين ابن الشَّيْخ. وحاصره أيّاما ورحل.
وأمّا النّاصر فقلّ ما عنده من المال والذّخائر، واشتدّ عليه الأمر، فعمل هذه الأبيات يعاتب فيها ابنَ عمّه الملكَ الصّالح:
عمّي أبوك، ووالدي عمّ، به
…
يعلو انتسابك كلّ ملك أصيد
[1] الأبيات في ديوان ابن مطروح- تحقيق جودت أمين علي- (رسالة ماجستير من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة) 1976- ص 84، والفوائد الجليّة 76.
[2]
في الجزء المفقود من «مفرّج الكروب» .
دع سيف مقولي البليغ يذب [1] عن
…
أعراضكم بفِرِنْدِهِ المتوقدِ
فهو الَّذِي قد صاغ تاجَ فَخَارِكم
…
بمفصّل من لؤلؤ وزبرجدِ
لولا مقالُ الهجر منك لما بدا
…
مني افتخار بالقريض المُنْشَدِ [2]
ثمّ أخذ- رحمه الله يفتخر ويذكر جوده وجلالته، ويعرّض باعتقاله للصّالح وإخراجه.
وفي سنة ستّ وأربعين قدِم العلامةُ شمسُ الدّين الخُسْروشاهي على الملك الصّالح نجم الدّين أيّوب وهو بدمشق رسولا من النّاصر، ومعه وُلِد النّاصر الأمجد حَسَن، ومضمون الرّسالة: إن تتسلّم الكَرَك وتعوّضني عَنْهَا الشّوبك وخبزا بمصر. فأجابه ثمّ رحل إلى مصر مريضا. ثمّ انثنى عزْمُ النّاصر عن ذلك لمّا بلغه مَرَضُ الصّالح وخروج الفرنج.
ثمّ دخلت سنة سبُعٍ، وضاقت يدُ النّاصر عليه كُلَف السّلطنة، فاستناب ابنه المعظّم عيسى بالكرك، وأخذ ما يعزّ عليه من الجواهر، ومضى إلى حلب مستجيرا بصاحبها كما فعل عمّه الصّالح إِسْمَاعِيل، فأكرمه. وسار من حلب إلى بغداد، فأودع ما معه من الجواهر عند الخليفة، وكانت قيمتها أكثر من مائة ألف دينار، ولم يصل بعد ذلك إليها.
وأمّا والداه الظّاهر والأمجد، فإنّهما تألّما لكونه استناب عليهما المعظّم، وهو ابن جارية، وهما ابنا بِنْت الملك الأمجد بن الملك العادل، فأمّهما بِنْت عمّه وبنت عمّ الصّالح، وكانت محسنة إلى الصّالح لمّا كان معتقلا بالكرك غاية الإحسان، وكان ولداها يأنسان به ويلازمانه، فاتّفقا مع أمّهما على القبض على الملك المعظّم فقبضا عليه، واستوليا على الكَرَك، ثمّ سار الأمجد إلى المنصورة فأكرمه الصّالح وبالغ، فكلّمه فِي الكَرَك، وتوثّق منه لنفسه وإخوته، وأن يعطيه خُبزًا بمصر، فأجابه، وسيّر إلى الكَرَك الطّواشيّ بدر الدّين الصّوابيّ نائبا له. فجاء إلى السُّلطان أولاد النّاصر وبيته فأقطعهم إقطاعات جليلة، وفرح بالكرك غاية الفرح مع ما هُوَ فِيهِ من المرض المخوف، وزيّنت مصر لذلك.
[1] في الفوائد الجليّة 265 «يذود» .
[2]
الأبيات من قصيدة طويلة في: الفوائد الجليّة 263- 268، ومفرّج الكروب 5/ 363، وذيل مرآة الزمان 1/ 161، والنجوم الزاهرة 6/ 326، وشفاء القلوب 352.
وبلغ النّاصر داودَ ذلك وهو بحلب، فعظُم ذلك عليه. ثمّ لم يلبث الصّالح أنْ مات، وتملّك بعده ابنه توران شاه قليلا، وقُتِل، فعمد الطّواشيّ فأخرج الملكَ المغيثَ عمر بن الملك العادل بن السُّلطان الملك الكامل من حبْس الكَرَك، وملّكه الكَرَك والشّوبك.
وجاء صاحب حلب فتملّك دمشق، ثمّ مرض بها مرضا شديدا، ومعه الصّالح إِسْمَاعِيل والنّاصر دَاوُد. فقيل إنّ دَاوُد سعى فِي تلك الأيّام فِي السّلطنة. فلمّا عُوفي السُّلطان بَلَغَه ذلك، فقبض عليه وحبسه بحمص، ثمّ أخرج عَنْهُ بعد مدةٍ بشفاعة الخليفة، فتوجّه إلى العراق فلم يؤذَنْ له فِي دخول بغداد، فطلب وديعته فلم يحصل له. ثمّ ردّ إلى دمشق. ثمّ سار إلى بغداد فِي سنة ثلاثٍ وخمسين بسبب الوديعة ولَججَ، وكتب معه النّاصر صاحب الشّام كتابا إلى الخليفة يشفع فِيهِ فِي ردّ وديعته، ويخبر برضاه عَنْهُ، فسافَرَ ونزل بمشهد الْحُسَيْن بكربلاء وسيّر إلى الخليفة قصيدة يمدحه ويتلطّفه، فلم ينفع ذلك.
وهذه القصيدة:
مقامُكَ أعلى [1] فِي النّفوس [2] وأعظَمُ
…
وحلمُكَ أرجَى فِي النُّفُوس وأكرمُ
فلا عجبٌ إن غُصَّ بالشّعر [3] شاعرٌ
…
وفوّه مصطكّ اللهاتين مُعْجِمُ
إليكَ أميرَ المؤمنين تَوَجُّهي
…
بوجهِ رجاءِ عنده منكَ أنعُمُ
إلى ماجدٍ يرجوه كلّ مُمَجدٍ
…
عظيم ولا يرجوه [4] إلّا معظمُ
ركبتُ إليه ظَهْرَ يهماء [5] قفرةٍ
…
بها تُسرِجُ الإعداءُ خيلا وتلجم
وأشجارها يَنعٌ، وأحجارُها لمى [6]
…
وأعشابُها نبْلٌ، وأمواهُها دمُ
رميتُ فَيَافيها بكلّ نجيبةٍ
…
بنسبتها يعلُو الجذِيلُ وشدقم
تجاذبنا فضل الأزمّة بعد ما
…
براهنّ موصول من السّير مبرم
[1] في الأصل: «أعلا» .
[2]
في الفوائد الجليّة 230 «في الصدور» .
[3]
في الفوائد الجليّة 230 «غصّ بالقول» .
[4]
في الفوائد الجليّة 230 «فلا يغشاه» .
[5]
في الأصل: «سماء» .
[6]
في الفوائد: «ظبى» .
تسَاقَيْنَ من خمر الدّلال [1] مُدامة
…
فلا هُنَّ أيقاظ، ولا هُنَّ نُوَّمُ
بطش الحصى [2] فِي جَمْرة القيظ بعد ما
…
غدا يتبعُ الجبارَ كلب ومِرْزَمُ
يلوح سناريب الفَلاة مُسَطرًا [3]
…
بأخفافها منه فصيحٌ وأعجمُ
تخالُ ابيضاض القاعِ تحتَ احمرارها
…
قراطيسَ أوراق [4] علاهنَّ عَنْدَمُ
فلمّا توسّطْن السماوةَ واغْتَدَتْ
…
تلفتُ نحو الدارِ شَوْقًا وتُرزمُ
وأصبحَ أصحابي نَشَاوى من السُّرَى
…
تدورُ عليهم كرمه وهو مفحمُ [5]
تنكَّرَ للخرّيت بالبِيد عُرْفُهُ
…
فلا عَلَم يَعْلُو ولا النّجم ينْجُمُ
فظلّ لإفْراط الأسَى متندّما
…
وإنْ كان لا يُجْدي الأسى والتّندّم
بسيوف الرّغام ظلّله لهدايةٍ
…
ومن بالرُّغامِ يهتدي فهو يُرْغَمُ
يُنَاجي فِجاجَ الدّوّ، والدّوّ صامتٌ
…
فلا يسمعُ النّجوى، ولا يتكلّم
على حين قال الظّبيُ، والظّلّ قالصٌ
…
وإذ مدت الغبراء [6] ، فهي جهَّنمُ
ووسّع ميدانُ المنايا لخيلِهِ
…
وضاقَ مَجَالُ الريقِ والتحمَ الفمُ
فوحشُ الرّزايا بالرّزيّة حُضَّرٌ
…
وطيرُ المنايا بالمَنِيَّةِ حُوَّمُ
فلمّا تبدّت كربلاء وتبيّنت
…
قِبابٌ بها السّبط الشّهيد المكرّم
ولذتُ به متشفّعا متحرّما
…
كما يفعل المستشفعُ المتحرّم
وأصبح لي دون البريّة شافعا
…
إلى مَن به مُعوجٌ أمري مُقَوّمُ
أنخْت رِكابي حين أيقنت أنّني
…
بباب أميرِ المؤمنين مُخَيّمُ
بحيث الأماني للأمان قسيمةٌ
…
وحيثُ العطايا بالعواطفِ تَقسَّمُ
عليك أمير المؤمنين تهجّمي
…
بنفسٍ على الجوزاء لا تتهجّم
تلوم أن تغشى الملوك لحاجةٍ
…
ولكنّها بي عنكَ لا تتلوَّمُ
فصْن ماءَ وجهي عن سواك فإنّه
…
مصون فصوناه [7] الحياء والتكرّم
[1] في الفوائد 231 «خمر الكلال» .
[2]
في الفوائد 231 «يطسن الحصا» .
[3]
في الفوائد 231 «فلوح سباريت الفلاة مسطّر» .
[4]
في الفوائد 232 «ورّاق» .
[5]
في الفوائد 232 «يدور عليهم كوبه وهو مفعم» .
[6]
في الفوائد الجليّة 232 «وأوقدت المعزاء» .
[7]
في الأصل: «يصوناه» ، والمثبت عن: الفوائد 234.
ألست بعبد حزتني عن وراثةٍ
…
له عندكم عهدٌ تقادَم مُحكمُ
ومثليَ يُحبى للفُتُوق ورتقها
…
إذا هزّ خطّيّ، وجرّد مخذم
فلا زلت للآمال [1] تبقى مُسلمًا
…
وتغتابك الأملاك [2] وهي تُسلمُ [3]
وحجّ رحمه الله وأتى المدينة وقام بين يدي الحجرة الشريفة منشدا قصيدة بديعة يقول فيها:
إليك امتطينا اليعملات [4] رواسما [5]
…
يجبن الفلا ما بين رضْوَى [6] ويذْبُلِ [7]
إلى خير من أطْرَتْهُ بالمدح ألسُنٌ
…
فصدَقها نصّ الكتاب المنزّل
إليك [8]- رسول الله- قمت مُجمجمًا
…
وقد كلّ عن نقل البلاغةِ مِقولي
وأدهشني نورٌ تألقَ مشرقا
…
يلوحُ على سامي ضريحكَ من علٍ [9]
ثَنَتني عن مدحي لمجدك هيبة
…
يراع لها قلبي ويرعد مفصلي
وعلمي بأنّ الله أعطاك مِدحة
…
مفصّلها فِي مجملات المفصّل [10]
ثمّ أحضر شيخ الحرم والخدّام، ووقف بين الضّريح مستمسكا بسَجَف الحجرة الشّريفة، وقال: اشهدوا أنّ هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دخلتُ عليه مستشفعا به إلى ابن عمّه أمير المؤمنين فِي ردّ وديعتي. فأعظم النّاس هذا وبكوا، وكُتِب بصورة ما جرى إلى الخليفة.
ولمّا كان الرّكب فِي الطّريق خرج عليهم أَحْمَد بن حجّي بن بُريد من آل مرّيّ يريد نهب الرّكب، فوقع القتال وكادوا يظفرون بأمير الحاجّ، فجاء النّاصر يشقّ الصّفوف، وكلّم أَحْمَد بن حجّيّ، وكان أبوه حجّيّ صاحبا للنّاصر وله
[1] في الفوائد 234 «بالأملاك» .
[2]
في الفوائد 234 «لتبنى بك الأملاك» .
[3]
الأبيات من قصيدة في: الفوائد الجليّة 230- 234، وذيل مرآة الزمان 1/ 168.
[4]
اليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة السريعة.
[5]
الرواسم: مفردها رسوم. وهي الناقة التي تؤثّر في الأرض من شدّة الوطء.
[6]
رضوى: جيل بالمدينة. (معجم البلدان 3/ 51) .
[7]
يذبل: جبل مشهور الذكر بنجد. (معجم البلدان 5/ 433) .
[8]
في الفوائد الجليّة 198 «لديك» .
[9]
في الأصل: «علي» .
[10]
الأبيات مع غيرها في: الفوائد الجليّة 198، 199، وذيل مرآة الزمان 1/ 173، والوافي بالوفيات 8/ 46، وفوات الوفيات 1/ 425، وإنسان العيون، ورقة 355.
عليه أيادٍ، فانقاد له. ثمّ جاء النّاصر ونزل بالحلّة، وقُرَّرَ له راتبٌ يسير، ولم يحصل له مقصود. فجاء إلى قرقيسيا ومنها إلى تِيه بني إسرائيل، وانضمّ إليه عربان، وذلك فِي أوائل سنة ستّ هذه، أو قُبَيْل ذلك، فخاف المغيث منه فراسله وأظهر له المَوَدّة، وخدعه المغيث إلى أن قبض عليه وعلى من معه من أولاده، وحبسه بطور هارون، فبقي به ثلاث ليالٍ. واتّفق أنّ المستعصم باللَّه دهمه أمرُ التّتار فنفّذ إلى صاحب الشّام يستمدُّه، ويطلب منه جيشا يكون عليهم النّاصر دَاوُد، فبعث صاحب الشّام الملك النّاصر يطلب النّاصر من المغيث، فأخرجه المغيث، فقدم دمشقَ ونزل بقرية البويضا بقرب البلد، وأخذ يتجهّز للمسير، فلم ينشب أن جاءت الأخبار بما جرى على بغداد، فلا قوّة إلّا باللَّه.
وعرض طاعونٌ بالشّام عقيب ما تمّ على العراق، فطُعِن النّاصر فِي جبنه.
قال ابن واصل: وكثُر الطّاعون بالشّام مع بُعْد مسافة بغداد.
وحكى جالينوس أنّه وقعت ملحمة فِي بلاد اليونان فوقع الوباء بسببها فِي بلاد النّوبة مع بُعْد المسافة.
قال ابن واصل: حكى لي عَبْد الله بن فضل أحد ألزام النّاصر دَاوُد قال:
اشتدّ الوباء فتسخّطنا، فقال لنا النّاصر: لا تفعلوا، فإنّه لمّا وقع بعمَواس زمن عُمَر رضي الله عنه قال بعض النّاس: هذا رجز. فذكر الخبر بطوله، وأنّ مُعاذًا قال: اللَّهمّ أدْخِل على آل مُعاذ منه أوفى نصيب. فمات مُعاذ وابنُه.
ثمّ ابتهل النّاصر وقال: اللَّهمّ اجعلنا منهم وارزُقنا ما رزقتهم. ثمّ أصبح من الغد أو بعده مطعونا.
قال عَبْد الله: وكنت غائبا فجئت إليه وهو يشكو ألما مثل طعن السّيف فِي جنْبه الأيسر.
قال ابن واصل: وحكى لي ولدهُ المظفّر غازي أنّ أَبَاهُ سكن جنبه الأيسر فنام، ثمّ أنتبه فقال: رَأَيْت جنْبي الأيسر يقول للأيمن: أَنَا صبرت لنوبتي، واللّيلة نوبتك، فاصبِر كما صَبَرْت. فلمّا كان عشيّة شكا ألَمًا تحت جنْبه الأيمن، وأخذ يتزايد، فبينا أَنَا عنده بين الصّلاتين وقد سقطت قواه، إذ أخذته سِنَةٌ فانتبه وفرائصُه ترعد، فقال لي: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والخضِر عليه السلام، فدخلا إليّ، وجلسا عندي، ثمّ انصرفا.
فلمّا كان فِي آخر النّهار قال: ما بقي فِي رجاء، فتهيّأ فِي تجهيزي.
فبكيتُ وبكى [1] الحاضرون، فقال: لا تكن إلّا رجلا. لا تعمل عمل النّساء.
وأوصاني بأهله وأولاده، ثمّ قمت فِي اللّيلة فِي حاجةٍ، فحدّثني بعضُ فمن تركتُه عنده من أهله أنّه أفاق مرعوبا فقال: باللَّه تقدّموا إليّ فإنّي أجد وحشة.
فسُئل: ممّ ذلك؟ فقال: أرى صفّا عن يميني فيهم أَبُو بَكْر وسعد وصُوَرهُم جميلة، وثيابهم، بيض، وصفّا عن يساري صُوَرهم قبيحة فيهم أبدانٌ بلا رءوس وهؤلاء يطلبوني، وهؤلاء يطلبوني، وأنا أريد أروح إلى أهل اليمين.
وكلّما قال لي أهل الشّمال مقالتهم قلت: والله ما أجيء إليكم، خلّوني.
ثمّ أغفى إغفاءة، ثمّ استيقظ فقال: الحمد للَّه خلصت منهم.
قلت: وذكر أَنَّهُ رَأَى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء وجلس عنده. وقال لابنه شهاب الدّين غازي: تهيّأ فِي تجهيزي ولا تغيّر هيئتك.
وتُوُفي ليلة الثّامن والعشرين من جُمادى الأولى. وركب السُّلطان إلى البويضا، وأظهر التّأسّف والحزن عليه، وقال: هذا كبيرنا وشيخنا.
ثمّ حُمِل إلى تُربة والده بسفح قاسيون. وكانت أمّه خوارزميّة عاشت بعده مدّة.
وكان جوادا ممدّحا. ولم يزل فِي نكد وتعب لأنّه كان ضعيف الرّأي فيما يتعلّق بالمملكة. وكان مُعْتنيًا بتحصيل الكُتُب النّفيسة، وتفرّقت بعد موته.
وقد وفد عليه راجح الحلّيّ الشّاعر وامتدحه، فوصل إليه منه ما يزيد على أربعين ألف درهم، وأعطاه على قصيدةٍ واحدةٍ ألفَ دينار. وأقام عنده الخسروشاهيّ، فوصله بأموالٍ جمّة.
قال أَبُو شامة [2] : تملّك النّاصر دمشق بعد أَبِيهِ نحوا من سنة، ثمّ اقتصر له على الكَرَك وأعماله. ثمّ سلب ذلك كلّه كما سلبه الإسكندري بن فيلبّس، وصار متنقّلا فِي البلاد، موكّلا عليه، وتارة فِي البراري إلى أن مات موكّلا عليه بالبويضا قبليّ دمشق، وكانت لعمّه مجير الدّين ابن العادل.
[1] في الأصل: «وبكا» .
[2]
في ذيل الروضتين 200.