الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ]
ِ قَالَ رحمه الله (وَالشَّرَابُ مَا يُسْكِرُ) يَعْنِي فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُشْرَبُ مِنْ الْمَائِعَاتِ، وَالْأَشْرِبَةِ جَمْعُ شَرَابٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا مَا حَرُمَ شُرْبُهُ وَكَانَ مُسْكِرًا قَالَ رحمه الله (وَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ الْخَمْرُ، وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ وَحَرُمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا) وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِي لَفْظٍ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَجَمَاعَةٌ
وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَإِنْ مِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ؛ وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ وَالسُّكْرُ يُوجَدُ بِشُرْبِ غَيْرِهَا فَكَانَ خَمْرًا وَلَنَا أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُ يُسَمَّى مُثَلَّثًا أَوْ بَاذِقًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَتَسْمِيَةُ غَيْرِهَا خَمْرًا مَجَازٌ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ إنْ ثَبَتَ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام بُعِثَ لَهُ لَا لِبَيَانِ الْحَقَائِقِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ بَلْ لِتَخَمُّرِهَا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِالْخَمْرِ لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهَا بِالْخَمْرِ قِيَاسًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لِإِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَعَدِّي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبُرْجَ سُمِّيَ بُرْجًا لِتَبَرُّجِهِ، وَهُوَ الظُّهُورُ وَكَذَا النَّجْمُ سُمِّيَ نَجْمًا لِظُهُورِهِ ثُمَّ لَا يُسَمَّى كُلُّ ظَاهِرٍ بُرْجًا وَلَا نَجْمًا وَكَذَا يُقَالُ لِلْفَرَسِ أَبْلَقَ لِأَجْلِ لَوْنٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ لَا يُسَمَّى الثَّوْبُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ اللَّوْنُ
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ؛ لِأَنَّ اللَّذَّةَ الْمُطْرِبَةَ وَالْقُوَّةَ الْمُسْكِرَةَ تَحْصُلُ بِهِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ وَصْفٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إحْدَاثِ صِفَةِ السُّكْرِ، وَلَهُ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ وَكَمَالُهُ بِقَذْفِ الزَّبَدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّافِي عَنْ الْكَدِرِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا قَطْعِيَّةٌ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ مُسْتَحِلِّهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ بِهِ وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الشَّارِبِ بِقَذْفِ الزَّبَدِ احْتِيَاطًا وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا وَالثَّانِي فِي وَقْتِ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ لَهَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُمَا وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى السُّكْرِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ مِنْهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَهَذَا كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ؛ وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ بِأَنْ تَزْدَادَ اللَّذَّةُ بِاسْتِكْثَارِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوبَاتِ وَجَازَ أَنْ تُحَرَّمَ لِأَجْلِ لَذَّتِهَا أَيْضًا بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِمَا فِي التَّلَذُّذِ بِهَا مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْخَيْرَاتِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْمُتْرَفِينَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالسُّكْرِ فَيَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ مُسْكِرَةٍ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يُوجِبُ حِرْمَانَهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] وَنَظِيرُهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَا يَلْبَسُهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ التَّنَعُّمِ بِهِ لَا غَيْرُ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُعَدِّي الْحُكْمَ أَوْ الِاسْمَ إلَى غَيْرِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَحْرِيمِهَا لِذَاتِهَا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ مَعَ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَالْخَامِسُ أَنَّ مُسْتَحِلَّهَا يَكْفُرُ لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ وَالسَّادِسُ سُقُوطُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ} ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ اشْتِرَاكُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْحُرُوفِ الْأُصُولِ وَلَكِنْ قَدَّمَ الشُّرْبَ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ وَالْأَشْرِبَةُ فِيهَا حَرَامٌ كَالْخَمْرِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَالْأَشْرِبَةُ جَمْعُ شَرَابٍ) اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ كَالطَّعَامِ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ أَيْ يُؤْكَلُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مُحَمَّدٌ هَذَا الْكِتَابَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا كَمَا سَمَّى كِتَابَ الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْحُدُودِ وَكَمَا سَمَّى كِتَابَ الْبُيُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ) أَيْ لِمُخَالَطَتِهَا الْعَقْلَ اهـ (قَوْلُهُ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ) أَيْ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ بَلْ لِتَخَمُّرِهَا) أَيْ لِكَوْنِهَا خَمْرًا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ) وَبِهِ قَالَتْ الثَّلَاثَةُ اهـ ع (قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ) أَيْ عَشَرَةٍ. اهـ. (قَوْلُهُ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا) وَالْمَائِيَّةُ بِمَعْنَى الْمَاهِيَّةِ وَمَاهِيَّةُ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ كَمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ) سَيَجِيءُ فِي آخِرِ الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الطِّلَاءِ أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ اهـ وَعَلَى هَذَا فَفِي قَوْلِهِ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ نَظَرٌ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الطِّلَاءُ مُلْحَقٌ بِالْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى يُرْشِدُ إلَى هَذَا قَوْلُ الشَّارِحِ فِيمَا سَيَأْتِي وَلَنَا أَنَّهُ كَالْخَمْرِ إلَخْ اهـ
تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَمُتْلِفُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَالٌ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاجْتِنَابِهَا وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهَا اقْتِرَابُهَا وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ فِي النِّيءِ خَاصَّةً لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَطْبُوخِ وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ رحمه الله (وَالطِّلَاءُ، وَهُوَ الْعَصِيرُ إنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ) وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: الطِّلَاءُ اسْمٌ لِلْمُثَلَّثِ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مُسْكِرًا، وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طِلَاءً لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه مَا أَشْبَهُ هَذَا بِطِلَاءِ الْبَعِيرِ وَهُوَ الْقَطْرَانُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْبَعِيرُ إذَا كَانَ بِهِ جَرَبٌ، وَهُوَ يُشْبِهُهُ، وَفِي الْهِدَايَةِ هُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهُوَ الَّذِي طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْهِ وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَإِذَا اشْتَدَّ وَلَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّهُ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ وَلَنَا أَنَّهُ كَالْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ، وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَالْخَمْرِ بِخِلَافِ الْمُثَلَّثِ، فَإِنَّهُ ثَخِينٌ وَلَيْسَ بِرَقِيقٍ فَلَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ.
قَالَ رحمه الله (وَالسَّكَرُ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ)، وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ سَكَرَتْ الرِّيحُ إذَا سَكَنَتْ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ وَقَبْلَهُ حَلَالٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ مُبَاحٌ، وَإِنْ قَذَفَ بِالزَّبَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ وَالِامْتِنَانُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْمُحَرَّمِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً وَقِيلَ أُرِيدَ بِهَا التَّوْبِيخُ مَعْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدْعُونَهُ رِزْقًا حَسَنًا قَالَ رحمه الله (وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ)، وَهُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا اشْتَدَّ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «كَانَ يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَدَمَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَأُهْرِيقَ» وَشَرْطُ حُرْمَتِهِ أَنْ يَقْذِفَ بِالزَّبَدِ بَعْدَ الْغَلَيَانِ وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا فِي الْبَاذَقِ وَالْوَجْهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهِ ثُمَّ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْغَصْبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا قَطْعِيَّةٌ فَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا وَيُحَدُّ شَارِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ وَلَوْ قَطْرَةً وَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا وَحُرْمَةُ غَيْرِهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلُهَا قَالَ رحمه الله (وَالْكُلُّ حَرَامٌ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَحُرْمَتُهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ) فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهَا وَأَحْكَامَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ.
قَالَ رحمه الله (وَالْحَلَالُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شَرِبَ مَا لَا يُسْكِرُهُ بِلَا لَهْوٍ وَطَرَبٍ وَالْخَلِيطَانِ وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ طُبِخَ أَوَّلًا وَالْمُثَلَّثُ الْعِنَبِيُّ) أَمَّا الْأَوَّلُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَمُتْلِفُهَا) ثُمَّ هَلْ يُبَاحُ إتْلَافُ الْخَمْرِ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ الشرخلتي أَنَّهُ قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْإِتْلَافُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَمَا إذَا كَانَتْ عِنْدَ فَاسِقٍ يَشْرَبُهَا غَالِبًا لَوْ تُرِكَتْ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ عِنْدَ صَالِحٍ لَا يُبَاحُ الْإِتْلَافُ، فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَفِي بَقَائِهَا فَائِدَةٌ، وَهِيَ التَّخْلِيلُ اهـ أَتْقَانِيٌّ رحمه الله (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَالٌ) وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ لِمَا قُلْنَا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَتَضِنُّ بِهَا) مِنْ الضِّنِّ، وَهُوَ مَا تَخْتَصُّهُ وَتَضَنُّ بِهِ أَيْ تَبْخَلُ لِمَكَانِهِ مِنْك وَمَوْقِعِهِ عِنْدَك وَمِنْهُ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فَقُلْت: أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضْنَنْ بِهَا عَلَيَّ أَيْ لَا تَبْخَلْ يُقَالُ ضَنِنْت أَضَنُّ وَضَنِنْت أَضِنُّ. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ رحمه الله.
(قَوْلُهُ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ، وَهُوَ مَا إذَا طُبِخَ إلَخْ. اهـ. (قَوْلُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ قَرِيبٍ) أَيْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طِلَاءً إلَخْ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ رحمه الله الطِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الشَّرَابُ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُوَ الرُّبُّ وَأَصْلُهُ الْقَطِرَانُ الْخَاثِرُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ اهـ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَالطِّلَاءُ كُلُّ مَا يُطْلَى بِهِ مِنْ قَطِرَانٍ أَوْ نَحْوِهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا خَثَرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ طِلَاءٌ عَلَى التَّشْبِيهِ حَتَّى سُمِّيَ الْمُثَلَّثُ. اهـ. (قَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ) أَيْ السَّابِقِ فِي الْخَمْرِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ اهـ.
(قَوْلُهُ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ) اُنْظُرْ الْهِدَايَةَ وَشَرْحَ الْأَتْقَانِيِّ اهـ (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ كَالْخَمْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَرِزْقًا حَسَنًا) كَالدِّبْسِ وَالْخَلِّ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) أَيْ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الطِّلَاءُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الرُّطَبِ اهـ.
وَهُوَ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُطْبَخَ إلَى أَنْ يَنْضَجَ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا وَلَا تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا لَكِنْ انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَ التَّمْرَ بَدَلَ الرُّطَبِ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاحٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا فِي الِانْتِبَاذِ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا صِحَاحٌ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ يَحِلُّ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَطْبُوخِ مِنْهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمَطْبُوخِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخَمْرِ؛ فَلِهَذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي حُرْمَةِ الْمُتَّخَذِ مِنْ التَّمْرِ أَحَادِيثُ كُلُّهَا صِحَاحٌ فَإِذَا حُمِلَ الْمُحَرَّمُ عَلَى النِّيءِ وَالْمُحَلَّلُ عَلَى الْمَطْبُوخِ فَقَدْ حَصَلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَانْدَفَعَ التَّعَارُضُ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ الْخَلِيطَانِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ «كُنَّا نَنْتَبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ فَنَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ فَنَطْرَحُهُمَا فِيهِ ثُمَّ نَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَنَنْتَبِذُهُ غَدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً وَنَنْتَبِذُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غَدْوَةً» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ رضي الله عنه قَالَ سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ النِّيءِ مِنْهُ وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطِ فِيمَا رَوَيْنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْقَحْطِ وَالْعَوَزِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ بَلْ يُؤْثِرُ بِإِحْدَاهُمَا جَارَهُ وَالْإِبَاحَةُ كَانَتْ فِي حَالَةِ السَّعَةِ
وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رضي الله عنه، وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَلِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ أَيْ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ لَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّبْخُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يُفْضِي إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ، وَأَمَّا الرَّابِعُ، وَهُوَ الْمُثَلَّثُ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى الثُّلُثُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ الثُّلُثُ رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأْيُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ شُرْبُ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ شُرْبِ الطِّلَاءِ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ قُلْت إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ يُسْكِرُ فَقَالَ لَا يُسْكِرُ لَوْ كَانَ يُسْكِرُ لَمَا أَحَلَّهُ عُمَرُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ مِنْ الصَّدِّ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بِالشُّرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ لِعَيْنِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا السُّكْرُ؛ وَلِأَنَّ قَلِيلَهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا كَذَلِكَ الْمُثَلَّثُ؛ لِأَنَّهُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كُلُّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِتْعِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ) وَالزَّهْوُ الْمُلَوَّنُ مِنْ الْبُسْرِ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. اهـ. مُغْرِبٌ (قَوْلُهُ مُبَاحٌ) أَيْ عَلَى الِانْفِرَادِ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي سِقَايَةٍ) السِّقَايَةُ إنَاءٌ يُشْرَبُ مِنْهُ. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ أَوْ سُقَاةٍ اهـ يُرَاجَعُ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي ابْنِ مَاجَهْ. اهـ. (قَوْلُهُ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ يَجُوزُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ قَالُوا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ» قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ شِدَّةٌ وَضِيقٌ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ يَعْنِي إنَّمَا نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ حَتَّى لَا يَشْبَعَ هُوَ وَجَارُهُ جَائِعٌ بَلْ يَأْكُلُ إحْدَاهُمَا وَيُؤْثِرُ بِالْأُخْرَى جَارَهُ ثُمَّ لَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ النِّعْمَةَ أَبَاحَ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ اهـ مَا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ رحمه الله (قَوْلُهُ وَلَهُ مِثْلُهُ إلَخْ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا أُفْتِي بِحُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْسِيقَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا شَرِبْته؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهَذَا غَايَةُ تَقْوَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ مِنْ الصَّدِّ) أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} [المائدة: 91] الْآيَةَ فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهِيَ عَنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَاتِّبَاعِ الْعَدَاوَةِ (قَوْلُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ اهـ بَدَائِعُ سَيَأْتِي مَعْنَى هَذِهِ الْحَاشِيَةِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ وَحَلَّ الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ اهـ
وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قُلْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعِ، وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرِ، وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِيمِهِ فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ وَفِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مَا لَا يُحْصَى وَلَهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الِانْتِبَاذِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالْخَلِيطِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ حَقِيقَةً فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إذْ الْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ عِلَّةٍ ذَاتِ أَوْجُهٍ فَتَقْتَصِرُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ فَإِنَّ الزَّائِدَ عَلَى الشِّبَعِ هُوَ الْحَرَامُ لَا غَيْرُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي دُونَ التَّلَهِّي، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمَا فَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَذَاهِبِ الْعَقْلِ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يُحَدُّ إذَا سَكِرَ مِنْهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهُوَ سَكْرَانُ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله أَوَّلًا يَقُولُ مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ مَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ وَكَانَ قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الشَّرْطِ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَفْسُدُ لَا يَحْمُضُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْسُدَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَاعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ كَمَا يَعْتَبِرُهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا يَحْرُمُ شُرْبُهُ أَصْلًا كَالْخَمْرِ وَالثَّلَاثَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله حَتَّى يُحَدَّ مَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالتِّينِ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ فِي زَمَانِنَا وَيَقْصِدُونَ السُّكْرَ وَاللَّهْوَ بِشُرْبِهَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَّخَذُ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ لَحْمِهِ لِاحْتِرَامِهِ أَوْ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِ
وَالْمُثَلَّثُ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَطُبِخَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ فِيهِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ ثُمَّ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَا ثُلُثَا الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا ذَهَبَ أَكْثَرُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَصِيرِ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ قَبْلَ الْعَصْرِ اكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ مَا لَا يَذْهَبُ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مَوْجُودٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ طُبِخَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّبِيبِ فَطَبَخَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ أَوْ نَقِيعُ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ثُمَّ نُقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ إنْ كَانَ مَا نُقِعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ
وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا يَحِلُّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ نَقِيعٍ وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ الْبِتْعُ) الْبِتْعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ شَرَابٌ مُسْكِرٌ يُتَّخَذُ مِنْ الْعَسَلِ. اهـ. مُغْرِبٌ (قَوْلُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ) وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ شَرِبَ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ مِنْ النَّبِيذِ وَلَمْ يَسْكَرْ فَأَوْجَرَ الْعَاشِرَ وَسَكِرَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَوْ أَوْجَرَ التِّسْعَةَ وَشَرِبَ الْعَاشِرَ بِاخْتِيَارِهِ وَسَكِرَ حُدَّ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي) عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ اسْتِمْرَاءَ الطَّعَامِ أَوْ التَّدَاوِيَ فَأَمَّا السُّكْرُ مِنْهُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ) أَيْ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهِيَ الْخَمْرُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالْعَصِيرُ الَّذِي ذَهَبَ بِالطَّبْخِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي الْبَيَانِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ قَالَ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ يَجِبُ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ مِنْهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إلَى هُنَا لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ يَقُولُ مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبِهِ مِمَّا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّرْهَمِ أَعَادَ الصَّلَاةَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَا أَجْوَدُ وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ اهـ (قَوْلُهُ وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ) كَذَا فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَالنَّوَازِلِ وَغَيْرِهِمَا. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَالُوا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ شَارِبُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ) فِي الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ قَالَ فِي الشَّامِلِ، فَأَمَّا الْعِنَبُ إذَا طُبِخَ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ عَصِيرٌ لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ يَحِلُّ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ كَطَبِيخِ الزَّبِيبِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ رحمه الله {فَرْعٌ} قَالَ أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَخْلِطُ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا مَعَ النَّبِيذِ ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ جَمِيعًا وَلَا يَسْكَرُ أَيَجِبُ الْحَدُّ
الْحُرْمَةِ وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْحَدِّ فِي دَرْئِهِ وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ.
قَالَ رحمه الله (وَحَلَّ الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ «نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَكَانَ الِانْتِبَاذُ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ حَرَامًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَنْتَمَةِ، وَهِيَ الْجَرَّةُ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ، وَهِيَ الْقَرْعَةُ وَنَهَى عَنْ النَّقِيرِ، وَهِيَ أَصْلُ النَّخْلِ يُنْقَرُ نَقْرًا أَوْ يُنْسَجُ نَسْجًا وَنَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ وَهِيَ الْقِيرُ» الْحَدِيثَ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رَوَيْنَا وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْخُضْرُ وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّقِيرَ بِالْجِذْعِ يُنْقَرُ وَسَطُهُ وَقِيلَ الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْحُمْرُ ثُمَّ إنْ انْتَبَذَ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ فَلَا إشْكَالَ فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ فِيهَا الْخَمْرَ ثُمَّ انْتَبَذَ فِيهَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ غَسْلِ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ.
قَالَ رحمه الله (وَخَلُّ الْخَمْرِ سَوَاءٌ خُلِّلَتْ أَوْ تَخَلَّلَتْ) أَيْ حَلَّ خَلُّ الْخَمْرِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَخَلَّلَتْ هِيَ أَوْ خُلِّلَتْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا كَالْمِلْحِ وَالْخَلِّ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا بِأَنْ كَانَ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ أَوْ إيقَادِ النَّارِ بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَإِنْ صَارَ بِذَلِكَ خَلًّا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا فَقَالَ لَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ «سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا قَالَ أَهْرِقُوهَا قَالَ أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا قَالَ لَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَفِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُضَادُّ النَّهْيَ؛ وَلِأَنَّ مَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَمَا يَكُونُ نَجِسًا لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ تَنَجُّسُ شَيْءٍ بِالْمُلَاقَاةِ وَالِاقْتِرَابُ حَرَامٌ، وَهُوَ نَظِيرُ قَتْلِ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْإِرْثَ لِمُبَاشَرَتِهِ الْحَرَامَ، وَإِنْ مَاتَ بِنَفْسِهِ وَرِثَهُ وَكَذَا صَيْدُ الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ لَهُ إذَا أَخْرَجَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ حَلَّ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ صُوَرِهَا؛ وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ إزَالَةَ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ وَإِثْبَاتَ صِفَةِ الصَّلَاحِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ كَالدِّبَاغِ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِمَصَالِحَ مُبَاحٌ وَالِاقْتِرَابُ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الْمَآلِ فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِمَا رُوِيَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخَمْرُ اسْتِعْمَالَ الْخَلِّ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا انْتِفَاعَهُ كَالِائْتِدَامِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَأَنْ يُتَّخَذَ الدَّوَابُّ كَرَاسِيَّ» وَالْمُرَادُ الِاسْتِعْمَالُ وَفِي التَّنْزِيلِ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَتُطِيعُونَهُمْ قَالَ نَعَمْ قَالَ هُوَ ذَلِكَ» فَقَدْ فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ نَقُولُ لَيْسَ فِيمَا رُوِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَا تَطْهُرُ بِالتَّخْلِيلِ وَلَا لَهُ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْفِعْلِ، وَهُوَ التَّخْلِيلُ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ إذَا وُجِدَ أَلَا تَرَى أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ رِضَاهُ وَعَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ثُمَّ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبَيْعُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ثُمَّ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ يُفِيدُ حُكْمُهُ مَعَ حُرْمَتِهِ وَتَنَجُّسُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى فِيهَا لِلْمُجَاوَرَةِ فَإِذَا صَارَتْ هِيَ خَلًّا طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ وَلَمْ يَبْقَ مُجَاوِرًا لِلنَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ ظَرْفَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ تَنَجُّسَهُ بِنَجَاسَتِهَا فَإِذَا طَهُرَ بِالتَّخْلِيلِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا لَمْ يُوجَدْ الْمُنَجِّسُ وَلَيْسَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي الْخَمْرِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ وَلَا كَذَلِكَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا خُلِطَ بِالْمَاءِ إنْ كَانَ الْخَمْرُ غَالِبًا وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيذُ غَالِبًا لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَسْكَرْ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ رحمه الله.
(قَوْلُهُ وَكَانَ الِانْتِبَاذُ إلَخْ) قَالُوا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِذَةَ تَشْتَدُّ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ أَكْثَرَ مِمَّا تَشْتَدُّ فِي غَيْرِهَا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالدُّبَّاءُ الْقَرْعُ جَمْعُ دُبَّاءَةٍ اهـ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الشَّارِحُ، وَهُوَ الْقَرْعُ اهـ.
(قَوْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ إلَخْ) فِي طَرِيقِهِ السُّدِّيَّ اهـ. (قَوْلُهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِمَا رُوِيَ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فَنَقُولُ إنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِرَاقَةِ قَلْعًا وَقَمْعًا لَهُمْ عَنْ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَ الْخُمُورِ وَيَعْتَادُوا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَمْ يَأْمَنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يَشْرَبُوهَا إذَا لَمْ يُرِيقُوهَا فَأَمَرَ بِالْإِرَاقَةِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لَهُمْ الْفِطَامُ عَنْ الْمُسْكِرَاتِ رَخَّصَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْعِيَةِ اهـ