الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهم المغانم ففرَّ من فَّر منهم ممن رغب الراحة ولم يبقَّ معه سوى الأربعين الذين كانوا معه أولًا. وكانت سيرته الحربية سيرة مملؤة بالعبر تتجلَّى فيها الأمور الآتية:
أولًا: إعداد أقصى ما يمكن عداده من قوة.
ثانيًا: الحذر وبث العيون والإِرصاد، وقد كان في هذا الأمر ولا يزال صاحب القوس المعلى وهو الذي ساعده على تفهم الأمور وتداركها في وقتها.
ثالثًا: لا يقدم على المعركة إلَّا وهو مضطر لها وترى أثر هذا فيه قبل المعارك الفاصلة إذ كان يسعى مع خصمه لاجتناب المعركة وإحلال السلام فإذا لم يجد مركبًا غير الأسنة تقدم غير هياب ولا وجل.
حلمه وعفوه
أمَّا حلمه وعفوه فإنَّه قد امتاز بمزية فريدة في عصره ولم يورد التاريخ لها مثيلًا إلَّا ما كان في صدر الإِسلام. وكان بعدما يفوز بالنصر يلقى العدو من جلالته من الرعاية والكرم ما لا يلقى الصديق الصدوق وجميع الذين حاربوه وقاتلوه بعد أن ظفر بهم يعيشون معه كما يعيش معه أقرب المقربين إليه لأنَّ جلالته وقد خاض معركة الحياة كان عليه أن يواجه من الأصدقاء والخصوم عددًا غير قليل وأنَّه ليس أعظم بالسرور إذا قدر له أن يظفر بخصمه ثم يعفو عنه وهذا ناشئ من أمرين أحدهما أنَّه جبل على عدم الحقد في نفسه لأحد ما والثاني عملًا بقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وكان يقول عاهدوني على الإِخلاص لله والعمل على سعادة المسلمين، وأمَّا شخصي فدعوه جانبًا فيعفو عمن قدر عليه ويقول: من خدعنا بالله انخدعنا له وحسابه على الله والله من ورائه محيط. ولقد أساء إليه بيت آل رشيد فعفا عنهم بعد القدرة وأسكنهم في القصور الشامخة
في الرياض وأجرى عليهم المال الكثير وذلك بعد ما استسلموا له وجعل بعض آل أبى الخيل أمراء فانقلبوا أعداء وذلك في وقت التقلبات فعفا عن زعيمهم محمد بن عبد الله بعد القدرة عليه وأطلق سراحه يذهب إلى العراق بعدما خيره في البقاء محتشمًا كغيره وعفا عن الهزازند بعدما استسلموا وكانوا قد شقوا عصي الجماعة وكذلك آل عايض وعفا أولًا عن الدويش بعدما استسلم إليه فلما نكث مرة أخرى بعد العفو ورأى أنَّه لم يفد فيه العفو أخذه أخذًا صارمًا (1) ولمَّا تولى الحجاز كان فيه أناس لا يزالون على الولاء للبيت الهاشمي فشردوا إلى مصر وغيرها وأخذوا يعملون على مناواة حكومة ابن سعود بمساعدة بعض الأعداء والاتصال به فلم يكترث بهؤلاء ولم يبال بأمرهم وآخر ذلك أصدر عفوه العام عن جميع من أراد العودة إلى المملكة من أبنائها فرجعوا مستسلمين تائبين وألقوا نفوسهم بين يديه فغمرهم بعطفه
(1) وقد ذكر لنا من حضر الواقعة وهو الأخ حمد بن عبد المحسن وكان ثقة بأنَّه لما جرح الدويش في واقعة السبلة واستجار بابن سعود يتقدمه نساؤه وأطفاله يشفعون له لدى الملك عبد العزيز ذهب إليه صاحب الجلالة في خيمته وفي الخيمة نساؤه وأطفاله من بينهم ابنه عبد العزيز وكان في صحبة الملك ستة من رجاله الملازمين له وأحدهم الراوي فوقف الملك لأصحابه وقال: إنَّ أمامك نساء وأطفالًا فقالوا له: لا بدَّ من دخولنا معك مهما كلف الأمر فأمرهم أن يجلسوا خارج الخيمة والجريح في نعشه فدخل عليه بنفسه وقال لا بأس عليك يا أبا عبد العزيز حسبنا الله ونعم الوكيل والله إنَّه ليس بودي أنَّ الأمور جرت على هذا الوضع فتكلم الدويش قائلًا: يا أبا تركي أنا مولي (ذاهب) عن الحياة وتاركها ولكن والله ليس بودي إلَاّ أن أعيش فأوالي من واليت وأعادي من عاديت وأريد أن أعاهدك يا عبد العزيز فقال له صاحب الجلالة: لا تعاهدني فإني أخشى أن تنكث فيحيط بك العهد فقال: بلى أعاهدك بالله الذي رفع السموات السبع وبسط الأرضين السبع بأني صديق صديقك وعدو عدوك ولو كان ابني عبد العزيز هذا فنهاه ابن سعود عن ذلك العهد ثم استمرَّ فقال: فإن كنت كاذبًا أو مخادعًا فإني أسأل الله الطالب الغالب الذي لا مفر منه أن خنته أو بدلت أن يلقيني بين يديك أذل من إبليس عشية يوم عرفة فسمح عنه ابن سعود وأمر طبيبه الخاص أن يعالجه ثم قال: يا طويل العمر لا بعير ولا خيمة ولا زاد ولا مزاد ولا سلاح فأمر له ابن سعود بذلك كله ولما نكث والعياذ بالله ترى كيف أن الله سبحانه وتعالى ألقاه بين يدي ابن سعود كما دعى أذل من إبليس عشية يوم عرفة وفي ذلك عبرة لمن يخشى.