الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شفقته على الرعية
أمَّا شفقته وعطفه على الرعية فإنَّه قام بأمور لا يشاركه فيها أحد في الأزمان المتأخرة نسأل الله المنان أن يتولى جزاءه على ذلك بخير ما جوزي محسن على إحسانه. فمن مثله في ذلك عطفًا ودينًا وحلمًا وحزمًا وصرامةً وتواضعًا فإنَّه لآية من آيات الله وعبرة لمن اعتبر. قال الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين في فتح حائل:
تدارككم حلم الإِمام وعفوه
…
وقد بلغ السيل الزبى وطما البحر
فأصبحتمو عنه بنجوة منعم
…
عليكم فهل يلقى لديكم له شكر
فلا تكفروها نعمة مقرنية
…
فإن كفرت كانت هي الغل والأصر
فكم حول النعماء قومًا تربصوا
…
فأرداهم خبث الطوية والغدر
فلولا التقى والصفح عنكم لأصبحت
…
منازلكم يشتو بها الربد والعفر
وقال في فتح مكة المكرمة والمدينة المنورة:
سفر الزمان بغرِّة المستبشر
…
وكسى شبابًا بعد ذاك المكبر
وتأرجت أرجاؤه بشذائه
…
حتى لخلنا الترب شيب بعنبر
وتألقت في طيبة سرج الهدى
…
ما بين روضة سيدي والمنبر
وتألقت من قبل ذاك بمكة
…
إذ قدست من كل رجس مفتر
وتجددت من جدة أعلامه
…
وتقشعت منها رسوم المنكر
وجرت ينابيع الهدى في ينبع
…
هذى السعادة يا لها من مفخر
بفتوح مؤتمر الإِله لدينه
…
ملك تسلسل من كريم العنصر
ليت الذي سكن الثرى ممن مضى
…
من أهل بدر والبقيع المنور
نظروا صنيعك في المدينة والتي
…
يهوى إليها كل أشعث أغبر
كي يشهدوا أن الفضائل قسمت
…
بالفضل بين مقدم ومؤخر
ويسرهم إحياؤك الشرع الذي
…
قد كان قبلك مثل روح مغرغر
قال بعض حجابه عنه: قام جلالة الملك للتهجد في بعض الليالي فلما توضأ وأراد أن يكبر إذا بأنين مريض سمعه على البعد فسأل عنه فقيل مسكين خارج سور المربع أصابه حصر البول فألقى بنفسه هناك يئن لما يقاسيه من شدة الألم. فقال للحاجب: إحمله في سيارة واذهب به إلى المستشفى ولا تبرح مكانك حتى يعالج. قال الحاجب فقمت مبادرًا أقول في نفسي: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون أذهب به فلعلي لا أدخل الرياض إلَّا بشدة لأنَّ الأبواب مغلقة أو قد لا تفتح لنا بليل ثم إذا دخلنا فمن يوقظ الأطباء في هذه الساعة وما عساهم يقومون إلَّا بالنهار ثم إنَي التزمت المريض وحملته معي في السيارة قال فما وصلت السيارة الدروازة إلَاّ وقد سبق الأمر العالي بفتحها فدخلنا من دون استئذان ولما قربنا من المستشفى إذا أنوار المصابيح والكهرباء في تلك الساعة من منتصف الليل وهذا خلاف العادة فساعة وصلنا إذا بهم يحملون المريض ويباشرونه في الحال تنفيذًا للخطة المرسومة لهم من قبل الهاتف ونحن في الطريق وباشره الأطباء مباشرة حارة فما لبث أن قام كأنَّما نشط من عقال فأخذته ورجعت به إلى موضعه ثم دخلت وصعدت إلى جلالة الملك فوجدته واضعًا يده على خده جالسًا فبدرني بقوله: ما صنع المريض قلت شفاه الله تعالى فبدرته العبرة وقال: الحمد لله الذي عافاه وسر لذلك كثيرًا. وخرج مرة لصلاة الاستسقاء وكان يستصحب أكياس الذهب والفضة والنقود إذا خرج ليقسمها على الفقراء فتراه في ذهابه يمشي موكبه مطمئنًا وينثر بيديه المال يحثوه حثوًا فلما كان في أثناء سيره مرَّ شيخ كبير يريد أن يراه أمام سيارته الخاصة فلم تمهله المقادير أن يجتاز ولم يملك السائق السيارة فحطمت ساق الرجل الهرم وألقته على الأرض فأوقف الملك سيارته ونزل إلى الأرض منكسف البال وألقى بنفسه على الشيخ الهرم المصاب يبكي ودموعه تسكب على وجه الشيخ قد التزمه يبكي ويقول: بسم الله عليك يا أبي يصغرها كعادة أهل نجد
ثم صاح مبادرًا بالأطباء فما كان إلَاّ لحظة حتى أقبلوا كالسيل المنهمر وجعلوا يضمدون الساق ويبذلون وسعهم في العلاج. أمَّا المصاب فنسي ألمه وقبض على عنق الملك يدعو له ويقبله ويبكي لبكائه مناديًا بأعلى صوته قد سمحت يا طويل العمر. ولمَّا أن رجع من صلاة الاستسقاء أمر له بصرة ذهب تقدر بمائة وخمسين جنيهًا ذهبًا وأن يشتري له بيت يسكنه وعائلته ونفذ له أمرًا بسيارة يركبها. فعاش في أرغد عيش. ومرَّ في بعض الأيام وكان قد خرج من الرياض يريد المربع بجمَّال أعرج يمشي خلف بعير على ظهره حمل من الحطب وكان يومًا شديد البرد. فوقف يسائله ويعجب لحالته يا عبد الله ما الذي أخرجك في هذا اليوم الشاتي فهلا جلست في بيتك هذا اليوم فربما يأتي الله برزق فأجاب الجمَّال يا طويل العمر أخرجتني الحاجة فوالله إن طعام العائلة والبعير لمن ما على ظهره من الحطب ولو وجدنا كفاية يومنا لما خرجت في هذا البرد الشديد فناوله صرة يظنها ريالات ولمَّا ولَّى الجمَّال مدبرًا أخبره السائق أنَّها صرة الجنيهات لا الريالات الفضية وأنَّها ثلثمائة جنيه ذهبي فنادى الجمَّال فأقبل إليه كاسف البال ظنًا منه أنَّه يستردها فقال له ابن سعود: أردت أن أهبك ريالات وما نويت إلَاّ هذا ولكن الله عز وجل هو الذي وهبك هذا الذهب. إنِّي أخطأت فأعطيتك صرة الذهب وبها ثلثمائة جنيه ذهبي فخذها واشكر الله وحده واعلم أن هذه القطعة الصغيرة تساوي أربعين ريالًا من الفضة وذلك لأن هذا الفقير لا يعرف قدر الذهب ثم قال: أشير عليك يا ولدي بالعقار وأعمل ولا تكسل. فاشترى بها نخلًا وزرع وأصبح ذلك الصعلوك غنيًا وما يزال الرجل موجودًا. ولمَّا كان بعد منتصف القرن الرابع عشر أسس الموضع المعروف بالمربع وكان موضعًا اختار سكناه لتكون الحاشية كلها فيه فكان العمال الذين في بنايته تسعمائة من الرعية. فقال الوزير له: إنَّ هذا القدر من العمال كثير. فقال: إني لمَّا عزمت على ذلك المشروع كان من نيتي أن يتعلق
هؤلاء العمال في طلب الرزق وكان المربع مشهورًا بالعاصمة وقد أودع فيه من الغرف والرفعة والزينات ما لا تبلغه العبارة ويحتوي على جوامع ومساجد وتجد سيارات الأجرة في مواقفها ينادي أربابها في الركوب إلى حلة القصمات إلى المربع إلى دخنه إلى الدرعية وغير ذلك. وكان إذا سار من جهة إلى أخرى فإنَّه يحيط به من العساكر والجموع في موكبه شيء عظيم وكل موكبه غارق بالقوة والحديد فلا يستطيع أحد الدنو منه غير أنَّه إذا رأى الفقراء لا يتمالك من القرب منهم لا سيما إذا سمع مظلومًا فإنَّه لا يتجاوز مكانه حتى يكشف مظلمته فتجد المظلوم يتحين لمروره فيقف في الطريق فكان الملك لا يهاب قويًا ولا شديدًا كما يهاب المظلوم حتى ينصفه ويباشر مسألته بنفسه. ولقد رأيت مرة في مكة المكرمة في موسم الحج سنة ألف 1363 رجلًا أقبل من مكة يمشي حتى إذا ما توسط من قصر السقاف قصر جلالة الملك في المعابدة وظن أنَّه يسمع صوته وقف وصاح ينادي بأعلى صوته مظلوم وجعل يبكي وينادي بأعلى الصوت. وكانت تلك الرحبة قد رشت بالماء ولا يقربها سوى الحرس أو الأمراء وفيها بعض السيارات الحكومية. فلما تكلم بكلامه المتقدم اندفعت إليه الجنود كأنَّهم السيل المنهمر لأنَّ لا يحدث تشويشًا على الملك، غير أنَّه تمكن من الصياح بصفته رجلًا قويًا وكان حجازيًا ليس على رأسه سوى قلنسوة. فنزل صاحب الجلالة إليه بنفسه على السيارة وكان لمبادرته بالنزول لم يتمكن الحرس من اللحاق به سوى قدر من خمسين حارسًا، فأمر بأن يحضر المظلوم بين يديه بباب القصر فأركبه وصعد به إلى المجلس ثم سأله عن ظلامته فادعى بأنَّه دعس ابنه وضاع الذي دعسه ولم يؤخذ حقه وجعل يبكي ويسترحم ويلوذ بعدله عن الظلم. فسأله منذ كم أصيب ابنه فأجاب بأن مضى شهر وهو يطالب بدمه ولم يصل إلى الحقيقة. فما كان إلَاّ قليل حتى أحضر بين يديه المسؤولين عن أعمال مكة فأجلسهم أمامه وجعل يتهددهم ويتوعدهم حتى
ظهر أنَّ صاحب السيارة أحد أمراء البيت السعودي فأمر بأن يحضر بين يديه ولمَّا أن حضر نزع عباءته الوبر وأجلسه مع خصمه أمامه وقال له: إن أول ما نأخذ الحق من أبناءنا فلما رأى هذا المُتظلم عدله وإنصافه وأنَّه لا يحابي جعل يبكي لهذا العدل والإِنصاف وقنع وطابت نفسه. فقال له: لا تبكِّ فلك عليَّ أحد ثلاثة أمور أتريد الشرع أحلتكما عليه فهو مبذول أم تريد أن أكون أنا الحكم بينكما أو تعفو عن صاحبك فمن عفا وأصلح فأجره على الله تكلم يا بني فالحق لك فعجز المتظلم عن الكلام غير أنَّه زحف حتى وصل إلى قدمي الملك فجعل يقبلهما ويبكي ويقول: يا طويل العمر قد عفوت وسمحت فإذا كان الداعس نجلكم فأنا وابني أولادكم غير أنَّه جعل يردد عليه كلمة العفو وهو يجيب بقد عفوت قد عفوت وكنت أظن فيما يظهر لي أنَّه لم يعلم أنَّ صاحبه من البيت المالك، فلما تبلغ جميع الحاضرين عفوه قال له: جزاك الله خيرًا ورضاؤك حاصل. فأمر له بجاريتين وغلام وثلاثين ألف ريال بينما كانت الدِّية إذ ذاك أقل منها بكثير وسيارة من مركوبات الأمراء تساوي ستة عشر ألف ريال وأربعة مشالح من الوبر الطيب وكسوة فاخرة. فانظر إلى توفيق هذا الملك العادل المنصف، ولقد كان في ذلك عبرة ولقد بعث إلى كل المقاطعات في المملكة لما أن وقعت الحرب العظمى الثانية ودخلت إيطاليا الحرب قرضا من البر والذهب والإِبل مساعدة للفلاحين وذلك على توالي سني الحرب وآخر ذلك عفا عن استرجاعها مراعاة للرعية.
ولمَّا لاح للنَّاس شبح الموت نتيجة امتناع المسلمين عن الحج بسبب الحروب التي سببتها الحرب العالمية، وخشية توقف سير السفن في البحر الأحمر وأخذ كل واحد يعمل لإدخار الأرزاق في بيته ولسان حال كل فرد منهم يقول نفسي نفسي. قام وجمع الزعماء وطمأنهم على حياتهم قائلًا: لا تخافوا سنشاطركم ما لدينا من مال وأرزاق ثم أجرى مبرة ملكية من الخبز
في سائر المدن والقرى، ويتألف اللجان لذلك في مختلف البلاد وتقرر رغيفًا واحدًا لكل فرد من أفراد الشعب. إذا كان ممن لا عمل له أو إن عمله لا يسد حاجته ولا حاجة عياله حتى بلغ ما يوزع عليهم في جميع أنحاء المدن ربع مليون رغيف يوميًا زنة كل رغيف خمس أواق وبلغ ما كان ينفق في مكة المكرمة من عيش المبرة يوميًا 125 ألف قرص. ولم يقف به الأمر عند هذا الحد حتى أمر بأن تخصص لكل فرد من أفراد رجال البادية ونسائها كل شهر ثلاث كيلات من الأرز ونصف ريال مضافًا إليها كسوة كاملة في الصيف وأخرى في الشتاء ترسل إليهم في قراهم بواسطة السيارات ويوزعها رجال أمناء من قبله. ولقد كنت حاضرًا في مكة المكرمة لأداء الحج عام إحدى وستين بعد الألف وثلاثمائة فشاع للأمة أن صاحب الجلالة سيحج مبكرًا أو يقدم إلى مكة فأقبلت جموع من البادية وبنوا بيوت من الشعر في الأبطح من مكة على طريقه وكانت تلك البيوت على صفة مدينة مستقلة ذلك لما قام بالمسلمين من خوف الجوع والعري. ولما أن وصل إلى عشيرة كانت سيارات الكسوة للفقراء تبلغ ثماني عشرة سيارة من سيارات النقل محملة بها وفرحت الأمة بقدومه وكنت أسمع من يقول على جهة التعظيم أنَّه سيقدم على ألفي سيارة فأطلقت قلاع مكة من منتصف نهار اليوم 15 من ذي القعدة إلى منتصف الليل مائة طلقة مدفع وطلقة. ولمَّا أن قدم الموكب قبل غروب الشمس بثلاثين دقيقة ورأى كثرة المجتمعين أمر بأن يشتغل على نفقة الحكومة ثلاثمائة ماكنة خياطة زيادة على ما جاء به وكانت ساعة للخلائق ينظرون إلى تلك العظمة، وكان النائب قد صفَّ الجنود من قصر السقاف إلى الكعبة المشرفة صفين ولقد حاولت امرأة من أهالي مكة أن تنظر إلى الملك فلم تستطع لكثرة الزحام فانصرفت مرخية الجلباب على وجهها تقول بأعلى صوتها: هذا الملك ابن سعود اللَّهُمَّ اجعل عدوه في قبضته فعجبت لذلك وذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: "خيار أئمتكم الذين