الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا هو الذي تظاهَرَتْ به أقوال المتأوِّلين، وقالتْ جماعة من الفقهاء: المرادُ بهذهِ الآية الزكَاةُ المفروضَةُ، وقوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها: أحسن ما يحتمل أنْ تكون هذه الأفعالُ مسندة إلى ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: معناه: ادع لهم، فإِن في دعائك لهم سكوناً لأنفسهم وطمأنينة ووقاراً، فهي عبارةٌ عن صلاح المعتَقَد، والضميرُ في قولِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا قال ابنُ زَيْدٍ: يُرادُ به الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين «1» ، ويحتملُ أنْ يُرَادِ به الذين تابوا، وقوله: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قال الزَّجَّاج «2» : معناه: ويقبل الصدقات «3» ، وقد جاءَتْ أحاديثُ صحاحٌ في معنى الآية منها حديثُ أبي هريرة:«إِنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ يَأْخُذُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» «4» ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارةٌ عن القبول والتحفِّي بصدقة العبد.
وقوله: عَنْ عِبادِهِ: هي بمعنى «من» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 105 الى 110]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَاّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
(1) أخرجه الطبري (6/ 466) برقم: (17177) ، وذكره ابن عطية (3/ 79) .
(2)
ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 467) . [.....]
(3)
ذكره ابن عطية (3/ 79) .
(4)
أخرجه البخاري (3/ 326) كتاب «الزكاة» باب: الصدقة من كسب طيب، حديث (1410)، ومسلم (2/ 702) كتاب «الزكاة» باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (63، 64/ 1014)، والترمذي (3/ 40- 41) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في فضل الصدقة، حديث (661- 662)، والنسائي (5/ 57) كتاب «الزكاة» باب: الصدقة من غلول، وابن ماجه (1/ 590) كتاب «الزكاة» باب:
فضل الصدقة، حديث (1842) ، وأحمد (2/ 331، 382، 418، 419، 431)، والدارمي (1/ 395) كتاب «الزكاة» باب: فضل الصدقة، وابن خزيمة (4/ 93) برقم:(2426) ، وابن حبان (3318) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وللحديث شاهد من حديث عائشة.
أخرجه أحمد (6/ 251) ، وابن حبان (819- «موارد» ) ، والبزار (1/ 441- «كشف» ) ، حديث (931) .
والهيثمي في «المجمع» (3/ 115) وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.
وقوله سبحانه: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
…
الآية: هذه الآية صيغتُها صيغةُ أمْرٍ مضمَّنها الوعيدُ.
وقال الطبري «1» : المراد بها الذين اعتذروا من المتخلِّفين وتابوا.
قال ع «2» : والظاهر أن المراد بها الذين اعتَذَروا، ولم يتوبوا وهم المتوعَّدون، وهم الذين في ضمير أَلَمْ يَعْلَمُوا، ومعنى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ، أي: موجوداً معرَّضاً للجزاء عليه بخَيْرٍ أو بِشَرٍّ.
وقال ابنُ العرَبِيِّ «3» في «أحكامه» : قوله سبحانه: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ هذه الآية نزلَتْ بعد ذكر المؤمنين، ومعناها: الأمر، أي: اعملوا بما يُرْضِي اللَّه سبحانه، وأمَّا الآية المتقدِّمة، وهي قوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 94] فإنها نزلت بعد ذكْر المنافقين، ومعناها: التهديد وذلك لأن/ النفاق موضِعُ ترهيبٍ، والإيمانُ موضعُ ترغيبٍ، فقوبل أهْلُ كلِّ محلٍّ من الخطاب بما يليقُ بهم. انتهى.
وقوله سبحانه: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ: عَطْفٌ على قوله أولاً: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا: ومعنى الإِرجاء: التأخير، والمراد بهذه الآية فيما قال ابنُ عباس وجماعةٌ: الثلاثةُ الذين خُلِّفوا، وهم كَعْبُ بْنُ مالكٍ، وصاحباه «4» على ما سيأتي إن شاء اللَّه، وقيل: إِنما نَزلَتْ في غيرهم من المنافقين الذين كانوا مُعَرَّضين للتوبة مع بنائهم مَسْجِدَ الضِّرارِ، وعَلَى هذا: يكون الَّذِينَ اتَّخَذُوا بإسقاط واو العطف بدلاً من آخَرُونَ، أو خبر مبتدأ، تقديره: هم الذين، وقرأ عاصم «5» وعوامُّ القُرَّاء، والنَّاسُ في كل قطر إلّا ب «المدينة» :
(1) ينظر: «الطبري» (6/ 467) .
(2)
ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 80) .
(3)
ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 996) .
(4)
سيأتي إن شاء الله تعالى.
(5)
وكذلك هي في مصاحف أهل الشام.
ينظر: «معاني القراءات» (1/ 464) ، و «إعراب القراءات» (1/ 256) ، و «العنوان» (103) ، و «شرح الطيبة» (4/ 341) ، و «شرح شعلة» (415) ، و «إتحاف» (2/ 98) .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، وقرأ أهلُ المدينة، نافع وغيرُهُ الَّذِينَ اتخذوا- بإسقاط الواو- على أنه مبتدأ، والخبر: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ وأما الجماعة المرادة ب الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً، فهم منافقو بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عوف، وأسند الطبريُّ «1» ، عن ابن إِسحاق، عن الزُّهْرِيِّ وغيره، أنه قال: أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تَبُوكَ، حتى نَزَلَ بذي أَوَانَ- بلدٌ بينه وبين المدينةِ ساعةٌ من نهار- وكان أصحاب مسجد الضّرار، قد أتوه صلى الله عليه وسلم وهو يتجهَّز إِلى تبوكِ، فقالوا: يا رسُولَ اللَّهِ إنا قد بَنَيْنَا مسَجِداً لِذِي العِلَّة والحاجة واللَّيْلَة المَطِيرة، وإِنا نُحِبُّ أَن تأتينا فتصلِّي لنا فيه، فقال:«إِنِّي على جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ» ، فَلَمَّا قَفَلَ، وَنَزَلَ بِذِي أوَان، نَزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ في شأن مسجد الضّرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُنِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ، أو أخاهُ عاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ، فَقالَ:«انطلقا إِلَى هَذَا المَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فاهدماه، وَحَرِّقَاهُ» فانطلقا مُسْرِعَيْنِ فَفَعَلَا وَحَرَقَاهُ «2» ، وذكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث لِهَدْمِهِ وتحريقه عَمَّار بن ياسر وَوَحْشِيًّا مَوْلَى المُطْعم بن عَدِيِّ، وكان بَانُوهُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، منهم ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، ومُعْتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، ونَبْتَلُ بْنُ الحَارِثِ وغيرهم، وروي أنه لما بنى صلى الله عليه وسلم مَسْجداً في بني عمرو بن عوف وقْتَ الهِجْرَة، وهو مَسْجِدُ «قُبَاءٍ» وتشرَّفَ القومُ بذلك، حَسَدَهم حينئذٍ رجالٌ من بني عَمِّهم من بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عَوْفٍ، وكان فيهم نفاقٌ، وكان موضعُ مَسْجِدِ «قُبَاءٍ» مربطاً لحمارِ امرأة من الأنصار، اسمها: لَيَّةُ، فكان المنافقُونَ يقولُونَ: واللَّه لا نَصْبِرُ على الصَّلاة في مَرْبَطِ حمارِ لَيَّةَ، ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامرٍ المعروفُ بِالرَّاهِبِ منهم، وهو أبو حنظلة غسيلِ الملائكةِ، وكان سيِّداً من نظراء عبدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ، فلما جاء اللَّهُ بالإِسلام، نافق، ولم يَزَلْ مجاهراً بذلك، فسمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاسِق، ثم خرج في جماعة من المنافقينَ، فحزّب على النبيّ صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردَّهم اللَّه بغَيْظهم، أقام أبو عامر ب «مكة» مظهراً لعداوته، فلما فتح اللَّه «مكة» ، هَرَبَ إِلى «الطائف» ، فلما أسلم أهْلُ الطائف، خرج هارباً إِلى الشام، يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى المنافقين من قومه أَن ابنوا مسجداً، مقاومةً لمسجد «قُبَاء» ، وتحقيراً له، فإِني سآتي بِجَيْشٍ من الرومِ، أُخْرِجُ به محمَّداً، وأصحابه من «المدينة» ، فبَنُوهُ وقالوا: سيأتي أبو عامرٍ ويصلي فيه، فذلك قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني: أبا عامر، وَقَوْلَهُمْ: سيأتي أبو عامر، وقوله: ضِراراً أي: داعيةً للتضارر من/ جماعتين.
(1) أخرجه الطبري (6/ 469) برقم: (17200) ، وذكره ابن عطية (3/ 81) .
(2)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 469- 470) برقم: (17200) من طريق ابن إسحاق به.
وقوله: تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ: يريدُ: تفريقاً بين الجماعة التي كانَتْ تصلِّي في مسجد «قباء» ، فإن مَنْ جاور مَسْجدهم كانوا يَصْرِفُونه إليه، وذلك داعيةٌ إلى صرفه عن الإِيمان، وقيل: أراد بقوله: بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي: أنَّ مسجد الضِّرار، لَمَّا هدم وأُحرِق، اتخذ مزبَلَةً ترمى فيه الأقذار والقِمَامَات، وروي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلَتْ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً كَانَ لا يمرُّ بالطريق التي هو فيها.
وقوله: لَمَسْجِدٌ: قيل: إن اللام لام قسمٍ، وقيل: هي لام ابتداء، كما تقول:
لَزَيدٌ أَحْسَنُ النَّاسِ فِعْلاً وهي مقتضية تأكيداً، وذهب ابن عباس وفرقةٌ من الصحابة والتَّابعين إلى أنَّ المراد ب «مسجد أسس على التقوى» : مسجد «قباء» «1» وروي عن ابن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم «2» ويليق القولُ الأول بالقصَّة إِلَاّ أن القولَ الثاني مرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا نَظَرَ مع الحديثِ، قال ابنُ العَرَبي «3» في «أحكامِه» : وقَدْ رَوَى ابْنُ وهْبٍ وأشهبُ، عن مالكٍ أن المراد ب «مسجد أُسس على التقوى» : مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال اللَّه تبارك وتعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: 11] وكذلك روى عنه ابن القاسم، وقد روى الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: تمارى رَجُلَان في المَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ «قُبَاء» ، وَقَالَ الآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» . قَالَ أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيحٌ، وخرَّجه مسلم «4» انتهى.
ومعنى: أَنْ تَقُومَ فِيهِ: أي: بصلاتك وعبادتك.
(1) أخرجه الطبري (6/ 474) برقم: (17226- 17227) ، وذكره ابن عطية (3/ 82) .
(2)
أخرجه الطبري (6/ 473) برقم: (17216- 17217) ، وذكره ابن عطية (3/ 82)، والبغوي:(2/ 327) .
(3)
ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 1014) .
(4)
أخرجه مسلم (2/ 1015) كتاب «الحج» باب: بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حديث (514/ 1398)، والترمذي (2/ 144- 145) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في المسجد الذي أسس على التقوى، حديث (323)، وفي (5/ 280) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة التوبة، حديث (3099) ، وأحمد (3/ 8، 23، 24، 91) ، وابن أبي شيبة (2/ 372- 273)، وأبو يعلى (2/ 272- 373) برقم:(985) ، وابن حبان (1606) ، والحاكم (2/ 334) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 544- 545) من طرق عن أبي سعيد الخدري به.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 277) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وقوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا اختلف في الضمير أيضاً، هل يعودُ على مسجدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أو على مسجد «قُبَاءَ» ؟ روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بالطُّهُورِ، فَمَاذَا تَفْعَلُونَ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ اليَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالمَاءِ يُرِيدُونَ الاستنجاء، فَفَعَلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ، لَمْ نَدَعْهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:«فَلَا تَدَعُوهُ إِذَنْ» «1» .
والبنيانُ الذي أُسِّس على شفا جُرُفٍ: هو مسجدُ الضِّرار بإِجماع، و «الشّفا» :
الحاشية والشّفير، وهارٍ: معناه مُتهدِّمٌ بالٍ، وهو من: هَارَ يَهُورُ «2» البخاريُّ: هَارَ هَائِرٌ تَهَوَّرَتِ البِئْرُ، إِذا تهدَّمت وانهارت مثله. انتهى.
وتأسيسُ البناء علَى تقوى إِنما هو بحُسْن النية فيه وقَصْدِ وجه اللَّه تعالى، وإِظهارِ شرعه كما صنع في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي مسجدِ «قُبَاء» ، والتأسيسُ على شفا جُرُفٍ هَارٍ إِنما هو بفسَاد النيَّة وقصدِ الرياءِ، والتفريقِ بَيْنَ المؤمنين، فهذه تشبيهاتٌ صحيحةٌ بارعةٌ.
وقوله سبحانه: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ: الظاهر منه أَنَّه خارجٌ مَخْرَجَ المَثَلِ، وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المَسْجِدَ بعينه انهار في نَارِ جَهَنَّم قاله قتادةُ وابْنُ جُرَيْج «3» ، وروي عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وغيره أنه قال: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ، وروي في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَآهُ حين انهار بَلَغَ الأَرض السابعة، فَفَزِعَ لذلك صلى الله عليه وسلم، وروي أنهم لم يُصلُّوا فيه أكْثَرَ من ثلاثةِ/ أيامٍ، وهذا كلُّه بإِسناد لَيِّنٍ، واللَّه أعلم، وأسند الطبريُّ عن خلفِ بْنِ ياسِين، أنه قَالَ: رَأَيْتُ مسْجِدَ المنافقينَ الذي ذَكَرَه اللَّه في القرآن، فَرَأَيْتُ فيه مكاناً يخرجُ منه الدُّخَان «5» وذلك في زَمَن أبي جَعْفَرٍ المنصورِ، وروي شبيه بهذا أو نحوه عَن ابن جريج «6» : أسنده الطبري.
(1) تقدم تخريجه. [.....]
(2)
ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 164) كتاب «التفسير» باب: سورة التوبة.
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 479) برقم: (17260- 17261) ، وذكره ابن عطية (3/ 85) ، والبغوي (3/ 328) ، وابن كثير (2/ 391) ، و «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 499) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس بنحوه.
(4)
أخرجه الطبري (6/ 479) برقم: (17262) ، وذكره ابن عطية (3/ 85) ، والبغوي (2/ 328) ، وابن كثير (2/ 391) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 499) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه.
(5)
ذكره ابن عطية (3/ 86) .
(6)
أخرجه الطبري (6/ 479) برقم: (17261) .