الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان يتأخَّر أحياناً، فكان الكُفَّار يقولون: هَلَاّ اجتبيتها، أي: اخترتها، فأمره اللَّه عز وجل أنْ يجيب بالتسْلِيمِ للَّه، وأَنَّ الأمر في الوحْي إِليه ينزِّله متى شاء، ثم أشار بقوله: هذا بَصائِرُ إلى القرآن، أي: علاماتُ هُدًى، وأنوارٌ تستضيء القلوبُ به.
وقوله سبحانه: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، ذكر الطبريّ وغيره أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا بمكَّةَ يتكلَّمون في المكتوبةِ بحوائجهم، فنزلتِ الآية أمْراً لهم بالاستماع والإنصات في الصَّلاة، وأما قولُ من قال: إِنها في الخُطْبة، فضعيفٌ، لأن الآية مكِّيَّة، والخُطْبَة لم تُكنْ إِلا بعد الهِجْرة، وألفاظ الآية على الجملة تتضمَّن تعظيم القُرْآن وتوقيرَهُ، وذلك واجبٌ في كل حالة، والإِنصاتُ: السكوتُ.
قال الزجَّاج: ويجوز أن يكون: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، أي: اعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه.
قالَ ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ، وأبو داود، عن عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ، فَلَمَّا انصرف، قال:«إنّي لأراكم تقرءون وَرَاءَ إمامكم، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيْ وَاللَّهِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَاّ بِأُمِّ القُرْآنِ فإِنَّه لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» «1» وقد رَوَى الناسُ في قراءة المأمومين خَلْفَ الإِمام بفاتحةِ الكِتَاب أحاديثَ كثيرةً، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطنيُّ، وقد جمع البخاريُّ في ذلك جزءًا «2» ، وكان رَأْيُهُ قراءةَ الفَاتحَةِ خلْفَ الإِمامِ في الصلاة الجهريَّة، وهي إِحدى روايات مالكٍ، وهو اختيارُ الشافعيِّ. انتهى، وقد تقدَّم أول الكتاب ما اختاره ابن العربيّ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ
…
الآية: مخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم/، وتعمُّ جميعَ أمته، وهو أمر من اللَّه تعالَى بذكْره وتسبيحِهِ وتقديسِهِ، والثناءِ عليه بمحامدِهِ، والجمهورُ على أن الذِّكْر لا يكون في النفْسِ، ولا يراعَى إِلا بحركه اللسَانِ، ويُدلُّ على ذلك من هذه الآية قوله: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، وهذه مرتبةُ السرِّ، والمخافتة.
وقال الفَخْر «3» : المراد بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، كونه عارفا بمعاني
(1) تقدم.
(2)
أسماه القراءة خلف الإمام.
(3)
ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 86) . [.....]
الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضراً لصفاتِ الجلالِ والعظمة، وذلك أن الذكْرَ باللِّسَان، إِذَا كان عارياً عن الذكْر بالقلْب، كان عدِيمَ الفائدة، ألَا تَرَى أن الفقهاء أجمَعُوا على أنَّ الرجُلَ، إِذا قال: بِعْتُ واشتريت مع أنَّه لَا يَعْرفُ معانِي هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئاً، فإِنه لا ينعقد البَيْعُ والشراءُ، فكذلك هنا، قال المتكلِّمون: وهذه الآية تدُلُّ على إثبات كلامِ النفْس.
وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ، يدُلُّ على أن الذكْرَ القلبيَّ يجبُ أن يكون دائماً، وألَاّ يغفُلَ الإنسان لحظةً عن استحضار جلالِ اللَّهِ وكبريائِهِ بقَدْر الطاقةِ البشريَّة، وتحقيقُ القول في هذا أنَّ بَيْنَ الرُّوحِ والبدنِ عَلَاقةً عجيبةً لأَن كلَّ أثر يحصُلُ في البدَنَ يصْعَدُ منه نتائجُ إِلى الرّوحِ أَلَا تَرَى أنَّ الإِنسان إِذا تخيَّل الشيء الحامِضَ، ضَرَسَ منه، وإِذا تخيل حالَةً مكروهةً، أو غَضِبَ، سَخِنَ بدنه. انتهى. وتَضَرُّعاً: معناه: تذُّلَلاً وخُضُوعاً، البخاريُّ: وَخِيفَةً، أي: خوفاً انتهى.
وقوله: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ: معناه: دَأَباً، وفي كلِّ يوم، وفي أطرافِ النهارِ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ تنبيهٌ منه عز وجل، ولما قال سبحانه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: جَعَل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائِكَةِ لِيَبْعَثَ على الجِدِّ في طاعة اللَّهِ سبحانه.
ت: قال صاحبُ «الكلم الفارقية» : غفلةُ ساعةٍ عَنْ ربِّك مَكْدَرَة لمرآةِ قَلْبِكَ فكَيْفَ بِغَفْلَة جميعِ عُمْرك. انتهى.
قال ابن عطاء اللَّهِ رحمه الله: لا تتركُ الذِّكْر، لِعَدَمِ حُضُورك مع اللَّه فيه لأن غفلتك عن وُجودِ ذكْرِهِ أشدَّ مِنْ غفلتك في وجودِ ذكْرِهِ فعسى أن يرفعك مِنْ ذكْرٍ مع وجود غفلة، إِلى ذكْرٍ مع وجودِ يَقَظَةٍ، ومن ذِكْرٍ مع وجود يقظةٍ إِلى ذكْرٍ مع وجودِ حُضُورٍ، ومِنْ ذكْرٍ مع وجود حضور، إِلى ذكْرٍ مع وجود غيبة عمَّا سوى المذْكُور، وما ذلك على اللَّه بعزيز. انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه» : قوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: أي:
فيما أُمِرْتَ به، وكُلِّفْتَه، وهذا خطابٌ له عليه السلام، والمراد به جميعُ أمته. انتهى.
وقوله: الَّذِينَ، يريد به الملائكةَ.
وقوله: عِنْدَ، إِنما يريد به المنزلةَ، والتشريف، والقُرْبَ في المكانة، لا في المكان، فَهُمْ بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حَالَهُمْ مِنْ تواضعهم، وإِدمانهم العبادة، والتَسبيحَ والسُّجودَ» ، وفي الحديث: «أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ
إِلَاّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ رَاكعٌ، أَوْ سَاجِدٌ» «1» وهذا موضع سجدة.
/ قال عَبْدُ الرحمن بْنُ محمَّدٍ عفا اللَّه عنه: كَمُلَ ما انتخبناه في تفسير السورة، والحمد لله على ما به أنعم، وصلَّى اللَّه على سيّدنا محمّد وآله وسلّم تسليما كثيرا.
(1) أخرجه الترمذي (4/ 556) كتاب «الزهد» باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ، حديث (2312)، وابن ماجه (2/ 1402) كتاب «الزهد» باب: الحسن والبكاء، حديث (4190) ، والحاكم (2/ 510) من طريق مجاهد، عن مورق العجلي عن ابن ذر به.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي.