الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التَّوْرَاة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمريْنِ جميعاً في إيجازٍ، جعل قَضَيْنا دالَّة على النفوذ في أم الكتاب، وقَرَن بها «إِلى» دالَّةً على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصودُ مفهومٌ خلالَ هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابنُ عباس مرةً بأن قال: قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، معناه: أعلمناهم «1» ، وقال مرّة:
«قضينا عليهم «2» » ، والْكِتابِ هنا التوراةُ لأن القَسَم في قوله: لَتُفْسِدُنَّ غير متوجِّه مع أنْ نجعل الْكِتابِ هو اللوح المحفوظ.
وقال ص: وقَضَيْنا: مضمَّنٌ معنى «أوْحَيْنَا» ولذلك تعدَّى ب «إلى» ، وأصله أنْ يتعدَّى بنفسه إِلى مفعولٍ واحدٍ كقوله سبحانه: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص:
29] انتهى، وهو حسنٌ موافق لكلام ع، وقوله «ولتعلُنَّ» أي: لتتجبَّرُنَّ، وتطلبون في الأرض العُلوَّ، ومقتضى الآيات أن اللَّه سبحانه أعْلَمَ بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع منهم عصيانٌ وكفرٌ لِنِعمِ اللَّه، وأنه سيرسل عليهم أمةً تغلبهم وتذلُّهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكَرَّة ويردُّهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضاً تلك المعاصِي والقبائِحَ، فيبعث اللَّه تعالى عليهم أمةً أخرى تخرِّب ديارهم، وتقتلُهم، وتجليهم جلاءً، مبرِّحاً، وأعطى الوجودَ بعد ذلك هذا الأمْرَ كلَّه، قيل: كان بين المرتَيْنِ مِائَتَا سنةٍ، وعَشْرُ سنينَ مُلْكاً مؤيّدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 5 الى 8]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
وقوله سبحانه: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما الضمير في قوله: أُولاهُما عائدٌ/ على قوله مَرَّتَيْنِ، وعبَّر عن الشر ب «الوعد» لأنه قد صرَّح بذكْرِ المعاقبة.
قال ص: وَعْدُ أُولاهُما، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق
(1) أخرجه الطبري (8/ 20) برقم: (22051) ، وذكره ابن عطية (3/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 295) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الطبري (8/ 20) برقم: (22052) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 296) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
بذلك، وقيلَ: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدَّم واختلف الناس في العبيد المبعوثِينَ، وفي صورة الحال اختلافا شديداً متباعِداً، عيونُهُ أنَّ بني إِسرائيل عَصَوْا وقتلوا زكريَّاء عليه السلام، فغزاهُمْ سِنْجارِيبُ مَلِك بابل، قاله ابن إسحاق وابن جَبْير «1» .
وقال ابن عباس: غزاهُمْ جالوتُ من أهْل الجزيرة «2» ، وقيل: غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ، وروي أنه دخل قَبْلُ في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مَطْبَخ الملك، فاطلع مِنْ جور بني إِسرائيل على ما لم تعلمه الفُرْسُ، فَلمَّا انصرف الجيشُ، ذكر ذلك للملك الأعظَمِ، فلما كان بعد مدَّة، جعله الملك رئيسَ جيشٍ، وبعثه فخرَّب بيت المقدس، وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرَفَ، فوجد المَلِكَ قد ماتَ، فمَلَكَ موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرْضَ بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ في المرَّة الأخيرة حين عَصَوْا وقتلوا يحيى بن زَكَرِيَّاءَ، وصورة قتله: أن الملك أراد أنْ يتزوج بِنْتَ امرأته، فنهاه يحيى عَنْها، فعزَّ ذلك على امرأته، فزَّينت بنْتَها، وجعَلَتها تسقي المَلِك الخمر، وقالت لها:
إِذا راوَدَكَ عن نفسك، فتمنَّعي حَتَّى يعطيَكِ المَلِكُ ما تَتَمَنَّيْنَ، فإِذا قال لك: تَمنِّي عَلَيَّ ما أردتِّ، فقولي: رأسَ يحيى بن زكرياء، ففعلَتِ الجارية ذلك، فردَّها الملك مرَّتَيْنِ، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأْسِ في طَسْتٍ، ولسانُهُ يتكلَّم، وهو يقول: لا تحلُّ لك، وجرى دمُ يحيى، فلم ينقطعْ، فجعل الملك عليه التُرابَ، حتى ساوى سور المدينةِ، والدمُ ينبعث، فلما غزاهم المَلِكُ الذي بُعِثَ عليهم بحسب الخِلَافِ الذي فيه، قَتَلَ منهم على الدمِ سبعين ألْفاً حتى سكَنَ، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقصٌ، وقرأ الناس:
«فَجَاسُوا» ، وقرأ أبو السَّمَّال «3» : بالحاء، وهما بمعنى الغلبةِ والدخولِ قهراً، وقال مُؤَرِّجٌ:
جاسوا خلال الأزقّة.
ت قال ص: فَجاسُوا مضارعه يجوس، ومصدره جوس وجوسان،
(1) أخرجه الطبري (8/ 27) برقم: (22068) ، وذكره البغوي (3/ 106) ، وابن عطية (3/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 25) .
(2)
أخرجه الطبري (8/ 227) برقم: (22065) ، وذكره ابن عطية (3/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 25) .
(3)
ينظر: «المحتسب» (2/ 15) ، وقرأ بها طلحة كما في «الكشاف» (2/ 649)، وينظر:«المحرر الوجيز» (3/ 439) ، و «البحر المحيط» (6/ 9) ، و «الدر المصون» (4/ 372)، ووقع في «مختصر الشواذ» ص:
(78)
، نسبتها إلى أبي السمال بالحاء والشين «فحاشوا» .
ومعناه: التردّد، وخِلالَ ظرف، أي: وسط الديار انتهى.
وقوله سبحانه: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
…
الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إِسرائيل في التوراة، وجعل «رددنا» موضع «نَرُدُّ» ، لما كان وعد اللَّه في غاية الثِّقَة، وأنه واقع لا محالة، فعبَّر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما وصفْنا، فغَلَبَتْ بنو إِسرائيل على بيت المقدس، وملَكُوا فيه، وحَسُنت حالهم بُرْهةً من الدهْرِ، وأعطاهم اللَّه الأموالَ والأولادَ وجعلَهم إِذا نفروا إِلى أمْرٍ أكثر النَّاس، فلما قال اللَّه: إِني سأفعل بكم هكذا، عقّب بوصيَّتهم في قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
…
الآية، المعنى: إنكم بعملكم تجازون، ووَعْدُ الْآخِرَةِ معناه: من المرّتين.
/ وقوله: لِيَسُوؤُا اللام لام أمْرِ، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا، فهي لام كْيِ كلّها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، والْمَسْجِدَ مسجد بيت المقدس، «وتَبَّر» معناه: أفسد بغشمٍ وركوب رأْس.
وقوله: مَا عَلَوْا، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل:«ما» ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد.
وقوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ
…
الآية: يقول اللَّه عز وجل لبقية بني إِسرائيل: عسى ربكم إِن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أنْ يرحمكم، وهذه العِدَةُ ليست برجوعِ دولةٍ، وإِنما هي بأنْ يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمَّد عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقابُ اللَّه عليهم بِضَرْبِ الذَّلة عليهم، وقتلِهمْ وإذلالِهمْ بِيَدِ كلِّ أمة، و «الحصير» : من الحَصْر بمعنى السَّجْن، وبنحو هذا فسَّره مجاهد وغيره «1» ، وقال الحسن:«الحصير» في الآية: أراد به ما يفترشُ ويُبْسَطُ كالحصير المعروف عند الناس «2» .
قال ع «3» : وذلك الحصيرُ أيضا هو مأخوذ من الحصر.
(1) أخرجه الطبري (8/ 42) برقم: (22106) ، ذكره ابن عطية (3/ 440) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 300) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2)
أخرجه الطبري (8/ 42) برقم: (22109) ، وذكره البغوي (3/ 107) ، وابن عطية (3/ 440) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 26) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 300) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3)
ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 440) .