الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات (146 - 152)
* * *
* قال اللهُ عز وجل: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 146 - 152].
* * *
قالَ المُفَسّر رحمه الله: [{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا} مِنَ الخَيْرَات {آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} لَطِيف لَيِّن، {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} بَطِرِينَ، وَفِي قِرَاءَة:(فَارِهِينَ)
(1)
حَاذِقِينَ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بِالمَعَاصِي {وَلَا يُصْلِحُونَ} بِطَاعَةِ اللهِ].
قَوْلهُ: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا} (فِي مَا): أي في الَّذي (هَاهُنَا): الإشارة إلى مكَانِهم؛ لأنَّ مكَانَهم كما وَصَفَهُ صالحٌ عليه الصلاة والسلام: {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} .
والإسْتِفهام في قَوْلهِ: {أَتُتْرَكُونَ} للتَّحذيرِ، يَعْنِي: أتظنُّون أن تُتْرَكُوا؟ لا، فلن تُتْرَكوا، فهو للنفيِ المُتَضَمِّن للتحذيرِ.
(1)
الحجة في القراءات السبع (ص: 268).
وقَوْلهُ: {أَتُتْرَكُونَ} مبنيٌّ للمجهولِ للعلمِ بالفاعلِ، والفاعلُ هو اللهُ عز وجل، يَعْنِي: أَيَتْرُكُكُمُ اللهُ {فِي مَا هَاهُنَا} ؟
وقَوْلهُ: {فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} إلى آخرهِ، تذكيرٌ بنعمةِ اللهِ سبحانه وتعالى عليهم، وأنَّهم لا يُمْكِنُ أنْ يُترَكوا في هذا الحالِ بدونِ أمرٍ ولا نَهْيٍ، فهو كقولِهِ:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقَوْلِه:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
وقَوْلهُ: {فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} حالٌ منَ الواوِ في: {أَتُتْرَكُونَ} ، يَعْنِي حالَ كونِكم آمِنِينَ، والآمِنُ هو الَّذي أَمِن منَ الخوفِ، وفيه دليلٌ على استقرارِهِم في أوطانِهم، وأَمْنِهِم، والأمنُ معَ الرِّزق الواسعِ هما غايةُ النعمةِ في هذه الحياةِ.
قَوْلهُ: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} والجنَّات جمع جنَّة، وهي البساتينُ الكَثِيرَةُ الأشجارِ؛ لأنها تَسْتُر مَن فيها، وقَوْلهُ:{وَعُيُونٍ} جمعُ عينٍ، وهي المياهُ الجاريةُ بدونِ دوالٍ ولا نواضِحَ.
قَوْلهُ: {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} عطفَ ما ذكرَ على الجنَّات من بابِ العطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للعنايةِ به، وإلَّا فهو داخلٌ في الجنات؛ فإنَّ الزُّروع منها والنخيل كذلك.
والطَّلْع يَعْنِي: ما تطلعه، وقَوْلهُ:{هَضِيمٌ} : يقول: [لطيف لَيِّن]، والأمرُ كذلك؛ فإنَّ طَلْعَ النَّخيل من أَلين ما يكونُ وألطفه.
وقيل: إنَّ الهضِيم بمَعْنى النَّضِيد، كما قال الله تعالى:{لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق: 10 - 11]، يَعْنِي أنه منضودٌ ليسَ متفرِّقًا لأجلِ أنْ يَسْهُلَ أخذُه وَجَنْيه.
وإنَّما نصَّ على الطَّلْع دونَ غيره من الفوائدِ معَ كثرةِ فوائدِ النخيلِ؛ لأنه غاية ما يُنْتَفَعُ به منها، وإلَّا ففيها منافِعُ كَثِيرَةٌ، ولهذا شبّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المؤمِنَ بها؛ لكثرةِ خيراتِه وفوائدِهِ، هذا من حيثُ الزُّرُوعُ والتنميةُ.
أما من حيثُ البناءُ والمساكنُ فقال: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} ، قال المُفسِّر رحمه الله:[بَطِرين، وفي قِراءَة: (فَارِهِينَ) حاذقينَ].
قَوْلهُ: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} المُراد بالنَّحْت منَ الجبال أنَّهم يَجعلون البيتَ من الجبلِ، وليس معناه أنَّهم يَنحِتُون الحَصَى ثم يَبْنُونَها، ولكنهم يجعلون البيتَ نفسَه منَ الجبلِ، فيكيّفون الجبلَ كما يريدونَ، وهو دَليل على مَقْدِرَتِهِم، وعلى كمالِ مَعْرِفَتِهِم بالهندسةِ؛ لأن شيئًا ليسَ أمامك، بل هو في باطنِ الحصَى والجبال والصخور، فتحتاج إلى تفكيرٍ قويٍّ كيف تَصْنَعُه؟ وكيف تجعلُ مَدْخَلَه؟ وكيف تجعل منه استراحةً؟
…
إلى آخرِهِ. فهو دليلٌ على قُوّتِهِم، وعلى حَذْقِهم في الهَنْدَسَةِ.
وكلمة: {فَارِهِينَ} يَعْنِي: بَطِرِينَ، فهي صفةٌ مُشَبَّهة، و (فَارِهِينَ) بالمَدّ اسمُ فاعلٍ، والمُرادُ به الحَذْقُ.
واختلافُ القراءَتَيْنِ تكون فيه فائدةٌ، وهي اجتماعُ المعنيينِ من هذه الكلمةِ، فيكونون متَّصِفينَ بالأمرينِ: بالبَطَر بِناءً على قِراءَةِ القَصْرِ، وبالحَذْقِ بناءً على قِراءَةِ المدّ، وهذا من فوائدِ تنوُّعِ القِراءَةِ؛ لأن تنوُّعَ القِراءَةِ له فوائدُ كَثِيرَة؛ منها أن تكونَ الكلمةُ جامعةً لمعنيينِ.
قَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} هذه الجُملةُ مثلما تَقَدَّمَ في قِصَّة عادٍ؛ إما أنْ تكونَ مبنيةً على ما ذُكِر، وإما أن تكونَ مكرَّرةً لما سَبَقَ، فعلى الأوَّل تكون تأسيسًا، وعلى
الثَّاني تكون تأكيدًا، والمَقام مهمٌّ جدًّا، ويَحتاج إلى أن تُكرَّر فيه هذه الكلمةُ، وهي تقوى الله، وطاعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم.
وقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} هذا أمرٌ ونهيٌ: أمرٌ بِتَقْوَى اللهِ وطاعته، ولكنَّه نهيٌ عن طاعةِ أَمْر المسْرِفِينَ، واحد الأوامر، يَعْنِي: لا تُطيعوا أمرَهم.
ولماذا قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وما قال: وأَطِيعوا أمري، وهنا قال:{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} ، ولم يقلْ: لا تُطيعوا المسرفينَ في إفسادِهِمْ؟
والجَواب: أنَّه يَنهاهم عن طاعةِ أمرِ المسرفينَ، في أنَّهم كبار القومِ ووُجَهَاؤُهُمْ، وأنَّهم يأمرونَ، فهذا أبلغُ مِن لو قالَ: ولا تُطِيعُوهم.
ولو قال: لا تطيعوا المسرفينَ أنفسَهم، ربما يُقالُ: إن هذا لِعَدَاوَةٍ بينه وبينهم، فهو لا يريدُ أن يُطاعوا، وأمرَ بطاعةِ نفسِه، لكن لما قال:{أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} فكَأنَّه يقول: أنا لا يُهِمُّنِي أن يكونَ هذا من فلانٍ أو من فلانٍ، ولكن الكَلام على أنه أمرٌ من مُسْرِف؛ لأجلِ أنْ يُبعِد اتِّهامَه بأنَّه لا يريدُ المسرفينَ أنفسهم، حيث وجّه النهيَ عن طاعتهم لأنفسِهم، فجعلَ النهيَ عن طاعةِ أمرِهِمُ الَّذي هو أمرُ إسرافٍ وفسادٍ.
وقَوْلهُ: {الْمُسْرِفِينَ} يَعْنِي المُتَجاوِزِينَ للحَدّ، فالمسرِفُ: مَن جاوَزَ حدَّه، ولهذا قال الله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، أي لا تَتَجَاوَزُوا الحَدَّ كَمِّيَّةً ولا كيفِيَّة.
ثم قال: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} وهذه الصِّفَةُ كاشفةٌ وليستْ قَيْدًا؛ لأن كلَّ مُسْرِفٍ في الأَرْض، فالصِّفَةُ كاشفةٌ، وقَوْلهُ:{يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أي: يكونون سببًا في فسادِها، أو أنَّ المعاصيَ نفسَها فسادٌ.
يَعْنِي: إما أنْ تكونَ هي الفسادَ فيفسدون، من بابِ إضافةِ الشيْءِ إلى سببِهِ، وإمّا أن تكونَ المعاصي سببًا للفسادِ، أو أنها هي نفسها فسادٌ.
قَوْلهُ: {وَلَا يُصْلِحُونَ} في طاعةِ اللهِ، ولا بغيرِها أيضًا.
وفي قَوْلهِ: {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} دليلٌ على فسادِهِم، وأنه ليس فيها صلاحٌ، فالنفيُ هنا يُقْصَدُ به النفيُ للإصلاحِ معَ إِثْباتِ كمالِ ضِدِّه، وهو الفسادُ:{يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} .
وقول المُفسِّر رحمه الله: [بطاعة اللهِ]، الطَّاعة نفسها إصلاحٌ بلا شَكّ، وهي أيضًا سببٌ للإصلاحِ؛ فإنَّ طاعةَ اللهِ تَعالَى سببٌ لِصَلاح كلِّ شيْءٍ:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
* * *