الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (22)
* * *
* قالَ اللهُ عز وجل: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} أَصْلُها: تَمُنّ بِهَا عَلَيَّ]، أي: تَجْعَل بِهَا مِنّة عليّ، ولكن حُذف حرفُ الجرِّ وعُدِّي الفعلُ إليها. قَالَ:{تَمُنُّهَا عَلَيَّ} أي: تجعلها مِنّة {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يقول: [بيان لـ (تلك)، أي: اتَّخَذْتَهُمْ عَبيدًا]، وإذا كانتْ بيانًا لـ (تلك) فتكون (أنْ) تفسيريَّة، تفسير لاسْم الإشارة فِي قوله:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} أي: حين عبَّدتَ بني إِسْرَائِيل جعلتَ تَربيتي عندكَ وليدَ النعمةِ، وفي الحَقِيقَة هَذَا لَيْسَ بنعمةٍ؛ لِأَنَّ كَوْن الْإِنْسَان لا يقتلُ هَذَا الرَّجُل وَهُوَ يقتلُ غيرَه عُدوانًا لَيْسَ بنعمةٍ؛ لِأَنَّ أصلَ قتلِ أولئكَ ظُلْمٌ وجَوْرٌ، فكونه لا يقتلُ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَ نعمةً.
وغايةُ ما هنالكَ أَنَّهُ لم يَظْلِمْهُ، فهو لنْ يدفعَ عنه ضررًا نازلًا بِهِ من غيرِهِ، ولم يَجْلِبْ إليه نفعًا. فمُوسَى يقول: كيف تَمُنُّ عليّ بهذه النعمةِ أنْ عَبَّدْتَ بني إِسْرَائِيل، يعني: ولم تَسْتَعْبِدْنِي، فهذه ليستْ نعمةً؛ لِأَنَّ كون الْإِنْسَان لا يظلمُ هَذَا الرَّجُلَ ويظلمُ ذاك، فهذا لَيْسَ نعمةً عَلَى مَن لم يُظْلَمْ؛ إذ لم يُسْدِ إليه نفعًا، ولم يَدْفَعْ عنه ضررًا، غايةُ ما هنالك أَنَّهُ امتنعَ عن ظُلْمِهِ.
وفي الواقع امتناعُه عن ظُلمِهِ نعمةٌ عَلَى نفسِ الظالمِ؛ أن الله تعالى أنعمَ عليه
فمَنَعَهُ مِن ظُلْم هَذَا الرَّجُلِ، ولهذا يقول المُفسِّر:[{أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولم تَسْتَعْبِدْنِي، لا نعمةَ لك بذلكَ لِظُلْمِكَ باستعبادهم]، فأنت ما أعطيتني منّةً جديدة ونعمةً جديدةً حَتَّى تمُنّ بها، فهو يُنكر عليه، ولهذا يقول المُفسِّر:[وقدَّرَ بعضُهم أوَّل الكَلام همزةَ استفهامٍ للإنكارِ]، يقول: كيف تمنُّ عليّ بهذا الشَّيْء؛ بأنك عبَّدتَ بني إِسْرَائِيل، هَذَا لَيْسَ بنعمةٍ.
ففِرْعَوْن يراها نعمةً، قَالَ:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} فهو جعل هَذِهِ مِنَ النِّعم.
قال تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} كونك عَبَّدْتَهُم، أي: جَعَلْتَهم عبيدًا لكَ، ووجهُ الإستعبادِ أَنَّهُ - وَالْعِيَاذُ بِاللهِ - كَانَ يقتّل الرِّجالَ، فتبقى النِّساء بدون قيِّمٍ، والمرأةُ إذا بَقِيَتْ بدون قيِّم تضطرُّ إِلَى أن تَخْدُمَ، ولهذا قال العلماءُ: إنه كَانَ يستخدِم النِّساء فيُبْقِيهِنَّ بالضرورة، وإذا لم يكن لهنّ قيِّم سوف يَلْجَأْنَ إِلَى الأقباطِ لاستخدامهنَّ.
وسبقَ أن قال مُوسَى: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20]، ثم قَالَ:{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 21]، فكأنه يقول: أنتم لم تألوا جُهْدًا فِي معاقبتي، ولكنَّني فَرَرْتُ منكم فلم تُدْرِكُوني فنجوتُ، فالعُقوبة نجوتُ منها بالفرارِ، والجهلُ تَنَزَّهْتُ منه بالرِّسالَةِ.
فكأنه يقول: تَرْك الظلمِ بالنِّسبةِ إليّ لا يُعَدُّ نعمةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان لَيْسَ مُسْتَحِقًّا له حَتَّى نقول: إنه عَفَا عنه وتركه، فهذا ما صار عليه المُفسِّرُ، لكن هناك احتمالٌ آخرُ، فالإساءة إِلَى قومه إساءةٌ له، فكأنَّه يؤكِّد نفيَ النعمةِ، يعني: أين النعمة وأنت قد
عبّدت بني إِسْرَائِيل وهم قومي، فإذا قُدّر أنِّي سلِمتُ منَ التَّعبيد والظُّلم، فأنا فَرْدٌ من قبيلةِ وقومي قد عبَّدتَهم، فأين النعمة؟ !
وقوله: [قدَّر بعضهم أوَّل الكَلام همزةً]، لَيْسَ ببعيدٍ أَنَّهُ قَالَ: أوَتلك نعمةٌ تَمُنّها عليَّ أنْ عَبَّدْتَ بني إِسْرَائِيل. يعني: فليس لك عليّ نعمة.
و(أنْ) تبين المبهَم فِي قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} فكأنه يقول: تَمُنّ عليّ بهذه النعمةِ حينَ عبَّدتَ بني إِسْرَائِيل، يعني: ولم تَسْتَعْبِدْهُمْ، هَذَا هُوَ المَعْنى.
ولولا أنَّ هَذَا المَعْنى ظاهرٌ لَقُلنا: إن مُوسَى عليه الصلاة والسلام صَرف نعمتَه عليه كالمتهكِّم به، يعني: يقول: أين النعمة الَّتِي أنعمتَ بِهَا عليّ وأنتَ تُعَبِّد بني إِسْرَائِيل؛ لِأَنَّ تعبيدَ بني إِسْرَائِيل خلافُ النعمةِ فِي الواقعِ، ومنَ المعلومِ أن مُوسَى مِن بني إِسْرَائِيل، فتعبيدُ بني إِسْرَائِيل - وهم قومُه - إذلالٌ له، وهذا مَعْنى جيِّد فِي الحَقِيقَةِ، نقول:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} يعني: كيف تمنّ عليّ بهذه النعمةِ وأنت تعبِّد بني إِسْرَائِيل، ويكون هَذَا من بابِ ما يُسَمُّونه بـ (تأكيد الذمّ بما يُشْبِه المَدْحَ)، وحينئذٍ تكون {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} تفسيرًا لـ (تِلْكَ)، يعني: أهذه النعمة الَّتِي تَمُنُّها عليّ أنْ تُعَبِّد بني إِسْرَائِيل، فأين النعمة؟ ! فهذا مَعْنى جيِّد.
* * *