الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجرَى الجماعةِ]. قَالَ: إنّ الضَّمير لله سبحانه وتعالى بلفظ الغلبةِ، مع أَنَّهُ فِي سُورَة طه قَالَ:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، لكن هنا ذكر {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، وكانت المُبالَغة حصلتْ بانضمامِ الأمرينِ: السمع والرُّؤية، وهنا ما ذكر إلا الإستماع فقطْ، ولهذا جاء فِي صورةِ العَظَمَةِ بالنِّسبةِ للمبتدأِ، فقال:{إِنَّا مَعَكُمْ} ولم يقلْ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} كما قال فِي سُورَة طه، يقول المُفسِّر:[أجري مجرى الجماعة].
فالجَواب عن هَذَا ما قال المُفسِّر: [أجري الإثنان مجرى الجماعة]، وإذا قلنا: إن أقلَّ الجمعِ اثنانِ نقول: هَذَا وإن كَانَ بلفظِ الجمعِ لكنَّه دالٌّ عَلَى الإثنينِ باعتبارِ الوضعِ اللُّغويّ، فلا حاجةَ إِلَى التعيينِ.
وقيل: الجمعُ باعتبارِ ما مع مُوسَى وهارونَ من الآيَاتِ؛ كأنَّهم ثلاثٌ، وإن كانت الآيَات ليست آدميّة، ولكنها مؤيِّدة؛ لِأَنَّ التأييدَ يكون بالأدلَّة وبقوَّة الداعي والمستدلّ.
ويحتمل أيضًا أَنَّهُ جمع باعتبار أن مُوسَى وهارونَ سيكون لهما قومٌ وسيكونُ اجتماع مُوسَى وهارون بِقَوْمِهما.
فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: إِثْبات المَعِيَّة للهِ عز وجل، والمعيَّة فِي الحَقِيقَة معناها: المصاحَبَةُ المُطْلَقَة، ولكنها فِي كلِّ شيْءٍ بِحَسَبِهِ، فنقول مثلًا: سَقَاني لبنًا معَه ماءٌ، فهذه تَقتضي الإمتزاج والإختلاطَ.
فتفسيرُ مَعِيَّة الله عز وجل بالإحاطةِ عِلمًا وقدرةً وسلطانًا وبصرًا وسمعًا، وغير ذلك من معاني الربوبيَّة، لَيْسَ تفسيرها بذلك من بابِ التأويلِ، بل من بابِ ذِكر الحَقِيقَةِ؛ لأنها حَسَب ما تُضاف إليه.
إذن إذا كانت من بابِ ذكر الحَقِيقَةِ فيَمتنِع أنْ تكونَ مَعِيَّة الله مشاركةً فِي المكانِ؛ لِأَنَّهُ لو أَثبتنا أَنَّهَا مشاركة فِي المكانِ، لَأَبْطَلْنَا أَنَّهُ عالٍ فِي السَّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لا يمكنُ أن يشاركَ فِي المكان فِي الأرضِ وَهُوَ عالٍ فِي السَّمَاءِ، لهذا مَن زَعَمَ أن الإمامَ أحمدَ تأوّل وأثبت عنه رواية بجوازِ التأويلِ فِي الصِّفاتِ استنادًا إِلَى تفسيره المعيَّة بالعلم، فقد أخطأ خطأً بيّنًا؛ لِأَنَّ تفسيرَ الإمامِ أحمدَ للمعيَّة فِي العلمِ أراد بِهِ الردَّ عَلَى الجَهْمِيَّة، الَّذين يقولون: إنه معنا بذاك، فيقول: إن دخلت الحُشّ فالله فِي الحُشّ - وَالْعِيَاذُ بِاللهِ - وإن دخلت المسجدَ فالله فِي المسجدِ، وإن دخلت البيتَ فاللهُ فِي البيتِ.
وهكذا يَصِفون الله تعالى بما لا يَلِيق أن يُوصَف بِهِ بناءً عَلَى ظاهرِ الآيةِ الَّتِي لم يَفْهَمُوا حقيقةَ معناها، فهو رحمه الله فسَّرها بالعلمِ؛ ردًّا عَلَى هَؤُلَاءِ، وتفسيرُه لها بالعلمِ لَيْسَ إخراجًا لها عن معناها، لكنَّه تفسيرٌ لها ببعضِ لَوَازِمِها؛ لِأَنَّ من لازِمِ المعيَّة أن يكون عالمًا بالأمرِ.
ولا تَقْتَرِنُ المعيَّة بالمشاركةِ بالمكانِ؛ لِأَنَّ اللهَ محُيطٌ بكلِّ شيْءٍ سمعًا وبصرًا، ولهذا سَمِعَ قولَ المُجَادِلَة الَّتِي تُجادِلُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام فِي زوجها، وتقول عائشة:"لقد جاءت المجادلة إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا فِي ناحيةِ البيتِ، تشكو زوجها، وما أسمعُ ما تقولُ"
(1)
.
وفرقٌ بينَ قولنا: إنَّ المعيَّة (تَقتضي) المشاركة فِي المكانِ أو (تَستلزِم)، فإذا قلنا: تقتضي، فمعناه أن هَذَا من معانيها، وإذا قلنا: تَستلزم، فمعناه أَنَّهُ لازِم، فهذا هُوَ الفرق.
(1)
أخرجه النسائي: كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم (3460)، وابن ماجه: كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم (2063).
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وفي هَذِهِ الآيةِ دليلٌ عَلَى مبدأ تشجيعِ الْإِنْسَانِ فِي مهمتِه؛ لقوله تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} فهنا التشجيعُ من دون ثلاثةٍ: إبطال الخوف بقوله: {كَلَّا} ، واستصحاب الدَّليلِ بقوله:{بِآيَاتِنَا} ، والعلم بالمدافع وَهُوَ قوله:{مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، فكلُّ شيْءٍ يحتاج إِلَى تشجيعٍ، فينبغي للإِنْسانِ أن يظهرَ تشجيعَ صاحبِه؛ حَتَّى يَنْشَطَ، ويؤديَ الرِّسالَةَ عَلَى الوجهِ الأكملِ.
* * *