الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (153، 154)
* * *
* قالَ اللهُ عز وجل: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 153 - 154].
* * *
قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الَّذِينَ سَحَرُوا كَثِيرًا حَتَّى غَلَبَ عَلَى عَقْلِهمْ، {مَا أَنْتَ} أَيْضًا {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فِي رِسَالَتك].
هذا جَوابُهُم، حيثُ {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} اتَّهَمُوه بأنَّه مسحورٌ، ومُسَحّر أبلغُ من مَسْحُور أيضًا.
وقَوْلهُ: {إِنَّمَا أَنْتَ} حصرٌ لأعمّ الأحوالِ، يَعْنِي: ما حالُك أبدًا تَخْرُجُ عن هذا الوصفِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} .
وقال المُفَسِّر رحمه الله: [الَّذينَ سُحِروا كثيرًا حتى غلب على عقلهم]، هذا - والعياذُ بالله - جَوابُهم، مثلما أجابَ به كثيرٌ منَ النَّاس، بل إنَّما كلّ الأَنْبِياء يُقالُ لهم مثلُ هذا:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]؛ وذلك لأَنَّه لا حُجَّة لهم، وكلُّ إِنْسانٍ ليس عنده حُجَّة إنَّما يَذْهَب إلى السَّبِّ والشَّتْم، ويظنُّ أنه بذلك يُنَفِّر عَمَّن خَصَمَه وعَجَزَ عن مُقَابَلَتِه، وأمَّا الإِنْسان الَّذي عنده حُجَّة فإِنَّه لا يَلْجَأُ إلى الشَّتم، وإلى السبِّ، ولهذا يُعابُ على
بعضِ العُلَماء أن يكونَ دأبُهُ السَّبّ والشتم معَ خُصُومهم.
وكان ابنُ حَزْمٍ رحمه الله، وعَفَا عنه - شديدًا في المناقشةِ، ولو كَان يُناقِشُ بهدوءٍ لكَان أحسنَ له، وأمّا السبُّ والشَّتم في قومٍ هم مثلُه أرادوا أنْ يَصِلُوا إلى الحقّ، فهذا لا يَنبغي، ولا يَليق به، ولا يَليق بالإِنْسانِ العامِّيِّ، فضلًا عن العالِمِ، فالمقصودُ ليسَ هو التهجُّم على الشخصِ، فالمقصودُ أن يردّ على المقالةِ وتَبطُل، لكن أعداء الرُّسُل ليس عنْدَهُم ما يُقاوِمُون به ما جاءتْ به الرُّسُل، فلهذا يلجئُون دائمًا إلى السبّ والشتمِ.
ولا شكّ أنّ اتِّهامه بأنه مِن المسحَّرين كَذِب، بل هو من أعقلِ النَّاسِ عليه الصلاة والسلام، ولولا أنه أعقلُ قومِهِ ما جعلَ اللهُ الرِّسالَةَ فيه:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فهو أعقلُهم، وأكثرُهم أمنًا، وأقواهم صَبرًا.
أما قولهم: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فهذا صَحِيحٌ، لكن هذه العِلَّة غير مانعةٍ من أن يكونَ رسولًا، ولهذا قالتِ الرُّسُلُ لقومِهم الَّذينَ احتجوا عليهم بهذه الحجة:{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [إبراهيم: 11]، وهذا جَوابُ هذه الشُّبهة، فهي شُبهة جعلوها حُجّةً، فيُقال: وإذا كَان بشرًا مثلكم، فلا مانعَ من أنْ يَمُنَّ اللهُ عليه بالرِّسالَةِ.
وأيضاً لا يُمْكِن أن يرسِلَ اللهُ أحدًا إلى البَشَرِ إلَّا مِنَ البَشَرِ، حتى ولو جُعِل مَلَكًا كما اقترحَ لجُعِل بسُورَةِ الرَّجُل، ثم عاد الأمرُ على هؤُلاءِ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا، فلم يَستفيدوا من ذلك شيئًا.
قَال المُفسِّر رحمه الله: [{فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في رِسالتك]، لو اقتَصَرُوا على قَوْلِهِم:{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ} لكَانَ هذا كَلامًا سليمًا؛ لأنَّ كلَّ إِنْسانٍ يَأتيه بَشَرٌ مثله ويقول: إنني رَسُولُ ربِّ العالمينَ، فسيقول: هاتِ آيةً ودَليلًا، وإلَّا لأمكنَ كلَّ كذّابٍ أنْ يدَّعِيَ النبوَّةَ، وأنْ يَسْتَحِلّ دماءَ غيرِه وأموالهم بهذه الدعوَى الكاذبةِ.
فقولُهم: {فَأْتِ بِآيَةٍ} صَحِيحٌ، لكن ما المُرادُ منه، هل يُرادُ به التحدِّي أم الإسترشادُ؟
يَظهَر من حالِهم أن المُرادَ به التحدِّي، يَعْنِي أنَّه لا يُمْكِن أنْ يأتيَ بآيةٍ، على حدِّ قولهم: إنه مُسَحّر، وقولهم:{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} يدلّ على استبعادهمْ أنْ يكونَ كذلكَ، وعلى أنَّهم يُريدون بهذا التحديَ له.
* * *