الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (49، 50)
* * *
* قالَ اللهُ عز وجل: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 49 - 50].
* * *
{قَالَ آمَنْتُمْ} هَذَا قول فِرْعَوْن، وكلمة {قَالَ} أتتْ بالفصلِ وليسَ بالوصلِ؛ لِأَنَّ الوصلَ هُوَ العطفُ بالواوِ، ومعَ ذلك فهي مفصولةٌ لكن تدلُّ عَلَى وقوعِ هَذَا الشَّيْءِ مباشرةً كأنه جَوابٌ عن فِعلهم.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{قَالَ آمَنْتُمْ} بتحقيق الهمزتينِ، وإبدال الثَّانيةِ ألفًا {لَهُ} لمُوسَى {قَبْلَ أَنْ آذَنَ} أنا {لَكُمْ}]، هَذَا أمرٌ لا يكونُ عادةً من هَؤُلَاءِ ولا من غيرهم أن يؤمنَ أحدٌ لعدوِّ فِرْعَوْن بدونِ إذنِه، وفي قوله:{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إشارة إِلَى أن الرَّجُلَ قد سيطرَ عليهم سَيطرةً تامَّةً، وأنَّهم لا يَتَصَرَّفون بشيْءٍ إلا بإذنِهِ. والإسْتِفهامُ فِي قوله:{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} للإنكارِ والتوبيخِ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي سُورَة الأعراف: {آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123]، وهنا:{آمَنْتُمْ لَهُ} ؟
فالجَواب: فِي الأَصْل بينهما فرقٌ: آمَن به: أقرَّ بِهِ واعترفَ الإيمان الكامل، وآمن له: مُضَمَّنة مَعْنى انقاد. فإذا جمعتَ بين الآيتينِ هنا صارتْ أبلغَ، يعني:
كأنَّهم آمَنُوا إيمانًا به، ثم آمنوا له فانقادوا له.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} انظر التمويه، هَذَا غريبٌ، فهذا فِي الحَقِيقَةِ مظهرُ ضعفٍ منه، كيف يكون كَبيرَهم الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحرَ وهم قد حُشِروا من المدائنِ وليسوا مع مُوسَى فِي مدينتِه، وكيف يُقال: إنه علَّمَهُم، بل إنهم فِي مدائنَ متباعدةٍ، وكيف يمكن أن يُقال: إنه كبيرهم الَّذِي علّمهم السِّحرَ وهم قد وضعوا حبالَهم وعِصِيَّهم لِيَقْضُوا عليه؟ ! فإن مَن عَلّمهم السِّحرَ لا بدَّ أن يخافوا منه، وكيف يُقال: إنه علّمهم السِّحرَ وهم قد استعزُّوا بعِزَّة فِرْعَوْنَ {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} ، وهم يعلمون أن فِرْعَوْن خَصمٌ لِمُوسَى، لكن هَذَا من باب التمويهِ عَلَى قومه، كما قال الله فيهم:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، يعني: عقولهم بالنِّسبة لفِرْعَوْن لا شيْء، فهم خَفِيفُو العقولِ والتفكيرِ، ولا يعرفون شيئًا سوى فِرْعوْن، أَنَّهُ إِلَهُهم!
قال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وقلنا: إن هَذَا باطلٌ من الأوجهِ الَّتِي ذَكَرْنا، وإنه لا يُمْكِن، لكن هَذَا مَظْهَر ضعفٍ من فِرْعَوْنَ بلا شكّ، يعني: كأَنَّه يقول الآن: أنتمُ اجْتَمَعْتُمْ عليّ، وتحاشدتُمْ عليّ، أنتم ومُعَلِّمُكُمْ، ثم لجأَ إِلَى التهديدِ كعادته قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[{فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينالكم مني {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}].
قوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هَذَا تهديدٌ بأمرٍ مُبْهَمٍ، والإجمالُ ثم التفصيلُ من فوائدِهِ تشوّقُ المخاطَب إِلَى تَبَيُّنِ هَذَا المُجْمَل، وإذا كَانَ وَعيدًا فَإِنَّهُ يَتَشَوَّقُ ذلك لكنه يكون خائفًا جِدًّا؛ لِأَنَّهُ لا يَدْرِي ما هَذَا المبهَمُ الَّذِي وُعِدَ به، بَيَّنَهُ بقوله:{لَأُقَطعَنَّ} واللامُ واقعةٌ فِي جَوابِ القَسَمِ، بدليل أَنَّهُ مؤكّد {لَأُقَطِّعَنَّ} .
وقوله: {مِنْ خِلَافٍ} يعني: مُتَخَالِفَةً؛ إذا قطعَ اليدَ اليُمنى قطعَ الرجلَ اليسرَى، وإذا قطعَ اليدَ اليسرَى قطعَ الرجلَ اليمنَى، وليس مَعْنى:{مِنْ خِلَافٍ} أني أُخالِفُ بينكم فمِنكم مَن أُقطّع يديه ومنكم من أُقطع رِجليه، بل هَذَا واقعٌ عَلَى مَحَلٍّ واحدٍ، فالخلافُ فِي محلٍّ واحدٍ، يعني: كل واحدٍ مِنكم أُقَطِّعُ يَدَهُ ورجلَه متخالفتينِ، وهذا فِي شَريعتنا حدّ قطَّاع الطَّريقِ، يعني: أحدُّ ما يُحَدّ بِهِ قُطّاع الطَّريقِ هُوَ هذا؛ أنْ تُقَطَّع أَيْدِيهم وأَرْجُلُهُمْ مِن خِلافٍ.
قال تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} يعني: بعد أنْ أفعلَ هَذَا لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أجمعينَ، يعني: كما قال فِي آيةٍ أُخرى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وهنا يشيرُ إِلَى أنَّ فِي مِصْر نَخْلًا، فهو وَعَدَهُمْ بذلكَ. والصَّلْبُ: الرَّبْطُ، وهل يُشْتَرَطُ أنْ يكونَ المصلوبُ ممدودَ اليدِ أو لا؟ لَيْسَ بشرطٍ، فالمهمُّ أن يُرْبَطَ رَبطًا محكمًا عَلَى خشبةِ الصَّلِيب.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الصَّلْبُ بعدَ الموتِ أم قبله؟
فالجَواب: قبلَ الموتِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} .
وإنْ قالَ قائلٌ: الصَّلْبُ فِي آياتِ قُطَّاع الطَّريقِ قبلَ الموتِ أم بعدَه؟
فالجَواب: الصلبُ فِي آياتِ قُطَّاع الطَّريقِ اختلفَ فيه العلماءُ: هل يكونُ قبلَ الموتِ أم بعدَهُ، والمشهورُ فِي مَذْهَبِنا أَنَّهُ بعد الموتِ، ولكن الصَّحيح أَنَّهُ قبلُ؛ لأنَّهم إذا صُلبوا قبلُ نالُوا الأَلمَيْن: الحِسِّيّ والنَّفسيّ، أو القلبيّ، لكن إذا صُلِبوا بعد الموتِ فلا يُؤْلِمُهُم شيْءٌ أبدًا.
ثم إن تَصْلِيبِهِمْ بعدَ الموتِ لا فائدة منه، لهذا لَمَّا قيل لأسماء بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنه وعنها-: إن الحَجَّاج فعلَ كَذَا وكذا بعبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ بعدَ موتِهِ،
قالت رضي الله عنها: "وَمَا يَضُرُّ الشاةَ سَلْخُ جِلْدِها بعد موتِها؟ "
(1)
؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لا يؤثِّر.
فكان جَوَابهم أن قالوا: {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} ، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[{لَا ضَيرَ} لا ضررَ علينا فِي ذلكَ]، ما شاء الله! يعني: لقوَّة إيمانهم قالوا: هَذَا لا يَضُرُّنا، ولا يؤثِّر، وفي هَذَا من التحدِّي وإظهار القوَّة والشجاعة ما هُوَ ظاهرٌ؛ لأنَّهم يخاطبون أعتَى أهل الأرضِ، وَهُوَ فِرْعَوْنُ، يقولون: لَا ضَيْرَ، افعلْ ما تريدُ، لا يُهِمُّنَا، وصَدَقُوا أَنَّهُ لا ضيرَ عليهم فِي ذلك ما دامَ تَعذِيبُهم هَذَا فِي ذاتِ اللهِ، فهم هنا إنَّما يعذَّبون فِي ذاتِ اللهِ فقطْ، وهذا لا يَضُرُّهُمْ أبدًا، بل يَزيدهم رفعةً، ولذلك كَانَ ذِكْرهم إِلَى يومِ القيامةِ، فأشادَ اللهُ تعالى بذِكْرِهِمْ فِي القُرآنِ، وسَيَبْقَى إِلَى يومِ القيامةِ، وهذا فيه أكبرُ منفعةٍ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّا إِلَى رَبِّنَا} بعدَ مَوتِنا بأيِّ وجهٍ كَانَ {مُنْقَلِبُونَ} راجعونَ فِي الآخرةِ]، يعني: يقولون: مهما كَانَ حَتَّى لو بَلَغْنَا إِلَى الموتِ فإنَّ النهايةَ أننا سَنَرْجِعُ إِلَى رَبِّنا، ورُجُوعُنا إِلَى ربِّنا خيرٌ من الدنيا؛ لأنَّهم يَرْجِعُون إِلَى نَعيمٍ أَبَدِيٍّ لا يُمَاثِلُه شيْءٌ من نَعيم الدُّنيا، وفي سُورةِ طه:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]، يعني: اقضِ ما تريدُ، غاية ما يكونُ أنْ يكونَ تَعْذِيبُكَ مُوصِلًا إِلَى الموتِ، وإذا أوصلَ إِلَى الموتِ فالنتيجةُ {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، ممَّا يدلُّ عَلَى أَنَّهُم صادقونَ فِي الإيمانِ، وأن إيمانَهم راسخٌ جِدًّا.
وفي هَذَا من آياتِ اللهِ سبحانه وتعالى وبيانِ قُدْرَتِهِ ما هُوَ ظاهرٌ، ففي لحظةٍ واحدةٍ انقلبَ الكفرُ العظيمُ إِلَى إيمانٍ عَميقٍ، فبمجرَّد أنْ رَأَوْا ما تَفْعَلُه عَصَا مُوسَى انقلبوا
(1)
شرف المصطفى لأبي سعد الخركوشي (2/ 330).
بعدَ الكفرِ مُؤمِنينَ، ولهذا قال بعضُ العلماءِ: أَصْبَحوا كفّارًا سَحَرَةً، وأَمْسَوْا شُهَدَاءَ بَرَرةً
(1)
. وهدا صحيحٌ أَنَّهُم كانوا بَرَرَةً وأتقياءَ، وكانوا من أقوى النّاسِ إيمانًا وجِهادًا فِي سبيلِ اللهِ.
قال تعالى: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} ، وفي هَذَا أيضًا دليلٌ عَلَى إيمانهم بالبَعْثِ؛ لِقَوْلهِم:{إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} ، فهم مؤمنونَ بلِقاءِ اللهِ سبحانه وتعالى، وَهُوَ من أصولِ الإيمانِ.
فوائد الآيتينِ الكريمتينِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: شِدَّة تمَويهِ فِرْعَوْن حينَ قَالَ: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} معَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بينَ مُوسَى وبينَ هَؤُلَاء السَّحَرَةِ شيْءٌ مِنْ الإتصالِ، ولكنَّه لقوَّةِ تمويهِهِ أرادَ أنْ يُمَوِّهَ بهذا الكَلامِ الَّذِي لَيْسَ بمعقولٍ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قوَّة جَبَرُوته حِينَ هَدَّدَهُمْ بقطعِ الأيدي والأرجلِ مِن خِلاف ثم الصَّلب.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قوَّة إيمانِ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةِ الَّذين تَحَدَّوْا فِرْعَوْنَ بِجَبَرُوتِهِ، وقالوا: إنه لا ضررَ علينا فيما هَدَّدْتَنَا به؛ لأَنَّنا سَنَنْقَلِبُ إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى وسيُعْطِينا منَ الأجرِ والثوابِ أكثرَ ممَّا فَقَدْنَا من هَذِهِ الحياةِ الدنيا، كما قال فِي سُورَةِ طه:{إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الإيمان إذا صَدَقَ صَارَ أقوى من العاطفةِ، فَحُبُّ النَّفسِ أمرٌ فِطريٌّ، ولكن الإيمان يؤدِّي إِلَى أن ترخصَ النَّفسُ عند المرء بجانبِ دينِه.
(1)
ذكره السمرقندي فِي بحر العلوم (1/ 541) عن عبيد بن عمير، وعزاه فِي في تفسير ابن كثير (3/ 459) لابن عباس وعبيد بن عمير وقتادة.