الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات (131 - 134)
* * *
* قالَ اللهُ عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 131 - 134].
* * *
قال المُفسِّر رحمه الله: [{فَاتَّقُوا اللَّهَ} فِي ذَلِكَ، {وَأَطِيعُونِ} فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بهِ، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ} أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ، {بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ} بَسَاتِينَ {وَعُيُونٍ} أَنْهَارٍ].
قَوْلهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} في ذلك {وَأَطِيعُونِ} كرَّره تأسيسًا، إذا كَان يعود على ما بعد قَوْله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وإذا كَان لا يعودُ عليه، وأنه قال ذلك إبلاغًا للرِّسالَةِ، فإِنَّه يكونُ معَ الأوَّل تأكيدًا.
وفي الحَقِيقَةِ أنّ المَقام يَقتضي التَّأكيدَ، وأنَّ المَقَامَ أيضًا في الأمورِ الثلاثةِ الَّتي وَبّخهم عليها يَقتضي أنْ يُخَصَّصَ بزيادةِ العِنايةِ في قَوْلِهِ:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
ثم قال لهم: {وَاتَّقُوا الَّذِي} ، هنا أتى بالوصفِ لأن {الَّذِي أَمَدَّكُمْ} الإسم الموصول وَصِلَته بمنزلةِ الإسمِ المشتَقّ، يَعْنِي: واتَّقُوا المادَّ لَكُمْ، والإسم المُشْتَقّ أو اسم الفاعل وَصْف.
وهنا انتقل من وَصْف الأُلُوهِيَّة إلى وصف الرُّبُوبِيَّة الخاصَّة، الذي نالَه منه، وهو:{الَّذِي أَمَدَّكُمْ} ؛ لأن إمداد الله سبحانه وتعالى بالنِّعَم من مُقْتَضَى الربوبيَّة.
وقَوْلهُ: {الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أتَى بهذا الوصفِ أيضًا إقامةً للحُجَّة عليهم؛ لأنَّ مَن أَمَدَّكَ بهذه النعم كَان أَولى بأن تَتَّقِيه.
وقَوْلهُ: {بِمَا تَعْلَمُونَ} مُبْهَم؛ لأن (ما) اسم موصولٌ، والإسمُ الموصولُ مُبْهَم وعامّ، ثم فصّله بقَوْلهِ:{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} . والتفصيلُ بعدَ الإجمالِ، أو البيان بعد الإبهامِ، له فوائدُ، منها:
1 -
تَنبيهُ السامِعِ أو القارئِ؛ فإذا كَان مثلًا يقرأ: {الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} يشعر براحةٍ ثم بِتَنْبِيهٍ؛ لأن السياقَ تَغَيّر، فمِن المُبْهَم إلى المخاطبينَ بَيِّن وواضح، فهذا فيه تنبيهٌ.
2 -
التشويقُ؛ لأن الإِنْسان يحبّ الإستطلاعَ، فإذا أُبهم إليه الأمرُ ووَضَحَ، اشتاقَ إليه ورَسَخَ في ذِهنه؛ ترسيخِ الكَلام في الذِّهن؛ لأنه إذا جاء مُبْهَمًا تَشَوَّق له الذِّهْنُ، فإذا بُيِّنَ له بعدَ ذلكَ تَرَسَّخَ فيه.
3 -
العِناية؛ لأن كونَه يُبْهِمُه ثم يُبَيِّنه أو يُجْمِلُه ثم يُفَصِّله؛ لأجل أن الإِنْسان يتشوَّق إليه ويَرتقي من معناه أنه أمر يُعتنَى به، كما أنَّ فيه أيضًا تأكيدًا؛ لأنه ذُكِر مرتينِ: مرَّةً مُبْهَمًا، ومرَّةً مُفَصَّلًا أو مُبَيَّنًا.
4 -
تأكيده؛ بذِكره مرتينِ: مَرَّةً مُجْمَلًا، ومَرَّة مفصَّلًا، أو مبهمًا ثم مُبَيَّنًا.
قَوْلهُ: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} ما قال: (أمدَّكم بأنعامٍ وبَنينَ)، بالنِّسبة لهذه الآية يالذاتِ، فبيَّن لهم أن اللهَ أمدَّهم بأمرٍ لا يُمْكِنُهم إنكارُه؛ لأنَّهم يعلمونَ، فقدَّم:{بِمَا تَعْلَمُونَ} على ذِكر المُنْعَم به بإقامةِ الحجَّة عليهم، حيثُ إنَّ هذه نِعَم مفهومة ومعلومة لهم، فلا يُمْكِنُهم إنكارُها.
قَوْلهُ: {بِأَنْعَامٍ} الأنعامُ: جمعُ نَعَم، يَعْنِي الإبل، وإذا قلتَ: إنَّ نِعْمَة جَمْعُها نِعَم، وجَمْع نِعم: أَنْعَام، صار المُراد بالأنعامِ ما هو أعمُّ منَ الإبلِ، يَعْنِي: كَأنَّه يقول: بنِعَمٍ كَثِيرَة، والمعروف أنها للإبلِ فقطْ، لكن إذا قيلَ: بَهِيمة الأنعامِ، فتَشْمَل الثلاثة، وفي الحديث:"خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ"
(1)
.
وقَوْلهُ: {وَبَنِينَ} الذكور منَ الأولاد، وخصّ البَنين؛ لأنَّهم أبلغُ في شَرَف الإِنْسانِ، ولأنَّ أولادَهم يُكَوِّنون قَبيلةً، لكن أولاد البنات من غيرِهم، فلا يكونونَ قبيلةً ولا يكونونَ أسرةً.
وقَوْلهُ: [{وَجَنَّاتٍ} بَسَاتِينَ {وَعُيُونٍ} أنهارٍ]، وهذا ممّا يَدُلُّ على أنّ هذا الرَّبْع الخالِي الآنَ منَ الماءِ أنه كَان فيه بساتينُ، وكَانَ فيه أنهارٌ، ولعلَّ هذا يُوحِي به أيضًا قولُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا"
(2)
، فإنَّ قَوْلَهُ:"حَتَّى تَعُودَ" العَوْد بعدَ البَدْء، فهذه الجنَّات ليستْ مجرَّد بساتينَ فقطْ؛ لأنه لا يُسَمَّى البستانُ جنَّةً إلا إذا كَان كَثِيرَ الأشجارِ والزُّرُوع، حيث يُجِنّ مَن فيه ويَسْتُرُه، والعيونُ جَمْعُ عَيْنٍ.
وقول المُفسِّر رحمه الله: إنَّها أنهارٌ فباعتبارِ جَرَيَانِها، وإلَّا فالعُيُون هي الَّتي تَنْبُع من الأَرْض، والأنهار كما هو معروفٌ لا تَنْبُع منَ الأَرْض، وإنَّما تأتي منَ الأمطارِ والسيول وغيرها.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، رقم (2942).
(2)
أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، رقم (157).