الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقالُوا في المَعْنى الأخير: منه قولُهم: أرضٌ عَزَازٌ، يَعْنِي: صُلبة قويَّة مُمْتَنِعة، ليستْ رِخْوَةً ليِّنة.
وأمَّا الرَّحِيمُ فمعناهُ: ذو الرحمةِ الواصلة إلى خَلْقِه؛ لأن: (الرَّحِيم) غيرُ (الرَّحْمن)، وأهل السنَّة والجماعة يُثْبِتُون الرحمةَ للهِ حقيقةً، وغيرُهم يُؤَوِّلُها بأنَّ المُرادَ بها الإحسانُ، أو إرادة الإحسانِ، يَعْنِي أنَّهم يُثْبِتُونها إلى لازِمِها؛ لأن الرحمةَ هي الرِّقَّة، والله سبحانه وتعالى منزّه عن الرِّقَّة! فيُقال: مَن قال لكم: إن اللهَ منزَّه عن رِقَّة الرحمةِ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يَرْحَمُ عبدَه، بمَعْنى أنَّه يَعْطِف عليه، وأيّ مانعٍ يَمْنَع اللهَ منَ العطفِ؟ ! فالقاسي ليس بمحمودٍ، أمَّا اللَّيِّن فهو المحمودُ لا شكّ.
ثم إننا نقول: إنَّ لِينَ الإِنْسانِ غيرُ لينِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ لأنَّ لِينَ الإِنْسانِ سَبَبُه الضعفُ أحيانًا، وعدمُ القُدْرَةِ، ولهذا يَرْحَمُ الإِنْسانُ أحيانًا مَن لا يَسْتَحِقّ الرحمةَ؛ لأنه ما عنده إلا مجرَّد العاطفة؛ عاطفة اللِّين، الَّتي سببها الضعفُ، أمَّا الله عز وجل فإنّ رحمته رحمةُ قوّةٍ، ورحمة حِكْمة، ولهذا يُعذِّبُ أهلَ النارِ ذلك العذابَ العظيم، وهو أرحمُ الراحمينَ.
فإن الأدلَّة على رحمة الخالِقِ ليستْ كرحمةِ المخلوقِ.
فوائدُ الآيَات الكريمة:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أن الله سبحانه وتعالى أنجَى مَن معَه منَ المُؤمِنينَ بناءً على دعائِه، وأنجى غيرَهم أيضًا ممَّا يحتاجونَ إلى وُجودِهِ {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40].
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الإشادة بهذا الفُلك، فقال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، وهذا من وجوهٍ:
أولًا: وَصْفْه بالمشْحُون، وكونه مَشحونًا يدلُّ أيضًا على قوَّته؛ لأنَّ ما ليس بقويّ لو شُحِنَ لَغَرَقَ.
ثانيًا: تعريفُ (الفُلك) بـ (أل) التعريف الدالَّة على الكمالِ.
ثالثًا: وفي قَوْلهِ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ} يَعْنِي: كان من على مَتْنِهِ كثيرينَ، ومع ذلك استقامَ، وأنجى اللهُ فيه مَن معَه.
* * *
الآيات (123 - 128)
* * *
* قال اللهُ عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 123 - 128].
* * *
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ} مَا {أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ {آيَةً} بِنَاءً عَلَمًا لِلْمَارَّةِ {تَعْبَثُونَ} بِمَنْ يَمُرّ بِكُمْ وَتَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، وَالجُمْلَةُ حَالٌ مِن ضَمِير (تَبْنُونَ)].
قَوْلهُ: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} عادٌ همْ قومُ هُودٍ، ولهذا قال:{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} ، ومَحَلُّ هؤُلاءِ القومِ في الرَّبْع الخَالِي في الأَحْقَافِ، قال تعالى:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21]، فهؤُلاءِ القومُ معروفونَ بالقُوَّةِ والشدَّة إلى حَدِّ أنَّهم قالُوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]؛ فإِنَّهم مُسَيْطِرونَ.
وأمَّا المبالغةُ الَّتي يَذْكُرها المُفَسِّرون والمؤرِّخون في كِبر أَجسادِهِم وقوَّتِهم، فاللهُ أعلمُ بها، ولكنَّهم بلا شَكّ قومٌ أقوياءُ، وعُتَاة، يَعْنِي: جُفاة القُلوب، أقوياء الأبدان، فهم مَعروفونَ بالقُوَّة، ولكن الله تَعالَى أرادَ أنْ يوبّخهم ويُقِيمَ الحُجَّة عليهم في قَوْلهِ:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} [فصلت: 15]، جعلهم يَطْمَئِنُّونَ، يَعْنِي: يُخْفِضُون رُءُوسهم، {الَّذِي خَلَقَهُمْ} فهم مخلوقونَ، وهو خالِق، فلا بُدَّ ضرورةً
أن يكون الخالِقُ أعلى منَ المخلوقِ، وأنْ يكونَ المخلوقُ في قَبْضَتِه، وهذه هي الحكمةُ في قَوْلهِ:{أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} ، ولم يقلْ: إنَّ الله الَّذي خلق السماواتِ والأَرْضَ، مع أن {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]، لكن لأجلِ أن يُخفِضَ رُءوسَهم أكثر {خَلَقَهُمْ} ، فهم بأنفسهم مخلوقون مَرْبُوبُونَ ذَلِيلُونَ.
وكلٌّ منَ القومينِ كذَّبَ نبيَّه، كذب قومُ نوحٍ نوحًا عليه الصلاة والسلام، وكذَّب قومُ هودٍ هودًا عليه الصلاة والسلام، معَ أنَّه نَصَحَهُمْ هذه النصيحةَ:{أَلَا تَتَّقُونَ} ، وهذا الإسْتِفهامُ إمَّا للتحضيضِ، أو أنه استفهامٌ بمَعْنى التوبيخ، يَعْنِي: يُوَبِّخُهُم على عدم التَّقْوَى.
وقَوْلهُ: {أَلَا تَتَّقُونَ} أيِ اللهَ؛ لأن هذه الجُملة مُخْتَصَرَة، ومعروفٌ أنه كَان يَأْمُرُهُم ويقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} يؤيِّد أنَّ قولَه تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، ليسَ المقصود أنه أرسلَ للناسِ كافَّة.
قَوْلُهُ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، أي: مُرْسَلٌ من قِبل الله سبحانه وتعالى، وتقديم {لَكُمْ} يدلُّ على الإختصاصِ، أي: مُرْسَلٌ لكم خاصَّة؛ لأنَّ كلَّ رَسُولٍ يُبْعَثُ إلى قومِهِ فقطْ.
وقَوْلهُ: {أَمِينٌ} أي: ذو أمانة، ائتمنني الله سبحانه وتعالى على رسالته.
فإذا قال قائل: هذان الوصفان: {رَسُولٌ أَمِينٌ} مجرَّد دعوى، وهم ينكرونَ أنْ يكونَ رَسولًا أمينًا، بل يقولون: إنه كاذبٌ خائنٌ، فهل بمجرَّد الدعوَى تقومُ عليهم الحجَّةُ؟
فالجَوابُ: لا، لكن هذه الدَّعْوَى مؤيَّدة من آيات من الله عز وجل؛ لقولِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ"
(1)
، فهي ليست مجرَّد دَعوى؛ لأنها لو كانتْ مجرَّد دعوى لكانَ سهلًا رفضُها، لكنها دَعوى مؤيَّدة ومدعَّمة منَ الله سبحانه وتعالى بآياتٍ بيِّنة، يُؤمِن على مِثلها البشرُ.
وفي قوله لهم هذا القولَ، جازِمًا به، دليلٌ على قوَّة آياتِه، وأنَّ معه منَ الآيَاتِ ما جَعَلَه يعبِّر هذا التعبيرَ الجازِمَ:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، وفي هذا دليلٌ على أنّ الرِّسالَةَ أكبرُ دليلًا على أمانةِ الشخصِ؛ لأنه لولا أنه أمينٌ ما ائتمنه اللهُ سبحانه وتعالى على الوحيِ، الَّذي فيه الحُكْمُ على النَّاسِ بالسعادةِ والشقاءِ، بل الحكم عليهم باستباحةِ أموالِهم، واستباحة نِسائِهم، واستباحة دِمائهم.
فلولا أنَّ الرُّسُل - عليهم الصلاةُ والسلامُ- هم أعظمُ النَّاسِ أمانةً ما ائتمنهمُ اللهُ على هذا الوحيِ العظيمِ.
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} هذا عَودٌ في المَعْنى على قَوْلِهِ: {أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124]، يَعْنِي: فلأني رَسُولٌ أمينٌ افْعَلُوا ما آمركم به منَ التَّقْوَى، وأَحُثُّكُم عليه.
وإنَّما قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وما قال:(واتقوني)؛ لأنه لا يَمْلِك لنفسِهِ نفعًا ولا ضَرًّا، لا هو ولا غيرُه، فوظيفة النَّاس بالنِّسبةِ للرسلِ ليستْ تَقْوَى الرُّسُل، بل طاعة الرُّسُل، ولهذا ما جاء على لسانِ أيّ واحدٍ منَ الرُّسُلِ أنه قال لقومِه:(اتقوني)، بل يأمرونهم بالطَّاعةِ، وأما التَّقْوى والخشية والخوفُ فهي لله سبحانه وتعالى.
(1)
سبق تخريجه.
والتَّقْوى هي اتّخاذ وِقاية من عذابِ اللهِ سبحانه وتعالى بفعلِ أوامرهِ، واجتنابِ نواهيهِ، وهذا أجمعُ ما قيل في التَّقْوى، ولهم فيها عباراتٌ كَثِيرَة.
أمَّا الطَّاعة فأصلُها الإنقيادُ، ومنه قولهم: هذه الناقةُ طَوْعُ صَاحِبِها، أي: مُنقادة له وذليلةٌ، وتفسّر بأنها موافقةُ الأمرِ تَذَلُّلًا للآمِرِ؛ لأن موافقةَ الأمر قد تكونُ تَذَلُّلًا للآمرِ، وقد تكون كالإكراهِ، والتي تكونُ كالإكراهِ لا تكونُ طاعةً.
ويُستفاد من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وجوبُ تقوى الله، ووجوبُ طاعةِ رسولِه؛ لأن طاعةَ رسولِه من طاعتِه؛ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّساء: 80].
قَوْلهُ: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} : أي: على ما أقولُه لكم، أو: على تبليغِ الرِّسالَةِ، والمَعْنى متقارِبٌ، يَعْنِي: أنا لستُ أقولُ: أَعْطوني شيئًا، وإنَّما آمُرُكم بما فيه خَيْرُكم، لو كنتُ أسالكم أجرًا على ذلك لكَانَ لكم الحُجَّة في أنْ تَرُدُّوا، لكنِّي لا أسألكم عليه أجرًا، يَعْنِي ثوابًا وعِوَضًا.
قال المُفسِّر رحمه الله: {إِنْ} مَا {أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ]، وفي هذا كمال الإخلاص، يَعْنِي: أنا لا أريدُ الأجرَ إلَّا منَ اللهِ سبحانه وتعالى.
وقَوْلهُ: {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول العلماءُ: إنَّ (عَلَى) تفيدُ الوجوبَ؛ لأنه ما قال: إن أَجْرِي إلَّا مِن ربِّ العالمينَ، بل قال:{عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وهلِ اللهُ سبحانه وتعالى يَجِبُ عليه شيْءٌ؟
الجَواب: أمَّا أنْ نُوجِب عليه فلا، وأما أنْ يُوجِب على نفسِه تَكَرُّمًا، فهذا لا مانعَ منه.
قال ابن القيِّم
(1)
:
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ
…
هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الشَّانِ
كَلَّا وَلَا عَمَلٌ لَدَيْهِ ضَائِعٌ
…
إِنْ كانَ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا
…
فَبِفَضْلِهِ، وَالْفَضْلُ لِلْمَنَّانِ
قيّد بقَوْلِهِ: "إن كَانَ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ"، والإحسانُ هو المتابعةُ، أمَّا إذا لم يكنْ بالإخلاصِ والإحسانِ فيَضِيع:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
قال المُفسِّر رحمه الله: [{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ {آيَةً} بِنَاءً عَلَمًا لِلْمَارَّةِ {تَعْبَثُونَ} بِمَنْ يَمُرّ بِكُمْ وَتَسْخَرُونَ مِنْهُمْ]، ففسَّر هنا الآيةَ بأنها العَلامَةُ، لكنها تَحتمل أن تكونَ عَلامَة على الطريقِ كما قال المُفَسِّر، معَ أن السياقَ لا يؤيِّده، لكنه كذلك لا يَمْنَعُه.
وكذلك قد يكون المُراد آيَة أي: عَلامَة على قُوَّتِكُم ومَقْدِرَتِكُم، وهذا هو الأقربُ، ولهذا قال:{بِكُلِّ رِيعٍ} يَعْنِي أنَّكم تريدون من هذه البِناياتِ أن تكونَ آيةً ودليلًا وبُرهانًا على قوتكمْ.
وقَوْلهُ: {تَعْبَثُونَ} تَتَّخِذُونَ ذلك عَبَثًا؛ لأنه لا مصلحةَ لكم فيه إلا مجرَّد العَبَث، وإظهار العَظَمَة، وإظهار القُوَّة، وهذا بلا شَكّ كون الإِنْسان يُظْهِر قوَّتَه أنه عبَث وفسادٌ.
(1)
نونية ابن القيم الكافية الشافية (ص: 208 - 209) ط. مكتبة ابن تيمية.
وعلى هذا يَتَبَيَّن لنا أن هؤُلاءِ الَّذينَ يحاوِلون أنْ يَصِلُوا إلى الكواكبِ، ويُطْلِقوا هذه الأقمارَ الَّتي لا يَستفيدون منها في الأَرْض مثل قوم عادٍ تمامًا، يَعْنِي: الطريقة هي الطَّريقة، وإنْ كَانَ الأسلوبُ مختلِفًا، يَعْنِي: يفعلون هذه الأشياءَ آيةً وعَبَثًا؛ إذ لا يَستفيدونَ منها فيما خُلِقَ لهم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وليس الَّذي في السماء، لكن الَّذي في الأَرْضِ هو الَّذي مخلوقٌ لنا، فانْتَفِعُوا به مباشرةً، أمّا الذي في السَّماء فمُسَخَّر لمِصالحنا، ولكنَّنا لا نَنْتَفِع به مباشرةً، فالَّذي يُنْتَفع به مباشرةً هو ما في الأَرْضِ.
ولهذا يقول بعضُ النَّاسِ: لماذا تحاولونَ أنْ تَصِلُوا للسماءِ وأنتم عاجزونَ عن حلّ مشاكلكم في الأَرْضِ؟ وهذا صحِيحٌ، لكنَّهم يَعْمَلُونَ هذا لمجرَّدِ العَبَثِ والفَخْرِ، وأنَّهم أقوياءُ، معَ أنّ قومَ هُودٍ، وهؤُلاءِ القوم أيضًا المعاصرونَ يَخْسَرون على هذه الأمورِ خسائرَ باهظةً، فصارتْ عَبثًا؛ لأن كلَّ شَيْءٍ يُتْعِب الإِنْسان فيه جِسْمَه ومالَه وفِكْرَه بدون فائدةٍ، فهو عَبَثٌ، ولا فائدةَ منه.
بل إنه إذا أرادَ ما وراءَه من إظهارِ العَظَمَةِ والكِبرياء على الخَلْق، صار أيضًا فَسادًا، فصار إيجابيًّا لا سلبيًّا فقطْ، إيجابيًّا لأنه فسادٌ، وهو ينكِر عليهم هذا الأمرَ:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} .
وأمَّا ما سَلَكه المُفَسِّر رحمه الله من أنَّهم يَجْعَلُون علاماتٍ للمارَّة لأجل إذا مَرُّوا بهم يَسْخَرُونَ منهم؛ فهذا بعيدٌ عن السِّياق، وإن كَان السياقُ لا يَمْنَعُه لكنَّه لا يؤيِّده، فالصَّوابُ في هذه الآيةِ أنَّهم يبنونَ بناياتٍ عظيمةً، تدلُّ على قُوَّتهم وقُدْرَتهم عَبَثًا؛ لأنَّهم لا يَستفيدون منها سِوَى إظهارِ العَظَمَةِ فقطْ، وهذا لا شكّ أنه عَبَثٌ.