المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (63) * * *   * قالَ اللهُ عز وجل: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى - تفسير العثيمين: الشعراء

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌ومن فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (3)

- ‌الآية (4)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الآية (8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآيتان (10، 11)

- ‌فوائد الآيتينِ الكريمتينِ:

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌الآيتان (23، 24)

- ‌الآية (25)

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌الآيات (30 - 35)

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآيتان (39، 40)

- ‌الآية (41)

- ‌الآية (42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌ومن فوائد الآيةِ:

- ‌الآية (45)

- ‌الآيات (46 - 48)

- ‌فوائد الآيَات الكريمة:

- ‌الآيتان (49، 50)

- ‌الآية (51)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآيتان (57، 58)

- ‌فوائد الآيتين الكريمتينِ:

- ‌الآية (59)

- ‌الآية (60)

- ‌الآيتان (61، 62)

- ‌فوائدُ الآيتينِ الكريمتينِ:

- ‌الآية (63)

- ‌فَوَائِد الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآيات (64 - 66)

- ‌الآية (67)

- ‌الآية (68)

- ‌الآيتان (69، 70)

- ‌الآية (71)

- ‌الآية (72)

- ‌الآيتان (73، 74)

- ‌الآيات (75 - 86)

- ‌الآية (87)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآيتان (88، 89)

- ‌فوائِدُ الآيتَينِ الكريمتين:

- ‌الآيات (90 - 93)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (94، 95)

- ‌فوائدُ الآيتينِ الكريمتينِ:

- ‌الآيات (96 - 98)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمةِ:

- ‌الآية (99)

- ‌الآية (100)

- ‌فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (101)

- ‌الآية (102)

- ‌الآيتان (103، 104)

- ‌الآية (105)

- ‌فوائدُ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (106 - 110)

- ‌الآيات (111 - 115)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمة:

- ‌الآيات (116 - 118)

- ‌الآيات (119 - 122)

- ‌فوائدُ الآيَات الكريمة:

- ‌فوائد الآيَات الكريمة:

- ‌الآيتان (129، 130)

- ‌الآيات (131 - 134)

- ‌فوائد الآيَات الكريمة:

- ‌الآيات (135 - 138)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (139، 140)

- ‌الآيات (141 - 145)

- ‌الآيات (146 - 152)

- ‌الآيتان (153، 154)

- ‌الآيات (155، 159)

- ‌من فوائد ذِكر قومِ صالحٍ:

- ‌الآيات (160 - 164)

- ‌الآيتان (165، 166)

- ‌الآيات (167 - 175)

- ‌ويُستفاد من قِصَّة لُوطٍ عليه السلام مع قومه:

- ‌الآيات (176 - 180)

- ‌الآيات (181 - 184)

- ‌الآيات (185 - 191)

- ‌ويُستفاد من قِصَّة شُعيب عليه السلام:

- ‌الآيات (192 - 196)

- ‌الآيات (197 - 204)

- ‌الآيتان (208، 209)

- ‌فوائد الآيتين الكريمتينِ:

- ‌الآيات (210 - 212)

- ‌الآية (213)

- ‌الآيات (214 - 216)

- ‌الآيات (217 - 220)

- ‌الآيات (221 - 222)

- ‌الآيات (224 - 226)

- ‌الآية (227)

الفصل: ‌ ‌الآية (63) * * *   * قالَ اللهُ عز وجل: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى

‌الآية (63)

* * *

* قالَ اللهُ عز وجل: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].

* * *

قال تعالى: {أَنِ اضْرِبْ} وهذه لا يَصْلُحُ فيها: (أَنْ أَضرِب)؛ لِأَنَّ (ضَرَبَ) لا يأتي رُبَاعِيًّا، ولهذا يجب كسرُ النونِ:{أَنِ اضْرِبْ} ، و (أَنْ) هَذِهِ تفسيرية.

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} فَضَرَبَهُ {فَانْفَلَقَ}]. تقديرُ المُفسِّرِ (فضربه) صحيحٌ؛ لِأَنَّ البحرَ لم يَنْفَلِقْ بمجرَّد الوحيِ، بل بالضَّرب، وفي قوله:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} إشارة إِلَى أن مُوسَى صلى الله عليه وسلم بادرَ بضربِ البحرِ، وأن البحرَ انفلقَ حالًا بدونِ تأخُّر.

ومَعْنى {فَانْفَلَقَ} قال المُفسِّر رحمه الله: [فانشقَّ اثني عَشَرَ فِرقًا، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} الجبل الضخم، بينهما مسالِكُ سَلَكُوها، لم يبتلَّ منها سَرْجُ الراكبِ ولا لِبْده].

يقول: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} وهذه العصا الَّتِي كَانَ يَحْمِلُها دائمًا يَتَوَكَّأ عليها، ويَهُشّ بِهَا عَلَى غَنَمِه، وله فيها مآرِبُ، فتكون هَذِهِ العصا فيها مصالحُ عظيمةٌ، وفيها من آياتِ اللهِ ثلاثُ آياتٍ، هَذِهِ إحداها.

والثَّانية: الثُّعبان، أَنَّهُ إذا ألقاها صارتْ ثعبانًا مُبينًا.

ص: 135

والثالثة: إذا ضَرَبَ بِهَا الحَجَرَ تفَجَّر عُيونًا.

فهذه ثلاثُ آياتٍ، أما البقيَّة: فالإتِّكاء عليها، والهَشّ بِهَا عَلَى الغنم، ودفع الصَّائل، وما أشبهَ ذلك، فهذه ليستْ منَ الآيَاتِ، بل من الأمورِ المعتادَة.

وقوله: {الْبَحْرَ} المُراد بِهِ البحرُ الأحمرُ، ويُسَمَّى بَحْرَ القُلْزُم، هَذَا البحرُ انفلقَ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} كالجبلِ العظيمِ، يعني: لِكِبَرِه وارتفاعه؛ لِأَنَّ قاعَ البحرِ قويٌّ عميقٌ، فيكون كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ للكِبَر وللإرتفاعِ، وظاهرُه أَنَّهُ عريضٌ؛ لِأَنَّ الطودَ العظيمَ يتناولُ الكِبَر والإرتفاعَ والعَرْض، وَهُوَ كذلك، وهذا من آياتِ اللهِ؛ لِأَنَّ العصا إذا ضربت لا تَتَّسِع لمكانٍ واسعٍ، وهذه الأطوادُ - الإثنا عَشَرَ - مكانها بلا شكّ واسعٌ، والطرقُ أيضًا ستكونُ واسعةً.

ثم إن فِي هَذِهِ الضربة من آياتِ اللهِ - غير انفلاق البحر - أَنَّهُ صارَ يَبَسًا، يَبِسَ فِي الحالِ، قال تعالى:{لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، وهذا أيضًا من آياتِ اللهِ، أن الله أزال عنهم الخوفَ وألقاه عنهم، وإلَّا فطبيعة البشرِ تَقتضي إذا كَانَ الماءُ عَلَى يمينِه ويسارِه كالأطوادِ أن يخافَ، ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى عنهمُ الخوفَ، فلم يَخَافُوا أبدًا.

وفي قوله: {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ظاهرٌ أنَّ الماءَ لم يَتَغَيَّرْ، يعني: لم يتجمَّدْ بالمَعْنى المعروفِ، فيكون أبيضَ جامدًا، ولكنَّه بقِيَ جامدًا عَلَى طبيعته أسودَ، وهذا أعظمُ ممّا لو تَجَمَّد وَهُوَ عَلَى غيرِ طبيعتِه لصارتْ فيه آيةٌ واحدةٌ، وهي سرعةُ التجمُّد بهذه اللحظةِ، فكونه لا يَسيل وَهُوَ جامدٌ أمرٌ طبيعيٌّ عاديّ، لكن كونه يبقى مائعًا ولكن لا يَسيل، فهَذَا أبلغُ من ذلك. ففيه آيتان: أَنَّهُ لا يسيل، وأنه لا يسيل وَهُوَ عَلَى طبيعته، والله تعالى عَلَى كل شيْءٍ قديرٌ.

ص: 136

وفيه أيضًا دَليل عَلَى أنّ كلّ شيْءٍ يَمتثِل لأمرِ اللهِ، وأن الله تعالى قادرٌ عَلَى قلبِ الأمورِ عن طبائعها، فضلًا عن تغيّر صفاتها، فهذه النارُ الَّتِي من طبيعتها الإحراقُ والحرارةُ كانت بردًا وسلامًا عَلَى إِبْرَاهِيم فِي الحالِ، وهذا الماءُ الَّذِي من طَبيعته الإغراقُ والسَّيَلان صارَ أمْنًا وجامدًا لا يسيلُ بالنِّسبةِ لبني إِسْرَائِيلَ.

قال أهل العلم: إنه ما من آيةٍ أُعْطِيَها أحدٌ من الأَنْبياءِ إلَّا وكانتْ للرسولِ عليه الصلاة والسلام، والآية المقابلةُ لهذا الأمرِ ما جَرَى لِسَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ لَمَّا أرادَ الغزوَ حيث خاضَ الماء

(1)

، ولكن ما صار يَبَسًا، وهذا أبلغُ؛ أَنَّهُ يكونُ باقيًا عَلَى طبيعته يجري كما هو، وهذه الخيولُ والإبلُ والمُشاةُ يمشون عليها.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ ليست بعهدِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام؟

فالجَواب: كرامةُ أتباعِهِ مُعْجِزَةٌ له.

فالحاصلُ أن يُقالَ: إن ما جَرَى لبني إِسْرَائِيلَ جَرَى لهذه الأُمَّة مثله؛ وذلك لِأَنَّ كرامةَ أتباعِ النبيِّ مُعْجِزة له؛ إذ مَعنَى الكرامةِ الشهادةُ بأنَّ ما عليه هَذَا المكرَم حقٌّ، فإذا كَانَ أتباعُ النبي صلى الله عليه وسلم جاء لهم شهادة بأنَّ ما هم عليه حقّ، كَانَ مَعْنى ذلك أنَّ ما جاء بِهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هُوَ حقٌّ.

فَإِنْ قِيلَ: قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} اثني عَشَر فرقًا، الإثنا عشرَ هَذِهِ ضرب اثنتي عشرة مرةً أم ضربة واحدة فانفلقَ اثني عشرَ؟

فالجَوابُ: لا، ضَرْبَة واحدة، فانفلقَ اثني عشرَ.

(1)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 574، رقم 522).

ص: 137

وإنْ قيلَ: كل اثني عَشَر ألفًا يدخلونَ من طريقٍ؟

فالجَوابُ: لا نَدْرِي، كلّ اثني عشر ألفًا يدخلونَ من طريقٍ أو عشرة آلاف أو ألف.

وإنْ قيلَ: كم عَدَدُهُمْ؟

فالجَواب: لا ندري، هم عَلَى كلِّ حالٍ اثنتا عشْرَةَ قبيلةً، فالأسباطُ فِي بني إِسْرَائِيلَ مثلُ القبائلِ فِي العربِ، وهم اثنتا عَشْرةَ، لا نَعْرِفُ كم عَدَدُ القبيلةِ؛ قد تَقِلُّ أو تَكْثُرُ، فيمكنُ كل قَبيلة مثلًا خَمْسُ مئةِ نفرٍ أو أكثرُ أو أقلُّ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قوله: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} دَليلٌ عَلَى الكثرةِ، لِأَنَّهُ ينافي الحكمةَ لو أخبرَ اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ الطَّريقَ عظيمٌ وهم قليلٌ؟ فالله سبحانه وتعالى جعلَ اثني عشرَ طريقًا لقبائلِ بني إِسْرَائِيل، وهم قليلونَ وينافي الحكمةَ، فلا بدَّ أَنَّهُم كثيرونَ، وكلُّ واحدٍ كالطَّوْدِ العظيمِ؟

فالجَواب: كلُّ فِرقٍ لَيْسَ معناهُ الطَّريق، فالماءُ الَّذِي بينها مثلُ الجبالِ وليسَ نفس الطَّريق، فـ {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} يعني: من الماء، فالماء الَّذِي بينها مثل الجبال. وذكر بعضُ الَّذينَ يَنْقُلُونَ الإِسْرَائِيليَّات أَنَّهُ صار بهذه الأطواد فُرَج ينظرُ بعضُهم إِلَى بعضٍ؛ زيادةً فِي الأمنِ، ولكن الله تعالى أعلمُ هل هَذَا صحيحٌ أو لا.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فمَنِ المقصودونَ فِي قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155]؟

فالجَواب: هم الَّذين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النِّساء: 153]، هَؤُلَاءِ المختارون.

ص: 138

فَإِنْ قِيلَ: كيف يكونون المختارينَ ثم يقولون: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ؟ !

فالجَواب: نعمْ، لا شكَّ أن هَذَا فِي الحَقِيقَةِ مما يدلُّ عَلَى أَنَّهُم مهما بَلَغُوا بالكمالِ أَنَّهُم ليسوا كهذه الأمَّة.

فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهرُ أنَّ إيمانَهم ضعيفٌ؛ لأنَّهم وَصَلُوا إِلَى حدّ عبادةِ الصنمِ؟

قلنا: لا، هم طلبوا إلهًا، لكن مُنعوا، وقد عبَدوا العجلَ بعدَ أنْ غاب عنهم مُوسَى. وهم عَلَى كلِّ حالٍ حَتَّى لو كَانَ إيمانهم ضعيفًا فِي أوَّل الأمر، ونحن لا نعلم عن إيمانهم، لكن ظاهرُ الآياتِ أَنَّهُم مُنّ عليهم بهذا لكمالِ إيمانهم، والْإِنْسَان إذا توفرتْ لديه النعمةُ قد يَختلف حالُه، فهم خرجوا فِي الأوَّل وهم فِي قِلّة وفي ضعف وفي خوفٍ، وهم أقربُ إِلَى الإيمان مما إذا نُعِّمُوا هَذَا النعيم؛ لِأَنَّ العادة أن الْإِنْسَان إذا نُعّم فَإِنَّهُ يَحْصُلُ منه الأَشَرُ والبَطَر، هَذَا هِيَ العادة.

فَإِنْ قِيلَ: هل يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إن هَؤُلَاءِ الَّذينَ حَصَلَ منهم هَذِهِ الأشياءُ أَنَّهُم ذُرِّيَّتُهُمْ؟

فالجَواب: الظَّاهر أَنَّهُم عَلَى حَسَبِ الأجيالِ المعروفةِ يَتَوَالَدُون، والَّذين صاروا فِي التِّيهِ وحُرِّمَتْ عليهم الأرضُ المقدَّسة أربعينَ سنةً فلأجلِ أنْ تَتَغَيَّر أوضاعهم وأحوالهم بإنشاءِ خلقٍ آخرَ.

المهم نَجْزِم أن إيمانَهم فِي ذلك اليومِ كَانَ إيمانًا جيِّدًّا قويًّا حينما أغرقَ فِرْعَوْنَ، ولهذا نُصِروا هَذَا النصرَ العظيمَ عَلَى فِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّ سياقَ الآيَاتِ يدلُّ عَلَى هذا.

فَإِنْ قِيلَ: إن إيمانهم ضعيفٌ بقرينةِ ما حصلَ؟

قلنا: ما حصلَ بعدُ، والْإِنْسَان يَتَغَيَّر.

ص: 139

فَإِنْ قِيلَ: المهاجرونَ لَمَّا آمنوا إيمانًا قويًّا، والأنصار لما آمنوا إيمانًا قويًّا ما صار منهم شيْء مثلما حصلَ من بني إِسْرَائِيلَ؟

قلنا: لا نقارنُ بني إِسْرَائِيلَ بهذه الأمَّة، فمسألة المقارنةِ غيرُ واردةٍ؛ لِأَنَّهُ لا سواء، بنو إِسْرَائِيلَ ابْتُلُوا بالحِيتان فلم يَصْبِرُوا وتحيّلوا، وهذه الأمَّة ابتُلوا بالصَّيد وهم مُحْرِمون فصَبَروا، وغيره، وغيره، فلا تقارن إيمان هَذِهِ الأمة بإيمان مَن سبقَ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أنا لا أقصدُ المقارنةَ، ولكن أقصدُ أن الإيمان إذا كَانَ جيِّدًا فِي البدايةِ فالغالبُ أَنَّهُ تصرف عنه مثل هَذِهِ الأشياء الخطيرةُ، وإلا فالصغائر أمرها أقل خطرًا.

قلنا: عَلَى كل حالٍ هم حينَذاك لا شكّ أَنَّهُم مؤمنونَ؛ لأنَّهم شاهدوا الإيمان وورثوا الأرض، ولا مانع أن تطرأَ لهم أحوال يتغيَّرون بها.

فَإِنْ قِيلَ: لو لم يكونوا مُؤمِنينَ لَمَا صَبَروا عَلَى أذى فِرْعَوْن حينما قطَّعَ أرجلَهم وأيديَهُمْ من خلافٍ، وهذا دَليلٌ عَلَى قوة إيمانهم العظيمِ.

قلنا: لا، هَؤُلَاءِ السَّحَرَةُ لا شكّ فِي قوة إيمانهم، والسَّحَرَة من آلِ فِرْعَوْن. وهم غير الَّذين ذهبوا مع مُوسَى، فالكَلامُ عَن بني إِسْرَائِيلَ، وبنو إِسْرَائِيل غير السَّحَرَة، فالسَّحَرَة من القِبط من آلِ فِرْعَوْن.

فنقول: الأَصْلُ أن إيمانهم فِي تلكَ الساعةِ قويٌّ، هَذَا هُوَ الأَصْلُ، وإنَّ النصرَ إنَّما يَسْتَحِقُّه المؤمنونَ، وإنَّما يَرِثُ الأرضَ عبادُ الله الصَّالحون، لكن لا مانعَ من أن تطرأَ أحوالٌ، وتَتَجَدَّد أعمالٌ، فيَنْصَرِفون هم أو بعضهم عن الحقِّ.

ص: 140

فهذا الجدلُ لا فائدةَ فيه، نحن نقولُ: إنّ مَنِ انتصرَ فهو مؤمنٌ حقًّا، ومَن نصرهُ اللهُ وأورثهُ الديارَ فهو من عبادِ اللهِ الصَّالحينَ، هَذَا الأَصْلُ. ثم إذا طرأتْ أحوالٌ نقول: الله أعلمُ كيف تطوَّرت هَذِهِ الأحوال، ففي الحَقِيقَةِ لَيْسَ فِي هَذَا فائدةٌ، وليست المسألة عَمَلِيَّة نُطَبِّقُها حَتَّى نُحَقِّق كيف نعملُ، فقد قصّ الله علينا فِي هَذِهِ المسألةِ أحوالًا لبني إِسْرَائِيلَ تدلُّ عَلَى أن هَؤُلَاءِ القوم آمنوا وطرأتْ عليهم أحوالٌ، وبالنظرِ إِلَى أحوالهم العامَّة نَعْرِف أن إيمانهم لَيْسَ كإيمان هَذِهِ الأمَّة، وأن هَذِهِ الأمَّة أكملُ فِي إيمانها، وأكملُ عملًا.

فَإِنْ قِيلَ: هل نستنتج من هَذَا أَنَّهُ من الممكنِ أن يكونَ هناك إيمان كامل فِي البدايةِ ثم يَنْقُصُ نقصًا شديدًا إِلَى أن يصلَ إِلَى حدِّ ما وصلوا إليه؟

فالجَواب: هَذَا ممكنٌ، وليس هناك إشكال أن الإيمان حاصل، لكن الَّذِي أشكل أَنَّهُ كيف تطورتِ الأحوالُ إِلَى أن يقولوا:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وهذا لا يمنع أن بعضهم قال هذا، أو تقلَّبت بهم الأحوالُ، فالله أعلمُ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ما المقصود بالفِرق؟

فالجَواب: الفِرق: الطائفةُ من الماءِ، فصار كل فِرقٍ وقطعة منه مثل الطَّوْد العظيم.

فَإِنْ قِيلَ: ما الغرضُ من ذِكْر عهدِ أسلافهم؟

فالجَوابُ: مِنَ المُمْكِنِ أنَّ اللهَ يُذَكّرهم بِعُيُوبِهِم السابقةِ لَعَلَّهم يَرْتَدِعوا، أو يُذَكِّرهم بهذا لبيانِ أن هَذَا من عادتهم وسَجِيَّتِهِم، فهو بين أمرينِ:

ص: 141