الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات (116 - 118)
* * *
* قال الله عز وجل: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 116 - 118].
* * *
قال المُفسِّرُ رحمه الله: [{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ} عَمَّا تَقُول لَنَا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} بِالحِجَارَةِ أَوْ بِالشَّتْمِ، {قَالَ} نُوحٌ: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أَيِ احْكُمْ، {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}].
قوله تعالى: {قَالُوا} يَعْنِي: لمَّا رَأَوْا تَصْمِيمه عليه الصلاة والسلام وأنه لنْ يَطْرُدَ المُؤمِنينَ لِقَوْلهِم، وأنَّ هؤُلاءِ الأراذل ليس عليهم من حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ، وإنَّما حِسَابُهم على اللهِ وهم مؤمنونَ، فلجَئُوا إلى القُوَّةِ، فقالُوا:{لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ} قال المُفسِّر رحمه الله: [عمَّا تقولُ لنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} بالحجارةِ أو بالشَّتم].
وقَوْلهُ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} في الآية إشكالٌ من حيثُ الإعرابِ؛ لأنَّ فيها قَسَمًا وشَرْطًا، وكلاهما يَحتاجُ إلى جَوابٍ، فأين جَوابُ الشَّرطِ؟ وأين جَوابُ القسمِ؟
والجَواب: أن {لَتَكُونَنَّ} جَوابُ القَسَمِ، وابنُ مالِكٍ يقولُ
(1)
:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ
…
جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
(1)
ألفية ابن مالك - عوامل الجزم، (ص: 59) ط. دار التعاون.
وأيضًا: {لَتَكُونَنَّ} لا تَصْلُح جَوابَ شرطٍ؛ لأن اللامَ لا يُمْكِن أنْ تَقْتَرِنَ بجَواب الشَّرطِ، إنَّما تَقترن بجَوابِ القَسَم.
والقاعدةُ عند أهلِ العِلْم في النحوِ يقولون: إنه إذا اجتمعَ شَرْطٌ وقَسَمٌ، فاحذِفْ جَوابَ المتأخِّر، فإذا قلت:"إنْ قمتَ واللهِ ضَرَبْتُكَ"، جاز أن تقول:"لَأَضْرِبَنَّكَ"؛ لأن الشَّرطَ متقدِّم، ولكن لو قلتَ:"واللهِ إنْ قمتَ ضَرَبْتُكَ" فلا يجوزُ أن تقولَ: "لَأَضْرِبَنَّكَ".
وقولهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أكدوا فيه - والعياذُ باللهِ - ما أرادوا من رَجْمِهِ بثلاثةِ مُؤَكِّدات: القَسَم، واللام، ونون التَّوكيد، ثم أَوْغَلُوا في الوَعِيد والتهديدِ، حيث قالُوا:{مِنَ الْمَرْجُومِينَ} ولم يقولوا: لَنَرْجُمَنَّك، كَأنَّهم يقولون: هناك مَن سَبَقَكَ فرُجِم، فنحنُ نَرْجُمُكَ معَهم، فهذا أبلغُ مِن لو أنَّهم قالوا:(لَنَرْجُمَنَّكَ)؛ لأن فيه تَخويفًا؛ حيثُ إنه ليس أوَّلَ مَن يُرْجَم، بل هناك مَن رُجِمَ قبلَه.
وهل يَقصِدون أنَّهم يَرْجُمُونه بالحجارةِ أو بالقولِ؟
الظَّاهرُ والأقربُ أنَّهم يَقْصِدون رَجْمَه بالحجارةِ؛ لأنَّ الرجمَ بالقولِ قليلُ الإستعمالِ، ثم إنَّ التهديدَ به من هؤُلاءِ الَّذينَ يَرَوْنَ أنَّهم يَتَكَلَّمُونَ من مصدرِ القُوَّة ليس بلائقٍ في المَقامِ، فالصَّوابُ أنَّهم يُهَدِّدُونَه بالرَّجْم بالحجارةِ، واللهُ أعلمُ.
حينئذٍ لجأَ إلى اللهِ سبحانه وتعالى فقال: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ} ، وهذا الدُّعاءُ جمَعَ بين أسْبابِ الإجابةِ الثلاثةِ، وهي:
الأوّل: دُعاء الله تَعالَى باسمِ الربوبيَّة: {رَبِّ} .
الثَّاني: ذِكْر الحالِ الداعيَةِ المُقْتَضيَةِ في الدُّعاءِ: {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} .
الثالثُ: الطَّلَب، {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
أولًا: قَوْلهُ: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي} ، والربوبيَّة تَنقسِم إلى قِسمينِ: عامّة وخاصّة، وهذه من الربوبيّة الخاصّة، بل هي من أخصِّ الرُّبُوبيَّات؛ لأنّها رُبوبيّة اللهِ تَعالَى في رُسُلِه.
ثانيًّا: قَوْلهُ: {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} إظهارٌ للأضعفِ، يَعْنِي: لما هو أضعفُ؛ لأن قَوْلهُ: {إِنَّ قَوْمِي} كَان مُقتضى الحالِ أن يكونوا مُصدِّقين له؛ لأنَّهم قومه، ولكنهم - والعياذُ باللهِ - صاروا مُكذِّبين له، فصارتْ حالُه تَقتضِي رأفةً أكثرَ، حيثُ إنَّ قومَه هم الَّذينَ كَذَّبوه، ثم إنه يَقتضي أن تكونَ النِّكاية فيهم أعظمَ أيضًا؛ لأنَّهم قومُه.
وهذه الإضافةُ فيها فائدتانِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: بيان أنه مُسْتَحِق للرأفةِ أكثر؛ لأنَّ قومَه هم الَّذينَ كذَّبوه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ قَومَه مستحِقّون للتنكيلِ بهم أكثر؛ لأنَّهم قومُه، وكَان عليهم أنْ يُصدِّقوه ويَمنعوه، يَعْنِي: من أنْ يُؤْذَى، فكيف يكونون هم الَّذينَ يُؤْذُونه؟ !
وهذا كقولِهِ تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1 - 2]، ولم يقلْ:"ما ضلَّ النَّبيّ أو الرَّسُول"، بل قال:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} ، يَعْنِي: الَّذي تَعرِفونه، وتعرِفون رَجَاحَةَ عقلِهِ، وتعرفون أمانتَه، فكيف تُنكِرون ما جاءكم به منَ المِعراج؟ !
قال {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} يَعْنِي: نَسَبُوني إلى الكَذِب، وقالُوا: كذّبه، وكذَبه، والفرق بينهما أن (كذَبه) أخبره بخلافِ الواقعِ، و (كذّبه) أنه لم يُصَدِّقْ ما جاء به.
ثالثًا: الفاءُ للسببيَّة في قَوْلهِ: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ} ، وهذا القولُ ظاهرُهُ الأمرُ، لكنَّه في جانبٍ له يُسمَّى دُعاءً؛ إذِ الأمرُ لا يكونُ إلَّا ممَّن يَستعلي على المأمورِ، وليس الطالبُ بمُسْتَعْلٍ على مطلوبِه، ثم إن الله جَلَّ وَعَلَا فوقَ كلِّ شيْءٍ.
وقَوْلهُ: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أي: احْكُمْ، وسُمِّيَ الحُكْمُ فَتحًا؛ لأنه يَنْفَتِحُ به الأمرُ ويَتَبَيَّن، فينفصِل هذا عن هذا، وهذا الفتحُ بأنْ يُنْجِيَه ومَن معَه من المُؤمِنينَ، ويُهْلِكهم، أمَّا نجاتُه ومَن معه من المُؤمِنينَ فمصرَّح بها، وأمّا إهلاكُهم فلا نجاةَ إلَّا مِن هَلَكة، هذا هو الفتحُ الَّذي سأله نوحٌ أن يُهْلِكَ الله تَعالَى قومَه وأن يُنْجِيَه هو ومن معَه منَ المُؤمِنينَ.
وقد قال تَعالَى عنه في سُورَة نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27].
وقد يقول قائلٌ: هل يُخْبِرُ نوحٌ اللهَ تَعالَى بالواقِع؟ أليس الله تَعالَى عالمًا به؟
فالجَوابُ: بلى، هو عالمٌ به، لكن قَصْده عليه الصلاة والسلام بيانُ الحاملِ له على هذا الدُّعاءِ أنه يَعتقِد أنه إذا أبقاهم لا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، وإلَّا فاللهُ تَعالَى عليمٌ به، فيكون هذا كالإعتذارِ عن هذا السُّؤالِ العامّ:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} .
قَوْلهُ: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} هذه المَعِيَّةُ لَيْسَتْ مَعِيَّةَ اختلاطٍ كما هو معروفٌ، بل هي مَعِيَّةُ اشتراكٍ في عملٍ وعقيدةٍ؛ فإنَّ الَّذي معَ نوحٍ من المُؤمِنينَ
كَانوا مشارِكينَ له في العقيدةِ والعملِ، وهذا ممَّا يدلُّ على أنَّ المعيَّة ليستْ كما فَهِمَه المحرِّفون في معيَّة اللهِ سبحانه وتعالى وأنها تَقتضي المشاركةَ في المكَانِ، أو الإختلاط، فهذا ليسَ بلازمٍ.
وقَوْلهُ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لِبيانِ المُبْهَمِ فيمَن معي؛ لأن (مَن) اسمٌ موصولٌ، والإسمُ الموصولُ يَحتاجُ إلى بيانٍ، وبيانُه إمَّا من صِلَته وإمَّا من غيرها.
ويُستفادُ منه أنه عندَ اليأسِ يجوزُ أنْ يدعوَ الإِنْسانُ على المكذِّبين والمعانِدِينَ.
وهل أقرَّ شَرْعُنا هذا أم خالَفَه؟
الجَواب: إنَّ شرعنَا أقرَّه، لكنَّه فضّلَ عدمَ الدُّعاءِ، إلَّا إذا كَان ثَبَتَ أنَّهم لا يَستقيمون، ولا يُؤمِنون، فيُشْرَع الدُّعاء، والدَّليلُ على ذلك أنَّ الله رأى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عِندَما نادى عليه جِبريلُ وقال له مَلَكُ الجبالِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فقال: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"
(1)
. لكنه لم يمنعْ أحدًا.
ودليلٌ أصرحُ منه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا دعا عليهم في الصلاة قال: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ
…
اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا" لأحياءٍ منَ العَرَب؛ نزل عليه قولُه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128]
(2)
فكفَّ عن هذا، فشَرْعُنا أمرَ بالصبرِ، وعدمِ الدُّعاءِ عليهم.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه، رقم (3231)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، رقم (1795).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} ، =
ولكن قد يُقال: إنَّ نوحًا عليه الصلاة والسلام شَريعته تخالِف شَريعَتَنَا، ولا مانعَ منْ أنْ تختلفَ الشرائعُ بمثلِ هذا، وأيضًا فإن نوحًا عليه الصلاة والسلام مكَثَ في قومِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وكلَّما دَعَاهُم ازدادوا إصرارًا واستكبارًا، فما كانَ للصبرِ عليهم فائدةٌ، لكنَّه لم يهاجرْ منهم كما فعل يونسُ، بل بَقِيَ فيهم، حتى عَذَّبَهُمُ اللهُ.
وهل كون الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم دعا على المَلَأِ من قُريشٍ، يدلُّ هذا على جوازِ الدُّعاءِ؟
نقول: نعم، لكنَّه مُنِع منه في آخِرِ الأمرِ، وهو دعا على الملأِ من قريشٍ في مكَّة قبلَ أن يُهاجِرَ، ففي الأخيرِ مُنِع {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
* * *
= رقم (4560)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، رقم (675).