المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات (155، 159) - تفسير العثيمين: الشعراء

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآية (2)

- ‌ومن فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (3)

- ‌الآية (4)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌الآية (6)

- ‌الآية (7)

- ‌الآية (8)

- ‌الآية (9)

- ‌الآيتان (10، 11)

- ‌فوائد الآيتينِ الكريمتينِ:

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌الآيتان (23، 24)

- ‌الآية (25)

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌الآية (29)

- ‌الآيات (30 - 35)

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌الآية (38)

- ‌الآيتان (39، 40)

- ‌الآية (41)

- ‌الآية (42)

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌ومن فوائد الآيةِ:

- ‌الآية (45)

- ‌الآيات (46 - 48)

- ‌فوائد الآيَات الكريمة:

- ‌الآيتان (49، 50)

- ‌الآية (51)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآية (52)

- ‌الآية (53)

- ‌الآية (54)

- ‌الآية (55)

- ‌الآية (56)

- ‌الآيتان (57، 58)

- ‌فوائد الآيتين الكريمتينِ:

- ‌الآية (59)

- ‌الآية (60)

- ‌الآيتان (61، 62)

- ‌فوائدُ الآيتينِ الكريمتينِ:

- ‌الآية (63)

- ‌فَوَائِد الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآيات (64 - 66)

- ‌الآية (67)

- ‌الآية (68)

- ‌الآيتان (69، 70)

- ‌الآية (71)

- ‌الآية (72)

- ‌الآيتان (73، 74)

- ‌الآيات (75 - 86)

- ‌الآية (87)

- ‌فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

- ‌الآيتان (88، 89)

- ‌فوائِدُ الآيتَينِ الكريمتين:

- ‌الآيات (90 - 93)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (94، 95)

- ‌فوائدُ الآيتينِ الكريمتينِ:

- ‌الآيات (96 - 98)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمةِ:

- ‌الآية (99)

- ‌الآية (100)

- ‌فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (101)

- ‌الآية (102)

- ‌الآيتان (103، 104)

- ‌الآية (105)

- ‌فوائدُ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (106 - 110)

- ‌الآيات (111 - 115)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمة:

- ‌الآيات (116 - 118)

- ‌الآيات (119 - 122)

- ‌فوائدُ الآيَات الكريمة:

- ‌فوائد الآيَات الكريمة:

- ‌الآيتان (129، 130)

- ‌الآيات (131 - 134)

- ‌فوائد الآيَات الكريمة:

- ‌الآيات (135 - 138)

- ‌فوائدُ الآيَاتِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (139، 140)

- ‌الآيات (141 - 145)

- ‌الآيات (146 - 152)

- ‌الآيتان (153، 154)

- ‌الآيات (155، 159)

- ‌من فوائد ذِكر قومِ صالحٍ:

- ‌الآيات (160 - 164)

- ‌الآيتان (165، 166)

- ‌الآيات (167 - 175)

- ‌ويُستفاد من قِصَّة لُوطٍ عليه السلام مع قومه:

- ‌الآيات (176 - 180)

- ‌الآيات (181 - 184)

- ‌الآيات (185 - 191)

- ‌ويُستفاد من قِصَّة شُعيب عليه السلام:

- ‌الآيات (192 - 196)

- ‌الآيات (197 - 204)

- ‌الآيتان (208، 209)

- ‌فوائد الآيتين الكريمتينِ:

- ‌الآيات (210 - 212)

- ‌الآية (213)

- ‌الآيات (214 - 216)

- ‌الآيات (217 - 220)

- ‌الآيات (221 - 222)

- ‌الآيات (224 - 226)

- ‌الآية (227)

الفصل: ‌الآيات (155، 159)

‌الآيات (155، 159)

* * *

* قالَ اللهُ عز وجل: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . [الشعراء: 155 - 159].

* * *

قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} نَصِيبٌ مِنَ المَاءِ، {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} بِعِظَمِ الْعَذَاب، {فَعَقَرُوهَا} عَقَرَهَا بَعْضُهمْ بِرِضَاهُمْ {فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} عَلَى عَقْرِهَا ، {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الَمْوعُودُ بِهِ فَهَلَكُوا ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}].

أجابَهُمْ عليه السلام بقَوْلهِ: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} ، فهذه الناقةُ آيَةٌ أعظمُ مِمَّا يَصْنَعُونه منَ الحِجَارة، وما يَزْرَعُونه مِنَ الزُّرُوع، ويَغْرِسُونه منَ الأشجارِ؛ لأنها خَرَجَتْ عنِ النُّوق الأُخرى، فلم تكنْ مثلَ النُّوقِ المعروفةِ المألوفةِ.

ووجهُ كَوْنِها آيةً بَيِّنَهً في قَوْلهِ: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ، هذا وجهُ الآيةِ في هذه الناقةِ.

وأمّا ما جاءَ في الإسرائيليَّاتِ مِن أنَّها خَرَجَتْ من صخرةٍ، فهذا لا أصلَ له،

ص: 249

ولو كَانَتْ كذلك لذُكِرَ في القُرآنِ؛ لأن خُرُوجَها من صخرةٍ - وهي من الحيوانِ - أشدُّ وأظهرُ وأجلَى في الآيةِ مِن كونها لها شِرب ولهؤُلاءِ شِرب.

والصَّوابُ أن يُقال: إن هذه الناقةَ ناقةٌ وُلدتْ من نُوق، ولكن لها مَزِيّة على غيرِها، وهي هذه المزيّة العظيمةُ:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ، يَعْنِي أنها هي تَشْرَب منْ هذا البِئر، فتأتي وتَشرب، واليوم الثَّاني تَذهب وتَرعى، لكن في اليومِ الَّذي تَشرب قال أهلُ العِلْم: إنَّ كلَّ مَن أعطاها دَلوًا منَ الماءِ أَعْطَتْه دَلوًا منَ اللَّبَن، فصاروا هم يَشربون يومًا لَبنًا، ويومًا ماءً، وهذا اللَّبَن يأخذونه من هذه الناقةِ، وهذا بلا شَكّ من آياتِ اللهِ؛ إذ لا توجدُ ناقةٌ على هذه الصِّفَةِ.

وقَوْلهُ: {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} كَان هذا الشِّرب مُؤَقَّتًا بوقتٍ جَعَلُوه لأنفسهم، بحيثُ لا يَلْتَبِس على مَن ليسَ في البَلَد حتى لو كَان الإِنْسان في خارجِ البلدِ يعرف أن اليومَ يومُ الناقةِ، أو أنَّ اليومَ يومُ النَّاسِ، فيأتي وَيرِد هذه البئرَ ويَشرب منها، أو يَرد الناقة بيومها فيَشرب مِن لَبَنِها، وهذه هي الفائدةُ من قَوْلِهِ:{وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} .

قَوْلهُ: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يقول المُفَسِّر: إنه عَظيمٌ في عِظَم العذابِ، يَعْنِي: وليسَ اليوم نفسه هو العظيم، ولكن لِوُقُوع العذابِ فيه صارَ عَظيمًا، و {عَظِيمٍ} وصفٌ لليومِ.

وهل هو وصفُ مَدْح أم وصف ذمٍّ؟

هو في الحَقِيقَة وصفُ مَدْح، ودليلٌ على القُوَّة فيما وصف به، حتى إنْ كَان عذابًا فهو دليلٌ على قوّة العذاب، وإنْ كَان خيرًا فهو دليلٌ على قوَّة هذا الخيرِ،

ص: 250

فالعَظَمَةُ مِن حيثُ هي مَعْنى من المعاني تدلُّ على الكمالِ والمدحِ، سواء كَان هذا في عذابٍ أو في نعمةٍ.

وقَوْلهُ: {عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} كثيرٌ منَ النَّاسِ يَتَحَاشَوْنَ أنْ يَصِفُوا المخلوقَ بـ (العظيم)، ولكن الحَقِيقَة لا وجهَ لهذا، فقد قال الله تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} [النبأ: 1 - 2]، {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76]، فوصَفَ اللهُ تَعالَى بالعِظَم نفسَه وكَلامَه ووحيَه، ووصفَ به أيضًا بعضَ مخلوقاتِهِ، ممّا يدلّ على أنّه لا بأسَ به.

وقد كَان النَّاسُ يَتَحاشَوْن أيضًا قَول (المُعَظَّم)، وهذا أيضًا لا يُتحاشى منه، والسَّبَبُ أنه معظَّم ليس عظيمًا، فـ (المعُظم) قد لا يكون عظيمًا، فقد يُعَظَّم مَن ليس بِعَظيمٍ، وهو أقلّ رُتبةً من العظيم؛ فإذا كَان (العَظيم) جائزًا إطلاقُه، فـ (المعظَّم) من باب أَولى.

ثم قال الله سبحانه وتعالى: {فَعَقَرُوهَا} قال المُفسِّر رحمه الله: [أي: عَقَرَها بعضُهم بِرِضاهم، {فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} على عَقرها، {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الموعود به، فهلكوا]، فهو عليه السلام قال لهم:{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} ، ولكنَّهم مَسُّوها بأسوأ السُّوء - والعياذُ بالله - فعَقَروها، والظَّاهرُ أنّ المُرادَ بالعقرِ القتلُ، وليس قطعَ الأرجُل فقطْ، بل أنّهم أَهلكوها، فعُوقِبوا بمثلِ ما جَنَوْا.

وهل أصبحوا نادمينَ على ما فَعَلُوا من ذنبٍ، أم أنَّهم نَدِموا على ما فَاتَهُمْ من مَصلحتها؟

الظَّاهر أنَّهم نَدِموا على المصلحةِ؛ لأنَّهم ما بعدُ أَتاهمُ العذابُ، فالظَّاهرُ أنَّهم نَدِموا على ما فاتَهُمْ منَ المصلحةِ الدنيويَّة؛ لأنّهم لو ندِموا على الذّنْب لكَانوا تائبينَ،

ص: 251

ولمَا استحقُّوا العذابَ، لكن نَدِموا على مَصْلَحَتِهِم فقد كانوا يَشربون مِن لَبَنِها، ثم فاتَهم هذا.

وقد بَقُوا بعد ذلك ثلاثةَ أيامٍ، والحكمةُ من هذه الأيَّام الثلاثةِ - واللهُ أعلمُ - لعلَّهم يَتُوبُونَ، ولكنَّهم لم يَتُوبوا، وقد أُخِذ منْ هذا استتابة المرتَدّ ثلاثةَ أيَّام، فإنْ تابَ وإلا أُجري عليه الحدُّ، على خِلافٍ بينَ أهلِ العِلْم في هذه المسألةِ.

والمهمُّ أن هؤُلاءِ لم يَنْدَمُوا على فِعل المعصيَةِ، ولو ندِموا لكَانَ توبة، ولكنهم ندِموا على ما فاتهم من حَظِّ الدنيا فقطْ.

قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الموعودُ به، فهَلَكُوا]، إلَّا أنَّ اللهَ تَعالَى أنجَى صالحًا ومَن معَه.

وقولُه تعالى: {فَعَقَرُوهَا} معلومٌ أنّهم لم يكونوا كلّهم عَقَروها، ولكن لَمَّا كَان برِضا الجميعِ، ومِن زُعَمائِهِم، فنُسِب إليهم جَميعًا، ففِعل الطائفةِ منَ الأُمَّة يُعتبَر فعلًا للجميعِ إذا لم يُنكِروه، فإذا سَكَتُوا ولم يُنْكِروه فهو فِعْل الجَميع، ولهذا يذكِّر اللهُ تَعالَى الْيَهُودَ في عهد الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بما فعلَ أسلافُهم، ويُخاطِبُهم به مُخَاطَبَةَ الفاعلِ؛ لأنها أُمَّة واحدة، فإذا لم تُنْكِر ما كَان عليه أسلافُها، نُسب للجميعِ.

وما هو العذابُ الَّذي أَخَذَهُم؟

الجَواب: صَيْحَة ورَجْفَة، يَعْنِي: رَجَفَ اللهُ بهم الأَرْضَ وصاحَ بهم جِبريلُ، فماتوا، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67]، - والعياذُ باللهِ - صَرَعى كنفسٍ واحدةٍ.

وفي هذا دليلٌ على كمالِ قُدرة اللهِ سبحانه وتعالى وأنّ الله تَعالَى قادرٌ على كلِّ شيْءٍ، ولا يُعْجِزُه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي

ص: 252

الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، ولو أَنَّنا عَقَلْنَا - نحن المسلمينَ - وآمنَّا حقيقةَ الإيمانِ، ما كنّا بهذه الحالِ الَّتي نحن عليها، يَعْنِي: ما كنّا نخاف النَّاس أكثر ممّا نخاف الله.

فالإِنْسانُ لا بُدَّ أن يخافَ ويَرْجُو، لكن إمّا أن يخاف اللهَ أو يخاف غيرَه؛ فإن خافَ اللهَ خافَهُ النَّاس، وإنْ خاف غيرَ اللهِ استولَى عليه هذا الخوفُ، وهذا صَحِيحٌ وحقّ، فإنَّ مَن خافَ اللهَ خافَه كلّ شيْءٍ، ومَنِ اتَّقَى اللهَ اتَّقاه كلُّ شيْءٍ، والعكسُ بالعكسِ.

فعلينا جميعًا أن نكونَ واثقينَ بوعدِ اللهِ عز وجل غيرَ ناظرينَ إلى الأسْبابِ الحاضرةِ، ولو نَظرنا نظرةً مادِّيَّة مَحْضَةً، لكنّا لا يُمكِن أن نَتَكَلَّم معَ هؤُلاءِ، أو أنْ نَتَحَدَّاهم في تنفيذِ الشريعةِ ومُحاربتهم، لكن يجبُ أن لا نَنْظُر إلى هذه الأسْبابِ الحاضرةِ، ويجب أن ننظرَ إلى أسْبابٍ أُخْرَى فوق المادَّة.

ولهذا مَن نَظَرَ إلى هذه الأسْبابِ - المشاهدة الطبيعيَّة - لا يَستقيمُ له أمرٌ، فالصَّحَابة رضي الله عنهم عِندَما جاءتِ الفُرْسُ والرُّوم لم يَنْظُروا إلى هذه الأسْبابِ، فقد كَانوا يحاصِرون المدينةَ العظيمةَ لمدَّةٍ، ثم يَخْرُجون في الصَّبَاح، فيكبّرون اللهَ، فإذا كبّروا تصدّعتِ الأسوارُ، وهذا شَيْءٌ مُتواتِرٌ في التاريخِ عنهم، أنَّهم يُحاصِرون المدينةَ مُدَّةً، ثم إذا كبَّروا اللهَ سبحانه وتعالى كَأنَّها صَوَارِيخ وقنابل تَصَدّع هذه الجُدران، ولكنه تكبيرٌ يَخْرُج منَ القلبِ.

قَوْلهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فقومُ صَالِحٍ بِغَضِّ النظَرِ عن عَقْرِ الناقةِ قدْ آمَنَ قليلٌ مِنهم باللهِ.

ص: 253

فإنْ قيلَ: كيف أخذت منهم أحكام المُرْتَدّ وهم أصلًا لم يُؤْمِنوا؟

قلنا: أخذ هذا من إمهالِ اللهِ سبحانه وتعالى لهم ثلاثةَ أيامٍ، فصار أننا نُمْهِل الكفّار ثلاثةَ أيامٍ، لكنّ الكفّارَ الأَصْليِّينَ في الشريعةِ الإسلاميَّة لهم أحكامٌ خاصَّة، كإقرارهم بالجِزْيَة مثلًا، وغيرهم ممَّن لا يقرّ على دينه وهو المرتدّ يُنْظَر ثلاثةَ أيَّام، والمسألةُ خِلافيَّة، ثم إنَّ الرِّدَّة أيضًا تَختلف: فمِن الرِّدَّة ما يمكِن أن يُمهَل، ومنها ما لا يمكن أن يُمهَل.

وهل كان قومُ صالحٍ كلّهم يَشربون من بِئرٍ واحدةٍ؟

نقول: لعلَّ هذه البِئر هي الصَّالحةُ في الشُّربِ، وغيرها لا تَصْلُحُ للشُّرب، المهمُّ أنَّ أصلَ شُربهم من هذهِ البئرِ، ولهذا قسّم وقتها:{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ، ولا مانعَ أيضًا من أن تكونَ هذه البِئْر تَسقي كلَّما أمكن، لكن الأقرب - والله أعلم - أنَّ البساتينَ مُنْتَشِرة فيها العيونُ، وأنَّ هذه البِئر هي الَّتي يأخذون منها ماء الشُّرب.

فإن سألَ سائلٌ: لماذا منع الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم منَ الشُّرب من مائهم حين مَرَّ بدِيارهم؟

فالجَواب: لأنَّ استعمالَ هذا الماءِ يؤدِّي إلى النزولِ فيه والطُّمأنينة، والرَّسُول عليه الصلاة والسلام لَمَّا مرّ بها مرَّ مقنِّعًا رأسَه وأسرَعَ، وقال:"لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ القَوْمِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لم تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ"

(1)

، فالمسألةُ ليستْ هيِّنَةً، والعجيبُ أنَّ كثيرًا منَ النَّاس اليومَ يذهبونَ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80]، رقم (4702)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، رقم (2980).

ص: 254

إليها مَذْهَبَ الفُرْجَة والنُّزْهَة، وهذا حَرامٌ، لا يجوزُ.

ولا يُعارِضُ هذا قولَ اللهِ تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45]؛ لأنَّهم كافرونَ؛ أي أنّ فِعْلَهم لا يدلُّ على الجواز.

أو يُقال: إنَّ شَرِيعَتَنَا وردتْ بخلافِ ذلكَ في التحريمِ، وأمَّا قولُ بعض النَّاس: الأَرْض كلّها لا تَخلو من أممٍ مكذِّبة، فأنا أقول: نعم، الأَرْضُ كلُّها لا تخلو من أممٍ مكذِّبة، لكن مَن قال: إن هذا المكَان المعيَّن مكَان أُمَّة مكذِّبة.

والأحقافُ في الأَصْلِ يجوزُ أن نَزُورَها؛ لأننا لا نَعْلَم مَساكِنَهم بعينها، لكن ثَمُود مساكنهم موْجودةٌ بعينها، فإذا دخلها الإِنْسانُ كَأنَّه داخلها بذلك الوقتِ، ولهذا منعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم منَ الدخولِ إلَّا والإِنْسان باكٍ، فقال عليه الصلاة والسلام:"فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ"، لكن عندنا اليومَ يدخلون ومعهم آلاتُ التصويرِ.

فإن قيل: وهل شَدُّ الرَّحْل لِزِيَارةِ مساكنِ ثَمُودَ محرَّم؟

قلنا: شدُّ الرَّحْل لغيرِ التعبُّد ليسَ فيه مانعٌ، فكلُّ النَّاسِ يَشُدُّون الرِّحال للتِّجارة ولغيرِ التجارةِ، لكن شَدّها للنُّزهة فهذا حرامٌ.

أمَّا أن يذهبَ للخُشُوع والتعبُّد بتذكُّر مآلِ هؤلاءِ الجبَّارين لَمَّا عَصَوْا أمرَ ربِّهم، فقد يُقال: إن هذا لا بأسَ به، على أنَّ المسألةَ فيها نظرٌ، فقد يُقال: إنّ الإعتبارَ بما في القُرآنِ أبلغُ بما في البُنيان، لكنَّه أهونُ منَ الَّذي يذهب للنُّزهة والفُرجة، فزيارةُ هذه المساكنِ مَشروطةٌ بأنْ يَعْتَبِرَ الإِنْسانُ.

ص: 255