الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المُفَسِّر: [{ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في إهلاكهم بعد إنذارهم]، وهذا صَحِيح، ويَحتمِل:{وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: مُهْلِكِينَ بدون إنذارٍ، والمَعْنى صَحِيح على هذا الوجهِ وعلى الوجهِ الَّذي ذكرَهُ المُفَسِّر؛ فاللهُ تَعالَى إذا أَهلكهم بعدَ إِنذارهم وقد عَصَوْا، فهو لم يَظْلِمْهُمْ، وكذلك لا يمكِن أن يُهْلِكَ مَن لا يُنْذَر؛ لأنَّ ذلك ظُلْمٌ.
فوائد الآيتين الكريمتينِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أنَّ الشرائعَ لا تُلْزَم إلَّا بعدَ العِلْم، وأنَّه ما دامَ الإِنْسان غيرَ عالمٍ بالشرعِ؛ فإِنَّه لا يُكَلَّف به، ولهذا شواهِدُ:
منها: قِصَّة المُسِيءِ في صَلاتِه؛ فإن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لم يُلْزِمْه بقَضاءِ ما فاتَه
(1)
؛ لأنه ما علِمَ.
ومنها: المرأةُ الَّتي كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فلا تُصَلِّي، فما أمرها النَّبيّ عليه الصلاة والسلام بالقَضاء
(2)
.
ومنها: حديث عَدِيِّ بنِ حاتمٍ، حيثُ أَكَلَ بعدَ طُلوعِ الفجرِ
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، رقم (793)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (397).
(2)
أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، رقم (287)، والترمذي: أبواب الطهارة، باب في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، رقم (128)، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها، قبل أن يستمر بها الدم، رقم (622).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، رقم (4509)، ومسلم: كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، رقم (1090).
إلى غير ذلك أشياء كَثِيرَة من هذا، إلا أنه قد يُلْزَم الإِنْسانُ بالشيْء إذا كَان مُفَرِّطًا مُهْمِلًا، مثل لوِ انقدحَ في ذِهنه أو قيل له: إن هذا الشيْء واجبٌ، ولكنه قال - كما يقول العامَّة -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، لا تُفَتِّشْ، غدًا يقول لك: هذا واجبٌ ويُحْرِجُونَني، أو هو يفعل شيئًا وانقدحَ في ذِهنه أنه حرام، أو قيل له: إنه حرام، وقال: لا، أخافُ إنْ سألتُ العُلَماء أن يقولوا: هذا حرامٌ، فهذا لا يُعْذَر؛ لأنه ليسَ بغافلٍ، واللهُ تَعالَى يقول:{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]، يَعْنِي: ما طرأَ على بالهِم شيٌ، ولا يَعْلَمُون شيئًا، وأما الإِنْسان الَّذي طرأَ على بالِهِ لكنه فرّطَ في ترْكِ السُّؤالِ، فهذا يَنْبَغي أن يُلْزَم.
فإن قيلَ: بعض العوامّ صَعْبٌ أن يَتَغَيَّروا، فهل نُعْطِيهم العلمَ؟ !
قلنا: أَعْطِه العِلْمَ، قُلْ له مثلًا: إذا قمتَ للصلاةِ فكبِّر، ثمّ اقْرَأْ فاتحةَ القُرآنِ، ثم ما تَيَسَّر منَ القُرآن، وعلِّمه ما يَلْزَمْه، فكون اللهِ يُنْعِم عليك بالعلمِ أشدّ تَبِعَةً منَ المالِ، فالعلمُ أشدُّ تبعةً؛ لأنه في الحَقِيقَةِ نشرٌ للرِّسالَةِ، وتبليغٌ لِشريعة اللهِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: في قَوْلهِ: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} إشارة إلى إمكَان الظُّلْم، ولكنه مُستحيلٌ شَرعًا، لا لِذَاتِه؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أنْ يعذِّب المطيعَ، وإنْ أطاعَ، فهذا ليس مُستحيلًا، ولكنّه تبارك وتعالى منزَّه عنه لكمالِ عدلِهِ.
وهذا فيه الردُّ على الجَهْمِيَّة، الَّذينَ يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يَستحيل في حقِّه الظلم، يَستحيلُ لذاتهِ، ومُحالٌ لذاتِه.
وعلى رأيِهِم يَصير لا مَعْنى لقولِه تعالى في الحديث القُدُسِيّ: "يَا عِبَادِي إِنِّي
حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي"
(1)
، فلا يصير فيه مدحٌ لأنَّ الظُّلْمَ - على مُقتضَى قولهِم - مُحالٌ لِذاتِهِ، والمحالُ لذاتِه لا يُمْدَحُ اللهُ به؛ إذِ المُحالُ به غير واقعٍ، ولا يكون لقولِهِ تَعالَى في الحديثِ القُدُسِيّ:"يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي" معنًى.
فالصَّوابُ أنَّ الظُّلم من الأمور المُمْكِنة لكنَّه تبارك وتعالى منزَّه عنه.
* * *
(1)
أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2577).