الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (5)
* * *
* قالَ اللهُ عز وجل: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5].
* * *
يقول المُفسِّر رحمه الله: [{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} قرآنٍ {مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} صِفَة كاشِفَة {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}]، (ما): نافية؛ بدليل قوله: {إِلَّا كَانُوا} ، وهذا الإستثناء مفرّق من عُمومِ الأحوالِ، يعني: لا يكونُ لهم من أيِّ حالةٍ منَ الأحوالِ سِوَى الإِعْراضِ.
وقوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} ، (مِنْ) زائدةٌ إعرابًا للتَّوكيدِ، والتَّقدير: ذِكرٌ، وقوله تبارك وتعالى:{مِنْ ذِكْرٍ} قال المُفسِّر: (قرآن)، وسُمِّيَ القُرآنُ ذِكرًا لِأَنَّ بِهِ التذكُّرَ والتَّذكير أيضًا، فهو تذكيرٌ منَ اللهِ وتذكُّر من سامِعِهِ، ولهذا سُمِّي ذِكرًا، ووُصِف القُرآنُ مرَّةً ثانيةً بأنه ذو الذِّكْر، قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]، والقُرآن للذكرِ؛ فمرةً جعله ذِكرًا، ومرةً جعله ذا ذَكرٍ، ولا فرقَ بينهما فِي الواقع؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ بِنَفْسِهِ وتذكيرٌ، ولأنه ذو ذِكرٍ، أي: ذو تذكُّر، فمَن قرأهُ وحفِظه وتدبَّره تذكّر به، قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ألا يكون كذلك القُرآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الذِّكر؟ أي فيه آياتٌ فيها أذكارٌ.
فالإجابة: لا، فحتى الأذكارُ المقصودُ بِهَا تذكيرُ النَّاسِ. فالمقصود بكونه ذِكرًا أَنَّهُ مُذكِّر، ويتذكر بِهِ مَن تَذَكَّرَ.
قال تعالى: {مِنَ الرَّحْمَنِ} ، وفي آية أخرى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأَنْبياء: 2]، فذِكْر الرَّحْمن هنا إشارة إِلَى أن نزولَ هَذَا القُرآنِ وإتيانه من مقتضى رحمةِ اللهِ، وأن الله تعالى سبحانه وتعالى رَحِمَ العبادَ بهذا القُرآنِ، وهذا كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [لأَنْبياء: 107]، أي {إِلَّا رَحْمَةً} مِنَّا {لِلْعَالَمِينَ} ، وليس المَعْنى - كما يَفهم كثيرٌ منَ العوامّ - {إِلَّا رَحْمَةً} يعني: أنك أنت الرحمة، لا، يعني: وما أرسلناك إلا لِنَرْحَمَ العِبَادَ، هَذَا هُوَ المَعْنى، وليس هُوَ نفسه رحمةً كما يقول أهل الغُلُوِّ فِي النبي صلى الله عليه وسلم والجاهلون أيضًا.
يقول المُفسِّر رحمه الله: [صفة كاشفة]، والصِّفَة الكاشفةُ هِيَ الَّتِي تُبَيِّن الواقِعَ، ولا تُقَيِّد الموصولَ؛ لِأَنَّ الصِّفات منها صفةٌ مقيِّدة تُخرِج ما سواه، ومنها صفة كاشفة تبيِّن حقيقةَ أمرِهِ.
فهنا يقول المُفسِّر: إن كلمة (مُحْدَث) صفة كاشفة؛ فكلمة: (مَا يَأْتِيهِمْ) تدل عَلَى (مُحْدَثٍ)، فلا مفهوم لها؛ لِأَنَّهُ إذا كَانَ يأتيهم وجبَ أن يكونَ محدَثًا؛ لِأَنَّ بإتيانِهِ إيَّاه صار مُحْدَثًا، ووجه ذلك ظاهرٌ أَنَّهَا صفةٌ كاشفة؛ لِأَنَّهُ لو كَانَ غيرَ مُحْدَثٍ ما صحَّ أن يقول:{وَمَا يَأْتِيهِمْ} ، إذ هُوَ آتٍ من الأَصْل.
وقوله: {مُحْدَثٍ} وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن المحدَثَ هُوَ الذِّكر نفسُه، فيكون فِي الآيةِ دَلالة عَلَى أنَّ الله تعالى يَتَكَلَّم بالقُرآنِ حينَ إنزالِهِ، وأنه لَيْسَ - كما رُوي عنِ ابنِ عبَّاس - أَنَّهُ نزل إِلَى بيتِ العِزَّة منَ اللَّوْح المحفوظ
(1)
، وإنَّما يَتكلَّمُ
(1)
أخرج النسائي فِي السنن الكبرى (7/ 247، رقم 7937) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "فُصِلَ
الله تبارك وتعالى بِهِ حينَ إنزالِه.
وقيل: {مُحْدَثٍ} إنزالُه، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} إنزالُه، فلا تكون الصِّفَة هنا حقيقيةً، وإنَّما هِيَ صفةٌ سببيَّة؛ لِأَنَّ الموصوفَ فيها حقيقةً لَيْسَ الذِّكر، بل هُوَ الإنزالُ، هَذَا إذا قلنا:{مُحْدَثٍ} إنزالُه، كما إذا قلتَ: مَرَرْتُ برجلٍ قائمٌ أبوه، فـ (قائم) هَذِهِ الصِّفَة من حيثُ الإعرابُ لـ (رجل)، لكن من حيثُ المَعْنى صفةٌ لـ (أبوه)، وهذا الوصف عَلَى هَذَا الوجه يُسمّى بالنَّعْت السَّبَبِيّ.
فعلى هَذَا عَلَى القول بأن المُراد: {مُحْدَثٍ} إنزالُه يكون النَّعْت هنا سَبَبيًّا لا حقيقيًّا، ولكن إذا دار الأمرُ بين أن يكون النَّعْتُ صفةً حقيقيَّة أو صفة سببيَّة؛ فالواجب أن يكون صفة حقيقيةً؛ لِأَنَّ الصِّفَة السَّبَبيَّة تحتاج إِلَى تقديرٍ، وكلُّ ما يحتاج إِلَى تقديرٍ يَحتاج إِلَى دليلٍ، فهنا نقول:{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} ظاهر اللفظ أن القُرآنَ نفسَه مُحْدَث، ثم إن {مُحْدَثٍ} إنزالُه لا مَعْنى لها فِي الواقعِ بعد قوله:{وَمَا يَأْتِيهِمْ} ؛ لِأَنَّهُ لا يمكن أن يَأْتِيَهُمْ إلا وإنزالُه مُحْدَث؛ لِأَنَّ (أتَى) معناه (حدث). فعلى هَذَا نقول: الصَّوابُ أنّ المُرادَ بالمُحْدَث نفسُ الذِّكر، وليس إنزاله.
قالَ تعالى: {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} ، (عَنْهُ) جارٌّ ومجرورٌ متعلِّق بـ (مُعْرِضِينَ)، و (مُعْرِضِينَ) خبر (كان)، وفائدة تقديمه عليه هنا لفظيَّة ومعنويَّة؛ أمَّا اللفظيَّة فمراعاة الفواصلِ - فواصل الآيَات - وأمَّا المعنويَّة فلإِفادة الحَصر، كأنه يقول: ما تكون حالهم إلا الإِعْراض عنه دون غيرِه، يعني: عنه فقط وحدَهُ مُعْرِضِينَ، وهذا
= الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا".
أبلغُ فِي الذمِّ ممَّا لو قَالَ: إلا كانوا مُعرِضين عنه؛ لِأَنَّهُ يَحتمِل أن يُعْرِضوا عنه وغيره، ولكنه لما قَالَ:{عَنْهُ مُعْرِضِينَ} كأنَّهم لا يَتَّصِفُون بالإِعْراض إلا عنْ هَذَا الذِّكر.
وهذا الإِعْراضُ معنويٌّ وحِسِّيٌّ، يَشمَل الأمرين؛ فهم مُعْرِضون وإنْ حَضَروا بأبدانهم، ومُعْرِضون أيضًا بأبدانهم يقومون عنه، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، فهم مُعْرِضون - وَالْعِيَاذُ بِاللهِ - فِي قُلُوبِهِم وأبدانهم.
* * *