الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ فِي الْإِيلَاءِ، وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ، وَتَخْيِيرِهِنَّ
،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}
[1479]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سِمَاكٍ أَبِي زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: ((لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ، فقَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ! فقَالَت: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا حَفْصَةُ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُحِبُّكِ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَت: هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ، فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ- وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْحَدِرُ- فَنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عَنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ،
فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عَنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي، فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عَنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَرْبِ عَنْقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عَنْقَهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنِ ارْقَهْ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ
غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ، وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ! فقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ- حِينَ دَخَلْتُ- وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ
النِّسَاءِ، فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ، وَمَلَائِكَتَهُ، وَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ- وَأَحْمَدُ اللَّهَ- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ- إِنْ شِئْتَ- فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ، وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ- وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا- ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل آيَةَ التَّخْيِيرِ)).
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ- يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ- أَخْبَرَنِي يَحْيَى، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ قَالَ: ((مَكَثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَزْوَاجِهِ؟ فقَالَ: تِلْكَ حَفْصَةُ، وَعَائِشَةُ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عَنْدِي مِنْ عِلْمٍ، فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُكَ، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ، إِذْ قَالَت لِي امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ لَهَا: وَمَا لَكِ أَنْتِ وَلِمَا هَهُنَا، وَمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فقَالَت لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، قَالَ عُمَرُ: فَآخُذُ رِدَائِي، ثُمَّ أَخْرُجُ مَكَانِي
حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فقَالَت حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ، فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُولِهِ يَا بُنَيَّةُ، لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فقَالَت لِي أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ؟ ! قَالَ: فَأَخَذَتْنِي
أَخْذًا، كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عَنْدِهَا وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، وَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَأَتَى صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، وَقَالَ: افْتَحِ افْتَحْ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فقَالَ: أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ، وَعَائِشَةَ، ثُمَّ آخُذُ ثَوْبِي فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يُرْتَقَى إِلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ فَأُذِنَ لِي، قَالَ عُمَرُ:
فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عَنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَضْبُورًا، وَعَنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَيْتُ، فقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا، وَلَكَ الْآخِرَةُ؟ ! )).
في هذا الحديث: فضل ابن عباس رضي الله عنهما، وهو من صغار الصحابة، وتقديره لعمر رضي الله عنه؛ لأن عمر رضي الله عنه مهيب؛ ولهذا هاب أن يسأله سَنَةً، فنهاه عمر رضي الله عنه، فينبغي للإنسان أن لا يهاب من سؤال أهل العلم عما أشكل عليه؛ إذا كان قصده الفائدة، ولم يكن قصده التعنت، وإيذاء المسئول، أو إيقاعه في الحرج، أو قصده الرياء بسؤاله، أو غير ذلك من مقاصد سيئة.
وقوله: ((فَلَا تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عَنْدِي مِنْ عِلْمٍ، فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُكَ)): هكذا هم أهل العلم، لا يدخرون ولا يكتمون علمهم، فما كان لديهم يبينونه للناس، قال الله تعالى:{لتبيننه للناس ولا تكتمونه} .
وقوله: ((وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ)): فيه: أنهم كانوا في الجاهلية يمتهنون المرأة، ويعتبرونها سلعة، ولا يورثون الصبيان، ولا النساء، ويقولون: إنما يرث الرجال الذين يحملون السلاح، ويدافعون عن القبيلة، أما النساء والأطفال فليس لهم شيء من الميراث، وكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها جاء أحد أقاربها وألقى عليها ثوبًا وحماها، ثم بعد ذلك إن شاؤوا زوجوها منهم، وإن شاؤوا عضلوها؛ فلما جاء الإسلام كرَّمها، وأعزَّها، وصانها، وحفظها، وجعلها حرة، وجعل لها التصرف والميراث، وجعلها شقيقة الرجل، إلا فيما يخصها، فجعل لها أحكامًا تخصها فيما تخالف فيه الرجال.
وقولها: ((فَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ))، يعني: أشاور فيه نفسي وأفكر فيه.
وقوله: ((إِذْ قَالَت لِي امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا فَقُلْتُ لَهَا: وَمَا لَكِ أَنْتِ وَلِمَا هَهُنَا، وَمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ )): فيه: أن قريشًا كانوا لا يشاورون النساء ولا يعدونهم شيئًا، وكانت نساء الأنصار تغلبهم، وقريش يغلبون نساءهم؛ فلما عرضت زوجة عمر عليه أمرًا، قال: ما لك ولشؤوني؛ فقالت: سبحان الله، أنت لا تريد أن نتكلم في شيء، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم تغضبه إحداهن إلى الليل؟ !
وقوله: ((فقَالَت لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ))؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يكن قد علم عن هذا شيئًا، فلما راجعته امرأته أنكر عليها، فقالت: عجبًا لك يا ابن الخطاب، ابنتك حفصة تراجع النبي صلى الله عليه وسلم فيظل غضبان، فلما قالت هذا الكلام قام من ساعته، وذهب إلى ابنته حفصة رضي الله عنها ينكر عليها كونها تراجع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يظل غضبانَ إلى الليل.
وقوله: ((قَالَ عُمَرُ: فَآخُذُ رِدَائِي ثُمَّ أَخْرُجُ مَكَانِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى حَفْصَةَ)): والرداء ما يوضع على الكتفين كالمحرم في الحج، أو العمرة، الإزار ما يشد به النصف الأسفل، وعادة العرب لبس الإزار والرداء، وكأنه في البيت
يتخفف فيضع الرداء، وإذا أراد أن يخرج أخذ رداءه ولبسه، وكانوا ربما لبسوا الأُزُرَ والأرديةَ، وربما لبسوا القُمُصَ.
وقوله: ((فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُولِهِ، يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي قَدْ أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا، وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا)): يقصد عائشة رضي الله عنها، وهي أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
وقوله: ((ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فقَالَت لِي أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ)): فيه: أن عمر رضي الله عنه كان قصده الإصلاح، وهكذا المصلحون، يدخلون في كل شيء قصدهم الإصلاح فيه، لكن أم سلمة رضي الله عنها قالت:((عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ))، فكسرت ما في قلبه من القوة والشدة.
وقوله: ((وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ))، يعني: يتناوبون النزول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسكنه كان بعيدًا عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ينزل عمر يومًا فيتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذ ما نزل من الوحي والعلم، ثم يخبر صاحبه الأنصاري؛ وفي اليوم الثاني ينزل الأنصاري ويأتي بالخبر والعلم الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للإنسان أن يحرص على طلب العلم، وإذا لم يتمكن يكون له زميل يتناوب هو وإياه، فيسأل زملاءه عما أخذوا في اليوم الفائت عن الفوائد التي عقلوها وكتبوها.
وقوله: ((وَنَحْنُ- حِينَئِذٍ- نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ)): وملوك غسان كانوا في الشام، وكانوا تابعين للروم.
وفي الحديث: بيان عناية الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنظر في حاله واهتمامهم لأمره؛ حيث كان ملك غسان يتوعدهم أن يغزوهم، ويُتحدث أنه ينعل الخيل، يعني: يلبسها النعال، استعداداً للقدوم والهجوم على المسلمين، وفي هذه المرة جاء صاحب عمر رضي الله عنه الأنصاري رضي الله عنه، وضرب باب عمر ضربه
ضربًا شديدًا، لأهمية الأمر، وقال: اخرج، اخرج، فقال: ماذا حصل؟ جاء الغساني؟ أي: جاء الملك الغساني يريد أن يغزونا؟ قال: لا، ((أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ)).
وقوله: ((فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ، وَعَائِشَةَ)): رغم أنفها، أي: لصق أنفها بالتراب، وهو كناية عن الإذلال، يعني: يتوجع من حالتهن، لماذا يصنعن هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ !
وقوله: ((فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يُرْتَقَى إِلَيْهَا بِعَجَلَةٍ)): مشربة: غرفة مرتفعة، يرقى إليها بعجلة، يعني: بدرج من خشب.
وقوله: ((وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ)): فيه: أن هذا كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم، حصير ليس فوقه شيء، ولا تحته شيء من القطن، أو من الكتان، كما يحصل عندنا الآن، ويباشر جسده الشريف هذا الحصير، حتى أثَّر الحصير في جسده عليه الصلاة والسلام، فتأثر عمر وبكى لحاله عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((وَإِنَّ عَنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَضْبُورًا، وَعَنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً)): فيه: أن الذي كان في غرفته هو القرظ الذي تُدبغ به الجلود، وفيه صاع من شعير، وأُهُب معلَّقة.
وقوله: ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا، وَلَكَ الْآخِرَةُ؟ ! )): الخِطاب لعمر رضي الله عنه، ويُقصد به عمومُ المسلمين؛ لأن الدنيا للكفرة، فهم لا يؤمنون بالآخرة ولا يرجونها؛ فلهذا يحرصون على الدنيا، والله تعالى يعطيهم منها ما يعطيهم؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:((وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ))
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (5426)، ومسلم (2067).
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:((أَقْبَلْتُ مَعَ عُمَرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ))، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، كَنَحْوِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:((قُلْتُ: شَأْنُ الْمَرْأَتَيْنِ، قَالَ: حَفْصَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ))، وَزَادَ فِيهِ:((وَأَتَيْتُ الْحُجَرَ، فَإِذَا فِي كُلِّ بَيْتٍ بُكَاءٌ))، وَزَادَ- أَيْضًا-:((وَكَانَ آلَى مِنْهُنَّ شَهْرًا، فَلَمَّا كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نَزَلَ إِلَيْهِنَّ)).
[خ: 5191]
قوله: ((وَأَتَيْتُ الْحُجَرَ)): الحُجَر: بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((فَإِذَا فِي كُلِّ بَيْتٍ بُكَاءٌ))، أي: يبكين بسبب اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لهن، وهجره لهن.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَّيرُ بْنُ حَرْبٍ- وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ- وَهُوَ مَوْلَى الْعَبَّاسِ- قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ((كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَبِثْتُ سَنَةً مَا أَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا حَتَّى صَحِبْتُهُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ذَهَبَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فقَالَ: أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَرَجَعَ، ذَهَبْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَذَكَرْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ؟ فَمَا قَضَيْتُ كَلَامِي حَتَّى قَالَ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ)).
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ- وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ- قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وقَالَ إِسْحَاقَ: أَخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ- مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، حَتَّى حَجَّ
عُمَرُ، وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ، وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ- مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُمَا:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ قَالَ عُمَرُ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ- قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ- وَاللَّهِ- مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ- قَالَ: هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، قَالَ: كُنَّا- مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي، فَتَغَضَّبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعَنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فقَالَت: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقَالَت: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَت: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمَ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكِ- يُرِيدُ عَائِشَةَ-، قَالَ: وَكَانَ لِي جَارٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي، ثُمَّ أَتَانِي عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي، ثُمَّ نَادَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَاذَا، أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ: طَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ- وَهِيَ تَبْكِي- فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقَالَت: لَا أَدْرِي،
هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ، فَأَتَيْتُ
غُلَامًا لَهُ أَسْوَدَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، ثُمَّ أَتَيْتُ الْغُلَامَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فقَالَ: ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رَمْلِ حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ- يَا رَسُولَ اللَّهِ- نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعَنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فقَالَت: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ
هِيَ أَوْسَمُ مِنْكِ، وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكِ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أُهَبًا ثَلَاثَةً، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ- يَا رَسُولَ اللَّهِ- أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ، وَالرُّومِ- وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ- فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عز وجل).
قوله: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى)): هذا من الهم الذي أصابهم؛ فقد شق عليهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شاع في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نسائه رضي الله عنهن؛ وذلك لأنهن اجتمعن عليه يسألنه النفقة، وليس عنده شيء، فشق عليه ذلك فاعتزلهن- من باب التأديب لهن- شهرًا في المشربة في غرفة وحده، حتى مر تسعة وعشرون يومًا، فجاء عمر ليعرف الخبر.
وقوله: ((فقَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَت: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ)): هذا من نصح عمر رضي الله عنه، ينصح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فزار عائشة رضي الله عنها، وقال لها: ما لكِ تؤذين الرسول، تسألين النفقة وما عنده شيء؟ ! فقالت له:((عَلَيْكَ بِعَيْبَتِك))، أي: اذهب إلى ابنتك، فذهب إلى ابنته حفصة رضي الله عنها، ثم ذهب إلى أم سلمة رضي الله عنها، فقالت له قولًا أشدَّ.
وقوله: ((قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ))، يعني: على عتبة المشربة، كان الباب فيه درج من خشب ينزل على الغرفة، وعليه بواب، وهو رباح؛ فلا يدخل أحد حتى يستأذن له، وأحيانًا يأتي أحدهم من نفسه متطوعًا؛ ليكون حاجبًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ قَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ )): الأَفِيق: الجلد الذي لم يتم دباغه
(1)
.
والمعنى: أنه ما في الغرفة إلا صاع من شعير، وقرظ- وهو ما يدبغ به الجلد-، فبكى عمر رضي الله عنه مما رأى من حاله، وقد نام على حصير ما عليه إلا إزار واحد، والحصير قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم، والغرفة ما فيها طعام ولا لباس،
(1)
النهاية، لابن الأثير (1/ 55)، لسان العرب، لابن منظور (10/ 6).
ولا كساء، وهكذا كان حاله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، لا لهوانه على الله، ولكن لعظم أجره، وليرفع الله درجته عليه الصلاة والسلام، فكان عليه الصلاة والسلام صابرًا شاكرًا، إن كان عنده شيء شكر الله، وإن لم يكن عنده شيء صبر؛ فهو إمام الشاكرين، وإمام الصابرين، والله تعالى له الحكمة البالغة في ذلك، فقد جاء في الحديث، ((عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا. يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا- أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ))
(1)
.
وقوله: ((فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ، وَمَلَائِكَتَهُ، وَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ)): هذا من الموافقات التي وافق عمر فيها ربه؛ فإن عمر رضي الله عنه له موافقات، فقد جاء في الحديث أن عمر رضي الله عنه قال:((وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ))
(2)
، وله موافقات أخرى رضي الله عنه.
وقوله: ((فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ)): هذا من فضائل عمر رضي الله عنه أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حزينًا مهمومًا أراد أن يحدِّثه حتى يزول الغضب عن وجهه.
وقوله: ((وَنَزَلْتُ فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ)): هذا الجذع كالدرج، ينزل عليه ويرقى عليه، حتى يخرج إذا أراد الخروج، أو يدخل إذا أراد الدخول.
وفيه: مشروعية التكبير عند حدوث السرور، فلما أشاع الناس أن النبي
(1)
أخرجه أحمد (22190)، والترمذي (2347).
(2)
أخرجه البخاري (402).
صلى الله عليه وسلم طلق نساءه وشق ذلك عليهم، فأنزل الله هذه الآية:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أو الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، والذي استنبطه هو عمر رضي الله عنه؛ لأنه رد الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وسأل نبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: لَا))، فكبَّر.
وقوله: ((فَانْطَلَقْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ قَلِيلًا))، أي: أنهم سمعوا بالخبر، فصار يبكي بعضهم لبعض، حزنًا على ما حصل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((فَصَمَتَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فقَالَ: ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم): ولى عمر مدبرًا؛ لأنه لم يُؤذن له، وخشي أن يكون شق على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الإذن، فدخل، وسلم، وفيه: مشروعية السلام عند الدخول.
وقوله: ((فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ مِنْكِ)): قال عمر: جارتك، ولم يقل: ضرتك، من باب اختيار اللفظ الحسن.
وقوله: ((فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ))، يعني: أجلس مستأنسًا يا رسول الله؟ فقد يكون الإنسان في بيته له حاجة، فلا ينبغي للضيف أن يثقل عليه حتى يستأذن، قال: أستأنس يا رسول الله؟ يعني: هل أنت مرتاح؟ ليس هناك شيء يشغلك، أم أخرج؟ وبعض الناس قد يأتي لصاحبه في بيته، فيتعبه ويشق عليه، وهو قد يكون مشغولًا، وقد يكون له حاجة مهمة تتعلق ببيته، أو تتعلق بشؤونه، أو تتعلق بمصالح الناس، فيأتي بعض الناس فيؤذيه، وليس له حاجة إلا الكلام، ويجلس وقتًا طويلًا؛ فينبغي للإنسان أن يراعي هذه الأحوال.
وقوله: ((فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ- يَا رَسُولَ اللَّهِ- أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى
فَارِسَ، وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا)): فيه: أنه صلى الله عليه وسلم كان متكئًا فاستوى جالسًا؛ ليبين لعمر رضي الله عنه أهمية الأمر فقد وسَّع الله على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله؛ لأن الله عجَّل لهم طيباتهم في الدنيا، وبين له أنه لا ينبغي للإنسان أن يغتر بما عليه الكفرة؛ لأنهم قد عُجِّلت لهم طيباتهم، قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
[1475]
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَدَأَ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ، فقَالَ:((إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ))، ثُمَّ قَالَ:((يَا عَائِشَةُ، إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ))، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ الْآيَةَ:{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} ، حَتَّى بَلَغَ {أَجْرًا عَظِيمًا} ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ ! فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَت: لَا تُخْبِرْ نِسَاءَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي مُبَلِّغًا، وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنْتًا))، قَالَ قَتَادَةُ: صَغَتْ قُلُوبُكُمَا: مَالَتْ قُلُوبُكُمَا.
وقوله: ((ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ الْآيَةَ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}، حَتَّى بَلَغَ {أَجْرًا عَظِيمًا}، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ)): هذا من التخيير بعد أن هجرهن صلى الله عليه وسلم شهرًا، وأنزل الله آية التخيير،
فكان على كل واحدة منهن أن تختار الدنيا، أو تختار الله ورسوله والدار الآخرة أنزل عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} فإما أن تختار الدنيا ومتاعها فيطلقها وتنصرف إلى أهلها، وإما أن تختار الله ورسوله والدار الآخرة، فتبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصبر على ما هو فيه من قلة ذات اليد.
وفي هذا الحديث: دليل على أن التخيير لا يكون طلاقًا، كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:((قَدْ خَيَّرَنا رَسُولُ اللهِ فَلَمْ نَعُدَّهُ طَلَاقًا)).