الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[733] باب منه
سؤال: (الذين) يقرؤون القرآن جاهلين بفهم القرآن من آبائنا وأجدادنا الذين مضوا، وهم على عقيدة دعاء الأموات، وما أشبه ذلك مما هو حاصل، وماتوا وظهر لنا أن هذا الشيء أنه لا يجوز، فكيف من ناحية الدعاء هل ندعو لهم أم لا، وهم لا يعرفون، ما عرفوا الحقيقة، عندهم العلماء الذين كانوا موجودين معهم هم الذين دلوهم على هذا الشيء، أن هذا هو الدين، ولا يوجد غيره؟
الشيخ: ما دام أنهم كانوا يحافظون على أركان الإسلام فأنتم تدعون لهم؛ لأنكم لا تعلمون ما في قلوبهم.
(الهدى والنور/ 95/ 55: 21: .. )
[734] باب العذر بالجهل، وبيان أن الموحِّد لا يخلد في النار مهما كان فعله مخالفاً لما يسلتزمه الإيمان ويوجبه من الأعمال [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
-]:
[قال الإمام]:
واعلم أن قوله في حديث الترجمة: "إلا التوحيد" مع كونها صحيحة الإسناد، فقد شكك فيها الحافظ ابن عبد البر من حيث الرواية، وإن كان قد جزم بصحتها من حيث الدراية، فكأنه لم يقف على إسنادها، لأنه علقها على أبي رافع عن أبي هريرة، فقال رحمه الله (18/ 40):
"وهذه اللفظة- إن صحت- رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل؛ فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها، لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار؛ لأن الله عز وجل قد أخبر أنه {لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} لمن مات كافراً، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة.
والدليل على أن الرجل كان مؤمناً قوله حين قيل له " لم فعلت هذا؟ " فقال:" من خشيتك يا رب! ". والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم؛ كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر:28)، قالوا: كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به. وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده.
وأما قوله: "لئن قدر الله علي "؛ فقد اختلف العلماء في معناه؛ فقال منهم قائلون: هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل، وهي القدرة، فلم يعلم أن الله على كل ما يشاء قدير، قالوا: ومن جهل صفة من صفات الله عزوجل، وآمن بسائر صفاته وعرفها؛ لم يكن بجهله بعض صفات الله كافراً. قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله.
وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين.
وقال آخرون: أراد بقوله: "لئن قدر الله علي " من القدر الذي هو القضاء، وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء. قالوا: وهو مثل قول الله عز وجل في ذي النون: {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} (الأنبياء:87).
وللعلماء في تأويل هذه اللفظة قولان:
أحدهما: أنها من التقدير والقضاء.
والآخر: أنها من التقتير والتضييق.
وكل ما قاله العلماء في تأويل هذه الآية فهو جائز في تأويل هذا الحديث في قوله: "لئن قدر الله علي "، فأحد الوجهين تقديره: كأن الرجل قال: لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه؛ ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين غيري.
والوجه الآخر: تقديره: والله! لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك. ثم أمر بأن يحرق بعد موته من إفراط خوفه.
وأما جهل هذا الرجل بصفة من صفات الله في علمه وقدره؛ فليس ذلك بمخرجه من الإيمان، ألا ترى أن عمر بن الخطاب وعمران بن حصين وجماعة من الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القدر. ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا حين سؤالهم عنه غير مؤمنين.
وروى الليث عن أبي قبيل عن شُفَيٍّ الأصبحي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص- فذكر حديثاً في القدر، وفيه: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأي شيء نعمل إن كان الأمر قد فرغ منه؟ (1)، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم العلماء الفضلاء- سألوا عن القدر سؤال متعلم جاهل؛ لا سؤال متعنت معاند، فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما جهلوا من ذلك، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه، ولو كان لا يسعهم جهله وقتاً من الأوقات؟ لعلمهم ذلك مع الشهادة بالإيمان، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم، ولجعله عموداً سادساً للإسلام، فتدبر واستعن بالله.
فهذا الذي حضرني على ما فهمته من الأصول ووعيته، وقد أديت اجتهادي في تأويل حديث هذا الباب كله ولم آلُ، وما أبرئ نفسي، وفوق كل ذي علم عليم. وبالله التوفيق ".
هذا كله كلام الحافظ ابن عبد البر، وهو كلام قوي متين يدل على أنه كان إماماً في العلم والمعرفة بأصول الشريعة وفروعها، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وخلاصته؛ أن الرجل النباش كان مؤمناً موحداً، وأن أمره أولاده بحرقه
…
إنما كان إما لجهله بقدرة الله تعالى على إعادته- وهذا ما أستبعده أنا- أو لفرط خوفه من عذاب ربه، فغطى الخوف على فهمه؛ كما قال ابن الملقن فيما ذكره الحافظ (11/ 314)، وهو الذي يترجح عندي من مجموع روايات قصته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) رواه أحمد والترمذي وصححه، وهو مخرج في "الصحيحة "(848)، و"المشكاة"(96)، وحديث عمران الذي أشار إليه متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة"(412 و413)، وفيه حديث عمر (170). [منه].
وسواء كان هذا أو ذاك؛ فمن المقطوع به أن الرجل لم يصدر منه ما ينافي توحيده، ويخرج به من الإيمان إلى الكفر؛ لأنه لو كان شيء من ذلك لما غفر الله له؛ كما تقدم تحقيقه من ابن عبد البر.
ومن ذلك يتبين بوضوح أنه ليس كل من وقع في الكفر من المؤمنين وقع الكفر عليه وأحاط به. ومن الأمثلة على ذلك: الرجل الذي كان قد ضلت راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فلما وجدها قال من شدة فرحه:
"اللهم! أنت عبدي وأنا ربك "! (1).
وفي ذلك كله رد قوي جداً على فئتين من الشباب المغرورين بما عندهم من علم ضحل: الفئة الأولى: الذين يطلقون القول بأن الجهل ليس بعذر مطلقاً؛ حتى ألف بعض المعاصرين منهم رسالة في ذلك!
والصواب الذي تقتضيه الأصول والنصوص التفصيل؛ فمن كان من المسلمين يعيش في جو إسلامي علمي مصفى، وجهل من الأحكام ما كان منها معلوماً من الدين بالضرورة- كما يقول الفقهاء- فهذا لا يكون معذوراً؛ لأنه بلغته الدعوة وأقيمت الحجة.
وأما من كان في مجتمع كافر لم تبلغه الدعوة، أو بلغته وأسلم؛ ولكن خفي
(1) رواه مسلم (8/ 93)، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة"(5/ 87) وصححه من حديث أنس، وعزاه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 5) لمسلم من حديث النعمان بن بشير أيضاً بزيادة " اللهم! أنت .. "، وهو وهم؛ فإنه عنده دون الزيادة، وكذلك أخرجه أحمد (4/ 273 و275) عن النعمان، والبخاري، ومسلم أيضاً من طريق أخرى عن أنس مختصراً، وأخرجاه من حديث ابن مسعود مطولاً؛ غير أن البخاري أوقفه. ومسلم، وابن حبان (2/ 9/ 620 - الإحسان)، وأحمد (2/ 316 و500) عن أبي هريرة مختصراً نحو روايتهما عن أنس. [منه].
عليه بعض تلك الأحكام لحداثة عهده بالإسلام، أو لعدم وجود من يبلغه ذلك من أهل العلم بالكتاب والسنة؛ فمثل هذا يكون معذوراً.
ومثله- عندي- أولئك الذين يعيشون في بعض البلاد الإسلامية التي انتشر فيها الشرك والبدعة والخرافة، وغلب عليها الجهل، ولم يوجد فيهم عالم يبين لهم ما هم فيه من الضلال، أو وجد ولكن بعضهم لم يسمع بدعوته وإنذاره؛ فهؤلاء أيضاً معذورون بجامع اشتراكهم مع الأولين في عدم بلوغ دعوة الحق إليهم؛ لقوله تعالى:{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام:19) وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء:15)، ونحو ذلك من الأدلة التي تفرع منها تبني العلماء عدم مؤاخذة أهل الفترة؛ سواء كانوا أفراداً أو قبائل أو شعوباً؛ لاشتراكهم في العلة؛ كما هو ظاهر لا يخفى على أهل العلم والنُّهى.
ومن هنا يتجلى لكل مسلم غيور على الإسلام والمسلمين عظم المسؤولية الملقاة على أكتاف الأحزاب والجماعات الإسلامية الذين نصبوا أنفسهم للدعوة للإسلام، ثم هم مع ذلك يدعون المسلمين على جهلهم وغفلتهم عن الفهم الصحيح للإسلام، ولسان حالهم يقول- كما قال لي بعض الجهلة بهذه المناسبة
-: "دعوا الناس في غفلاتهم"! بل وزعم أنه حديث شريف!! أو يقولون- كما تقول العوام في بعض البلاد-: "كل مين على دينه، الله يعينه "! وهذا خطأ جسيم لو كانوا يعلمون، ولكن صدق من قال:"فاقد الشيء لا يعطيه "!.
والفئة الثانية: نابتة نبتت في هذا العصر؛ لم يؤتوا من العلم الشرعي إلا نزراً يسيراً، وبخاصة ما كان منه متعلقاً بالأصول الفقهية، والقواعد العلمية المستقاة من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومع ذلك؛ اغتروا بعلمهم فانطلقوا
يبدِّعون كبار العلماء والفقهاء، وربما كفروهم لسوء فهم أو زلة وقعت منهم، لا يرقبون فيهم (إلاً ولا ذمة)، فلم يشفع عندهم ما عرفوا به عند كافة العلماء من الإيمان والصلاح والعلم، وما ذلك إلا لجهلهم بحقيقة الكفر الذي يخرج به صاحبه من الإيمان؛ ألا وهو الجحد والإنكار لما بلغه من الحجة والعلم؛ كما قال تعالى في قوم فرعون:{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} (النمل:13، 14). وقال في الذين كفروا بالقرآن: {ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون} (فصلت:28) ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه (16/ 434 - مجموع الفتاوى):
" لا يجوز تكفير كل من خالف السنة؛ فليس كل مخطئ كافراً، لا سيما في المسائل التي كثر فيها نزاع الأمة ".
يشير إلى مثل مسألة كلام الله وأنه غير مخلوق، ورؤية الله في الآخرة، واستواء الله على عرشه، وعلوه على خلقه؛ فإن الإيمان بذلك واجب، وجحدها كفر، ولكن لا يجوز تكفير من تأولها من المعتزلة والخوارج والأشاعرة بشبهة وقعت لهم؛ إلا من أقيمت عليه الحجة وعاند.
وهذا هو المثال بين أيدينا: الرجل النباش؟ فإنه مع شكه في قدرة الله على بعثه غفر الله له؛ لأنه لم يكن جاحداً معانداً؛ بل كان مؤمناً بالله وبالبعث على الجملة دون تفصيل لجهله. قال شيخ الإسلام بعد أن ساق الحديث برواية " الصحيح " وذكر أنه حديث متواتر (12/ 491):
" وهنا أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلق بالله تعالى؛ وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
والثاني: متعلق باليوم الآخر؛ وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله. ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً- وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه-؛ غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ".
ولهذا؛ فإني أنصح أولئك الشباب أن يتورعوا عن تبديع العلماء وتكفيرهم، وأن يستمروا في طلب العلم حتى ينبغوا فيه، وأن لا يغتروا بأنفسهم، ويعرفوا حق العلماء وأسبقيتهم فيه، وبخاصة من كان منهم على منهج السلف الصالح كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأَلْفِتُ نظرهم إلى "مجموع الفتاوى" فإنه "كُنَيْف مُلِىءَ علماً"، وبخاصة إلى فصول خاصة في هذه المسالة الهامة "التكفير"، حيث فَرَّقَ بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وقال في أمثال أولئك الشباب:
"ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ".
يعني الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق. ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة؛ وأمثالهم.
فأقول: وملاحظة هذا الفرق هو الفيصل في هذا الموضوع الهام، ولذلك
فإني أحث الشباب على قراءته وتفهمه من "المجموع "(12/ 464 - 501) الذي ختمه بقوله:"وإذا عُرف هذا؛ فتكفير (المعين) من هؤلاء الجهال وأمثالهم- بحيث يحكم عليه أنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت مقالتهم لا ريب أنها كفر، (يعني: الدعاة إلى البدعة).
وهكذا الكلام في تكفير جميع (المعينين)؛ مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين- وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ".
هذا؛ وفي الحديث دلالة قوية على أن الموحد لا يخلد في النار؛ مهما كان فعله مخالفاً لما يستلزمه الإيمان ويوجبه من الأعمال؛ كالصلاة ونحوها من الأركان العملية، وإن مما يؤكد ذلك ما تواتر في أحاديث الشفاعة؛ أن الله يأمر الشافعين بأن يخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان. ويؤكد ذلك حديث أبي سعيد الخدري أن الله تبارك وتعالى يخرج من النار ناساً لم يعملوا خيراً قط، ويأتي تخريجه وبيان دلالته على ذلك، وأنه من الأدلة الصريحة الصحيحة على أن تارك الصلاة المؤمن بوجوبها يخرج من النار أيضاً ولا يخلد فيها، فانظره بالرقم (3054).
"الصحيحة"(7/ 1/105 - 116).