الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحرم قربان المساجد لمن أكل ثوما ونحوه من البقول والنباتات المنتنة
ذكر الإمام من مناهي المساجد:
«قربانه ممن أكل ثوما ونحوه من البقول والنباتات المنتنة فإن ذلك يحرم ما دامت الرائحة الكريهة فيه لقوله عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر: «من أكل من هذه الشجرة المنتنة [قال أول يوم: الثوم ثم قال: الثوم والبصل والكراث] فلا يقربن مسجدنا «وفي لفظ: مساجدنا وفي حديث ثاني: فلا يقربنا ولا يصلين معنا زاد في ثالث: ثلاثا [وليقعد في بيته]، وفي رابع: حتى يذهب ريحه منه، وفي خامس: ولا يؤذينا بريح الثوم» فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس وفي سادس: وقال: إن كنتم لا بد أكليهما فأميتوهما طبخا يعني: البصل والثوم». [ثم ساق الإمام شواهده ثم قال]:
وفي هذه الأحاديث النهي الأكيد بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهو مذهب كافة العلماء إلا ما حكي عن بعضهم أن النهي خاص بمسجده عليه الصلاة والسلام لقوله في اللفظ الأول:«مسجدنا» وهذا لا حجة فيه لأن الحديث الثالث دل على أن القول المذكور صدر منه عليه السلام عقب غزوة خيبر وفتحها فقوله: «مسجدنا» يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته هناك، أو يكون المراد بالمسجد الجنس والإضافة على المسلمين أي: فلا يقربن مسجد المسلمين ويؤيده اللفظ الثاني: مساجدنا.
قلت: ويقوي ذلك التعليل بإيذاء المسلمين والملائكة وهذا متحقق في كل مسجد كما لا يخفى.
ثم إن هذه العلة تقتضي أمرين لم ينص عليهما في الحديث:
الأول: إلحاق مجامع العبادة بالمساجد كمصلى العيد والجنائز ونحوها ويدل لذلك
أيضا عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «فلا يقربنا ولا يصلين معنا» . قال الحافظ:
«وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى ونظيره قوله: «وليقعد في بيته» .
الثاني: إلحاق كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها بالثوم وقد نقله النووي عن العلماء وقال:
قلت: وفيما قاله ابن المرابط نظر بين لأن المذكورين ليست الرائحة منهم بكسبهم ولا باختيارهم فلا يصح إلحاقهم بالأولين فإنهم مختارون في ذلك في طوقهم الابتعاد عنها إذا شاؤا ولذلك قال ابن المنير في «الحاشية» :
«ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بأكل الثوم في المنع من دخول المسجد» . قال:
«وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع والمجذوم علته سماوية» .
قلت: فهو بذلك معذور فلا يمنع من الدخول ويؤيده أن المغيرة بن شعبة حين وجد عليه الصلاة والسلام منه رائحة الثوم أنكر عليه فلما أبدى له عذره - وهو أنه إنما أكله من الجوع - عذره كما سبق في الحديث السابع فالمجذوم ونحوه يعذر من باب أولى (1). وقال الحافظ:
«وألحق بعضهم بذلك من بفيه بخر أو به جرح له رائحة وزاد بعضهم فألحق أصحاب الصنائع كالسماك والعاهات كالمجذوم ومن يؤذي الناس بلسانه. وأشار
(1) إلا أنه قد يقال: إنه يجوز منع المجذوم لا لعلة الرائحة بل لأن داءه يعدي فيضر المصلي وهو مأمور بالابتعاد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» . ولما كان تطبيق هذا الأمر يستلزم ابتعاد المصلين جميعا أو بعضهم عن المسجد وتعطيل صلاة الجماعة أو تقليلها ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة ولذلك يقتضي أن يمنع المجذوم من هذه الوجهة ويلحق به كل من به داء معد. والله أعلم. [منه].
ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي».
وبالجملة فالذي لا شك فيه ويكاد يكون متفقا عليه بن العلماء: أن علة الإيذاء تقتضي المنع من دخول كل من يتعاطى شيئا ذا رائحة كريهة سواء كان مأكولا أو مشروبا أو غير ذلك بشرط أن يكون مختارا في ذلك غير مضطر كمداواة أو كصنعة كالجزارة ونحوها.
قلت: يكاد يكون متفقا لأنه قد خالف فيه ابن حزم رحمه الله حيث قال:
ثم ساق حديث عمر الآتي وحديث جابر ثم قال:
«قال علي: لم يمنع عليه السلام من حضور المساجد أحدا غير من ذكرنا {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
قلت: وهذا منه جمود على اللفظ دون النظر في المعنى فإن التعليل في حديث جابر بالإيذاء يدل دلالة واضحة على المنع من كل ما رائحته تؤذي على التفصيل الذي ذكرنا آنفا ولذلك نقول جازمين:
إن أول تلك الملحقات بالثوم: النبات الخبيث المعروف ب «التتن» لأن نتن ريحه أشد إيذاء للمسلمين من الثوم وغيره مما نص عليه في الحديث كما يشهد بذلك كل من عافاه الله من هذه البلية التي لا يكاد ينجو منها إلا القليل بل يشهد بذلك المبتلون أنفسهم عافاهم الله منه ولن يعافيهم الله إلا إذا سلكوا سبيلها: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} تلك هي سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإنها لعقوبة شديدة أن يمنع هؤلاء وأمثالهم من دخول المساجد التي يجتمع
فيها المؤمنون ويحضرها الملائكة المقربون فيحرموا بذلك شهود الخير الكثير الذي فيه تضعيف الصلاة بسبع وعشرين درجة وأشد من ذلك أن يخرجوا منها - إذا دخلوا - قهرا وبالقوة كما كان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي وإن في ذلك لعبرة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار} [الحشر: 2].
قال في «الفتح» :
«فائدة» : حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما ثبت في مسلم».
قلت: ولعل التعبير بقوله: «فلا يقربن» لإفادة هذا المعنى بخلاف ما لو قال: فلا يدخلن فتأمل. ثم قال:
«تنبيه» : وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: «من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا» . وبوب عليه بوقت النهي على إتيان الجماعة لأكل الثوم. وفيه نظر لاحتمال أن يكون قوله: «ثلاثا» يتعلق بالقول أي: قال ذلك ثلاثا بل هذا هو الظاهر لأن علة المنع وجود الرائحة وهي لا تستمر هذه المدة».
ثم إن النهي في الأحاديث المتقدمة للتحريم وقد ذهب إلى ذلك الظاهرية ومنهم ابن حزم وقد سبق نص كلامه في ذلك قريبا وهو الحق إن شاء الله تعالى وذلك لأمور:
أولا: أن الأصل في النهي التحريم فلا يجوز الخروج منه إلا لدليل أو قرينة ولا شيء من هذا هنا.
الثاني: أنه اقترن بنون التأكيد المشددة وذلك يؤكد النهي والتحريم.
الثالث: أنه مسقط لصلاة الجماعة وهي فرض في أصح الأقوال كما سيأتي بيانه في محله فتركها حرام فلو لم يكن دخول المسجد من المذكورين في الحديث أشد تحريما لما عاقبهم الشارع الحكيم بالمنع منه ولما أضاع عليهم التضعيف المذكور آنفا والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ
أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وهو سبحانه وتعالى أعلم.
ومما ذكرنا تعلم أن الاحتجاج بالحديث على أن الجماعة ليست فرض عين غير صواب لأن الشارع إنما حرمهم منها عقوبة لهم على إتيانها بما هو أعظم جرما من تركها بدون عذر.
ومن الدليل على أن النهي للتحريم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج من وجد منه رائحة الثوم أو البصل من المسجد وليس هذا من شأن من ارتكب مكروها كما لا يخفى ولذلك قلنا:
الحديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والطيالسي وأحمد من طريق قتادة عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة اليعمري أن عمر بن الخطاب قال
…
فذكره. قال النووي:
«فيه إخراج من وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من المسجد وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه» . قال السندي رحمه الله:
قلت: وظاهر الأمر يفيد وجوب الإخراج وقد صرح بذلك ابن حزم كما سبق فهو دليل آخر على تحريم دخول المسجد على هؤلاء لأنه المقابل للوجوب.
«إلا من أكلها لعذر كجوع أو مداواة فإنه يدخل ولا يخرج لحديث المغيرة بن
شعبة قال: «أكلت ثوما فأتيت مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها أو ريحه» فلما قضيت الصلاة جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله لتعطيني يدك قال: فأدخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر قال:
الحديث أخرجه أبو داود بإسناد حسن كما سبق في تخريج أحاديث الباب وأخرجه أيضا البيهقي في «سننه الكبرى» .
وأما الحديث الذي أورده البخاري تعليقا فقال:
«وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أكل الثوم والبصل من الجوع أو غيره فلا يقربن مسجدنا» فقال الحافظ: «ولم أر التقييد بالجوع وغيره صريحا لكنه مأخوذ من كلام الصحابي في بعض طرق حديث جابر وغيره فعند مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة
…
الحديث.
وله من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس جياع
…
الحديث. قال ابن المنير في «الحاشية» : ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بأكل الثوم في المنع من المسجد قال: وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع والمجذوم علته سماوية قال: لكن قوله صلى الله عليه وسلم: من جوع أو غيره. يدل على التسوية بينهما. انتهى. وكأنه رأى قول البخاري في الترجمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر فظنه لفظ حديث وليس كذلك بل هو من تفقه البخاري وتجويزه لذكر الحديث بالمعنى».
فالحديث لا يدل على المعنى الذي ذهب إليه البخاري لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم أن الحاجة والجوع هو الذي دفعهم إلى الأكل بل هذا هو الظاهر لأنه عليه الصلاة والسلام لو علم ذلك لعذرهم كما في حديث المغيرة هذا وعليه