الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم المحراب في المسجد
وأما المحراب في المسجد فالظاهر أنه بدعة لأننا لم نقف على أي أثر يدل على أنه كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا وإن كان لم يخف علينا قول ابن الهمام في «الفتح» :
«فإنه بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
فإن هذا بحاجة إلى سند ومعرفة من روى ذلك من المحدثين والحفاظ المتقدمين فقد رد ذلك من هو أقعد في الحفظ من ابن الهمام فقد قال السيوطي فيما نقله المناوي:
«خفي على قوم كون المحراب في المسجد بدعة وظنوا أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه ولا في زمن أحد من خلفائه بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عن اتخاذه» . ثم تعقب قول الزركشي المشهور:
«إن اتخاذه جائز لا مكروه ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير» . بأنه:
«لا نقل في المذهب فيه وقد ثبت النهي عنه» .
وكأنه يعني بالنهي الذي أشار إليه ما أخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن مغراء عن ابن أبجر عن نعيم بن أبي هند عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب -» .
وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير عبد الرحمن بن مغراء وهو إنما تكلم في روايته عن الأعمش وليس هذا منها كما ترى وقد قال الذهبي في ترجمته من «الميزان» :
«ما به بأس إن شاء الله تعالى وروى الكديمي أنه سمع عليا يقول: ليس بشيء
تركناه لم يكن بذاك». قال ابن عدي عقيب هذا:
قلت: وقول أبي زرعة هذا هو الذي اعتمده الحافظ في «التقريب» فقال: «صدوق تكلم في حديثه عن الأعمش» . وقال الهيثمي في «المجمع» بعد أن ساق الحديث بلفظه:
«رواه الطبارني وفيه عبد الله بن مغراء وثقه ابن حبان وغيره وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها» (1). وقال السيوطي فيما نقله المناوي:
«حديث ثابت وهو على رأي أبي زرعة ومتابعثه صحيح وعلى رأي ابن عدي حسن» .
ومن ثم رمز له في «الجامع» بالحسن وتعقبه المناوي بما نقله عن الذهبي أنه قال في المذهب على البيهقي:
«قلت: هذا خبر منكر تفرد به عبد الرحمن بن مغراء وليس بحجة» .
قلت: والحق أن الحديث حسن والحكم عليه بالنكارة غير ظاهر والذهبي نفسه قد قال في ابن مغراء أنه لا بأس به كما سبق آنفا وأقل ما يفيده هذا القول أن حديثه حسن إذا تفرد به والقول بأنه ليس بحجة على إطلاقه يناقض هذا الذي في «الميزان» وأما إذا قيل: إنه ليس بحجة إذا خالف فهو حق وهنا لم يخالف فكان حديثه حسنا. والله تعالى أعلم.
غير أن الاستدلال بالحديث على النهي عن المحاريب المبتدعة في المساجد - كما فهم السيوطي على ما نقله المناوي عنه صراحة ويشير إليه كلامه المذكور سابقا - غير ظاهر وإن سبقه البيهقي إلى ذلك حيث أورد الحديث في «باب في كيفية بناء المساجد» قال المناوي متعقبا كلام السيوطي المشار إليه:
(1) قلت: إن كان يعني بتضعيف ابن المديني له تلك الرواية التي سبق ذكرها عن الذهبي من طريق الكديمي فإنه لا يجوز الاحتجاج بها لأن الكديمي - واسمه محمد بن يونس - أحد المتروكين كما في «الميزان» بل كذبه بعضهم. [منه].
قلت: وفيه أن ابن الأثير لم ينص على ما ذكره المناوي فإن نص كلامه في النهاية:
«المحراب» : الموضع العالي المشرف وهو صدر المجلس أيضا، ومنه سمي محراب المسجد وهو صدره وأشرف موضع فيه ومنه حديث أنس
…
» إلخ كلامه الذي نقله المناوي. فأنت ترى أنه لم يتعرض لذكر الحديث الذي نحن في صدده مطلقا فكيف يقول المناوي:
«قد نص على أن المراد بالمحاريب في الحديث صدور المجالس» ؟
وإنما نص على أن هذا هو المراد بالمحاريب في حديث أنس الذي أورده هو نفسه - أعني: ابن الأثير - وليس يخفى أنه لا يلزم من ورود هذا اللفظ «المحاريب» في حديث أنس بمعنى صدور المجالس أن يكون هذا المعنى هو المراد من كل حديث ورد فيه هذا اللفظ ومنه هذا الحديث.
لكن الذي رجح عندي كون الحديثين بمعنى واحد: هو ورود اسم الإشارة في حديث الباب: «هذه المذابح - يعني المحاريب» مما يدل على أن المشارإليه - وهي المحاريب - كانت موجودة في عهده عليه الصلاة والسلام بينما محاريب المساجد بالمعنى المصطلح عليه لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام باعتراف السيوطي فكيف يسوغ حينئذ حمل الحديث عليها وفيه الإشارة إليها وهي غير موجودة؟ فتعين أن المراد من المحاريب في هذا الحديث صدور المجالس كما هو المراد في حديث أنس. والله أعلم.
هذا وقد روي ما يشير إلى أن المحاريب في المساجد لم تكن معروفة في عهده عليه الصلاة والسلام فقد روى الطبراني في «الأوسط» و «الكبير» عن جابر بن أسامة الجهني قال:
لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بالسوق فقلت: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالو: يريد أن يخط لقومك مسجدا قال: فأتيت وقد خط لهم مسجدا وغرز في قبلته خشبة فأقامها قبلة.
قال في «المجمع» :
«وفيه معاوية بن عبد الله بن حبيب ولم أجد من ترجمه» .
وفي حفظي أن بعض العلماء من الذين يذهبون إلى جواز المحراب في المسجد ذكر أن من فوائده الدلالة على جهة القبلة.
ونحن نقول: إن ذلك إنما يحتاج إليه إذا لم يكن في المسجد منبر فإنه أيضا يدل على سمت القبلة، ومع ذلك فإن احتيج إلى علامة المسجد الذي لا منبر فيه فلا مانع من وضع خشبة تدل على القبلة كما في هذا الحديث، ذلك خير من المحاريب التي في اتخاذها تشبه بالنصارى. فقد روى البزار عن عبد الله بن مسعود أنه كره الصلاة في المحراب وقال: إنما كانت في الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب. يعني: أنه كره الصلاة في الطاق. قال في «المجمع» :
«ورجاله موثقون» .
قلت: ورواه سعيد بن منصور أيضا بلفظ أنه كان يكره الصلاة في الطاق وقال: إنه من الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب.
وروى عن عبيد بن أبي الجعد قال:
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد - يعني الطاقات (1).
ومن الملاحظ في هذا الأثر أنه فسر المذابح في المسجد بالطاقات وهي المحاريب بالمعنى المصطلح عليه كما فسر في الحديث المذابح بالمحاريب مما يدل على أنها هي الطاقات وهذا مما يقوي ما فهمه السيوطي من الحديث لولا اسم الإشارة فيه.
والمقام - بعد - بحاجة إلى تحقيق وتدقيق زيادة على ما تقدم فمن كان عنده شيء من ذلك فليكتب والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
(1) أورده والذي قبله شيخ الإسلام في «الاقتضاء» «ص 63» . [منه]
وقد نص على كراهة المحاريب في المساجد ابن حزم وقال:
«وروينا عن علي بن أبي طالب أنه كان يكره المحراب في المسجد وعن إبراهيم النخعي (1).
[الثمر المستطاب (1/ 472)].
(1) أنه كان يكره أن يصلي في طاق الإمام. قال سفيان الثوري: «ونحن نكرهه» . ولذلك قال الشيخ علي القاري في «المرقاة» «1/ 473» في شرح حديث أنس: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في القبلة» :
وأما ما في «عون المعبود على سنن أبي داود» :
«ما قاله القاري من أن المحاريب من المحدثات بعده عليه السلام فيه نظر لأن وجود المحراب في زمنه عليه السلام يثبت من بعض الروايات. أخرج البيهقي في «السنن الكبرى» عن وائل بن حجر قال:
حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه للتكبير» نقله الشيخ عبد الحي الكتاني في «التراتيب الإدارية» وأقره.
قلت: وهذا تعقب وإقرار لا طائل تحته لأن الحديث المذكور ضعيف جدا لأن البيهقي أخرجه من طريق محمد بن حجر الحضرمي: حدثنا سعيد بن عبد الجبار بن وائل عن أبيه عن أمه عن وائل به. وهذا سند فيه ثلاثة علل: ضعف بعض رواته والانقطاع والشذوذ في متنه.
أما الأولى فهي محمد بن حجر الحضرمي قال الذهبي في «الميزان» : «له مناكير وقال البخاري: فيه بعض النظر» . وأقره الحافظ في «اللسان» ونقل عن أبي أحمد الحاكم أنه قال: «ليس بالقوي عندهم» .
قلت: وشيخه سعيد بن عبد الجبار ضعيف أيضا كما في «التقريب» .
وأما الثانية فهي أن عبد الجبار بن وائل لا يعرف أنه سمع من أمه وقد قيل: إنه لم يسمع من أبويه كما في التهذيب.
وأما الثالثة فهي أن حديث وائل رضي الله عنه في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم قد جاء في «صحيح مسلم» والسنن والمسانيد وغيرها من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة ليس في شيء منها ذكر المحراب إلا في هذه الرواية الضعيفة فدل على شذوذها. بل نكارتها.
انظر الطرق المشار إليها في البيهقي «2/ 24 و 25 و 26 و 28 و 30 و 57 و 58 و 72 و 81 و 98 و 99 و 111 و 112 و 131 و 132 و 178» .