الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة إلى الشعب الليبي *
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوان الليبيون الكرام:
حيّاكم الله وبصّركم بالعواقب، وجعل لكم في الماضي عبرة للحاضر وعظة للمستقبل، ونصركم في معارك الرأي كما نصركم في معارك الحرب، وأراكم الخير خيرًا لتتبعوه، والشر شرًا لتتقوه وتجانبوه، ووقاكم شر تحكّم الأفراد وزلل الساسة، وأخرجكم من ظلمات الاستبداد إلى نور الشورى، ووفّق قادتكم إلى التي هي أحسن عاقبة، وجعل لكم في كل مسلك ضيّق فرجًا عاجلًا ومخرجًا حسنًا.
وسلام عليكم بما جاهدتم في سبيله، وناضلتم عن دينه، وبما حافظتم على هذه القطعة الثمينة من الوطن العربي العزيز التي هي ميراث مشترك بينكم وبين إخوانكم العرب بالفرض وإخوانكم المسلمين بالتعصيب.
أيها الإخوان:
لم يعرف العصر الحديث شعبًا غيركم دافع عن حريّته كما دافعتم، ولا شعبًا دفع من أثمان الحرية مثلما دفعتم، فقد قدمتم من دمائكم وأموالكم ما لم يقدّمه غيركم من الأمم التي ابتُليت بتسلّط الأقوياء عليها
…
قدمت الأمم شبّانها فداء لأوطانها، أما أنتم فقدمتم الشبّان والكهول والشيوخ، وناهيكم بشيخ المجاهدين وإمام الشهداء عمر المختار، فضربتم الأمثال وملأتم التاريخ بالأعمال، وصبرتم في سبيل وطنكم على الجوع والعطش والعري والتشريد، ولم تهن لكم عزيمة ولا ضعف إيمان ولا تزعزعت عقيدة، ولم تخطئوا كما أخطأ غيركم في فهم الحقيقة الكاملة للحياة، وهي أن يحيا الإنسان كريما أو يموت كريمًا، وان الحياة بلا حرية موت أفظع من الموت.
* كلمة أُلقيت بإذاعة "صوت العرب" بالقاهرة، 1953.
كذلك لم يبتلِ الله فيمن ابتلى من خلقه بمثل ما ابتلاكم به من استعمار حيواني شرِه أذاقكم لباس الجوع، ولم يستطع أن يذيقكم عذاب الخوف، ولكنكم أذقتموه الهزائم التي سجّلها التاريخ، وقاوم ضعفكم الذي يمدّه الإيمان قوّته التي يمدّها الطغيان، وصدقتم ما عاهدتم الله عليه فمنكم من قضى نحبه ومنكم من ينتظر وما بدّلتم تبديلًا.
أيها الإخوان:
لم تتفق جمعية الأمم على قضية مثلما اتفقت على استقلالكم، على ما شاب ذلك الاستقلال من شوائب، وعلى ما حفّه من مصائب، وعلى ما سبقه وتبعه من مناورات وألاعيب، فكل ذلك يشفع له أنه مولود، والمولود يولد ضعيفًا ثم تقوّيه العناية والرعاية والحياطة والمحافظة، وكذلك قال الناس عنكم وبذلك استقبلوا استقلالكم مع الرحمة بكم والإشفاق عليكم.
أيها الإخوان:
فرح إخوانكم العرب والمسلمون باستقلالكم لأنهم يعدّونه جزءًا من استقلالهم أو تثبيتًا له أو وسيلة لاستقلال غير المستقلّ منهم، بل لأنهم يرون فيه تحقيقًا لأكبر حاجة في نفوسهم وهي الاتصال بين شرقهم وغربهم. فقد كانت ليبيا- وما زالت- كما وضعها الله جسرًا بين الشرق والغرب مرّ عليه الفاتحون من أسلافنا يحملون إلينا الهدى ودين الحق، ومرّت عليه مواكب العروبة ممثلة في بني هلال بن عامر بن صعصعة يحملون إلينا الخصائص الجنسية والبيان، ومرّ عليه الدعاة إلى الحق من أئمة الدين، والحاملون للعدل والإحسان من الغزاة المجاهدين، فعلى سهول أرضكم مرّ عقبة فاتحًا وأبو المهاجر منبتًا وحسّان معمرًا ومطهّرًا للبقعة وطارقًا موسّعًا للرقعة، وعليها مرّ إدريس ليغرس في المغرب شجرة النبوّة وعبد الرحمن ليقيم فيه الخلافة المروانية.
فكان أول الواجبات على مليككم وحكومتكم أن يحافظوا على هذا الاستقلال وأن يقدّروا الأثمان التي اشتُري بها وأن يسوسوه بالحكمة والحذر، وأن يحفظوا ذمة الشهداء الأبرار من بنيه، وأن يرعوا حرمة ما أريق على جوانبه من دموع ودماء، وأن يديجوه على الذلل السماح من الطرائف، وأن يجنبوه وهو في خطواته الأولى مزالق المعاهدات مع من لا عهد له ولا ميثاق، وأن يربطوا مستقبله بالشرق لا بالغرب، وبالقريب لا بالغريب.
ولكنهم- مع الأسف- جاءوه بالكفن وهو في ثياب العرس، وعرضوا النوائح في مواكب الفرح، وأرادوا أن يعالجوه من الفقر فعالجوه بالفقر ومعه الذل، وأن يداووه فداووه من الحمّى بالطاعون، وقيّدوه بقيد من حديد مع مستعمر عتيد وجبّار عنيد وعدوّ لدود عرف
بنقض العهود وتجاوز الحدود، ومع مفترس ما زالت أظافره حمراء من دماء المسلمين والعرب، وما زال واضعًا قدميه النجستين على البقاع الطاهرة من أرضنا في "القناة" من مصر وفي "الحبانية" من العراق وفي "المفرق" من الأردن، وما زال ممتدًا كالسرطان على الشواطئ الشرقية لجزيرة العرب، وما زال في السودان يماطل بالوعد الباطل.
كل هذه الأوصاف تعبير لجنس اسمه الانكليز، وكل تلك البلايا وأمثالها معها، شرح للمعاهدة التي تريد حكومة ليبيا أن تعقدها مع الانكليز.
أيها الإخوان الليبيون:
إنها ليست معاهدة
…
إنها استعمار جديد أشنع من الاستعمار الإيطالي الذي بلوتم مره وعانيتم شرّه، إنها في مآلها تضييع للوطن واستعباد لبنيه
…
إنها تمكين اختياري للعدو من رقابكم. إنكم ستصبحون بسببها غرباء في أوطانكم مستعبدين لأعدائكم
…
إنها مكيدة خفيت حتى اتّضحت، واستترت حتى افتضحت، ودبّرت بليل لتغطية ما فيها من الويل.
أيها الإخوان:
سلوا إخوانكم وجيرانكم في مصر ماذا لقوا من العدو الغادر في مدة سبعين سنة. سلوهم هل صدق له معهم عهد أو بر له يمين. سلوهم هل جلا عن أرضهم في المواعيد الكثيرة التي قطعها على نفسه بالجلاء، وهل وقف عند نصوص المعاهدات التي أبرمها ووقع عليها؟
العاقل من اتّعظ بغيره فاتّعظوا ولا تقدموا على أمر فيه هلاككم وهلاك إخوانكم، فإن معاهدته معكم معناها الكيد لمصر وتطويقها. فبينما تجاهد لإخراجه من القناة الضيّقة إذا به يحادها بكم وبوطنكم الواسع الغني.
أيها الإخوان:
إذا نفّذت هذه المعاهدة فسترون بأعينكم بعد سنوات قليلة سماءكم وقد ملئت بطيّاراته، وأرضكم وقد غصّت بجنوده ومطاراته، وخيرات أرضكم مما على ظهرها وبطنها، وهي في قبضته يصرفها بمشيئته وفي قبضته، والاتصالات بينكم وبين إخوانكم في الشرق وفي الغرب وقد أصبحت مقطوعة ممنوعة.
أيها الإخوان:
إننا نخاطب الليبيين، وإن حكّامكم منكم فهم داخلون في الخطاب فليراجعوا بصائرهم، وليرجعوا إلى أمّتهم يستهدونها ويسترشدون بها، وإلى إخوانهم العرب يستعينونهم ويستنجدون بهم، وليخافوا عذاب الله وحساب التاريخ.
أيها الإخوان:
إن الضرورة الدافعة إلى هذه الصفقة الخاسرة مليون جنيه، ولكنكم ستبيعون فيها الوطن كله، وشرف الوطن كله، وحرية الوطن كله، وإن هذا الثمن البخس الذي تبيعون به وطنًا كاملًا وشعبًا كاملًا تستطيع كل حكومة عربية أن تسدده عنكم في كل سنة، ومن حدّثكم بغير هذا فهو مخدوع أو خادع.
أيها الإخوان:
قفوا كلكم صفًا واحدًا في طريق هذه المعاهدة المخسرة حتى تمزّقوها قبل أن تمزّقكم.