الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرّر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذّرًا أو متعسّرًا،. حتى إذا تمّ منه شيء اليوم، ضاع غدًا، لأنه بناء على غير أساس، والمتوهّم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل.
لذلك بدأت جمعية العلماء- من أول يوم نشأتها- بتحرير العقول والأرواح، تمهيدًا للتحرير النهائي، فوضعت برنامجًا محكمًا لوعظ الكبار وإرشادهم بالدروس والمحاضرات، حتى بلغت من ذلك أقصى غاية من الجهد وأقصى غاية في النتائج، وأصبح الشعب- في جملته- صافي الفكر، مستقلّ العقل، متوهّج الشعور، مشرق الروح، فاهمًا للحياة، واسع الأمل فيها، عاملًا للحرية والاستقلال، مؤمنًا بماضيه، عاملًا على ربط الحاضر ووصله بالوطن العربي الأكبر، متبصّرًا في وزن رجاله، لا ينطلي عليه غش الغشّاشين ولا تدجيل الدجّالين، ومعلوم أن هذه المعاني لا تدخل النفوس دفعة واحدة، وإنما تكمل بالتدرّج، والذي وصل إليه الشعب الجزائري من هذا هو نتيجة نيف وعشرين سنة في أعمال جدية متواصلة، ولكنه لا يتم عادة في أقلّ من خمسين سنة.
أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:
أولًا: زادت الجمعية على هذا العمل العام آخر خاصًا، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقّى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسّست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيّدتها بمال الأمة، وصيّرتها ملكًا للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، من حملة الشهادات الابتدائية في مدارس الجمعية.
ثانيًا: بما أن المساجد، التي هي تراث الأجداد، صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيرًا منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجرّ أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت إلى الآن هي التي تعين الأئمة والخطباء والمؤذنين والقومة، ولكنها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية وشيّدت بمال الأمة نحو سبعين مسجدًا في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلّحة.
ثالثًا: في الجزائر مئات الآلاف من الشبّان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت
لهم الجمعية عشرات من النوادي المنظمة الجذابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية، وأدّت هذه النوادي أكثر مما تؤذيه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه.
رابعًا: أنشأت الجمعية للعمّال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي وزوّدتها بطائفة من الوعّاظ والمعلّمين من رجالها، يتعلّم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلّم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلّما وكتابة، ويتربّون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي وآتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثم قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعف واحدها إلى الآلاف، فكان ذلك وحده سببًا للعجز.
خامسًا: أنقذت الجمعية عشرات الآلاف من أبناء الجزائر من الأمية، بوسائل دبّرتها ونجحت فيها نجاحًا عجيبًا، وإن هذا العمل من غرر أعمالها لأن الأمية شلل الشعوب.
سادسًا: بعد هذه الجهود كلها، بقي من أبناء الجزائر مليونان من الأطفال محرومين من التعليم بجميع أنواعه، بشهادة الحكومة وإحصاءاتها الرسمية، فلا هي علّمتهم لأن سياسة التجهيل تأبى عليها ذلك، ولا جمعية العلماء استطاعت أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذين المليونين، لأن مواردها المالية محدودة، تأتي من اشتراكات قليلة منظمة، ولأن الأغنياء والموظفين لا يجودون عليها بشيء، خوفًا من انتقام فرنسا، ومعلوم أن هذين المليونين، إذا لم يتعلّموا أو يتعلّم معظمهم، كانوا جنودًا للشرّ وأعداءً للإسلام والعروبة، فإذا تعلّم معظمهم غلب الخير فيهم على الشر وأصبحوا جنودًا للعروبة والإسلام والإنسانية.
سابعًا: بعد مساعٍ طويلة مرهقة، دامت سنوات لدى الحكومات العربية، تمّ لجمعية العلماء إرسال بعثات إلى الشرق العربي، من تلامذة معهدها ومدارسها، تدرس في الجملة على نفقة هذه الحكومات، ولكن القدْر الذي تمّ لم يزل قليلًا جدًا لا يحقّق الغرض من المقصود، ولا ما يقاربه، لأنه عبارة عن بعثة في مصر تتكوّن من عشرين تلميذًا، وأخرى في العراق تتكوّن من خمسة عشر تلميذًا، ومثلها في الكويت، وأخرى في سوريا تتكوّن من عشرة، وبعض هؤلاء لا تزال الجمعية هي التي تنفق عليهم، أو تساعدهم لعدم كفاية عون الحكومة لهم.
رغبات جمعية العلماء وآمالها في الحكومات العربية:
تقوم جمعية العلماء بهذه الأعمال الجبّارة التي تفوق قدرتها المالية، وقد تفوق قدرة الأمة أيضًا، وهي- بعد- لم تزل في حاجة ملحّة إلى إكمال وتثبيت ما بنته، ثم إلى إعلاء ذلك البناء والزيادة فيه.