الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ذكرى المولد النبوي الشريف *
-
1
-
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها المسلمون:
ليس هذا المولد النبوي الذي تحيون ذكراه في كل عام ميلاد رجل محدود الوجود بطرفي الحياة، ولو كان كذلك لكان محدود المعنى لأن وراء كل حياة موتًا، ولكان كبقية الموالد التي تتحكم فيها الأعراف فتغالي فيها أو تتوسّط، واحتفال رجل بعيد ميلاد ولده الوحيد العزيز لا ينقل شعور الفرح والابتهاج من الوالدين إلى الجيران إلّا على نمط من المجاملة والمقارضة العرفية.
ولكن ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالهدى ودين الحق، هو مولد لكل ما جاء به محمد من الهدى ودين الحق، فهو مولد للصلاح والإصلاح والهداية والرحمة والخير والعدل والإحسان والأخوة والمحبة والرفق، وهو مولد لجميع الشرائع السمحة التي غيّرت الكون، وطهّرت النفوس، وصحّحت الحدود بين الناس فوقف كل واحد منهم عند حدّه، ووضحت المعالم المطموسة بين الخلطاء فوقف كل خليط من خليط موقف المعاون، لا موقف المعاكس: فالمرأة والرجل، والأمير والمأمور، والحر والعبد، والكبير والصغير، والأب والابن، والجار وجاره، والعربي والأعجمي، والأجير والمستأجر، والغني والفقير، كل أولئك أصبح راضيًا بحاله، ناعمًا في عيشه، سعيدًا في حياته آمنًا من ظلم خليطه.
ومولد محمد هو الحد الفاصل بين حالتين للبشرية: حالة من الظلام جللها قرونًا متطاولة، وحالة من النور كانت تترقبها، وقد طلع فجرها مع فجر هذا اليوم، فميلاد محمد صلى الله عليه وسلم كان إيذانًا من الله بنقل البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الوثنية إلى التوحيد، ومن العبودية إلى الحرية، وبعبارة جامعة من الشر الذي لا خير فيه إلى الخير الذي لا شر معه.
* مسودة وجدت في أوراق الشيخ لكلمة ألقاها في الحفل الذي أُقيم بالقاهرة في شهر نوفمبر 1952 بمناسبة ذكرى المولد، بحضور الرئيس محمد نجيب رئيس جمهورية مصر.
مولد محمد صلى الله عليه وسلم هو مولد تلك التعاليم التي حرّرت العقل والفكر وسمت بالروح إلى الملإ الأعلى، بعدما تدنت بالمادة إلى الحيوانية، وبالشهوات إلى البهيمية، وبالمطامع إلى السبعية الجارحة.
ومولد محمد صلى الله عليه وسلم هو مولد الإسلام والقرآن وذلك الفيض العميم من المعاني التي أصلحت الأرض ووصلتها بالسماء وفتحت الطريق إلى الجنة.
فقولوا لمن جاء بعد محمد من زاعم يزعم الانتصار للحق، وزعيم يهتف بالحق وداع يدعو إلى الحرية، ودعيّ يكذب على الحرّية، وعاقل يبكي على العقل، ومفكّر يجهد في تحرير الفكر، وروحاني يعمل لسمو الروح، وأخلاقي يضع الموازين للمثل العليا، وحاكم يحاول إقامة العدل في الأرض، وحائر لا يدري من أين يبتدئ ولا أين ينتهي، قولوا لهم جميعًا: قد سبقكم محمد إلى هذا كله، وقد نصب لكم بقرآنه وسيرته أعلام الهداية في كل مصعد وكل منحدر، ولكنكم قوم لا تفقهون أو لا تصدقون، فارجعوا إليه إن كنتم صادقين تجدوه منكم قريبًا.
هذه هي المعاني التي يجب أن نستشعرها حينما نذكر المولد، وحينما نحتفل به، أما ما عدا ذلك مما نفعله ونقوله فزوائد لا قيمة لها في العقول ولا أثر لها في النفوس.
وهذه هي المعاني التي يجب أن نعدّ أنفسنا للتأثّر بها حتى نلين قيادها للخير وندمّث وعورتها لتلقيه وللعمل به، ولا يكون ذلك إلّا إذا مررنا بها على مواطن العبرة فيها، واستدرجناها لحسن الاقتداء بها وإتقان الاحتذاء لها.
لو فهمنا المولد المحمدي بهذه المعاني لكان إظلاله لنا في كل عام تجديدًا لهممنا، وإيقاظًا لشواعرنا، وصقلًا لأذهاننا، وجلاءً لأرواحنا، ولكانت آثار ذلك سموًّا في أرواحنا، وسدادًا في آرائنا، وتحوّلًا إلى الخير في أحوالنا، وجمعًا لكلمتنا على الحق، وتوحيدًا لصفوفنا في النوائب.
ولكننا فهمناه على قياس من عقولنا وهي جامدة، وعلى نحوٍ من هممنا وهي خامدة، وعلى نمط من عاداتنا وهي سخيفة، وقصرناه على هذه التوافه: لعب للصغار ليس فيها فائدة وخطب للكبار ليس فيها عائدة.
فعلنا بمولد محمد صلى الله عليه وسلم ما فعلناه بسيرته فاقتصرنا في كليهما على أضعف جانبيه، فنحن في مولده نلهو ونلعب، وقد نفرح ونطرب، ونعمر يومه وأسبوعه بحفلات تقليدية ليس فيها روح، كذلك نحن نتدارس سيرته التي هي التفسير العملي للإسلام فلا ندرس إلّا جانبها البشري من كيفية أكله ولباسه ونومه، لا جانبها الملكي من صبره وجهاده وتربيته لأُمّته، وبناء الدولة الإسلامية.