المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: ‌ 3 *

-‌

‌ 3 *

-

أما علماء الخلف فهم أقل من أن تسمّيهم علماء دين، وأقل من أن تسميهم علماء دنيا. أما الدين فإنهم لم يفهموه على أنه نصوص قطعية من كلام الله، وأعمال وأقوال تشرح تلك النصوص من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، ومقاصد عامة تؤخذ من مجموع ذلك ويرجع إليها فيما لم تفصح عنه النصوص، وفيما يتجدد بتجدّد الزمان، لم يفهموه على أنه عقائد يتّبع العقل فيها النقل، وعبادات كملت بكمال الدين. فالزيادة فيها كالنقص منها، وأحوال نفسية صالحة هي أثر تلك العقائد والعبادات وآداب تصلح المعاملة وتصحّحها بين الله وبين عباده وبين العباد بعضهم مع بعض، بل فهموا الدين وأفهموه على أنه صور مجرّدة خالية من الحكمة، وحكموا فيه الآراء المتعاكسة والأنظار المتباينة من مشايخهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى اطّراح النصوص القطعية إلى كلام المشايخ، وإلى سدّ باب الفكر بالتقليد، وتناول حقائق الدين بالنظر الخاطئ والفهم البعيد، والفكر كالعقل نعمة من نعم الله على هذا الصنف البشري، فالذي يعطله أو يحجر عليه جانٍ مجرم، كالذي يعطل نعمة العقل، ولعمري ان سدّ باب الاجتهاد لأعظم نكبة أصابت الفكر الإسلامي، وأشنع جريمة ارتكبها المتعصبون للنزعات المذهبية.

وأما الدنيا فليسوا علماء دنيا بالمعنى الأعلى لهذه الكلمة، وهو أن يعالجوا الكسب بطرق علمية، ويدرسوا وسائل الثراء بعزائم صادقة، ويضربوا في الأرض لجمعِ المال بكد اليمين، وعرق الجبين، أما المعنى السخيف لهذه الكلمة فهم أوفر الناس حظًا منه، فهم يطلبون المعيشة بأخس وسائلها، فيحصلون منها على فتات الموائد يشترونه بدينهم وماء وجوههم، هانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس فرضوا بالدون والهون.

نعني بعلماء الخلف هذه العصابة التي نشهد آثارها ونسمع أخبارها، ونحدّدها تحديدًا زمنيًا بمبدإ المائة العاشرة للهجرة من يوم بدأت الشعوب الإسلامية في التفكّك والانهيار، ولم يظهر لهؤلاء العلماء أثر في دفع البلاء، قبل إعضاله، بل كانوا أعوانًا له وكانوا بعض أسبابه، وإنما نحدد هذا التحديد متساهلين

وإن كان المرض ممدود الجذور إلى ما قبل ذلك الحد من القرون، ولكن المرض لم يصل إلى درجة الإعضال إلا في المائة العاشرة وما

* مجلة "المنهل"، ربيع الأول 1372هـ / 1952م، جدة.

ص: 114

بعدها، أما عصرنا فهو آخر الدن، وآخر الدن دردي، كما في المثل. وإن الناظر في تاريخ العلم الديني الإسلامي يرى أن طوره الأول كان علمًا متينًا، وعملًا متينًا، وأن طوره الوسط كان علمًا سمينًا وعملًا هزيلًا، أما طوره الثالث والأخير فلا علم ولا عمل، إنما هو تقليد أعمى ونقل أبكم، وحكاية صمّاء، وجفاف جاف، وجمود جامد، وخلاف لا يثبت به حق، ولا يُنفى به باطل، ولا تتمكن به عقيدة، ولا تثبت عليه عزيمة، ولا تقوى عليه إرادة، ولا تجتمع معه كلمة، ولا ينتج فيه فكر ولا تستيقظ معه عزة، ولا تثور كرامة، ولا تتنبّه رجولة ولا نخوة، لأن الشخصية فيه موءودة، والروح المستقلة معه مفقودة، إنما هو تواكل يسمّونه توكّلًا، وتخاذل يسكنونه بالحوقلة والاسترجاع، وخلاف ممزّق لأوصال الدين يسمّونه رحمة، وإننا لا نعني بالعمل الذي جرى في كلامنا ما يفهمه المتخلفون الفارغون، ولكننا نعني به العمل لإعزاز الدين واعتزاز أهله به، والأمر بالمعروف حتى يتمكّن، والنهي عن المنكر حتى لا يكون له بين المسلمين قرار، وحراسة المجتمع الإسلامي أن يطرقه طارق الاختلال، أو يطوف به طائف الضلال وجمع المسلمين على هداية القرآن.

أذل الطمع أعناق علماء الخلف، وملكت "الوظيفة" عليهم أمرهم، وجرت عليهم الأوقاف المذهبية كل شر، فهي التي مكّنت لنزعة التقليد في نفوسهم، وهي التي قضت على ملكة النبوغ واستقلال الفكر فيهم، وهي التي طبعتهم على هذه الحالة الذميمة وهي معرفة الحق بالرجال، وهي التي ربطتهم حتى في أحكام الدنيا وأوجه الحياة- بالقرن الثاني لا في قوّته وعزّته وصولته بل في حبس ركاب عنده، وتعطيل دوران الفلك العقلي بعده، ولذلك لم يسايروا الزمن ولم يربطوا بين حلقاته فعاشوا بأبدانهم في زمن، وبأذهانهم في زمن، وبين الزمنين أزمنة، تحرّكت وهم ساكنون، ونطقت وهم ساكتون.

لو أن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان مصلحًا اجتماعيًا أو دينيًا- مع ما تهيأ له من القيمة الحربية- لما نقل حالة الأزهر من مذهب واحد إلى مذاهب أربعة، بل كان ينقله من ذلك المذهب الواحد الفرعي إلى أصل الأصول وهو الكتاب والسنّة، ولو فعل لأراح المسلمين من شرور الخلافات المذهبية، ولو وجد جميع ملابساته أعوانًا له على ذلك، لأن مصر كانت بمكان صلاح الدين فيها هي كل شيء وقد سئمت من المذهب الشيعي لغموضه وتناقضه، ولما تكشّف عنه الحاكم من سوءات، ولأن بغداد كانت مشغولة بنفسها عن نفسها، ولأن الشام وعواصمها كانت مغمورة بالحملات الصليبية، ولأن الأندلس والمغرب لم يتغلغل فيهما التعصّب المذهبي كما تغلغل في الشرق، فلو أن صلاح الدين ضرب الضربة القاضية ورجع بالناس إلى المذهب الجامع ثم جاءت انتصاراته المدهشة على الصليبيين، لأصبح بذلك صاحب مذهب متّبع في الإسلام، ولكنه- عفا الله عنه- لم يكن رجل هذا الميدان فلم يزد على أن وسع "التكية" للقعدة، وشيّد الضريح للفكر، وأبعد القافلة عن

ص: 115

صراط السنّة السوي، ومكّن للخلاف، وأنقذ الأزهر من شيعة ليسلّط عليه شيعًا، ويا ليت كاتبه ووزيره القاضي الفاضل المفتون بالتجنيسات والمزاوجات والمطابقات أشار عليه بما يشبه مذهبه في الأدب، وهو أن ينقل الأزهر من الباطنية إلى الظاهرية

نقرأ في سيَر العلماء من السلف أن فلانًا عرض عليه الخليفة أو الأمير منصب القضاء فأبى وألحّ في الإباء، فلجّ الوالي في العرض فلجّ العالم في الإباء حتى ينتهي به إلى غضب الخليفة وما يتبع الغضب من آثار منها الضرب والحبس، أو ينتهي به الحال إلى الفرار والاختفاء، يأتي كل ذلك فرارًا من فتن الولاية ولوازمها كالتردد على أبواب السلاطين، وتعريض سلطان العلم لسلطان الحكم، وفرارًا من المطاعم الخبيثة التي مهما تتسع لها دائرة الإباحة فإنها لا تطهرها من شوب الشبهات، فهل من يدلّنا اليوم على عالم تعرض عليه ولاية القضاء أو ما دونها في المنزلة فيأباها تعففًا وتحوّلًا مسوقًا إلى ذلك بخوف الله وخشيته، أو بترفّع عن الشبهات؟ كلا، انهم لا ينتظرون عرض الولاية عليهم بل يخطبونها ويبذلون فيها الغالي من المهور وهو الدين والشرف والكرامة ويتوسلون إلى نيلها بالدنيء من الوسائل كالتوجّه بالكافر والفاجر، والتشفّع بالمهين والعاهر ودفع الرشى وهي أشنع الجميع، لأنها شهادة مقدمة على أنه سيرتشي ليسدّد الدين

ونقرأ في سيرهم أيضًا أنهم كانوا حين يتولّون الولاية يؤدونها كما أمر الله أن تؤدى، ويوفون بعهد الله فيها من العدل والتحري في الحق، وكانوا لا يقبلون الولاية إلا على اعتقاد أن قبولهم إياها واجب متعيّن شرعًا لإقامة القسط بين الناس وإنصاف الضعفاء من الأقوياء، فهم دائمًا في أداء واجب يؤجرون عليه لا في أداء وظيفة ينتفعون بها.

وارجع إلى وظائف العالم الديني الأخرى غير الولاية، فلتجدنهم فرّطوا فيها وأضاعوها، معتذرين بتأويلات ما جاء بها الدين ولا عذر بها، فهم قد هدموا ركنًا من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، راضين لأنفسهم بأضعف الإيمان، وأنا لا أصدقهم حتى في هذه، إذ لا يخطر الباطل ولا المنكر لهم على بال حتى يغيروه بقلوبهم، وكيف يخطر المنكر ببالهم، وقد أصبح المنكر عندهم معروفًا، والباطل حقًا والشرك توحيدًا والبدعة سنّة، وعميت عليهم السبل واختلطت الحقائق؟

هم لا يذكّرون أمّة محمد، وإذا ذكروها لا يذكرونها بالقرآن كما أمر الله نبيّه، بل يذكرونها بمرغبات ومرهبات لم تأتِ على لسان صاحب الشريعة، ولم تتفق مع مقاصد شريعته، يزهدونها في العمل للآخرة بما شرعوه لها من أعمال بدعية، ويزهدونها في العمل للدنيا بما يفترون على رسول الله من أحاديث في ذم الدنيا وبما أثر عن شواذ الصوفية الهادمين لحقائق الدين ببدع التبتل الدعي، والانقطاع الكاذب عن الدنيا، وبذلك أضاعوا على الأمة

ص: 116

دينها ودنياها وأوصلوها إلى هذه الحالة التي نشاهدها اليوم، وما زال كثير منهم مصرًّا على تذكير الأمة بما ينسيها الله، وعلى علاج حمّاها بالطاعون.

أرأيت لو كان علماء الدين قائمين بواجب التذكير بالقرآن، مؤدّين لأمانة الله، راعين لعهده في أمة واحدة، أكانت الأمة الإسلامية تصل إلى هذه الدركة التي لم تصل إليها أمّة؟ فهي كثيرة العدد تبلغ مئات الملايين، ولكنها غثاء كغثاء السيل.

واجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلّما نشط الضلال وأن يسارع إلى نصرة الحق كلّما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمدّ مدّها، وتبلغ أشدّها، وقبل أن يتعوّدها الناس فترسخ جذورها في النفوس ويعسر اقتلاعها.

وواجبه أن ينغمس في الصفوف مجاهدًا ولا يكون مع الخوالف والقعدة، وأن يفعل ما يفعله الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه، وأن يغشى مجامع الشرور لا ليركبها مع الراكبين بل ليفرّق اجتماعهم عليها.

وواجبه أن يطهّر نفسه قبل ذلك كله من خلق الخضوع للحكّام والأغنياء وتملّقهم طمعًا فيما في أيديهم، فإن العفة هي رأس مال العالم فإذا خسرها فقد خسر كل شيء وخلفها الطمع فأرداه.

إن علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادة من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى آداب خصوصية، منها أنهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخّطوا على الزمان وعلى الناس، ويتوكأون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمان، فإنها لا تصدق في كل زمان وهي:"إن العلم يؤتى ولا يأتي" وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت بابًا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحًا، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك. فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح، ففي هذا الزمن يجب علي وعليك وعلى أفراد هذا الصنف أن نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم

ص: 117

لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين، وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوّة المغيرة على الأوطان الإسلامية، فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود، لأنها خفية المَسَارِب، غرّارة الظواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضيف فلا تلبث أن تطرد رب الدار

فقد علماء الدين مركزهم يوم أضاعوا الفضائل التي هي سلاح العالم الديني، وأمهاتها الشجاعة والقناعة والعفة والصبر، وإن تجرّدهم من هذه الفضائل ليرجع في مبدإ أمره إلى خدعة من أمراء السوء المتسلطين حينما ثقلت عليهم وطأة العلماء وقيامهم بالواجب الديني في الأمر والنهي، وعلموا أن العامة تبع للعلماء، وأن سلطان العلماء أقوى من سلطانهم وأن كلمة مؤثرة من عالم مخلص تقع في مستقرّ التصديق من العامة قد تأتي على السلطان الحاكم المتسلّط، فسوّلت لهم أنفسهم أن يحدّوا من هذا التأثير الواسع القوي، فأخذوا يروّضون علماء الدين على المهانة، وألصقوا بهم الحاجة إلى ما في أيديهم من متاع الدنيا، ليجعلوا من ذلك مقادة يقودونهم بها إلى ما يهوون، ثم ربّوهم على الطمع والتطلعّ إلى الاستزادة ومدّ الأعين إلى زهرة الحياة الدنيا، فزلّوا ثم ضلّوا ثم ذلّوا، وتعاقبت الأجيال وتقلبت الأحوال، فإذا العالم الديني تابع لا متبوع، ومقود بشهواته لا قائد، يراد على العظائم فيأتيها طائعًا، يتحيّل على دين الله إرضاءً للمخلوق، ويحلّل ما حرّم الله من دماء وأموال وأعراض وأبشار، يشتري بذلك جاهًا زائلًا، وحائلًا حائلًا، ودراهم معدودة.

ومن الكيد الكبار الذي رمى به الأمراء المستبدّون هؤلاء العلماء الضعفاء في العصور الأخيرة أنهم يعفونهم من الجندية التي هي حلية الرجال، وأن في قبول العلماء لهذا الإعفاء وسعيهم له لشهادة يسجّلونها على أنفسهم بفقد الرجولة، وقد استطابوا هذا الإعفاء وأصبحوا يعدّونه تشريفًا لهم وتنويهًا بمكانتهم ومعجزة خصّوا بها، ودليلًا تقيمه الحكومات الإسلامية على احترامها للعلماء

فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين، ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلًا عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبّب له أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد. والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعدون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين.

أيها العلماء:

هذا قليل من مساوينا، فلا تظنّوا أني متجنٍّ أو متزيِّد، كونوا منصفين للدين من أنفسكم، إني أحاكمكم إلى ضمائركم حين تستييقظ فيها معاني الإرث النبوي والاستخلاف المحمدي. أليس من الحق أن هذه المساوئ وأمثالها معها مجتمعة فينا؟ ألسنا نأمر الناس

ص: 118

بالجهاد ثم نكون مع الخوالف؟ ونأمرهم ببذل المال في سبيل البر ثم نقبض أيدينا؟ كأن الجهاد بالنفس والمال- وهو ثمن الجنة- لم يكتب علينا.

إنني- يا قوم- أعتقد أن أقسى عقوبة عاقبنا بها الله على خذلنا لدينه هي أنه جرّد كلامنا من القبول والتأثير، فأصبح كلامنا في اسماع الجيل القديم مستثقلًا وفي أسماع الجيل الجديد مسترذلًا، ومن ظن خلاف هذا فهو غر أو مغرور أو هما معًا.

أصبحنا في أمتنا غرباء تزدرينا العيون، وتتقاذفنا الظنون، لأننا أصبحنا كالدراهم الزيوف، فيها من الدراهم استدارتها ونقوشها، وليس فيها جوهرها ومعدنها.

ص: 119