الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة الأستاذ الورتلاني
في الدستور الإسلامي المنشود *
ــ
الأستاذ الفضيل الورتلاني رجل وهبه الله أوفر الحظوظ من قوة العقل وبراعة الذهن، وصفاء القريحة، وسداد الفهم، وعمق التأمّل، ودقة الملاحظة، ومتانة العقيدة، وطهارة الضمير، وبُعد النظر، ونصاعة البيان وجراءة اللسان، ثم وفّقه إلى البحث الممحص في حقائق الإسلام وتاريخه، ثم في دقائق شؤون المسلمين ثم في الفروق بين تلك الحقائق وبين واقع المسلمين، ثم يسّره للعمل في هذا الميدان، فخطب وكتب في هذه المواضيع المتشعّبة الأطراف، وانتهى به الرأي إلى غايات أصبحت عنده جزءًا من عقيدة الحق، ثم طلبت تلك المواهب كمالاتها فيه بالاختلاط بجميع الطوائف من المسلمين وغيرهم، فهو مع غير المسلمين حرب على ظلمهم وظلامهم، ودحض لدعاويهم وأوهامهم، ونقض لحججهم وتوهين، وهو مع المسلمين غير ذلك: يشجّع عاملهم، ويحرّك خاملهم، وينصح ملوكهم وأمراءهم ورؤساءهم وقادة الرأي والسياسة والاقتصاد فيهم، يعرض على كل واحد منهم الرأي صريحًا غير مجمجم، واضحًا غير مبهم، جريئًا غير متردّد، خالصًا غير مشوب، وله مع كل طبقة من طبقات المسلمين موقف وأسلوب، ومن عجيب أمره أنه يتّسع للعامي بما يناسب طبقته، ثم يتدرّج مع الطبقات واحدة واحدة إلى أكبرها شأنًا أو أرقاها علمًا، وأعلاها درجة في أوضاع المجتمع، فتجده مع كل طبقة وكأنه لا يحسن إلا سياستها، ولا يجيد إلا أسلوبها، فإذا وصلت معه إلى الطبقات العليا تجلّت لك براعته في الأسلوب الخاص بها بيانًا وإقناعًا ومتانة حجة ولطف مدخل إلى النفوس، وتستند تلك القوة فيه إلى ملكات ثانوية من صلابة لا تلين، وذاكرة لا تخون وعزة لا تهون؛ وقد يشتدّ لموجب، وقد يغلو في رأيه وقد يتعصّب فتخال ذلك منه شدة وغلوًا وتعصّبًا مما يعرف الناس، فإذا بلوته واستقرأت سوابق الرأي ولواحقه، واستبرأت علله وغاياته حكمت بأنها
* «البصائر» ، العدد 282، السنة السابعة من السلسلة الثانية، 27 أوت 1954.
شدة المؤمن الموقن وغلو الجاد المتقصي، وتعصّب الدارس الذي يقطع أقصى مراحل التفكير وأقساها، حتى إذا خلصت له الفكرة من شوائب الشك قذف بها في الناس وحامى دونها وتعصّب لها، ليكون التعصّب نصيرًا وشاهدًا عليها، فالتعصّب للفكرة عند هذا الصنف من المفكرين ليس تعصّبًا إلا في مظهره، أما حقيقته فهو توكيد معنوي للفكرة وذود عنها وتمكين لها، وما أكثر جنايات الأسماء على الحقائق.
ومعرفة الأستاذ الورتلاني لا تتم إلا بمعرفة نشأته وتربيته الأولى، فقد نشأ على مقربة من الفطرة السليمة وتربّى تربية دينية يتعاهدها المربي من والدين ومعلّمين بالمحاسبة على الصغيرة والكبيرة والمناقشة في الجليلة والحقيرة، فأيفع وشبّ مرتاض الطبع على المحاسبة والمناقشة والاهتمام والجد مع توهّج الإحساس وإشراق الروح وسموّ الغاية، يعاون ذلك كله ذكاء متوقّد وبديهة مطاوعة في مجالات القول ولسان كالسيف المأثور إذا لاقى الضريبة صمم، وما زالت تلوح على تفكيره ورأيه آثار من تلك التربية يعرفها من يعرفها وينكرها من يجهلها.
والأستاذ الورتلاني إنساني النزعة ثم إسلاميها، ثم عربيها، ثم جزائريها، تتزاوج هذه النزعات في نفسه من غير أن تتغاير ولا أن تتضارر، وهو يحسن التأليف بينها ويلبس كل واحدة لبوسها ويبرزها في زمانها ومكانها فلا تتناقض ولا تتعاند، ولكن أبينها سمة هي النزعة الإسلامية، فهي التي تستبدّ بمعظم تفكيره ثم تأتي النزعة العربية، فله في كل قضية من قضايا المسلمين رأي، وله في كل حدث من أحداث العرب حكم، وله في كل جو من أجواء زمنه متنفّس، ولكن آفاته التي أضاعت على الجمهور القارئ الاستفادة من آرائه وأحكامه أنه لم يدوّنها خصوصًا في هذه الحقبة التي اختلّ فيها استقراره وامتحن فيها بما يمتحن به الأحرار، وقد وقَفْتُ بحكم الصلة الطبيعية الوثيقة بيني وبينه على عدة آراء له مدوّنة في قضايا العرب الخاصة وقضايا المسلمين العامة أصاب في معظمها وقرطس وربط المعلولات بعللها وكشف عن خبايا لا يتأتى الكشف عنها إلا للأقل من القليل من رجالنا، فألححت عليه أن ينشرها على الناس، مع توسّع في بعضها بالشرح والتحليل، ما دام للتاريخ عند كل مفكّر ذمام، وقد وعد بنشر ما تسمح الظروف العامة بنشره ويسمح له وقته الخاص بإعادة النظر فيه وتقويم كل أسلوبه، أما مذكراته في الأحداث العربية فهو يتربّص بها ساحل الأمان واعتدال الزمان
…
...
من أمتع ما كتب الأستاذ الورتلاني رسالة وجّهها إلى حكومتي باكستان وأندونيسيا يحثهما على إقامة الدستور الإسلامي ويشرح لهما أصوله واضطلاعه بالحياة السعيدة لتكونا
قدوة لغيرهما فيه. ويبيّن لهما ما يجب عليهما من حقوق للشعوب الإسلامية الضعيفة أو المستعمرة، وكان السبب المباشر لكتابة هذه الرسالة أن حزب الرابطة الإسلامية الذي سعى في تكوين باكستان وفصلها عن الهند، أرسل وفدًا من أعضائه إلى الأقطار الإسلامية لأوائل العهد بنشأة باكستان يستطلع آراء أهل الرأي فيما يجب أن تقوم عليه هذه الدولة الناشئة، وفيما يحسن أن يكون بينها وبين الحكومات الإسلامية من الصلات وفيما يجب أن تقدّمه لتلك الحكومات أو تتقاضاه منها من العون، واتصل الوفد بالأستاذ الورتلاني في إحدى مدن لبنان فأفضى إليه برأيه الكامل في تلك النقط فطلب منه الوفد أن يكتب خلاصة تلك الآراء التي سمعها وآمن بها ليقدموها إلى حكومتهم بعد ترجمتها إلى الانكليزية أو الأوردية ففعل، فجاءت هذه الرسالة المفيدة التي نقرضها اليوم، وقد قدم الأستاذ نسخة منها في ذلك الحين إلى حكومة أندونيسيا بواسطة أحد سفرائها، لاشتراكها مع حكومة باكستان في الافتقار إلى تلك الآراء الصائبة وفي جدة النشأة وفي اتساع الرقعة وفي النزعة الإسلامية العميقة وفي الغنى بالعدد والموارد الطبيعية، وإنهما أقرب الدول الإسلامية إلى الاتحاد الذي يعمل له العاملون المخلصون وهما- مع ذلك كله- تظللان ثلث المسلمين المنتشرين في العالم، وإنها تميّزات تجعلهما محط أنظار المفكّرين الإسلاميين كما جعلتهما هوى أفئدة الطامعين المادينين.
…
حثّ الأستاذ الورتلاني الحكومتين في آخر الرسالة على لزوم الاتصال الوثيق بالهيئات الإسلامية الحرة العاملة لإحياء الروح الإسلامية وإثارة النخوة الإسلامية وبيان الحقائق الإسلامية العليا بالتربية والتعليم وبعث المجد الإسلامي من جديد، وسمّى الموجود الصالح من تلك الهيئات، ومنها جمعية العلماء الجزائريين وجمعية الإخوان المسلمين، وأن ما ذكره الأستاذ في هذا الصدد هو محض النصيحة للحكومتين، فإن استعانتهما بالهيئات المذكورة في تحقيق المعاني الإسلامية تجلب لهما الخير وتخفّف عنهما العناء وتهديهما للتي هي أقوم، لأن هذه الجمعيات تعمل في خدمة الإسلام بنية صادقة وقصد صالح، وهي على بيّنة من أمرها، وعلى بصيرة في دعوتها بعيدة عن تلوّنات السياسة لا تدفعها رغبة في جاه أو منصب ولا تثنيها رهبة من ظالم أو قوي لأن مبنى أمرها على أن القوة لله، والله أكبر. ومن مزايا هذه الهيئات أنها غربلت المعاني الإسلامية ونخلتها علمًا وعملًا، فهي بمثابة المواد المحضرة لمن يريد الخير من الحكومات الإسلامية، وهي نعم العون لها إذا استعانت بها أو استرشدتها.
ولم يوصِ الأستاذ تينك الحكومتين الناشئتين بالاستعانة بالحكومات الإسلامية الموجودة قبلهما، وهو مصيب شاكلة الحقيقة في ذلك، فإن معظم تلك الحكومات إسلامي في اسمه
ومظهره فقط، أما في حقيقتها فهي متنكرة للإسلام مجاهرة بمنابذته عاملة على إزهاق روحه في مدارسها وعلى إشاعة الإلحاد بجميع الوسائل، وإني لأعجب لهذه الحكومات المتنكّرة للإسلام ولتناقض أعمالها، فبينما هي تجهد في حرب الشيوعية وتمعن في عداوتها وترصد للقضاء عليها المقادير الوفيرة من أموال المسلمين، إذا بها تقف موقف العداوة والخصومة من أكبر عدو للشيوعية وهو الإسلام. ولو أن هذه الحكومات عمدت إلى تقوية المعاني الإسلامية الصحيحة في النفوس بواسطة المدارس والدعاة والوعّاظ والجرائد لسدّت جميع المنافذ على الشيوعية ولضمنت لنفسها النتيجة الصالحة من أقرب الطرق، ولوفّرت جهدًا ومالًا ووقتًا هي في حاجة إليها، ولو أن هذه الحكومات فهمت حقيقة الإسلام وحقيقة الشيوعية لآمنت بأن القلوب العامرة بمعاني الإسلام لا تجد الشيوعية فيها مكانًا، وما هو إلا أن يدخل الإيمان الكامل بالله فتخرج الشيوعية
…
يدخل الإسلام بعدله وإحسانه ورحمته واطمئنانه فتخرج الخيالات والأماني الباطلة والاضطرابات النفسية مذمومة مدحورة، ولو علمت حكوماتنا الإسلامية ذلك لعلمت أن الشيوعية لا تدفع بسد منافذ الحدود، وإنما تدفع بسد منافذ النفوس. ولكن من مصائبنا وبلايانا أن وراء كل حكومة من حكوماتنا شيطانًا من الأجانب يغري ويوسوس، وإرادة منهم تحرّك وتسكن، ولسانًا يملي ويلقّن، ويدًا تقيم وتقعد، وخيالًا يرغب ويرهب، ونفوذًا يرجى ويخاف، وإن افتتان حكّامنا بالكراسي، صيّر الجاري منهم كالراسي، وإننا سمحنا للأجنبي بالوقوف في الفناء فاقتحم الدار ثم أخرجنا منها
…
وضربنا لهم الأمثال بالواقع الملموس فلم يعقلوا
…
قلنا لهم: هذه حكومة الهند لم تبنِ أمرها الجديد على التنكّر للبرهمية ولا على التنصّل من الدين، بل بنت دولة تجمع مئات الملايين على دين أساسه الوثنية وعبادة البقر، وقد أصبحت- مع هذا- دولة مرهوبة السطوة عزيزة الجانب، تخطب ودّها أعظم دول العالم بأسًا وعلمًا، فما بالكم لا تبنون دولكم الضعيفة على دين التوحيد وعبادة الواحد وعلى تاريخ مشرق كفلق الصبح مملوء بالمآثر والمفاخر وعلى سلف لهم في كل صالحة أثر واضح ولهم إلى كل موقف عزّة خطى حثيثة، وعلى قرآن وصل بين السماء والأرض، وآخى بين الروح والمادة، وحرّر الفكر والعقل، وحلّ المشكلات الاجتماعية بالعدل والإحسان، أم أنتم لا تعقلون؟
وقلنا لهم: هؤلاء اليهود الذين ظهروا عليكم وقهرت قلتهم كثرتكم وأخرجوكم من دياركم صاغرين، بنوا دولة في أرضكم على الدين، وأذكوا الحماس لها باسم الدين، ولفتوا العالم إليها باسم الدين، وزعموا أنها حق لهم بشواهد الدين، وسمّوها باسم ديني تبجحًا وافتخارًا برغم أنف العالم الملحد. فنسبوها إلى إسرائيل بذرة نُجارِهِم، ومعقد فخارهم، فويحكم
…
إن كلمة "دولة اسرائيل" هي كلمة اليهود وان كلمتكم العبقرية التي تساويها- لو
وجدت منكم ناطقًا- هي "دولة محمد" وأنه لا نسبة بينهما في عين ولا أثر، ولكن أصحاب تلك الكلمة قالوها عقيدة وتحديًا وإصرارًا فانتصروا، وسكتم أنتم عن كلمتكم جبنًا وتنكّرًا وعقوقًا فانكسرتم وتعالوا نتكاشف
…
أيستطيع أحدكم أن يقولها؟ لا
…
وان أكثركم ليخجل من ذكرها، ويتأفّف من سماعها، ولولا شعوبكم المرزوءة فيكم المغلوبة على أمرها بكم، ولولا بقية خشية منها فيكم لأنها سلعة التجارة ومادة المساومة فإذا لم تكن لم تكونوا. لولا ذلك لخشينا أن تطمسوا تاريخ الإسلام ومعالمه الباقية طمسًا حتى لا يذكره ذاكر ولا ينظر إليها ناظر.
…
وفي العالم الإسلامي اليوم رجال أولو رأي وإيمان وعقيدة، وفيه هيئات منظمة تلتقي على مبادئه الرشيدة، وترمي إلى غاياته السديدة، ولكن أولئك الرجال وتلك الهيئات مشتتة ليس لها مساك، وهي شاعرة بلزوم التلاقي والتعارف والتعاون، عاملة لها، لتكون أقوى على حمل الأمانة، وأسرع في الوصول إلى الغاية، ولو تيسّرت لها وسائل التلاقي والتعاون لكانت أعمالها في خدمة الإسلام أوسع وأنفع، ولا يتيسّر لها ذلك إلا إذا أسندتها حكومة من هذه الحكومات المنسوبة إلى الإسلام وآوتها ونصرتها فنفعتها وانتفعت بها، ثم عاد ذلك النفع على المسلمين حكومات وشعوبًا، وان من بلايانا أن الحكومات الاستعمارية التي تملك أمر جمهرة المسلمين تنصب العواثير في طريق هذا التلاقي، وأن الحكومات الإسلامية تقلّد الحكومات الأجنبية في هذا المذهب فتتنكّر لهؤلاء الرجال وهذه الهيئات العاملة لخير المسلمين، وتطاردهم، وتعطّل وسائلهم، ولو أنها فتحت صدرها واحتضنت العاملين وأعمالهم لكان ذلك مزيدًا في قوّتها وعزّتها، ولو أن هذه الحكومات اجتمعن تحت الكلمة الجامعة "دولة محمد" لكانت بذلك أرهب لعدوهنّ وأجلب لعزتهنّ وأدوم لسلطانهن.
توسّع الأستاذ الورتلاني في هذه النقطة من رسالته، وضرب لها الأمثال وأقام الشواهد من الواقع ونصب الميزان بين الدستور الإسلامي والدساتير الوضعية الرائجة، ووضع اليد على الرجال الذين يعوّل عليهم في تنظيم الدستور الإسلامي الكافل لمصالح البشر كلهم لا المسلمين وحدهم، ولو أن حكومة باكستان وحكومة أندونيسيا عملتا بهذه الجزئية التي شرحتها الرسالة لكوّنتا أعوانًا على تثبيت دعائمهما، وعلماء استدلاليين يهدونها سواء السبيل في نظم الدستور الإسلامي الذي هو أسمى مطلب للشعب الباكستاني العريق في إسلامه، والشعب الأندونيسي المخلص لإسلامه المعتزّ به، ولكنهما غفلتا عن هذه النصيحة، وتركتا القوانين الكافرة تتحكّم في الأمة المسلمة، فطغت عليهما الأمواج ولفتهما الأعاصير، بعد خمس سنوات من هذا النذير فتلك حكومة باكستان تصاممت حتى أسمعتها الحوادث،
فهبّت تداوي الحمى بالطاعون وتحاول أن تخرس ألسنة الحق، وأن تقتل أعلى العلماء المسلمين صيتًا، وأنداهم صوتًا، أبا الأعلى المودودي. وحكومة أندونيسيا تسبح إلى الآن في بحر لجي من الأحزاب والنزعات المناهضة للإسلام، ونسأل الله أن يرزقهما توفيقًا إلى سبل النجاة، وأن يبعد عنهما شياطين الشر التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وأن يفتح آذانهما لمثل النصائح التي تضمنتها هذه الرسالة.
هذه كلمتنا في الرسالة وصاحبها، فإذا كانا غنيين عنها فإننا قلناها للحق الذي هو فوقنا جميعًا، ويوم تطبع الرسالة نزفّها إلى القرّاء بقلادة وقرط، وجرة ومِرْط، وجواب للشرط.