الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصيحة وتحذير *
رأيت في القاهرة عددًا كثيرًا من شبّان الجزائر، معظمهم وصل إليها في هذه السنة والتي قبلها بوسائل كلها أتعاب ومشاق، والتحقوا كلهم بالقسم العام في الأزهر، وهذا القسم هو الذي يحشر فيه كل مبتدئ كما يدل عليه اسمه، وزارني كثير من هؤلاء الطلبة الجزائريين يطلبون الإعانة المالية مني أو من الأزهر بوساطتي، وسألتهم وتقصيت، فسمعت من أقوالهم، وعلمت من مظاهرهم ما يحزن ويؤسف، وجر شيء إلي شيء، فعلمت بالقرائن القريبة أنهم منحدرون إلى هاوية لا قرار لها من البؤس لا يحصل معها علم، ولا يبقى عليها خلق، ولا تشرف منسوبًا ولا منسوبًا إليه. فحملتني الشفقة عليهم وعلى سمعة الجزائر على أن أكتب هذه الكلمة محذّرًا من لم يقع، لكيلا يقع، فعسى أن تكون تبصرة لمن قرأها أو بلغته ممن قرأها في الجزائر، وعسى أن تكون موعظة للعابثين بهؤلاء الضحايا هنا في مصر، فبعض الناس يكونون عونًا للمصيبة على المصاب، وبعض الناس يكونون لبعض {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِئإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} .
كنت أسألهم واحدًا واحدًا: لماذا قدمت من الجزائر؟ فيجيبونني واحدًا واحدًا: جئت لطلب العلم، فأسألهم: وهل استرشدتم برشيد عارف بالأحوال؟ فيقولون: لا. فأعلم أنهم مغرورون بالأوهام الشائعة التي تصوّر أن العلم في مصر مبذول، ولا تصوّر أن الخبز فيها غير مبذول، وأعلم أن لهم قصدًا حسنًا، ولكن حسن القصد لا يشفع لصاحبه ولا يكون عذرًا في المخاطرات التي لا تستند إلى بصيرة.
وطلب العلم شيء محمود بل واجب، والرحلة إليه شيء مستحسن، وسنة قديمة سنّها أوائلنا وكانت عندهم شرطًا في كمال العالم، وشهادة خاصة يعطيها المترجمون للرحّالة حين
* «البصائر» ، العدد 240، السنة السادسة من السلسلة الثانية، 11 سبتمبر 1953.
يقولون في ترجمته: رحل ولقي الرجال. ولكن الرحلة في القديم كان لها غرض صحيح وهو استكمال العلم لا بدايته، فبعد أن يحصل الأندلسي- مثلًا- كل ما هو موجود في بلده من أنواع، ويستوعب الأخذ عن جميع علمائه تسمو نفسه إلى بقية من العلم غير موجودة، أو إلى التوسّع في الموجود منها فيرحل لذلك، ثم يرجع إلى وطنه بالمقلد، والعلم الجديد.
أما أبناء الجزائر الذين نكتب هذه الكلمة من أجلهم فإنهم يرحلون من الجزائر ويقطعون المراحل مشيًا على الأقدام في بعض الحالات عجزًا عن ثمن الركوب، كل ذلك ليدرسوا (الأجرومية) في الأزهر، ثم إذا وصلوا إلى مصر وضاقت بهم سبل المعيشة انقطعوا حتى عن الاجرومية وطلبوا العمل فلم يجدوه، لأن أهل الوطن أنفسهم يشكون البطالة، أو طلبهم العمل فلم يجدهم، لأنهم لا يحسنون عملًا فنيًا.
لا نصف صنيع هؤلاء بأنفسهم إلا بأنه غفلة واغترار وجهل بحقائق الأشياء، والجاهل يجب عليه أن يتعلم طريق العلم ووسائله قبل العلم، وأيسر وسيلة يستطيعها كل أحد هي الاستشارة، فما لهم لا يستشيرون؟ ولو أنهم استشاروا النصحاء العارفين لصدوهم عن هذا النوع من الهجرة، ولنصحوهم بتعلّم المبادئ في الجزائر أو في تونس وهي تكاد تكون قطعة من وطنهم، فإذا حصلوا كل ما في جامع الزيتونة كانت رحلة الراحل منهم إلى مصر أو غيرها معقولة مقبولة، وكانت الإعانة عليها واجبة وذات قيمة.
الواجب على أبناء الجزائر أن يتبصّروا في هذه القضية وأن يتدبّروا عواقبها، وأن يعرفوا - قبل كل شيء- أن سماء مصر لا تمطر الذهب والفضة ولا الورق النقدي، وأن مصر قامت بما فوق الواجب مع أبناء الأقطار العربية والإسلامية، وتساهلت حتى أدّاها التساهل إلى الفوضى، وأعانت بالكثير، ولكن فوضى الهجرة صيّره قليلًا غير مفيد، والإعانة التي لا تفيد هي خسارة مرتين.
إن قطع آلاف الأميال، وركوب المخاطر والأهوال، في سبيل الدراسة الابتدائية أمر لا يفعله عاقل ولا يجيزه، فهو سفه في الرأي وتبديد للقوة في غير منفعة، وهو سبّة للوطن الذي هاجر منه الطالب، لأنه شهادة على أنه لا علم فيه ولا تعليم، فليتدبّر هذا أبناؤنا المجازفون، فإذا زاد على ذلك تقدّم السن كان من أفحش الخطإ، فقد لاحظنا في جميع من رأينا أنهم جاوزوا العشرين من أعمارهم وفيهم ابن الثلاثين. وأمثال هؤلاء فاتهم وقت التحصيل المنظّم، ومتى يحصلون وهم في هذه السن؟ وكيف يحصلون وهم على هذه الحالة من البؤس؟ وكيف يطمئن الذهن للتحصيل، إذا كان العقل والجنب والبطن كلها غير مطمئنة ولا مستقرّة؟
لعلّ أبناءنا يحتجون اليوم بتلك الفلتات التي يسمعون بها من أن فلانًا هاجر إلى الأزهر وهو لا يملك فتيلًا ثم حصل وأصبح عالمًا، وفاتهم أن تلك فلتات كما سمّيناها فهي شذوذ
فردي جاء من قوة الصبر والاحتمال أو من أسباب أخرى تبنى عليها الشذوذات ولكنها لا تصبح قاعدة عامّة في جميع الناس، ونحن الذين سبقنا هذا الجيل نعرف أفرادًا من هؤلاء، ونعرف أنهم لم يحصلوا التحصيل الحقيقي الذي ينفعون به قومهم إذا رجعوا إليهم، وإنما حصلوا النسبة الأزهرية، وهي في كثير من أصحابها تغرّ ولا تسرّ.
…
لا ينفع الجزائر ويشرّفها، ولا يرفع مصر ويعرفها، إلا اثنان:
يافع عمره أربعة عشر عامًا يحمل الشهادة الابتدائية من مدارس جمعية العلماء أو الشهادة الابتدائية الفرنسية مع حظ في العربية يكون في قوّتها، ومن ورائه من ينفق عليه انفاقًا منظّمًا، فهذا تؤهله سنّه ومعارفه الضرورية للدخول في المدارس الثانوية المصرية، فيمرّ على مراحل التعليم الثانوي إلى البكالوريا العربية، ثم إلى التعليم الجامعي إلى آخر شهاداته، كما تؤهله شهادته العربية لدخول الأزهر فيبني تعلّمه حجرًا عن حجر إلى تمام البناء، بشرط أن يكون عليه إشراف حكيم ورقابة شديدة تحفظ عليه نظام دروسه ونظام حياته وأخلاقه.
وشاب في العشرين أو فوقها بقليل يحمل شهادة التحصيل من جامع الزيتونة أو شهادة المعهد الباديسي في منهاجه الجديد، فهذا تؤهله سنّه ومعارفه الثانوية لدخول عدة معاهد كلها مفيدة، ومنها كلية أصول الدين التابعة للأزهر وكلية دار العلوم وكلية الآداب التابعتان للجامعة المصرية، ويكون من ورائه من ينفق عليه إنفاقًا منظّمًا ومن يشرف عليه كذلك.
هذان الصنفان هما اللذان ينفعان الجزائر، ويشرّفان سمعة مصر، وتكون إعانتهما وضعًا للشيء في محله.
أما أن يفارق الشاب الجزائري وطنه، وسنّه مرتفعة، وعقله فارغ من العلم وجيبه فارغ من المال، فهذه الحالة هي التي نحذر منها وننصح من لم يقع أن لا يقع فيها، وحسبه أن يتعلّم في وطنه ما يرفع عنه الجهل أو ما ينفع به الناس نفعًا محدودًا وهو لا يعدم ذلك في وطنه.
في الجزائر جمعية العلماء وهي تجاهد في هذا السبيل، فتفتح المدارس وتهيّئ البعوث وتشرف عليها، وهي متخصصة في الاطّلاع على وسائل العلم، فما لهؤلاء القوم لا يستشيرونها؟ وما لهم حين يستشيرونها لا يعملون بنصائحها وتوجيهاتها؟
ألا ان جمعية العلماء لا تقرّ هذه الفوضى التي لا تعود على الجزائر إلا بسوء الأحدوثة، وقد بذلت جهودًا في تنظيم بعثاتها والجري بها على الشروط الواجبة، ومع ذلك فما زالت
أمامها أشواط دون الوصول إلى الغاية في كمال النظام، وهي لا تستطيع أن تعين بشيء من جاهها أو من مالها إلا من أعانها على نفسه باستيفاء الشروط والتزام النظام وقبول النصيحة والتوجيه، أما من خالف شيئًا من ذلك، أو انقاد لدعاوى المغررين فلا سبيل له عليها، ولا حجة بينه وبينها.
يا أبناءنا: إن جمعية العلماء تريد لكم العلم، وقد عملت ما استطاعت، ولكنها لا ترضى لكم الفوضى والتعب الفارغ والسعي الضائع، ولا ترضى- أبدًا- لابن الجزائر أن يهاجر إلى مصر في سبيل العلم من غير استعداد علمي يؤهل، واستعداد مالي يسهل.
إن الرحلة في طلب العلم كالرحلة لأداء الحج، كلتاهما مشروطة بالاستطاعة، وإن شرط الاستطاعة في طلب العلم لأوكد، لأن مناسك الحج تقضى في أيام ومناسك العلم لا تقضى إلا في أعوام.
هذه كلمة محذرة، فعلى قرّائها أن يبلغوها حتى يكون الغائب كالشاهد.