الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من هو المودودي
؟ *
هو الأستاذ العلّامة أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان؛ أصفه وصف العارف الذي قرأ وشاهد، فهو رجل لم ترَ عيناي كثيرًا من مثله، بل لم أرَ مثله في خصائص امتاز بها عن علماء الإسلام في هذا العصر، منها الصلابة في الحق، والصبر على البلاء في سبيله، والعزُوف عن مجاراة الحاكمين فضلًا عن تملّقهم، وهو أفقه من رأيته أو سمعت به في باكستان والهند في حقائق الإسلام تشريعًا وتاريخًا، واسع الاطّلاع، دقيق الفهم، بارع الذهن، نيّر الفكر، كبير العقل، مشرق الروح على تجهّم في ظاهره، سديد التصرّف في المقارنة والموازنة والاستنباط، مستقلٌّ في الاستدلال إلى حد، يمضي من الشريعة إلى مقاصدها العامة، دون احتفال بالجزئيات إلا بمقدار ما يدخل من هذه إلى تلك، عميق الغوص في استخراج النكت، متين العقيدة، تظهر آثارها على أعماله ومواقفه قوة وثباتًا، كما تظهر آثار الغذاء الصالح على البدن فراهةً ونعمة، فلسفي النزعة العلمية لا العقلية، يذوده افتتانه بالنص والواقع عن أن يكون فيلسوفًا عقليًا، ولولا ذلك لكانه، فهو يؤمن بالنص، ويؤمن بعمل العقل في النص، ثم لا يزيد إلا بمقدار، جمهوري العشرة ولكنه خصوصي الزعامة، يرى أن لها- لا للزعيم- حقوقًا تحفظ النظام، وتوزّع الأعمال على الكفاءات، وتقف بالمتطفلين عند حد، فهمت هذا من مجموع أحواله ومن ملابستي لبعض أنصاره، فصورته بهذه العبارات، وأنا أرى أن الفرق بين الزعامة والزعيم شيء دقيق، ودقته هي التي غرّت الزعماء بأنفسهم، وغرّت الأتباع بهم.
وهو هيوبة للتحدّث بالعربية، مع دقة فهمه للقرآن والحديث وكتب الدين، واقتداره على تطبيقها، ويرجع سبب ضعفه في الكلام بالعربية إلى قلة استعماله لها في الحديث والكتابة، فهو مع كثرة مؤلفاته التي تبلغ العشرات لم يكتب كتابًا واحدًا بالعربية وكل
* نُشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر» ، 5 يونيو سنة 1953.
مؤلفاته بالأوردية والإنكليزية، وكلها في المواضيع الإسلامية الخطيرة، التي تقتضيها النهضة والتجديد، ويكثر الخوض فيها في هذا العصر، ويتناولها الغربيون بالنقد والتشويه، وللأستاذ مشاركة قوية في معارف العصر واطّلاع على حضارته، وهو يزنها بالميزان القسط، فلا إنكار ولا اندفاع، بل إنه يقف منها موقف الحذر والانتباه، وقد ترجم أحد أعضاء الجماعة طائفةً من كتبه إلى العربية فمكّن بذلك أبناء العرب من الاطّلاع على أفكاره، وهذا العضو هو صديقنا الوفي الشيخ مسعود عالم الندوي، وقد أهدى لي جميعها منذ سنوات وأنا في الجزائر، فلمحتُ فكرًا شفّافًا، ورأيًا حكيمًا، وفكرًا عميقًا، وتساوقًا بين الألفاظ ومعانيها، لا ينم على أن هناك انتقالًا من لغة إلى لغة، وتبيّنت السرّ في ذلك، وهو أن الموضوعات إسلامية، واللغتان إسلاميتان، والمؤلف والمترجم سليلا فكرة، فعملت الروح عملها العجيب في ذلك، وصديقنا مسعود- لطف الله به- ثاني اثنين في القارة الهندية يحسنان الكتابة بالعربية كأبنائها، والآخر هو الأستاذ أبو الحسن الندوي.
والعلّامة المودودي وثيق الصلة بجمعية العلماء الجزائريين، من طريق جريدة «البصائر» ، متتبع لحركتها، معجب بها وبأعمالها، قويّ الشعور بقرب المسافة بين مبادئها ومبادئه. وهو يحمل بين جنبيه قلبًا عامرًا بالاهتمام بأحوال المسلمين، والأسى لحاضرهم، والإعجاب بماضيهم، والتنويه بالنظام الحكومي في الإسلام، يراه أعدلَ نظام إنساني، وأضبط نظام للنزوات البشرية، وأحفظ نظام للمصالح المتشابكة، ومن هنا نشأت فكرته في الحكومة الإسلامية، وقد سرّ كثيرًا بالمعاني التي تنطوي عليها رحلتي، لأن تقارب المسلمين بالتعارف يُفضي بهم إلى التعاون على إصلاح شؤونهم، وهو ينعى عليّ شيئًا واحدًا وهو أنني لم أشتغل بتأليف كتب على أحوال المسلمين على النمط الذي سمعه من كلامي، فأجبته بما لم يقتنع به لأنه يعتقد أن هذه الأحاديث العادية التي سمعها مني كتب لا ينقصها إلا التدوين، ورأيه في التأليف أن تكون الكتب صغيرة الحجم حتى تسهل قراءتها وتصريفها، وهذا هو المسلك الذي سلكه في كتبه فكلها كراريس مستقلّة بموضوعات.
…
لقيي جماعة من أصحابه لأوّل نزولي بكراتشي، واتصلوا بي اتصالَ الأخوة والمشرب، فوجدتهم يعرفون عن جمعية العلماء ما يمكن أن يستفاد من جريدة «البصائر» ، وسمع الأستاذ المودودي بوصولي وهو بمقامه من مدينة لاهور عاصمة البنجاب، فانتظر زيارتي لها فلما عزمت على الرحلة إلى الداخل وكان نظام الرحلة يقتضي أن أسافر إلى كشمير أولًا وأن لا أنزل في لاهور، كتبت إليه أن يلقاني بمحطة لاهور، حرصًا مني على التعارف الشخصي،
قبل زيارتي للاهور، ولكن الرسالة لم تصله في حينها لأن الحكومة تعطل رسائله للمراقبة، لما بينها وبينه من الانحراف الذي سنتعرّض له، ولما بلغته الرسالة أسف وأرسل من ورائي رسولًا إلى راولبيندي التي هي منتهى رحلتي بالقطار وبينها وبين لاهور مئات الأميال فأدركني الرسول بها وبلّغني سلامه واسفه وانتظاره.
فلما رجعت من كشمير وبشاور لم أشأ أن أزعجه فلم أخبره إلا بعد نزولي بالفندق في لاهور، فزارني. وتعارفت الأجساد بعد تعارف الأرواح فإذا هو رجل رَبعة، مهيب الطلعة، ممتلى صحة وحيوية، يغلب السوادُ البياض على لحيته الكثة المهيبة، ثم استدعاني إلى داره، وهي مركز الجماعة، فاجتمعنا على الشاي في ثُلّة من أعضاء الجماعة، وطلبوا مني كلمة ونحن على موائد الشاي، فخطبت وأفضت في المواضيع الإسلامية الشاغلة للأفكار، وكان- خفّف الله محنته- يستوقفني كلّما علت لغتي وتخللتها الإشارات والكنايات، ليترجم له أحد تلامذته البارعين في العربية ما غمض عليه، تقصيًا منه للمعاني وحرصًا على أن لا يفوته منها شيء.
…
أما ما بينه وبين حكومة باكستان، فأكبر أسبابه وأظهرها أن مبدأ الجماعة الإسلامية هو إقامة حكومة إسلامية في باكستان بالمعنى الصحيح الكامل الذي لا هوادة فيه ولا تساهل، يتضمن دستورها الحكم بما أنزل الله في المعاملات والحدود والقصاص، وللأستاذ المودودي في ذلك آراء بعيدة المدى ومناهج وتخطيطات مدروسة لا تقبل الجدل، بل له دستور كامل مهيّأ وقد نقلت منه مجلة "المسلمون" الغرّاء التي تصدر بمصر قطعًا دلّت على ما ذكرناه وعلى انفساح ذرع العلّامة المودودي في فهم النظام الإسلامي، وحجة الجماعة في ذلك أن المسلمين ما رضُوا بالانفصال عن الهند وما هانت عليهم التضحيات الجسيمة التي لم تضحّ بها أمةٌ في الدماء والأموال إلا في سبيل إقامة دينهم على حقيقته، أما إبقاء ما كان على ما كان فهو لا يساوي تلك التضحيات ولا جزءًا منها.
وحكومة باكستان- وإن كانت إسلامية المظهر- مدنيةُ المخبر، لم تزل تسير على النُظم التي وضعها الإنكليز للهند، وهي تريد أن يكون دستورها إسلاميًّا لأن الشعب يريد ذلك، أو لأن معظم الشعب يريد ذلك، ولكنها تريده تدريجيًّا ومع التسامح والتسهّل، ومراعاة مقتضيات الأحوال؛ وهناك طائفة من المستغربين لا تريد الدستور الإسلامي، ولكنها تعمل في الخفاء غالبًا لقلّتها بالنسبة إلى الشعب، ويعتقد المتبصّرون أن هذه الطائفة تلقى تأييدًا أجنبيًّا قويًّا، ولا تتّسع هذه الكلمة لترجيح إحدى الفكرتين، وإن كان لنا في ذلك رأيٌ صارحنا به بعض المسؤولين في ذلك الحين.
لهذا الذي شرحناه ضاقت الحكومة ذرعًا بالمودودي وتشدّده، وصلابته، وصراحة آرائه، وتسرّعه (في نظرها) فكانت تحبسه كلما ظهرت آراؤه المؤثرة، أو فتاواه في الحوادث الخاصة، وتنظر إليه بعين الحذر دائمًا، وقد نسبت إليه فتوى في قضية كشمير أيام اشتدادها والاصطدام المسلّح فيها، ووصفت بأنها سلاح في يد العدو، ومَدَد للدعاية الهندوسية، وقد كنتُ كثير الاهتمام بهذه الفتوى، شديد الحرص على أن أطّلع على حقيقتها، لأنها حكيت لي على وجه لو صحّ لكنت أول المخالفين لها، وقد ألقيت السؤال عنها في مجلس الأستاذ في داره، ولكن السؤال ضاع في معمعة المواضيع التي كان الحديث يتشقق عنها. ثم أنستني أحاديث المجلس إعادة السؤال، ولم تزل في نفسي حزة من فوات تلك الفرصة، ولا أدري هل تعود. وكل ذلك الحرص مني لآخذ الحقيقة من مصدرها ولأتباحث مع الأستاذ فيما يُنتقد عليه إن كانت حقًّا.
ومع احتفاظنا برأينا في الخلاف بين المودودي وبين الحكومة في إقامة حكومة على أساس دستور إسلامي، فإننا نقول كلمة صريحة لوجه الحق وهي أن المودودي وحده أقدر رجل على وضع الدستور الإسلامي المنشود لدولة باكستان، وأبرعُ عالم في انتزاع ذلك الدستور من القرآن والحديث، ومن المقاصد العامّة في التشريع الإسلامي والأصول المتّفق عليها بين الأمة، وأنا مع هذا مؤمن بأن العقبة الكأداء في طريق المودودي ودستوره ليست هي الحكومة وحدها بل العقبة التي تنبهر فيها الأنفاس هي جمود فقهاء المذاهب، وما أكثر المذاهب في باكستان!
…
...
وفي الأشهر الأخيرة حدثت اضطرابات في باكستان، وسالت دماء، وأمسكت كثير من الجرائد العربية عن شرحها، فلم نتبيّن دواعيها بالتفصيل ولا أغراضها، وأغلبُ الظن أنها تدور على "إسلامية الحكومة". ولعلّ الحكومة رأت آثار المودودي وأصحابه فيها بارزة فسجنته وسجنت كثيرًا منهم، ثم أحالته على محكمة عسكرية عقدت بمدينة لاهور فحكمت عليه بالإعدام وجاءت الأخبار بأنها خففت حكم الإعدام بالسجن أربعة عشر عامًا، فاهتزّ المسلمون بباكستان لهذا الحكم القاسي بنوعيه الثقيل والخفيف، وانصبّ على الحكومة تيّار من الاحتجاج والتظاهر بالغضب، ولا نشك أن تخفيف الحكم أثر من آثار تلك الغضبة.
ثم قامت الهيئات الإسلامية القوية بالاحتجاج والاستنكار من مصر وسوريا والعراق والكويت، وتأكّدت عندي الأخبار وأنا بالكويت فامتعضت- علم الله- لذلك وحزنت لما بيني وبين الرجل من صلات ولما بينه وبين جمعية العلماء من تقدير. ولأن الرجل ليس رجل
إقليم أو قطر، إنما هو للمسلمين كلهم، فمن بعض حقّه علينا جميعًا أن نسعى في خلاصه من السجن بعد أن تراجعت الحكومة عن حكم الإعدام.
لذلك أبرقتُ البرقية المنشورة بعد هذه الكلمة لكل من حاكم باكستان العام ورئيس حكومتها باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أمثلها أنا وولدها ومفخرتها الأستاذ الفضيل الورتلاني وباسم المغرب العربي كله لأن حظه في الإسلام والانتصار لحُماته ليس بقليل، وإن عسى أن تراعي حكومة باكستان المسلمة هذا الشعور الإسلامي المتدفق بالأمس فرحًا بوجودها، والمتدفق اليوم غيرة على سمعتها أن يقال عنها إنها تحارب حرّية الرأي بل حرية الدين، وأن تدرك أنّ ما ينادي به المودودي وتعدّه هي جريمة يستحقّ عليها الإعدام أو السجن، هو رأي جميع المسلمين فيها. فكلهم يتمنّى ويطالب بأن تكون حكومة باكستان إسلامية لتكون فخرًا للمسلمين ومرجعًا وملاذًا وعزًّا للإسلام وملجأً ومعاذًا.
…
كان من تمام الواجب عليّ لصديقي- بعد أن انتصرت له بجهد المقل- أن أعرّف به بني وطني وقرّاء «البصائر» ، ليعرفوا أي رجل غضبتُ له هذه الغضبة. ولعلّ البشائر تحمل إلينا نبأ الإفراج عليه، فينقلب غضب المسلمين رضى، وحزنهم فرحًا، وحسب المودودي جزاء في الدنيا على جهاده للإسلام أن يجمع المسلمون على الانتصار له هذا الإجماع، وما عند الله خير وأبقى.
وسلام على المودودي طليقًا وسجينًا.