المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دولة القرآن * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٤

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌مقدمةمحمد الغزالي

- ‌السياق التاريخي (1952 - 1954)

- ‌في باكستان

- ‌رحلتي إلى الأقطار الإسلامية *

- ‌ 1

- ‌بواعث الرحلة

- ‌بدء الرحلة

- ‌ 2 *

- ‌إلى كراتشي

- ‌ 3 *

- ‌مشكلة اللغة

- ‌بدء الأعمال العامة

- ‌ 4 *

- ‌كلمة حق

- ‌الزيارات

- ‌ 5 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌حفلة جمعية علماء باكستان

- ‌رحلتي إلى كشمير والدواخل

- ‌ 6 *

- ‌بقية أعمالي في كراتشي

- ‌أخوة الإسلام *

- ‌الرجوع إلى هدي القرآن والسنّة *

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليومهو الإسلام *

- ‌تقرير مرفوع إلى صاحب الدولةرئيس وزراء الحكومة الباكستانية *

- ‌في مؤتمر العالم الإسلامي

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌وحدة الصوم والعيد *

- ‌خماسيات عمر الأميري *

- ‌ديوان «مع الله» *

- ‌جواب على أسئلة ثلاثة *

- ‌في العراق

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها *

- ‌تعارف المسلمين مدعاة لقوّتهم وعزّتهم *

- ‌في الموصل *

- ‌بغداد تكرّم المغرب العربي *

- ‌في المملكة العربيةالسعودية

- ‌وظيفة علماء الدين *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌ 3 *

- ‌الشباب المحمّدي *

- ‌الشيخ محمّد نصيف *

- ‌إلى علماء نجد *

- ‌تعليم البنت *

- ‌في مصر

- ‌صوت من نجيب، فهل من مجيب

- ‌في ذكرى المولد النبوي الشريف *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الأستاذ الفضيل الورتلاني *

- ‌الأستاذ سيد قطب *

- ‌اِغتيال الزعيم التونسي فرحات حشّاد *

- ‌تحية الجزائر *

- ‌منزلة الأدب في الحياة *

- ‌مذكرة إيضاحية *

- ‌الشعب الجزائري

- ‌ جمعية العلماء

- ‌نشأة هذه الجمعية:

- ‌تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:

- ‌العضوية في الجمعية:

- ‌جرائد الجمعية:

- ‌مالية جمعية العلماء:

- ‌أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:

- ‌مواقف مشهودة لجمعية العلماء:

- ‌موقفها من المبشّرين المسيحيين:

- ‌موقفها من الإلحاد:

- ‌موقفها من الخمر:

- ‌موقفها من تعليم المرأة:

- ‌موقفها من السياسة الجزائرية:

- ‌موقف فرنسا من الجمعية:

- ‌أمهات أعمال جمعية العلماء

- ‌أولًا- مقاومة الأمية:

- ‌ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:

- ‌ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:

- ‌رابعًا- بناء المدارس:

- ‌خامسًا- المعهد الباديسي:

- ‌مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر

- ‌خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها

- ‌في المعنويات

- ‌في الماديات

- ‌خاتمة

- ‌تحية غائب كالآيب

- ‌من هو المودودي

- ‌نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستانوإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي

- ‌في الكويت وبغدادودمشق وعمّان ومكّة

- ‌حكمة الصوم في الإسلام *

- ‌تصدير لمجلة «الإرشاد» الكويتية *

- ‌الأستاذ كامل كيلاني *

- ‌في نادي القلم ببغداد *

- ‌حركتنا حركات أحياء *

- ‌‌‌حركة جمعية العلماءالجزائريينوواقع العالم الإسلامي *

- ‌حركة جمعية العلماء

- ‌واقع العالم الإسلامي:

- ‌هل لمن أضاع فلسطين عيد

- ‌حالة المسلمين *

- ‌في مجمع اللغة العربية بدمشق *

- ‌دولة القرآن *

- ‌في مصر

- ‌برقيات احتجاج

- ‌كلمة إلى الشعب الليبي *

- ‌تقارب العرب…بشير اتحادهم *

- ‌افتتاح دار الطلبة بقسنطينة *

- ‌نصيحة وتحذير *

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريين *

- ‌المشاريع التي أنجزتها هذه الجمعية:

- ‌في صميم القضية الصينية

- ‌المرأة المسلمة في الجزائر *

- ‌إلى الشباب *

- ‌تكريم الأستاذ مسعود الجلّالي *

- ‌القدس وعمّان ودمشقوبغداد ومصر

- ‌رسالة إلى الأستاذ فاضل الجمالي *

- ‌أضعنا فلسطين *

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه *

- ‌معنى الصوم *

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة *

- ‌متى يبلغ البنيان *

- ‌اتحاد المغرب العربي الكبير *

- ‌رسالة إلى الأستاذ خليل مردم بك *

- ‌حديث رمضان

- ‌داء المسلمين ودواؤهم *

- ‌مساعي جمعية العلماءفي قضية الزعيم الحبيب بورقيبة *

- ‌من عاذري

- ‌رسالة الأستاذ الورتلاني

- ‌المطبعة والمدفع

- ‌النظام ملاك العمل والحزم مساك النظام *

- ‌تعليق على كلمة الأستاذ الكبيرالشيخ محمد عبد اللطيف دراز *

- ‌ 1

- ‌ 2 *

- ‌مذكّرة عن جمعية العلماء إلى الجامعة العربية *

- ‌الشعب الجزائري:

- ‌أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

- ‌لمن يرجع الفضل

- ‌مبدأ جمعية العلماء وغاياتها:

- ‌أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي للصغار:

- ‌بادروا لنجدة إخوانكم

- ‌الجزائر تعتزّ بعقيدتها وعروبتها:

- ‌وزير فرنسي ينكر على فرنسا أعمالها البربرية:

- ‌الجزائر محرومة من كل شيء:

- ‌«الزاب» في دائرة المعارف الإسلامية *

- ‌الرق في الإسلام *

- ‌تمهيد:

- ‌دين التحرير:

- ‌الاسترقاق في التاريخ:

- ‌عمل الإسلام في الرق:

- ‌المقاصد العامة في التشريع الإسلامي:

- ‌حكم التسرّي وحكمته في الإسلام:

- ‌الاسترقاق عند المسلمين اليوم:

- ‌كلمة لصحيفة "الأهرام

- ‌كلمة لِـ"مجلة الإذاعة المصرية

- ‌الجزائر وطن *

- ‌الإستعمار *

- ‌إلى الأستاذ عبد العزيز الميمني *

- ‌فلسطين واليهود *

- ‌مداعبات إخوانية

- ‌إلى ولدنا الأستاذ عبد الحميد الهاشمي *

- ‌كليّة" الأعظمي *

- ‌إلى ولدي الأديب عمر بهاء الدين الأميري *

- ‌إلى الدكتور فاضل الجمالي *

- ‌جمعية

- ‌الطائرة

- ‌إنْ أردتَ

- ‌إلى الأستاذ صالح الأشتر

- ‌غار على أحسابه

- ‌عبد العزيز العلي المطوع

الفصل: ‌دولة القرآن *

‌دولة القرآن *

القرآن كتاب الكون، لا تفسّره حق التفسير إلا حوادث الكون. والقرآن كتاب الدعوة، لا تكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر. والقرآن كتاب الهداية الإلهية العامة، فلا يفهمه إلا المستعدّون لها. والقرآن «لا يبلى جديده، ولا تنقضي عجائبه» .

ــ

جاء القرآن لهداية البشر وإسعادهم، والاهتداء به متوقف على فهمه فهمًا صحيحًا، وفهمه الصحيح متوقف على أمور: منها فقه أسرار اللسان العربي فقهًا ينتهي إلى ما يسمّى ملكة وذوقًا، ومنها الاطّلاع الواسع على السنة القولية والعملية التي هي شرح وبيان للقرآن، ومنها استعراض القرآن كله عند التوجّه إلى فهم آية منه أو إلى درسها، لأن القرآن كل لا يختلف أجزاؤه، ولا يزيغ نظمه، ولا تتعاند حججه، ولا تتناقض بيّناته، ومن ثم قيل: إن القرآن يفسّر بعضه بعضًا، بمعنى أن مبيّنه يشرح مجمله، ومقيده يبيّن المراد من مطلقه، إلى آخر الأنحاء التي جاء عليها القرآن في نظمه البديع، وترتيبه المعجز، ومنها الرجوع في مناحيه الخصوصية إلى مقاصده العامة، لأن خصوصيات القرآن وعمومياته متساوقة يشهد بعضها لبعضها، وكل هذه الأمور لا تتهيأ إلا لصاحب الفطرة السليمة، والتدبّر العميق، والقريحة اليقظة، والذهن الصافي، والذكاء الوهّاج.

والقرآن حجة على غيره، وليس غيره حجة عليه، فبئس ما تفعله بعض الطوائف الخاضعة للتمذهب من تحكيم الاصطلاحات المذهبية، والآراء الفقهية، أو العقلية فيه، وإرجاعه بالتأويل إليها إذا خالفته. ومن الخطل، بل من الخذلان المفضي بصاحبه إلى ما يستعاذ منه أن يجعل الرأي الاجتهادي غير المعصوم أصلًا، ويجعل القرآن المعصوم فرعًا، وأن يعقد التوازن بين كلام المخلوق وكلام الخالق، إن هذا لهو الضلال البعيد.

ما أضاع المسلمين ومزّق جامعتهم ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عضين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها،

* مجلة "المسلمون"، السنة الثانية، العدد العاشر، ذو الحجة 1372هـ / أغسطس 1953م. كما نشرت هذه الكلمة كمقدمة لكتاب الأستاذ عبد العزيز العلي المطوع في "تفسير سورة العصر".

ص: 226

وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شرتها، وفي مفارق سبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميّز حقّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وان ذلك كله لموجود في القرآن بالنص أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تعجز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كل حكم بحكمة، وكل أمر بما يثبته في النفس، وكل نهي بما ينفر عنه، لأن القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكن وما تبدي، ومركب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطًا بين عالمين: أحدهما خير محض والآخر شر محض، فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيًا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أي الطريقين يختار، كل ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلك عن بيّنة، أو يحيا عن بينة.

ما كان الصدر الأول من سلفنا صالحًا بالجبلة والطبع، فالرعيل الأول منهم وهم الصحابة كانوا في جاهلية جهلاء كبقية العرب، وإنما أصْلَحَهم القرآن لما استمسكوا بعروته واهتدوا بهديه، ووقفوا عند حدوده، وحكموه في أنفسهم، وجعلوا منه ميزانًا لأهوائهم وميولهم، وأقاموا شعائره المزكية، وشرائعه العادلة في أنفسهم، وفيمن يليهم، كما أمر الله أن تقام، فبذلك أصبحوا صالحين مصلحين، سادة في غير جبرية، قادة في غير عنف، ولا يصلح المسلمون ويسعدون إلا إذا رجعوا إلى القرآن يلتمسون فيه الاشفية لأدوائهم، والكبح لأهوائهم، ثم التمسوا فيه مواقع الهداية التي اهتدى بها أسلافهم. وإذا كان العقلاء كلهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن، لأنه الشيء الجديد الذي حوّل أذهانهم، وهذّب طباعهم، وثبّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك ينتج لنا أن سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته، وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غناء ما لم يفهم، ثم يعمل به.

وهجر المسلمين للقرآن يرد إلى أسباب، بعضها آتٍ من نفوسهم، وبعضها آتٍ من خارجها. فمن الأول افتتانهم بآراء الناس، وبالمصطلحات التي تتجدد بتجدد الزمان، ومع طول الأمد رانت الغفلة، وقست القلوب وطغت فتنة التقليد، وتقديس الأئمة والمشايخ، والعصبية للآباء والأجداد، وغلت طوائف منهم في التعبّد فنجمت ناجمة التصوّف والاستغراق

ص: 227

فاختلّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح، وغلت طوائف أخرى في تمجيد العقل فاستشرف إلى ما وراء الحدود المحددة له، وتسامى إلى الحظائر الغيبية فتشعبت به السبل إلى الحق في معرفة الله وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين لكثرة هذه الطوائف، فكان هذا التفرّق الشنيع في الدين أصوله وفروعه. وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين ضاع سلطانهم الديني على الأمة، فاستبدّ بها الملوك وساقوها في طريق شهواتهم فأفسدوا دينها ودنياها وكان ما كان من هذه العواقب المحزنة.

ومن الثاني تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات الوضع للأحاديث، إلى هجوم الآراء والمعتقدات المنافية للقرآن، إلى ما ادّخر لزماننا من إلقاء المبشّرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد ليصدّوا المسلمين عن هديه، وان خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوّره علماؤنا، ويقدّره أولياء أمورنا.

هذه العوامل مجتمعة ومفترقة، وما تبعها أو لازمها من عوامل فرعية هي التي باعدت بين المسلمين وبين قرآنهم، فباعدت بينهم وبين الخير والسعادة والعزة، وأصبحوا- كما يرى الرائي- أذلة مستعبدين، ولا يزالون كذلك ما داموا مجانبين لسنن القرآن، معرضين عن آياته وإرشاداته، غافلين عما أرشد إليه من السنن الكونية. ولو أنهم تواردوا على الاستمساك به في هذه القرون الأربعة عشر لكانوا هم السابقين بإرشاده إلى اكتشاف أسرار الكون، واختراع هذه العجائب الآلية، ولم يكن موقفهم منها موقف المكذب أولًا، المندهش آخرًا. ففي القرآن آيات للمتوسمين، وإرشاد للعقل البشري يتدرّج مع استعداده، وفيه من الكشف عن غرائب النفوس وألوانها، وعن حقائق الكون وأسرار مواليده ما يسير بمتدبّره رويدًا رويدًا حتى يضع يده على الحقيقة، ويكشف له عن وجهها، ويكاد يكون من البديهيات فيه ما يقرره في أطوار الأجنة، وتزاوج النبات، وتكوّن المطر، وتصاريف الرياح، وتكوير الليل على النهار، وإثبات الصلة بين علويات هذا الكون وسفلياته، ولكن المسلمين ظلّوا غافلين حتى عن هذه البديهيات، إلى أن جاءتهم من غير طريق قرآنهم، ثم دلّهم القرآن على نفسه فلاذوا بالفخر الكاذب، وربّما دلّهم على مواقع هذه الأشياء في القرآن مَن ليس من أهل القرآن، وأن هذا لهو الخذلان المبين.

وما زاد المسلمين ضلالًا عن منبع الهداية وعماية عنها إلا فريق من العلماء وضعوا أنفسهم في موضع القدوة والتعليم، وطوائف من غلاة المتصوّفة انتحلوا وظيفة التربية والتقريب من الله. فهم الذين أبعدوهم عن القرآن، وأضلوهم عن سبيله بما زّينوا لهم من اتباع غير سبيله، وبما أوهموهم أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن من لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأنى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه-

ص: 228

يصفه بأنه عربي مبين، وأنه غير ذي عوج، وأنه ميسر للذكر، وينعته بأنه يهدي للتي هي أقوم، وكيف يهدي إذا كان لا يفهم؟ ومن عجيب أمر هؤلاء وهؤلاء أنهم يصدرون في شأن القرآن عن هوى لا عن بصيرة، فبينما يسدّون على الناس باب الاهتداء به في الأخلاق التي تزكي النفس، والعقائد التي تقوّي الإرادات، والعبادات التي تغذي الإيمان، والأحكام التي تحفظ الحقوق، وكل هذا داخل في عالم التكليف، وكله من عالم الشهادة، بينما يصدّون عن الاهتداء في ذلك بالقرآن نراهم يتعلّقون بالجوانب الغيبية منه، وهي التي استأثر الله بعلمها، فيخوضون في الروح والملائكة والجن وما بعد الموت، ويتوسّعون في الحديث عن الجنة والنار، حتى ليكادون يضعون لهما خرائط مجسّمة، وسبيل المؤمن القرآني العاقل في هذه الغيبيات أن يؤمن بها كما وردت، وأن يكل علم حقيقتها إلى الله، ليتفرّغ لعالم الشهادة الذي هو عالم التكليف.

وما زلنا نرى من آيات حفظ الله لدينه أن يقوم في كل عصر داعٍ أو دعاة إلى القرآن، وإمام أو أئمة يوجّهون الأمة الإسلامية إليه، ومفسّر أو مفسّرون يشرحون للأمة مراد الله منه، ويتناولون تفسيره بالأدوات التي ذكرناها في أول هذه الكلمة، ويجعلونه حجة على المذاهب والاصطلاحات ومنازع الرأي والعقل، وحكمًا بينها، وأصلًا ترجع إليه ولا يرجع إليها، ومن المبشّرات بالخير ورجوع دولة القرآن أن الدعوة إليه قد تجددت في هذا الزمان على صورة لم يسبق لها مثيل، وأن أصوات الدعاة المصلحين قد تعالت بذلك وتجاوبت وتلاقت على هدى، تدعو إلى دراسته واستخراج ذخائره وإحياء دعوته إلى الفضيلة والخير والمحبة وأخذ العقائد والعبادات وأحكام المعاملات منه، والاستعانة على ذلك بمفهوم السلف الصالح وتطبيقاتهم، وتحكيمه في كل ما يشجر من خلاف في الدين والدنيا، وكان من آثار ذلك أن أصبح العلماء المستعدّون للعمل، والعوام المتهيّئون للعلم يردّدون الجمل الآتية، وتجول في نفوسهم معانيها، وهي: "لماذا نهجر دستور القرآن وهو من عند الله، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتبذل ولا يتغيّر، ثم نلتجئ إلى دساتير الغرب وقوانينه وهي من أوضاع البشر القاصرة، يظهر في كل حين تناقضها ومنافاتها للمصلحة، فتبدل وتغيّر، ولا تزال تبدّل وتغيّر، مع أن واضعيها والموضوعة لهم من جنس واحد، وعلى طبيعة واحدة ومصلحة واحدة؟ لقد بؤنا بالصفقة الخاسرة مرتين.

إن هذا الغليان في أفكار المسلمين وكثرة حديثهم عن القرآن، وإقبالهم على دعاته ومدارسه، وتحدّي أساليبه في الوعظ وفي الكتابة، كل ذلك بشائر برجوع دولته وإصلاح البشرية به من جديد، واتخاذه مرجعًا وملاذًا للأمم الأجنبية التي لم يستقرّ لدساتيرها

ص: 229

الوضعية قرار، فاضطربت حياتها، واستشرفت نفوسها إلى قانون سماوي يحفظ حقوقها، ويحدّد للفرد حقّه، وللجماعة حقّها. ولعمري ان هذه المطالب كلها لفي القرآن، لو وجد القرآن من أهله من يقيمه ويبلغ دعوته وينشر هدايته.

ثم ما هذه النغمات الناشزة عن هذا الايقاع اللذيذ، إيقاع الدعوة إلى إقامة الدستور القرآني؟ ما هذه النغمات الممجوجة المترددة التي تصور أن الدستور القرآني يتحيف حقوق الأقليات المساكنة للمسلمين أو يجحف بها؟

إنها نغمات صادرة عن مصدرين: أعداء القرآن ينصبون بها العواثير في طريق الدعوة إليه، وضعفاء الصلة بالقرآن الجاهلين آثاره وتاريخه في إصلاح الكون كله، فليقل لنا الفريقان: متى ظلم القرآن غير المؤمنين به؟ ومتى أضاع لهم حقًا، أو استباح لهم مالًا، أو انتهك لهم عرضًا، أو هدم لهم معبدًا، أو حملهم على مكروه في دينهم، أو أكرههم على تغيير عقيدة من عقائدهم، أو حمّلهم في أمور دنياهم ما لا يطيقون؟

بلى، إنه عاملهم في كل ذلك بما لم يطمع في معشاره الأقليات ولا الأكثريات من شعوب اليوم الواقعة تحت حكم الدول العالمة المتحضرة الخاطئة الكاذبة التي تزعم لنفسها الفضائل كلها ولا تتخلق بواحدة منها.

من أصول الإسلام أنه لا إكراه في الدين، وأين موضع هذا عند هذه الدول الباغية؟

ومن أصول الإسلام الوفاء بالعهد في السلم والحرب، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الطاغية؟ ومن أصول الإسلام أن لا يكلف من دخل في ذمته بالدفاع الحربي، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الظالمة التي تجند المحكومين بالإكراه ليموتوا في سبيلها من دون جزاء ولا شكر؟ ومن أصول الإسلام أن لا يقتل في الحرب إلّا المقاتل، وأن لا يقتل الأعزل المعتزل والشيخ الكبير والمرأة والطفل والمنقطع للعبادة، وهذه الأصناف هي ثلثا الأمم المحاربة، فأين هذا مما ترتكبه الأمم المتمدنة في حروبها اليوم من الإبادة للكبير والصغير والمرأة والرجل والطفل والجنين، وما تتفنن فيه من وسائل الاستئصال؟ وكفى بواقعة "هيروشيما" اليابانية شاهدًا لا يكذب.

إن الإسلام يعامل المخالفين بالرحمة، لأن قرآنه هو دستور الرحمة، ويضعهم في أربع مراتب، لكل مرتبة حكمها العادل: الذمي المقيم في وطن الإسلام له كل ما للمسلم، وليس عليه كل ما على المسلم، فهو محمي النفس والمال والعرض، حر في التصرفات المالية، آمن في الظعن والإقامة، وليس عليه ما على المسلم من أعباء القتال والدفاع، والمستأمن آمن على حقوقه حتى يبلغ مأمنه، والمعاهد موفى له بعهده من غير ختر ولا غدر، والحربي يعامل

ص: 230

بما رضيه لنفسه من غير أن يجاوزه إلى غيره من أهله أو بني ملته، فإذا شذ أمير مسلم أو قائد عن هذه القواعد الأساسية في الإسلام وظلم طائفة من هذه الطوائف أو فردًا من أفرادها فقد خرج عن حكم الإسلام، وإذا حكى التاريخ عن ملوك مسلمين ظلمة فهؤلاء بطبيعة حالهم يظلمون المسلمين قبل أن يظلموا المخالفين، وليست أعمالهم حجة على القرآن، بل للقرآن الحجة عليهم، وأيسر أحكام الإسلام فيهم أن يعزلوا وأعلاها أن يقتلوا.

أين هذا من قوانين اليوم ومعاملة اليوم أيها الناطقون بغير علم، الصادرون عن غير فهم؟ وأين عدل القرآن من جوركم أيها الجائرون في الحكم، المحاربون للحقيقة في الحرب والسلم، البانون لحياتهم في الظلام على الظلم؟ وأين تجدون الرحمة والعدالة إذا لم تجدوها في ظلال القرآن، أيتها الأقليات غير الوفية، المدفوعة من الخلف بالأيدي الخفية؟

أثمرت الحركات الإصلاحية منذ أكثر من مائة سنة ثمرات زكية، وفتحت الأذهان لحقيقة، وهي أن القرآن يفهم، وأنه ميسر للفهم، فانفتحت للدارسين أبواب كانت مقفلة، وكثر جريانه على ألسنة الخطباء والمرشدين منزلة آياته في منازلها من الأحداث الطارئة متجاوبة مع العلم، مقسمة على المواضيع المتجددة، وكثر جريانه على أقلام الكتاب في المباحث الدينية والأخلاقية والاجتماعية والكونية، يقيمون منه شواهد على كل حقيقة، وأدلاء على كل طريق، وأعلامًا هادية إلى كل غاية، فإذا هو يفسر نفسه بنفسه وتتسابق معانيه الواضحة إلى الأذهان، وأعان على ذلك هذه النهضة الأدبية التي لم ترَ العربية أعمق منها غورًا، ولا أوسع منها دائرة، فأصبح بها القرآن قريبًا إلى الأفهام، مؤثرًا في العقول، وأصبحنا نسمع من تلامذتنا الذين ربيناهم على القرآن حفظًا وفهمًا وعملًا، ورضناهم على الغوص وراء معانيه- آراء في الاجتماع الإنساني سندها القرآن ما كانت تزيغها أفكار الشيوخ، وآراء في الدستور القرآني وتطبيقه على زماننا ومكاننا ومصالحنا، ما كانت تسيغها عقول الأجيال الماضية. وهؤلاء التلامذة لم يزالوا بعد في المراحل العلمية المتوسطة، فكيف بهم إذا أمدتهم الحياة بتجاربها، وأمدهم العلم باختباراته؟ لعمر أبيك انه القرآن حين تتجلى عجائبه على الفطر السليمة، والعقول الصافية.

وولدنا المسلم القرآني الشيخ عبد العزيز العلي المطوع القناعي الكويتي رجل مسلم، سليم الفطرة، متين التدين، صحيح العقيدة، صليب العروبة، نعده من مفاخر هذا الجيل

ص: 231

وأثبتهم صبغة في التمسك بدينه والغيرة عليه والوفاء للقرآن تلاوة لِلَفظِهِ، وتدبرًا لمعانيه، والدعوة إلى الحق به، والعمل على نشره، والتشجيع على فهمه، والصلة بعلمائه، والشدة على خصومه والمنافرين له، وهو مع ذلك رحيب أفق التفكير، سديد النظرة، حاضر الذهن، صافي القريحة، وقد تضافرت هذه العوامل على توفير حظه من فهم القرآن وعلى تزويده بملكة أهلته لأن يطارح العلماء فهمه، فيسبقهم في بعض الأحيان إلى اكتشاف نكته وغرائبه، وقد عرض علينا طائفة من فهومه لآيات متفرقة، فرأينا فهمًا سديدًا واتجاهًا حميدًا، وتفطنا للدقائق الكامنة في الألفاظ والآيات، بصرًا بما بين الآي والسور في ترتيبها التوقيفي من المناسبات والصلات.

رأينا في هذا الرجل مجموعة من المؤهلات الكسبية، والمواهب الفطرية، هي النموذج الصحيح للعقل الذي يفهم القرآن على أنه هداية عامة للبشر، وأنه كتاب الكون، وأنه الدستور الكامل لإصلاح الأفراد والجماعات، وأنه صالح لكل زمان ومكان بمجاراته للعقل، ودعوته إلى العلم، وجمعه بين مطالب الروح والجسم.

وقد قدم لنا في اجتماعنا الأخير بالقاهرة قطعًا من خواطره المتفرقة في معاني سورة "العصر" وغيرها، ونظرنا فيها فاقترحنا عليه أن لا يضيع أمثال هذه الفوائد، وأن يجمعها في كراريس ويحفظها بالطبع، لتكون في جملة ما يقدم لهذه الأجيال السائرة إلى القرآن على شعاع القرآن، وقد استجاب- حفظه الله- لرأينا، وقدم للطبع هذه القطعة الصغيرة من خواطره في سورة "العصر" وصدرناها نحن بهذه الكلمة المقتضبة في الدعوة إلى القرآن، وعسى أن تكون مشجعة له على مواصلة السير في هذا النهج القويم مع ترديد النظر، وتمحيص الفكر، وتقليبه على وجوهه، وإحسان التأليف بين أطرافه وعدم الاقتناع بأول خاطر، وأوصيه بأن يعرض كل خاطرة تخطر له على القرآن كله ثم على الآيات الخاصة بموضوع الخاطرة، مع خلوص النية وصدق المعاملة مع الله في كتابه، وتوخي نفع المسلمين بدلالتهم على طرق الانتفاع بهذا الكنز الثمين، وأوصيه ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وتوقي مساخطه التي تطفئ نور البصيرة، وتردي مجترحها في المهلكات.

ونحن معشر الدعاة إلى هداية الكتاب والسنة نستبشر بهذه المقدمات، ونتمنى أن تكون مؤدية إلى نتائجها الجليلة، ونرحب بهذه الطلائع الفكرية، ونرتقب ما وراءها من كتائب أنصار القرآن.

ص: 232