الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقارب العرب
…
بشير اتحادهم *
سماحة العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كبير علماء الجزائر ذو قلم ناطق بالصدق قائل بالحق، فضلًا عن فصاحة اللسان وحلو البيان، وقد تفضّل مشكورًا فحلّى جيد هذا الكتاب بالكلمة التالية:
ــ
"لم يمر على العرب عهد كانوا أحوج فيه إلى الاتحاد وجمع الكلمة من هذا العهد، لأن المصائب التي جرّها عليهم التفرّق كانت تأتي متفرقة المواقع متباعدة الأزمنة، بحيث لا يحسّ بوقعها المؤلم جميع العرب إلى أن وقعت واقعة فلسطين، وسود عارها وجوه العرب كلهم، وزاد في افتضاحهم بها أن القارعة حلّت بهم وهم مجتمعون، فكانت صاخة خرقت الآذان ونفذت إلى مواقع الإحساس من العرب جميعًا.
…
لا يجمع القلوب شيء كالمصائب ولا يعمّ التنبّه والإحساس إلا بعمومها، ولا أعم ولا أطم في تاريخ العرب من واقعة فلسطين، فهل جمعت قلوب العرب؟ وهل رجعت بعقولهم إلى مستقرّ الإدراك؟ وهل غسلت ما كان فيهم من أنانية وأثرة وما كان بينهم من تنافس لا ينفع إلا عدوّهم؟ إنها إن أثمرت هذه الثمرة ستصبح نعمة علينا، نكافئ عليها صهيون بالشكر الجزيل، فقد ساق إلينا الخير من حيث أراد بنا الشر، وأية نعمة أعظم من نعمة تجمع شمل العرب، وتوحّد كلمتهم بعد هذا التفرّق الذي ترك الجزيرة رقعًا ملوّنة بألوان شتى!
* بمناسبة زيارة الأمير عبد الله الجابر الصباح إلى مصر سنة 1953 صدر كتاب "المدينة الفاضلة أو سويسرا الشرق" جمع مواده الأستاذ عبد الكريم محمد الذي طلب من الإمام الإبراهيمي أن يساهم فيه، فكانت هذه الكلمة.
التقارب بريد الاتحاد، والتزاور دليله، والتحاور بشيره، والتشاور مفتاح بابه، وكل هذا يقع في هذه الأيام بين رؤساء العرب وأولي الرأي فيهم ويتكرر وتصحبه مبشرات مؤذنة بقرب تبلّج فجر من الاتحاد تعقبه الوحدة الشاملة التي ترهب أعداء العرب ويقول معها صهيون عن جزيرة العرب: إن فيها قومًا جبّارين.
…
كانت زيارة الأمير عبد الله الجابر الصباح رئيس معارف الكويت لمصر حدثًا له آثاره الجلية في تقارب العرب، لأن لبلاده مكانة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، ولبيته مكانة في البيوتات العربية البارزة، ولشخصه منزلة مستمدّة من فطرة العربي وهمّته وشهامته ونبله وبساطته وسماحة نفسه، ومن أدب المسلم وتواضعه وصدقه في القول والفعل والحال، وكان لاحتفاء مصر بزيارته وافتنانها في تكريمه مزاج لطيف من الرسمية والشعبية جمع لأول مرة بين روح الشعب وروح الحكومة، ودلّ لأول مرة على أن حكومة مصر من شعب مصر، وقد كانت أمثال هذه الاحتفالات تقوم على المجاملة والنفاق، لا على الإخلاص والمحبة، وعلى الرهبة والملق، لا على الرغبة والصدق. وأن هذا المزاج اللطيف الذي ظهر على حفاوة مصر برجل عربي له منزلته، لوسط بين الرسمية المتكلفة والشعبية المتخلفة، وهو- في حقيقته- وصل لأرحام كانت مجفوة والرحم إذا تنبهت أسبابها تأتي بكل عجيب وتجرف كل ما كان يحجبها من حجب وما كان يغطّي عليها من عقوق وقطيعة.
…
نحن لا نرى في ملوك العرب وأمراء العرب وقادة الرأي في العرب- وإن تعددوا واختلفت مشاربهم وأهواؤهم- إلا أنهم مستحفظون على مجد العرب، وأن عليهم عهدًا أن يعيدوه، ووسائل هذه الإعادة ممكنة لهم، ميسورة عليهم، لا تكلفهم عناء إلا اطّراح الأنانية، وإننا لا نحاسبهم على أسباب الإضاعة، لأنها قديمة، وليسوا مسؤولين عنها، وإنما نطالبهم بإعادة ما ضاع من ذلك المجد. وليس تعددهم بمنافٍ لذلك ولا مانع منه إذا اتحدت الوجهة واتّحد العمل واشتركت الأيدي في البناء على منهاج صحيح. فليتعددوا بالشخص، وليتّحدوا بالمعنى يفوا بحق الله وحق العروبة ويعيدوا المجد الضائع والحق المنهوب.
…
ويقولون: إن المال هو الذي وجّه الأفئدة إلى الكويت، وإن الغنى هو الذي صرف الوجوه والآمال إلى البيت الصباحي، وكأنهم يقولون ان احتفاء مصر بالأمير الكويتي هو أثر
من ذلك المعنى، أو شعبة من تأثيره، وأنا أقول إن العرق الكريم كريم في ذاته، وإن الكويت والبيت الصباحي فيه
…
اختصّا برأس مال معنوي، وهو الخلال العربية الصميمة ومنها الجد، والآداب الإسلامية القويمة، ومنها حب الخير ثم فعله، وهذا هو الاستعداد الفطري السليم الذي لا يزيد المال فيه، ولا ينقص العدم منه، فهذا هو رأس مال الكويت الحقيقي الذي لم تفسده العوامل الدخيلة ولم تهدمه المعاول المختلفة المتعددة لهدم العرب بهدم أخلاقهم وإفساد أذواقهم، ولو سلمت هذه الأخلاق للعرب وللمسلمين لسلم لهم كل شيء وكانت منبهة لهم إلى تلافي الخلل قبل الفوات، وضمّ الشمل قبل الشتات.
هذه الخلال في الكويت وفي غيرها من أمهات القرى العربية السالمة هي التي نعدّها رأس المال، قبل المال، فلما فاض عليها المال فاضت معه تلك الأخلاق وقادته إلى الصالحات ولم يقدها إلى المهلكات ونِعِمّا المال الصالح للعبد الصالح، والمال- منذ كان المال- لا يفسد الصالحين، بل يزيدهم صلاحًا. ولا يصلح الفاسدين بالطبع والجبلة، والمال كالماء إنما يحيي الأرض الخصبة. وأقرب الطبائع من المثل العليا في سياسة المال طبيعة العرب الذين يقول أولهم:
إذا حال حول لم يكن في بيوتنا
…
من المال إلا ذكره وفضائله
…
نحن مستنون- إن شاء الله- بسنة القرآن في تنزيله الأحكام على الأعمال لا على العاملين، لأن العاملين يفنون، والأعمال تبقى ببقاء آثارها. ولم نعوّد ألسنتنا ولا أقلامنا مدح شخص لذاته أو للقبه أو لبيته أو لمنصبه، فإذا أثنينا على شخص كان الثناء منصبًا على عمله الصالح النافع وعلى هذا الأصل القرآني، فنحن نثني مسرورين مبتهجين على هذه الأعمال الصالحة التي قامت بها إمارة الكويت على يد أميرها وآل بيته، وإعانة علمائها وسراتها وأهل الرأي فيها، من تشييد المدارس التي هي حصون العلم، ومستشفيات العقول؛ وتجهيز القوافل من شباب العرب إلى مصر ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وليدرسوا الحياة فيأخذوا بأقوى أسبابها إلى أشرف غاياتها، ومن فتح الباب لأبناء العرب من الخليج العربي إلى الجزائر العربية ليقطعوا مرحلة من مراحل التعليم في الكويت، فيتلاقى أبناء العمومة من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق على بساط العلم الجامع وفي ثرى الأخوة الندي، وتتلاقى الأفكار التي شتتها تباعد الديار، وكيد الاستعمار، ومن شحن اللغة العربية إلى أبنائها المغتربين في باكستان والهند لتبقى صلتهم بإخوانهم ووطنهم ممدودة ومن تحقيق أسباب العمران والتمدين في تلك الصحراء الجرداء. وإنها لأعمال جليلة في ذاتها، محمود فاعلها بالتبع لها، ونحمد الله لأمراء الكويت أن وفّقهم إلى أداء زكاة المال بهذه الصورة النافعة وأن وفقهم إلى شكره على النعم بهذه الصيغة العملية البليغة".